وجلسنا صامتين لا ننطق، وما زلنا كذلك حتى فك هو طلسم السكوت بقوله: كيف حالك؟ إنني أسأل عنك، ولكنني لا أستطيع أن أكتب لك. وكان في كل كلمة يسعل مرة، وفي كل مرة كأنه يقطع نياط قلبه، ونظرت في عينيه فإذا هما لا يستقران على حال من القلق كأنهما ركبتا على زئبق، فقلت له: لعل ضعفك يا صديقي يزول قريبا. فقال باسما: هيهات أن يزول الداء قبل زوالي. فقلت: خفف عليك ولا تكن جزوعا، ما هذا إلا ضعف ينقضي أمده.
قال: أتريد تخدعني كما يخدعني الأطباء، وكما أخدع نفسي؟ هذا سل يخترمني فإذا مت فاطلب لي من الله الرحمة. قال هذا بثبات جأش وسكون، وحاولت تخفيف مصابه فلم أستطع؛ فصرنا نبكي ولا يجف الدمع، ولما افترقنا أبى أن يعطيني يده وقال: إني أخشى عليك العدوى. وصممت أن أصافحه، وأقسم ألا أبرح المكان إلا بعد أن أطهر كفي. •••
كنت أزور عليا في مرضه في كل يوم مرة، ولا حديث له إلا ذكرى أهله وندمه على ما مضى منه في غروره وطيشه إذ أطاع صاحبه وخلى بلاده، ويود لو يستطيع فيعود إلى وطنه. وكان يرثي نفسه بأبيات نظمها وينشدها بصوت أجش يقطعه عليه السعال والبكاء.
ثم جاء موعد سفري فلم ألقه خشية ازدياد حزنه؛ لأن نفسي كانت تحدثني بأن لقاءنا سيكون آخر لقاء، وعدت بعد ذلك بأسبوعين وسألت عن صاحبي، فقيل لي: سافر. فقلت: وإلى أين؟ فقال مخبري: إنه في بلد بعيد. قلت: وأي بلد لعلي أزوره فيه؟ قال: أتريد أن تقف على الحقيقة؟ قلت: بلى، إنه مات؟! فقال: نعم.
فبكيت حتى أبكيت مخبري، وقلت: هات حدثني كيف مات، فقال والبكاء يقطع حبل الكلام: بعد أن سافرت بثلاثة أيام ظهرت عليه علائم الصحة والقوة، وأراد أن يقضي ليلة في بيت الطبيب كعادته القديمة، ولكن الطبيب كان حرم عليه دخول داره؛ خشية العدوى منذ اشتدت عليه وطأة الداء، فكان ينام تارة في خان وأخرى في غرفة حقيرة استأجرها في أقصى البلد، ولما أحس بالصحة والقوة قصد دار الطبيب وقرع الباب ففتح له، فلما رآه الطبيب قال له: ما الذي جاء بك إلى هنا وأنت مريض بداء معد؟ أتريد أن يصاب أولادي بما أنت مصاب به؟! فقال له وهو تخنقه العبرات: أنا قوي صحيح البدن. فقال الطبيب: إنك في منتهى الدور الثالث من أدوار السل السريع، فاخرج من بيتي . فقال له علي: أيها الرجل الظالم القاسي، رد إلي حياتي فقد سلبتها مني. وهجم على الطبيب، فصرخ الجبان وقال: أأنت مجنون؟ ولكن عليا خانته قدماه فسقط على الأرض، فشج رأسه وطفح دما ولم يقم من رقدته، ولكنه كان لا يزال حيا، وكان خدم الطبيب قد أسعفوه، فأمرهم سيدهم بحمل الميت الحي، فحملوه، وقال: اخرجوا به لوقتكم، فخرجوا به، وكان بجانب دار الطبيب بيت انقضت جدرانه وتهدم بنيانه فوضعوه فيه، وأخذ الطبيب في تطهير ثيابه وأرض داره من دماء تلك الفريسة الإنسانية، وأوعز إلى رجال الحرس بنقل الميت الحي إلى غير هذا المكان، ولكن لم يوشكوا أن يبلغوا المكان حتى كان علي جثة خامدة. •••
هذه ذكرى ذلك الصديق الذي باع حريته ووطنه بثمن بخس، فشراه الموت كذلك.
قلت: وكيف رأيت صديقك اليوم؟
قال: رأيت روحه كما كنت أراه في الأيام الأولى، ورأيته يصحب روحا جميلا، فلما تعارفنا توارى الروح قليلا فقال: أتعرف روح من هذا؟ قلت: كلا. قال: إنه روح زبيدة خرجت من العالم الأرضي بعد أن خرجت، وكنت أتطلب لقاءها فالتقينا، ومر بنا روح ذو لون أغبر يسوقه جني في يده سوط، فارتجف روح علي وقال: هذه هي روح والد زبيدة.
وقد لحقتني غشية لدى هذا الحديث، فلما أفقت كان الروح الحائر قد انصرف.
الليلة الثامنة
نامعلوم صفحہ