فأردت إنزاله عن كاهلي، ولكني عجزت عن زحزحة رجليه عن عنقي وضلوعي، كأنما هو بناء مثبت بالحديد، فتوسلت إليه بدوري: اتركني وستجدني عند الحاجة في خدمتك.
ولكنه ضحك ساخرا مني متجاهلا لتوسلاتي .. هكذا قضى علي أن أعيش عبدا له، فلم يطب لي صحو ولا نوم، ولم أهنأ بلذيذ المأكل والمشرب، حتى خطرت لي فكرة فجعلت أعصر عنبا في نقرة، وتركته حتى تخمر، ثم أسقيته منه حتى سكر، وتراخت عضلاته الفولاذية فرميته عن كاهلي، وتناولت حجرا فحطمت به رأسه وأنقذت العالم من شره .. وسكنت في الجزيرة زمنا سعيدا لم أدره حتى أنقذتني سفينة.
فتنهد شهريار قائلا: ما أكثر ما يستعبدنا في هذه الدنيا! ماذا تعلمت أيضا ياسندباد؟
فقال السندباد: أيضا تعلمت يا مولاي أن الإنسان قد تتاح له معجزة من المعجزات ولكن لا يكتفي بأن يمارسها ويستعلي بها، وإنما عليه أن يقبل عليها مستهديا بنور من الله يضيء قلبه؛ فقد غرقت السفينة كسابقاتها ولذت أنا بجزيرة تستحق أن أدعوها بجزيرة الأحلام .. جزيرة غنية بالحسان من كل لون وشكل .. مال قلبي إلى إحداهن فتزوجت منها وسعدت بها .. ولما اطمأن القوم إلي ركبوا تحت إبطي ريشا وأخبروني بأنني أستطيع أن أطير وقتما أشاء .. وسررت بذلك جدا وتوثبت لاقتحام التجربة التي لم يجربها إنسان قبلي .. غير أن زوجتي قالت لي سرا: احذر أن تذكر اسم الله وأنت في الجو وإلا احترقت!
وفي الحال أدركت أن دم الشيطان يجري في دمائهم، فنفرت منهم وطرت مصمما على الهرب، وسبحت في الجو طويلا ولا هدف لي إلا مدينتي حتى بلغتها بعد أن آيست من ذلك، فالحمد لله رب العالمين.
صمت الملك مليا، ثم قال: لقد رأيت من عجائب الدنيا ما لم تره عين بشر، وتعلمت دروسا عن معاناة وخبرة، فاهنأ بما رزقك الله من مال وحكمة.
5
قام شهريار وصدره يجيش بانفعالات طاغية .. غاص في الحديقة فوق الممشى الملكي شبحا ضئيلا وسط أشباح عمالقة تحت نجوم لاحصر لها ولا حد .. أطبقت على أذنيه أصوات الماضي فمحت ألحان الحديقة، هتاف النصر، زمجرة الغضب، أنات العذارى، هدير المؤمنين ، غناء المنافقين .. نداءات اسمه من فوق المنابر .. تجلى له زيف المجد الكاذب كقناع من ورق متهرئ لا يخفي ما وراءه من ثعابين القسوة والظلم والنهب والدماء .. لعن أباه وأمه، وأصحاب الفتاوى المهلكة، والشعر والشعراء، وفرسان الباطل، ولصوص بيت المال، وعاهرات الأسر الكريمة، والذهب المنهوب المهدر في الأقداح، والعمائم والجدران والمقاعد والقلوب الخاوية، والنفس المنتحرة، وضحكات الكون الساخرة.
ورجع من رحلته عند منتصف الليل، فاستدعى شهرزاد فأجلسها إلى جانبه وهو يقول: ما أشبه حكايات سندباد بحكاياتك يا شهرزاد!
فقالت شهرزاد: جميعها تصدر عن منبع واحد يا مولاي.
نامعلوم صفحہ