وقد سبقني إلى نحو ذلك سيدي الشيخ عبد العزيز الدريني رضي الله عنه في منظومة له فقال : في أولها وهو لسان حالي أيضا : وأذكر الآن رجالا كانوا . . . كأنجم يزهو بهم الزمان مشايخا صحبتهم زمانا . . . أو زرتهم تبركا أحيانا مشايخي الأئمة الأبرار . . . وأخوتي الأحبة الأخيار أرجو بذكرهم بقاء الذكر . . . لهم وفوزي بجزيل الأجر فإنهم عاشوا بأنس الرب . . . سرا ، وذاقوا من شراب الحب فهم جلوس في نعيم الحضره . . . وجوههم في نضرة من نظره وكل شيخ نلت منه علما . . . أو مأدبا فهو إمامي حتما وكل شيخ زرته للبركة . . . فقد وجدت ريح تلك الحركة إلى أن قال : لم يبق في الستين ، والستمائة . . . في الناس من أشياخنا إلا فئه وإنني لغفلتي أقلهم . . . وقد تقضي منهم أجلهم وقد عددت منهم جماعة . . . اشتهروا بالفضل والبراعة وما سكت عن سواهم صدا . . . ولم أطق حصر الجميع عدا وإنما ذكرت قوما درجوا . . . ومن مضيق سجنهم قد خرجوا قد كان لي بأنسهم سلوان . . . وما نسيت ذكرهم إذ بانوا وقد بقيت بعدهم فريدا . . . مخلفا عن رفقتي وحيدا أقطع الأوقات بالرجاء . . . ليحضر الوفاة بالوفاء وفي الزمان منهم بقيه . . . قليلة صالحة مرضيه فقل لهم إذا أقاموا بعدنا . . . يدعو لنا فقد دعونا جهدنا إذا علمت ذلك فأقول ، وبالله التوفيق . فمن مشايخي رضي الله عنهم سيدي محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه ، ورحمه كان رضي الله عنه من الراسخين في العلم . أخذ الطريق عن سيدي الشيخ أبي العباس السرسي تلميذ سيدي محمد الحنفي رضي الله عنه ، وكان من أولاد الأتراك ، وإنما اشتهر بالمغربي لكون أمه تزوجت مغربيا ، وكان الغالب عليه الاستغراق رضي الله عنه ، وكان بخيلا بالكلام في الطريق عزيز النطق بما يتعلق بها ، وذلك من أعظم دليل على صدقه ، وعلو شأنه فإن أهل الطريق رضي الله تعالى عنهم هكذا كان شأنهم ، وقد بلغني أنهم سألوه أن يصنف لهم رسالة في الطريق ، فقال : أصنف الطريق لمن ؟ هاتوا لي راغبا صادقا إذا قلت له : أخرج عن مالك ، وعيالك خرج فسكتوا ، وكان رضي الله عنه يقول : الطريق كلها ترجع إلى لفظتين سكتة ، ولفتة وقد وصلت . قلت : معناه عدم الالتفات لغير الله تعالى ، والإقبال على أوامر الله ، وكان إذا جاءه أحد من الفقهاء يقول له : خذ علينا العهد ، فيقول : يا أولادي روحوا واستكفوا البلاء فإن هذه طريق كلها بلاء أنتم في طريق تأكلون ما تشتهون ، وتلبسون ما تشتهون والناس يخافونكم ، ويطلبون منكم السكوت عنهم ، وهذه طريق يقام عليكم الميزان فيها ، ويطلق الناس ألسنتهم عليكم ، ولا يجوز لكم فيها أن تردوا عن أنفسكم ، وإن لبس أحدكم ثوبا مصقولا أو ظهرا من محررات الخام خرج الناس عليكم . وقالوا هذا ما هو لباس الفقراء ، فيرجعون عن طلب أخذ العهد عليكم فيقول : أعجبني صدقكم في دعوى الكذب ، ولما جاءه سيدي إبراهيم المواهبي يطلب التربية قال له : تربية بيتية ، وإلا سوقية قال يا سيدي ما معنى ذلك . قال : أما التربية السوقية ، فأعلمك بها كلمات هذيانات ككلام الموسطين في الفناء ، والبقاء ، وأحوال القوم ، وآذن لك بالجلوس على سجادة وتصير تأخذ كلاما ، وتعطي كلاما . وأما التربية البيتية ، فتشارك جميع أهل البلاء في سائر أقطار الأرض في بلائهم ، ويقال فيك ما قيل فيهم من البهتان ، والزور ، وتصبر كما صبر من سبقك من أولى العزم من الأولياء ، ولا كلام ، ولا سجدة ، ولما أججوا النار على سيدي إبراهيم المواهبي رضي الله عنه في تقريره في قوله تعالى : ' وهو معكم أينما كنتم ' وعقدوا له مجلسا في الجامع الأزهر جاء سيدي محمد المغربي رضي الله عنه ، وهم في أثناء الكلام فسكتوا كبهم فقال : تكلموا حتى أتكلم معكم ، فلم يتجرأ أحد أن ينطق فقال : الشيخ نحن أحق بتنزيه الحق منكم أيها الفقهاء ، ومن طلب إيضاح ذلك فليبرز إلى أتكلم معه فسكتوا فأخذ بيد إبراهيم رضي الله عنه ، وقام معه فلم يتبعهما أحد ، وكان الذي تولى جمع الناس وشن الغارة عليه العلائي الحنفي ، وقال : هذا يتكلم في الماهية وذلك لا يجوز ثم إن الفقهاء لحقوا سيدي محمدا يترضون خاطره فقال لهم : الطريق ما هي كلام كطريقكم إنما هي طريق ذوق فمن أراد منكم الذوق فليأت أخليه ، وأجوعه حتى أقطع قلبه ، وأرقيه حتى يذوق ، وإلا فليكف عن هذه الطائفة فإن لحومهم سم قاتل . وكان رضي الله عنه يقول : السالكون ثلاثة : جلالي ، وهو إلى الشريعة أميل ، وحمالي وهو إلى الحقيقة أميل ، وكمالي جامع لهما على حد سواء ، وهو منهما كمل ، وأفضل ، وكان رضي الله عنه يقول : حد الصفات مشتمل على النفي ، والإثبات على حد كلمتي الشهادتين سواء ، فإن نظرت إليها من حيث عدم الذات بها ، وهو طرف النفي قلت : ليست هي هو كلا إله ، وإن نظرت إليها من حيث تعلقها بالذات ، وهو طرف الإثبات قلت : ولا غيره كإلا الله فلا يجوز الوقف عند قوله ليست هي هو كما لا يجوز الوقف عند قوله لا إله حذرا في الأول من إثبات الغيرية المحضة لصفات الله تعالى ، وفي الثاني حذرا من النفي المحض لذات الله تعالي هذا حكم كل كلام متعدد اللفظ متحد المعنى ، وذلك أن الكلمات المنطقية على معنى واحد مرتبط بعضها ببعض كقولهم ليست هي هو ، ولا غيره فلا يجوز التكلم على بعض منها دون بعض لأن ذلك مما يخل بالمعنى الواحد من حيث إنه يتكلف لجزء الكلام معنى آخر وهذا مما يفسد نظام الكلام ، ويحرفه عن سبيل الاستقامة ، وكان يقول : إنما أوجد العالم أجساما ، وجواهر وأعراضا نقيض ما هو موصوف به ليعلمنا بالفرق بيننا ، وبينه ، وقد استوى على العرش بقدمه ، وبذاته وعلى جميع الكون بعلمه ، وصفاته قلت : وفي قوله ، وبذاته نظر فإن الذات لا يصح في حقها استواء كما أجمع علب المحققون ، وإنما يقال استوى تعالى بصفة الرحمانية على العرش ، فرحم بذلك الاستواء جميع من تحت العرش إما مطلقا وإما رحمة مغياة بغاية كرحمة إمهال الكفار بالعقوبة في دار الدنيا والله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول في معنى قول حجة الإسلام : ليس في الإمكان أبدع مما كان أي ليس في الإمكان أبدع حكمة من هذا العالم يحكم بها عقلنا بخلاف ما استأثر الله تعالى بعلمه ، وبإدراكه وأبدعيته خاصة به ، فهو أكمل ، وأبدع حسنا من هذا العالم بالنسبة إليه تعالى وحده فلو كان هذا العالم يدخله نقص لنقص كمال الوجود ، وهو كامل بإجماع لأنه لا يصدر عن الكامل إلا كامل قال تعالى : ' والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ' ' الذاريات : 47 و 48 ' ومعلوم أن الامتداح لا يكون إلا فيما هو غاية ونهاية ، وإلا فكيف يمتدح الحق تعالى بمفضول ، وكان رضي الله عنه يقول : من واجب حسنات الأبرار شهود الأغيار لترتيب العبادة ، والأحكام في هذه الدار ، وإن كان ذلك من سيئات المقربين الذين استغرقهم الأنوار ، واستهلك عندهم السوى كما استهلك الليل في النهار ، وكان يقول : اطلب طريق ساداتك ، وإن قلوا ، وإياك ، وطريق غيرهم ، وإن جلوا . وكفي شرفا بعلم القوم قول موسى عليه الصلاة والسلام للخضر عليه السلام ' هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ' قال : وهذا أعظم دليل على وجوب طلب علم الحقيقة كما يجب طلب علم الشريعة ، وكان يقول : ابن الشريعة ناظر بعين الحكم الطاهر ، ونسبة فعل الخلق إليهم لنوجه الخطاب ، وترتب الأحكام عليهم ' والله خلقكم وما تعملون ' ' الصافات : 96 ' وابن الحقيقة ناظر بعين الحكمة الناطقة ، ونسبة الفعل إلى الحق لأنه الفاعل المختار حقيقة ' وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ' ' القصص : 68 ' فإذا كان أدب الشريعة مبنيا على شهود الخلق في شهود الحق ، وأدب الحقيقة مبنيا على فناء الخلق في شهود الحق وتباين الأمران تعين إظهار الأمر الظاهر ، وتحتم إبطان الأمر الباطن خشية المعارضة ، والتعطل هذا سبب عدم بناء الحكم في الظاهر على الحكمة الباطنة إذ لو ترتب عليها حكم لتعذر على غالب الناس الجمع بينهما وأفضى لنا الحرج ، والتشديد إلى شقاق بعيد ، وكان رضي الله عنه يقول : في قول سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه : وألسنة الأكوان إن كنت واعيا . . . شهود بتوحيد بحال فصيحة يريد بقوله : شهود بتوحيد توحيد كل العالم أي التوحيد القهري الحالي المدخل للطائع والكافر والفاجر في حكم العبادة بالحال ، وقوله : بحال فصيحة أخرج التوحيد بالقال فلم يتعرض له ، ولا لأهله لأنه مخصوص بالمؤمنين دون الكافرين ، وليس هو المقصود الأعظم في الآية المقتبس منها البيت وهي قوله تعالى : ' وإن من شيء إلا يسبح بحمده ' ' الإسراء : 44 ' فشيء نكرة ، وهي في سياق النفي تعم كل شيء من موحد وجاهد ، وحيوان وجماد فكأن الحق تعالى يقول : كل شيء يوحدني ، ويعبدني بباطنه ، وإن اختلف أمر باطنه قال : وقوله : وإن عبد النار المجوس ، وما انطفت . . . كما جاء في الأخبار في كل حجة فما عبدوا غيري ، وما كان قصدهم . . . سواي ، وإن لم يضمروا عقد نيتي فهذا هو التوحيد الحالي العام المشار إليه في الآية بقوله : ' لا تفقهون تسبيحهم إنه ' ' الإسراء : 44 ' أي هذا التوحيد الباطن فتفطنوا له إن كنتم فقهاء فإنه محتاج إلى الفهم ، وهو موضع العلم الباطن الرباني ولولا أن الله تعالى رحم أمة ، ودفع عنهم الحرج لوجه عليه العذاب ، والنقمة لعدم فهمهم هذا التوحيد : ' كان حليما غفورا ' ' الإسراء : 44 ' ومن شواهد توحيد الحال هذه الظلال في قوله : ' وظلالهم بالغدو والآصال ' ' الرعد : 15 ' فكل الوجود وجد دليلا على موجده فلا يكون بعضه غير دليل حتى المخالف بدلالة وجوده ، ومخالفته عابد راكع ساجد شاء أم أبى ، فالقول : بأن كل جاحد في الظاهر موحد في الباطن جائز بين قوم يفهمون كلام الله ، ومواضع إشاراته لا الذين يكذبون بما لم يحيطوا به علما من أسراره وبيانه ، ولكن هذا التوحيد لا ينفع الكفار بشاهد حديث القبضتين ، وحديث الفراغ ، وجفوف الأقلام فلو كان ينفعهم هذا التوحيد الحالي لما دخل أحد منهم النار فافهم ، وكان رضي الله عنه يقول : أيضا في قول : سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه : ولو خطرت لي في سواك إرادة . . . على خاطري سهوا قضيت بردتي مراده الردة النسبية لا الدينية لأن الرجوع ، والنزول من مقام المقربين إلى حسنات الأبرار التي هي سيئات المقربين ردة عند القوم ، وذلك أن من لازم حسنات الأبرار شهود الأغيار المعارض للفناء ، ويسمى الشرك الأصغر ، وكان رضي الله عنه يقول في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة المراد برأيه كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية لأن من بالغ في كمال الاستعداد ، والتقرب صار محبو باللحق ، وإذا أحبه كان نومه من كثرة اليقظة القلبية كحال اليقظة التي لغيره ، وحينئذ لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بروحه المتشكلة بتشكل الأشباح من غير انتقال بانتقال ذاته الشريفة ، ومجيئها من البرزخ إلى مكان هذا الرائي لكرامتها وتنزيهها عن كلفة المجيء ، والرواح هذا هو الحق الصراح . وكان رضي الله عنه يقول : إنما جعل قتل الكلب المعلم للصيد ذكاة لائتمارة بأمر سيده ، وانتهائه ، بزجره ، فهو كالمدية بيد مولاه ولو كان مع نفسه ، وهواه لحرم أكل صيده ، والله أعلم هذا ما رأيته في الرسالة المنسوبة إليه بين أصحابه ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا أراد أن يسلب إيمان عبد عند الموت يسلطه علي ، ولي يؤذيه ، وكان رضي الله عنه ينفق نفقة الملوك من كيس صغير في عمامته ، ويوفي منه الديون عن أصحابه عن المحتاجين ، وكان رحمة بين العباد . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وعشر وتسعمائة ، ودفن بالقرافة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ سيدي محمد عنان رضي الله تعالى عنه : كان رضي الله عنه من الزهاد العباد وما كنت أمثله ، وأحواله إلا بطاوس اليماني أو سفيان الثوري ، وما رأيت في عصرنا مثله ، وكان مشايخ العصر إذا حضروا عنده صاروا كالأطفال في حجر مربيهم ، وكان على قدم في العبادة ، والصيام ، وقيام الليل من حين البلوغ ، وكان يضرب به المثل في قيام الليل ، وفي العفة ، والصيانة ، ولما بلغ خبره إلى سيدي الشيخ كمال الدين إمام جامع الكاملية سافر إلى بلاد الشرقية بقصد رؤيته فقط . فلما اجتمع به أعجبه عجبا شديدا فأخذ عليه العهد ، وسافر به إلى سيدي أبي العباس الغمري بالمحلة فآخى بينه ، وبينه ، وكان رضي الله عنه له كرامات عظيمة : منها أنه أطعم نحو خمسمائة نفس من ستة أقداح دقيق حتى شبعوا ، وذلك أن فقراء بلاده اجتمعوا هذا العدد ، وطلعوا بلده على غفلة ، وكان قد عجن طحينة على العادة أول ما خط عارضه ، فقال : لوالدته خذي هذه الفوطة ، وغطى هذه القصعة ، وقرصي فقطعت منها الخبز حتى ملأت البيت ، وحجيرة البيت ، ونصف الدار فقال لها : اكشفي القصعة يكفي فكشفتها فلم تجد فيها شيئا من العجين فقال : وعزة ربي لو شئت لملأت البلد كلها خبزا من هذا العجين بعون الله تعالى ومنها أن شخصا كان زمنا في جامع الإسكندرية ، وكان كل من تشوش منه يقول : يا قمل اذهب إلى فلان فتمتلئ ثياب ذلك الشخص قملا حتى يكاد يهلك فبلغ سيدي محمدا رضي الله عنه ذلك ، وهو في زيارة كوم الأفراح فقال : اجمعوني عليه فجمعوه عليه فقال : له أنت ما عرفت من طريق الله إلا القمل ثم أخذه بيده ، ورماه في الهواء فغاب عن أعين الناس من ذلك اليوم ، فلم يعرف أحد أين رماه الشيخ وحكى لي الشيخ علي الأتميدي فقيه الفقراء عنده أن سيدي محمدا رضي الله عنه أرسل النقيب من برهمتوش إلى سيدي أبا العباس الغمري في المحلة بعد العشاء ، وقال : لا نخل الصبح يؤذن إلا ، وأنت عندي فمضى أبو شبل ، ورجع فقال له : الشيخ عديت من أي المعادي فقال : يا سيدي ما درت بالي للبحر ، ولا علمت به فقال : الشيخ سر لأصحابه طوى البحر بهمته ، وعزمه فلم يجده في طريقه ، ومنها ما أخبرني به سيدي الشيخ العالم العامل المحدث الشيخ أمين الدين إمام الغمري قال : كنت في سفر مع سيدي أبي العباس الغمري . وسيدي محمد بن عنان فاشتد الحر علينا ، ونزل الشيخان ، وجلسا بين حمارتين ، ونشرا عليهما بردة من الحر فعطش سيدي أبو العباس الغمري رضي الله عنه فلم يجد ماء فأخذ سيدي محمد بن عنان طاسة ، وغرف بها ماء من الأرض ، وقدمه لسيدي أبي العباس الغمري رضي الله عنه فلم يشربه ، وقال : يا شيخ محمد الظهور يقطع الظهور ، فقال : وعزة ربي لولا خوفي الظهور لتركنها عينا يشرب الناس ، والدواب منها إلى يوم القيامة ، وكان ذلك ببلاد الشرقية بنواحي صنضبسط هذه حكاية الشيخ أمين الدين رضي الله عنه بلفظه ، وكان من الصادقين . وحكى لي الشيخ بدر الدين المشتولي رحمه الله قال : سمعت سيدي عبد القادر الدشطوطي رضي الله عنه يقول : إن الشيخ محمد بن عنان رضي الله تعالى عنه يعرف السماء طاقة طاقة ، وأخبرني سيدي الشيخ شمس الدين الطنيخي رحمه الله تعالى صهر سيدي محمد بن عنان أن شخصا أكولا نزل مع الشيخ محمد رضي الله عنه وهم في مركب مسافرين نحو دمياط فأخبروا سيدي محمدا رضي الله عنه أنه أكل تلك الليلة في المركب فرد سمك فسيخ ، ونحو قفة تمر فدعاه سيدي محمد رضي الله عنه . وقال له : اجلس ، وقسم رغيفا نصفين ، وقال كل وقل بسم الله الرحمن الرحيم فشبع من نصف الرغيف ، ولم تزل تلك أكلته لم يزد على نصف الرغيف حتى مات ، فجاء أهله ، وقالوا للشيخ جزاك الله عنا خيرا خففت عنا ، وأخبرني سيدي الشيخ أمين الدين رحمه الله تعالى أمام الغمري أيضا أن شخصا في مقبرة برهمتوش كان يصيح في القبر كل ليلة من المغرب إلى الصباح ، فأخبروا سيدي محمدا رضي الله عنه بخبره فمشى إلى المقبرة وقرأ سورة تبارك ودعا الله تعالى أن يغفر له فمن تلك الليلة ما سمع له أحد صياحا فقال : الناس شفع فيه الشيخ . وكان رضي الله عنه وقته مضبوطا لا يتفرغ قط لكلام لغو ، ولا لشيء من أخبار الناس ويقول كل نفس مقوم على بسنة ، وكان يتهيأ لتوجه الليل من العصر لا يستطيع أحد أن يخاطبه إلى أن يصلي الوتر فإذا صلى قام للتهجد لا يستطيع أحد أن يكلمه حتى يضحى النهار ، وكان هذا دأبه ليلا ونهارا شتاء وصيفا ، وكنا ونحن شباب في ليالي الشتاء نحفظ ألواحنا ، ونكتب في الليل ، ونقرأ ماضينا ، وهو واقف يصلي على سطح جامع الغمري ثم ننام ، ونقوم فنجده قائما يصلي ، وهو متلفع بحرامه فنقول هذا الشيخ لا يكل ، ولا يتعب هذا ، والناس من شدة البرد تحت اللحف لا يستطيعون خروج شيء من أعضائهم ، وسمعت سيدي محمدا السروي شيخ الشناوي يقول : ما رأت عيني أعبد من ابن عنان ، وكان رضي الله عنه يحب الإقامة في الأسطحة ، وكل جامع أقام فيه عمل له فوق سطوحه خصا ، وتارة خيمة ، وأخبرني أنه أقام في بدء أمره ثلاث سنين في سطح جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وكان لا ينزل إلا وقت صلاة الجماعة أو وقت حضور عرس الشيخ العارف بالله تعالى سيدي يحيى المناوي فإنه كان من أهل علمي الظاهر ، والباطن وكذلك كان يحضره جماعة من الأولياء كسيدي محمد السروي رضي الله عنه ، وسيدي محمد ابن أخت سيدي مدين رضي الله عنه ، وأضرا بهما ، وسمعته رضي الله عنه يقول : سخر الله تعالى لي الدنيا مدة إقامتي في جامع عمرو ، فكانت تأتيني كل ليلة بإناء فيه طعام ورغيفين ، وما خاطبتها قط ، ولا خاطبتني ، ولكن كنت أعرف أنها الدنيا ، وسمعته يقول : حفظت القرآن ، وأنا رجل فحفظت أولا النصف الأول على الفقيه ناصر الدين الأخطابي ثم النصف الثاني على أخي الشيخ عبد القادر . وكان رضي الله عنه إذا نزل في مكان فكأني الشمس حلت في ذلك المكان لا أكاد أشهد غير ذلك هذا ، وأنا صغير لا أفصح عن مقامات الرجال ، والله إنه ليقع لي في الليلة الباردة أنني أقوم ، وأنا كسلان عن الوضوء ، والصلاة فلا أجد أحدا في ذهني حاله ينشطني غيره ، فإني أعرض هذا الحال ، وأقول في نفسي لو قام الشيخ محمد رضي الله عنه في مثل هذه الليلة هل كان يرجع إلى النوم بغير وضوء ، وصلاة فيزول عني الكسل بمجرد ذكر حاله رضي الله عنه ، ولقد سمعته رضي الله عنه يقول : من منذ ، وعيت على نفسي لا أقدر على جلوسي بلا طهارة قط ، ولقد كانت تصيبني الجنابة في الليالي الباردة فلا أجد ماء للغسل إلا بركة كانت على باب دارنا في ليالي الشتاء ، فكنت أنزل فيها ، وعلى وجهها الثلج ، فأفرقه يمينا ، وشمالا ثم أغطس ، فأجد الماء من الهمة كأنه مسخن بالنار ، والله لقد رأيته بعيني يستنجي في الخلاء ، فيطئ عليه الماء للوضوء فيضرب يده على الحائط ويتيمم حتى يجد الماء ، ولا يجلس على غير طهارة لحظة ، وكان يقول : مجالسة الأكابر تحتاج إلى دوام الطهارة ، وأردت ليلة من الليالي أمد رجلي للنوم ، فكل ناحية أردت أن أمد رجلي فيها أجد فيها وليا من أولياء الله تعالى ، فأردت أن أمدحها إلى ناحية سيدي محمد رضي الله عنه بباب البحر فوجدتها تجاه قبره فنمت جالسا ، فجاءني ومسك رجلي ، ومدها ناحيته ، وقال : مد رجلك ناحيتي البساط أحمدي فقمت ، ونعومة يده في رجلي رضي الله عنه . وكان يتكدر ممن يضع بين يديه شيئا من الدنيا ليفرقه على الفقراء ، ويقول ما وجدت أحدا يقرق ، وسخك في البلد غيري ، وأخبرني الشيخ عبد الدائم ولد أخيه قال : بعت مركب قلقاس من زرع عمي ، وجئته من ثمنها بأربعين دينارا ، ووضعتها بين يديه بكرة النهار فصاح في وقال : الله لا يصبحك بخير تصبحنا فرفعتها من بين يديه ، وأنا خجلان . وكان رضي الله عنه إذا دعاه من في طعامه شبهة يجيبه ، ولكن يأخذ في كمه رغيفا يأكله على سفرة ذلك الرجل مسارقة من غير أن يلحظ أحد به هكذا رأيته وكان حاضرا الشيخ أبو بكر الحديدي والشيخ محمد العدل رضي الله عنهما فأرادا أن يفعلا مثل فعله فقال : كلا أنتما لا حرج عليكما ، ولما طلب الغوري الشريف بركات سلطان الحجاز ، ورأى منه الغدر جاء إلى سيدي محمد رضي الله عنه بعد صلاة العصر ، ونحن جلوس بين يديه فقام له الشيخ ، واعتنقه ، وقال له : الشريف أريد أهرب هذا الوقت ، وخاطرك معي لا يلحق بي الغوري حتى أتخلص من هذه البلاد فإن النوق تنتظرني نواحي بركة الحاج فدخل سيدي محمد رضي الله عنه الخلوة فانتظره الشريف فلم يخرج ، والوقت ضاق فقال : لي ، وللشيخ حسن الحديدي خادمه استعجلا لي الشيخ ففتحنا باب الخلوة فلم نجد الشيخ فيها فرددنا الباب فبعد ساعة خرج ، وعيناه كالدم الأحمر ، فقال : اركب يا شريف لا أحد يلحقك فما شعر الخوري به إلا بعد يومين فتخلص إلى بلاد الحجاز ، فأرسل في طلبه فلم يلحقوه ، وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : أنا ما عرفت الشيخ محمد بن عنان إلا من سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه كنت ، وأنا عنده أبيع الجمير في غيطه في بركة الحاج أسمعه يقول ؛ وعزة ربي لتتوزعن حملتي بعد موتي على سبعين رجلا ، ويعجزون ، فقال له : الشيخ يوسف الكردي رحمه الله تعالى يا سيدي من يأخذ خدامة الحجرة النبوية بعدكم ؟ فقال : شخص يقال له : محمد بن عنان سيظهر في بلاد الشرقية ، وكان رضي الله عنه يقول : الفقير ما رأس ماله في هذه الدار إلا قلبه ، فليس له أن يدخل على قلبه من أمور الدنيا شيئا يكدره ، والله لقد رأيته ، وهو في جامع المقسم بباب البحر أوائل مجيئه من بلاد الريف جاءه شخص وقال له : يا سيدي إن جماعة يقولون هذه الخلاوي التي فيها الفقراء لنا ، وكان ذلك يوم الوقت فخرج ، وأمر بنقل دسوت الطعام إلى الساحة التي بجوار سيدي محمد الجبروني رضي الله عنه ، وكمل طبخ الطعام هناك ، وقال : الفقير رأس ماله قلبه ، وأخبرني الشيخ شمس الدين اللقاني الملكي رحمه الله تعالى قال : دخلت على سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه يوما ، وأنا في ألم شديد من حيث الوسواس في الوضوء ، والصلاة فشكوت ذلك إليه فقال : عهدنا بالمالكية لا يتوسوسون في الطهارة ، ولا غيرها فلم يبق عندي بمجرد قوله ذلك شيء من الوسواس ببركته . وكان رضي الله عنه لا يعجبه أحد يصلح للطريق في زمانه ، ويقول : هؤلاء يستهزئون بطريق الله ، ولم يلقن أحدا قط الذكر غير الشيخ أحمد النجدي جاءه بالمصحف ، وقال : أقسمت عليك بصاحب هذا الكلام إلا ما لقنتني الذكر فغشي على الشيخ رضي الله عنه من قسمه عليه بالله عز وجل ثم لقنه : وقال : يا ولدي الطريق ما هي بهذا إنما هي باتباع الكتاب ، والسنة ، وجاءه مرة شخص لابس زي الفقراء ، فقال : يا سيدي كم تنقسم الخواطر فقطب الشيخ وجهه ، ولم يلتفت إليه فلما قام الرجل قال : الشيخ لا إله إلا الله ما كنت أظن أني أعيش إلى زمان تصير الطريق إلى الله عز وجل فيه كلاما من غير عمل ، وكان مدة إقامته في مصر لا يكاد يصلي الجمعة مرتين في مكان واحد بل تارة في جامع عمرو ، وتارة في جامع محمود وتارة في جامع القراء بالقرافة ، وحضرته صلاة الجمعة مرة بالقرب من الجامع الأزهر ، فقال : هذا مجمع الناس ، وأنا أستحي من دخولي فيه ، وكان رضي الله عنه يزور الفقراء الصادقين أحياء ، وأمواتا لا يترك زيارتهم إلا من مرض ، وكنت أنظره لم يزل يدير السبحة ، وهو يقرأ القرآن . وكان رضي الله عنه يكره للفقير أن يغتسل عريانا ، ولو في خلوة ، ويشدد في ذلك ، ويقول : طريق الله ما بنيت إلا على الأدب مع الله تعالى ، وكل من ترخص فيها لا يصلح لها . قال : سيدي أبو العباس الحريثي : ورآني مرة أغتسل ، وفي : وسطي فوطة في الليل فعاب ذلك علي ، وقال : بدن ' الفقير كله عورة لم لا اغتسلت في قميص ، وكان رضي الله عنه إذا حضر عند مريض قد أشرف على الموت من شدة الضعف يحمل عنه فيقوم المريض وينام الشيخ رضي الله عنه مريضا ما شاء الله ، ولعلها المدة التي كانت بقيت على ذلك المريض ، ووقع له ذلك مع سيدي أبي العباس الغمري رضي الله عنه ، ومع سيدي علي البلبلي المغربي ، وكنت أنا حاضرا قصة سيدي علي رضي الله عنه ، وقام في الحال يتمشى إلى ميضأة الجامع الأزهر فتوضأ ، وجاء فرقد رضي الله عنه فتعجب الناس من ذلك ، ودعي مرة إلى وليمة فجاء إلى باب الدار ، فقيل له : إن سيدي عليا المرصفي رضي الله عنه هنا فرجع ، ولم يدخل فقال : بعض الناس إنه يكرهه ، وقال : بعضهم الفقراء لهم أحوال فبلغ ذلك سيدي محمدا رضي الله عنه فقال : ليس بيني وبين الرجل شيء ، وإنما كان بينه ، وبين أخي الشيخ نور الدين الحسني ، وقفة فحفظت حق صاحبي بعد موته لكونه متقدما في الصحبة وكان لا يركب قط إلى مكان في زيارة أو غيرها إلا ويحمل معه الخبز ، والدقة ، ويقول نعم الرفيق إن الرجل إذا جاع ، وليس معه خبز استشرفت نفسه للطعام ، فإذا وجده أكله بعد استشراف النفس ، وقد نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وسمعته رضي الله عنه يقول : كل فقير نام على طراحة فلا يجيء منه شيء في الطريق لأن من ينام على الطراحة ما قصده قيام الليل الذي هو مطية المؤمنين ، وبراقهم ثم يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم نام على عباءة مثنية طاقين فنام عن ورده تلك الليلة ، فقال : لعائشة رضي الله عنها رديها إلى حالها الأول فإن لينها ، ووطاءتها منعتني قيام ليلتي ، وأخبرني سيدي الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري رضي الله عنه قال : كان شخص من أرباب الأحوال بناحية شان شلمون بالشرقية جالسا في البرية ، وقد حلق على نفسه بزرب شوك ، وعنده داخل هذه الحيقة الحيات ، والثعالب ، والثعابين ، والقطط والذئاب ، والخرفان ، والإوز ، والدجاج فزاره الشيخ محمد رضي الله عنه مرة ، فقال : أهلا بالجنيدي ثم زاره مرة أخرى فقال : أهلا بالجندي ثم زاره مرة أخرى فقال : مرحبا بالأمير ثم زاره مرة أخرى ، فقال : أهلا بالسلطان ثم زاره مرة أخرى فقال : مرحبا براعي الصهب فكانت تلك آخر تحيته . قلت : ومناقب الشيخ رضي الله عنه لا تحصر والله أعلم . ولما حضرته الوفاة ، ومات نصفه الأسفل حضرت صلاة العصر ، فأحرم جالسا خلف الإمام لا يستطيع السجود ثم اضطجع ، والسبحة في يده يحركها فكانت آخر حركة يده آخر حركة لسانه فوجدناه ميتا فجردته من ثيابه أنا ، والشيخ حسن الحديدي ، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة عن مائة وعشرين سنين ، ودفن بجامع المقسم بباب البحر ، وصلى عليه الأئمة ، والسلطان طومان أي وصار يكشف رجل الشيخ ويمرغ خدوده عليها ، وكان يوما في مصر مشهودا رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ أبو العباس الغمري الواسطي رضي الله تعالى عنه كان جبلا راسيا وكنزا مطلسما ذا هيبة على الملوك فمن دونهم ، وكان له كرامات كثيرة يحفظها جماعته : منها أنه وقع من جماعته صرة فيها فضة أيام عباب البحر ، والمركب منحدرة نواحي سما نود فلم يشعروا بها إلا بعد أن انحدرت كذا كذا بلدا فأوقف الشيخ رضي الله عنه المركب ، وقال روحوا إلى المكان الفلاني ، وارموا الشبكة تجدوها ففعلوا فوجدوها . ومنها ما حكاه لي ولده سيدي أبو الحسن رضي الله عنه قال : كنت مع والدي ، ومعنا عمود رخام على جملين فجئنا إلى قنطرة ضيقة لا تسع سوى جمل واحد فساق الشيخ رضي الله عنه الجمل الآخر فمشى على الهواء بالعمود ، ومنها أنه أراد أن يعدي من ميت غمر إلى زفتي فلم يجد المعدية فركب على ظهر تمساح ، وعدى عليه ، ومنها ما أخبرني به الشيخ أمين الدين رضي الله عنه إمام جامعه بمصر أنهم لما أرادوا أن يقيموا عمد الجامع بيتوا على الناس يساعدونهم . فقام الشيخ وحده فأقام صفين من العمد فأصبحوا ، فرأهم واقفين ، وأخبرني الشيخ حسن القرشي رحمه الله قال : نزل عندنا سيدي أبو العباس يقطع جميزة في ترعة أيام الملق ، ومعه مركب أخرى تخفف الخشب فيها ، وكانت المراكب امتنعت من دخول بحر المحلة من قلة مائة فمكث الشيخ رضي الله عنه إلى الفجر فبينما هو يصلي إذ دخلت لنا مركب وفيها شخص نائم فنبهه سيدي أبو العباس فقام ، فقال : من جاء بي إلى هنا فإني كنت في ساحل ساقية أبي شعرة في البحر الشرقي فقالوا له جاء بك هذا السبع يعنون الشيخ رضي الله عنه فحملوا الخشب في المركبين . وساروا رضي الله عنه ، وكان سيدي الشيخ الصالح محمد العجمي رضي الله عنه كاتب الربعة العظيمة التي بجامعة بمصر يقول : والله لو أدرك الجنيد رضي الله عنه سيدي أبا العباس رضي الله عنه لأخذ عنه الطريق ، وكان رضي الله عنه لا يمكن أحدا صغيرا يمزح مع كبير ، ورأى مرة صبيا يغمز رجلا كبيرا فأخرجهما من الجامع ، ورمى حوائجهما ، وكان لا يمكن أمرد يؤذن في جامعه أبدا حتى يلتحي ، وعمر رضي الله عنه عدة جوامع بمصر وقراها ، وكان السلطان قايتباي يتمنى لقاءه فلم يأذن له ، وجاءه مرة ولده السلطان محمد الناصر على غفلة يزوره فلما ، ولي قال : أخذنا على غفلة وأجواله كثيرة مشهورة في بلاد الريف ، وغيرها ، وقد رأيته مرة واحدة حين نزل إلى بلدنا ساقية أبي شعرة في حاجة ، وعمري ثمان سنين . مات رضي الله عنه في صفر سنة خمس وتسعمائة ودفن بأخريات الجامع بمصر المحروسة رضي الله تعالى عنه . ومنهم سيدي الشيخ نور الدين الحسني المديني رضي الله تعالى عنه أحد أصحاب سيدي محمد ابن أخت سيدي مدين كان رضي الله عنه من العارفين بالله عز وجل ، ورأيته ، وأنا صغير وأخذ عنه الشيخ تاج الدين الذاكر بعد أن مات سيدي محمد ابن أخت سيدي مدين ، وكلاهما كان أخذ عنه ، وسمع يوما شخصا يبيع خشب الشيوخ التي تسرح بها النساء ، الكتان ، وهو يقول : يا قفة شيوخ بنصف فضة فأخذ منها معنى ، وقال : قفة شيوخ بنصف فضة ، وقال : قد رخصت الطريق فلم يلقن أحدا بعدها حتى مات رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه مرصدا لقضاء حوائج الناس عند الأمراء ، والحكام ، وكان بينه ، وبين سيدي محمد بن عنان ود عظيم ، ومؤاخاة رضي الله عنهما . ومنهم شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري الخزرجي رحمه الله تعالى آمين أحد أركان الطريقين الفقه ، والتصوف ، وقد خدمته عشرين سنة فما رأيته قط في غفلة ولا اشتغال بما لا يعني لا ليلا ، ولا نهارا ، وكان رضي الله عنه مع كبر سنه يصلي سنن الفرائض قائما ، ويقول لا أعود نفسي الكسل ، وكان إذا جاءه شخص ، وطول في الكلام يقول : بالعجل ضيعت علينا الزمن ، وكنت إذا أصلحت كلمة في الكتاب الذي أقرؤه عليه أسمعه يقول : بخفض صوته الله الله لا يفتر حتى أفرغ ، وكنت أتغدى معه كل يوم ، فكان لا يأكل إلا من خبز الخانقاه وقف سعيد السعداء ، ويقول : واقفها كان من الملوك الصالحين ، ووقف وقفها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم . وصنف المصنفات الشائعة في أقطار الأرض ، ولازمت الناس قراءة كتبه لحسن نيته ، وإخلاصه ، ولما قرأت شرحه على رسالة القشيري في علم التصوف أشار علي بحفظ الروض ، وكنت حفظت المنهاج قبل ذلك فعرضته عليه ، وقلت : إنه كتاب كبير فقال اشرع ، وتوكل فإن لكل مجتهد نصيبا ، فحفظت منه إلى باب القضاء ، وحصل لي رمي الدم من الحصر في الحفظ فأشار علي بالوقوف ، وقرأت شرحه على الروض إلى باب الجهاد ، وقرأت عليه تفسير القرآن العظيم للبيضاوي مع حاشيته عليه ، وحاشية الطيبي على الكشاف ، وحاشية السيد ، وحاشية الشيخ سعد الدين التفتازاني . وحاشية الشيخ جلال الدين السيوطي إلى سورة الأنبياء ، وقرأت عليه شرح آداب البحث له ، وحاشيته على جمع الجوامع ، وطالعت عليه حال تأليفه لشرح البخاري فتح الباري للحافظ ابن حجر ، وشرح البخاري للكرماني ، وشرحه للعيني الحنفي ، وشرحه للشيخ شهاب الدين العسقلاني على قدر كتابتي له في شرحه ، وخطى متميز فيه ، وأظنه يقارب النصف ، وكنت إذا جلست معه كأني جالست ملوك الأرض الصالحين العارفين ، وكان أكبر المفتين بمصر يصير بين يديه كالطفل وكذلك الأمراء ، والأكابر ، وكان كثير الكشف لا يخطر عندي خاطر إلا ، ويقول : قل : ما عندك ، ويبطل التأليف حتى أفرغ ، وكنت إذا حصل عندي صداع لحال المطالعة له يقول : انو الشفاء بالعلم فأنويه فيذهب الصداع لوقته ، وقال لي : مرة من صغري وأنا أحب طرايق القوم ، وكان أكثر اشتغالي بمطالعة كتبهم ، والنظر في أحوالهم حتى كان الناس يقولون هذا لا يجيء منه شيء في علم الشرع ، فلما ألفت كتاب شرح البهجة ، وفرغت منه استبعد ذلك جماعة من الأقران ، وكتبوا على نسخة منه كتاب الأعمى والبصير تنكيتا علي لكون رفيقي في الاشتغال كان ضريرا ، وكان تأليفي له إلى أن كان فروغه في يوم الاثنين ، ويوم الخميس فقط فوق سطح الجامع الأزهر ، وكان ، وقتي رائقا ، وظاهري بحمد الله تعالى محفوظا ، وكنت مجاب الدعوة لا أدعو على أحد إلا ، ويستجاب فيه الدعاء ، فأشار على بعض الأولياء بالتستر بالفقه ، وقال : استر الطريق فإن هذا ما هو زمانها فلم أكد أتظاهر بشيء من أحوال القوم إلى وقتي هذا ، وحكي لي يوما أمره من حين جاء إلى مصر إلى وقت تلك الحكاية ، وقال : أحكي لك أمري من ابتدائه إلى انتهائه إلى وقتنا هذا حتى تحيط به علما كأنك عاشرتني من أول عمري فقلت : له نعم قال : جئت من البلاد ، وأنا شاب فلم أعكف على أحد عن الخلق ، ولم أعلق قلبي به وكنت أجوع في الجامع كثيرا فأخرج بالليل إلى قشر البطيخ الذي كان بجانب الميضأة ، وغيرها فأغسله وآكله إلى أن قيض الله لي شخصا كان يشتغل في الطواحين ، فصار يتنقدني ، ويشتري لي ما أحتاج إليه من الكتب ، والكسوة ، ويقول : يا زكرياء لا تسأل أحدا في شيء ، ومهما تطلب جئتك به فلم يزل كذلك سنين عديدة فلما كان ليلة من الليالي والناس نيام جاءني ، وقال لي : قم فقمت معه فوقف لي على سلم الوقد الطويل ، وقال لي : اصعد هذا فصعدت فقال لي : اصعد فصعدت إلى آخره فقال لي : تعيش حتى يموت جميع أقرانك ، وترتفع على كل من في مصر من العلماء ، وتصير طلبتك شيوخ الإسلام في حياتك حين يكف بصرك فقلت : لا بد لي من العمى قال : ولا بد لك ثم انقطع عني فلم أره من ذلك الوقت ثم تزايد على الحال إلى أن عزم على السلطان بالقضاء فأبيت ، وقال : إن أردت نزلت ماشيا بين يديك أقود بغلتك إلى أن أوصلك إلى بيتك فتوليت ، وأعاني الله على القيام به . ولكن أحسست من نفسي أني تأخرت عن مقام الرجال فشكوت إلى بعض الرجال فقال : ما ثم إلا تقديم إن شاء الله تعالى فإن العبد إذا رأى نفسه متقدما فهو متأخر ، وإن رأى نفسه متأخرا فهو متقدم فسكن روعي ، وقال : رضي الله عنه ما كان أحد يحملني كما يحملني السلطان قايتباي كنت أحط عليه في الخطبة حتى أظن ما عاد قط يكلمني فأول ما أخرج من الصلاة يتلقاني ، ويميل يدي ويقول : جزاك الله خيرا فلم تزل الحسدة بنا حتى أوقعوا بيننا الوقعة ، وكان ماسكا لي الأدب ما كلمني كلمة تسوءني قط ولقد طلعت له مرة ، فأغلظت عليه القول فاصفر لونه فتقدمت إليه وقلت له والله يا مولانا إنما أفعل ذلك معك شفقة عليك ، وسوف تشكرني عند ربك ، وإني والله لا أحب أن يكون جسمك هذا فحمة من فحم النار ، فصار ينتفض كالطير وكنت أقول له أيها الملك تنبه لنفسك فقد كنت عدما فصرت وجودا ، وكنت رقيقا فصرت حرا وكنت مأمورا ، فصرت أميرا ، وكنت أميرا فصرت ملكا فلما صرت ملكا تجبرت ، ونسيت مبدأك ومنتهاك إلى آخره ، وقال لي : كان أخي الشيخ علي النبتيتي يجتمع بالخضر عليه السلام ، فباسطه يوما في الكلام فقال : للخضر عليه السلام ما تقول في الشيخ يحيى المناوي فقال : لا بأس به فقال : ما تقول : في فلان ما تقول فلان ما تقول في الشيخ زكريا فقال : لا بأس به إلا أن عنده نفيسة . فلما أرسل لي أخي الشيخ علي الضرير بذلك ضاقت على نفسي ، وما عرفت الذي أشار إليه بالنفيسة ، فأرسلت إلى سيدي علي البتيتي الضرير ، فقلت له : إن اجتمعت بالخضر ، فاسأله من فضلك على ما أشار إليه بالنفيسة فلم يجتمع به مدة تسع شهور فلما اجتمع به سأله ، فقال له إذا أرسل تلميذه أو قاصده إلى أحد من الأمراء يقول له : قال : الشيخ زكريا كيت ، وكيت فيلقب بالشيخ فلما أرسل لي الشيخ بذلك فكأنه حط عن ظهري جبلا ، وصرت أقول للقاصد إذا أرسلته إلى أحد من الأمراء ، والوزراء قل : للأمير أو الوزير يقول لك : زكريا خادم الفقراء كذا ، وكذا ، وقال لي مرة كنت متعكفا في العشر الأخير من رمضان فوق سطح الجامع الأزهر ، فجاءني رجل تاجر من الشام ، وقال لي : إن بصري قد كف ودلني الناس عليك تدعو الله أن يرد علي بصري ، وكان لي علامة في إجابة دعاني فسألت لله أن يرد عليه بصره فأجابني لكن بعد عشرة أيام فقلت له : الحاجة قضيت ، ولكن تسافر من هذا البلد فقال : ما هي أيام نقول : فقلت له إن أردت أن يرد الله عليك بصرك تسافر ، وذلك خوفا أن يرد عليه بصره في مصر فهتكني بين الناس فسافر مع جمال فرد الله عليه بصره في غزة ، وأرسل لي كتابا بخطه فأرسلت أقول له متى رجعت إلى مصر كف بصرك فلم يزل بالقدس إلى أن مات بصيرا ، وقد ألبسني الخرقة ، ولقنني الذكر من طريق سيدي محمد الغمري ، وذكر لي أنه سافر إلى المحلة الكبرى ، فأخذ عنه لبس الخرقة ، وتلقين الذكر ، وقرأ عليه كتابه المسمى بقواعد الصوفية كاملا قال : وكان أصحابه يفرحون بحضوري عنده لأجل سؤالي له لمعاني الكلام فإنهم كانوا لا يتهجمون عليه بالسؤال من هيبته لأنه كان جليل القدر ، وكان كثير الصدقة ما أظن أحدا كان في مصر أكثر صدقة منه كما شاهدته منه ، ولكن كان يسرها بحيث لا يعلم أحدا من الجالسين ، وجاءه مرة رجل أسمر ، وكان شريفا من تربة قايتباي ، فقال له : يا سيدي خطفت عمامتي هذه الليلة وكان حاضرا الشيخ جمال الدين الصاني ، والشيخ أبو بكر الظاهري جابي الحرمين فأعطاه الشيخ جديدا فرماه في وجه الشيخ وخرج غضبان منه فأعلمت الشيخ بذلك ، فقال : هو أعمى القلب الذي جاء بحضرة هؤلاء الجماعة ، وكنت يوما أطالع له في شرح البخاري فقال لي : قف اذكر لي ما رأيته في هذه الليلة ، وقد كنت رأيت أنني معه في مركب قبعها حرير ، وحبالها حرير ، وفرشها سندس أخضر ، وفيها أرائك ، ومتكآت من حرير ، والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه جالس فيها ، والشيخ زكريا عن يساره فقبلت يد الإمام الشافعي رضي الله عنه . ولم تزل تلك المركب سائرة بنا حتى أرست على جزيرة من كبد البحر الحلو ، وإذا فواكهها مدلاة في البحر فطلعت من المركب فوجدت بستانا من الزعفران كل نوراة منه كالإسباطة العظيمة ، وفيه نساء حسان يجنين منه فلما حكيت له ذلك قال : إن صح منامك يا فلان ، فأنا أدفن بالقرب من الإمام الشافعي رضي الله عنه ، فلما مات أرسلوا هيئوا له قبرا في باب النصر فصار الشيخ جمال الدين ، والشيخ أبو بكر الظاهري يقولان ما صح منامك يا فلان فبينما نحن في ذلك ، وإذ بقاصد الأمير خير بك نائب السلطنة بمصر يقول : إن ملك الأمراء ضعيف لا يستطيع الركوب إلى هاهنا ، وأمر أن تركبوا الشيخ على تابوت ، وتحملوه للأمير ليصلي عليه في سبيل المؤمنين بالرميلة ، فحملوه ، وصلوا عليه ، فقال : ادفنوه بالقرافة فدفنوه عند الشيخ نجم الدين الخبوشتاتي تجاه وجه الإمام الشافعي رضي الله عنهما ، وذلك في شهر الحجة سنة ست ، وعشرين وتسعمائة . ومنهم الشيخ علي النبتيتي الضرير رحمه الله تعالىورضي الله عنه كان من أكابر العلماء العاملين ، والمشايخ المتكلمين ، وكانت مشكلات المسائل ومعضلاتها ترسل إليه من الشام ، والحجاز ، واليمن وغيرها فيحل مشكلاتها بعبارة سهلة ، وكانت العلماء كلهم تذعن له ، وكان مقيما ببلده نبتيت بنواحي الخانقاه السرياقوسية ، والخلق تقصده من سائر الأقطار ، وكان إذا جاء إلى مصر تندلق عليه الناس يتبركون به ، وقد اجتمعت به مرات عند شيخنا شيخ الإسلام الشيخ زكريا في المدرسة الكاملية مرات ، وحصل لي منه لحظ وجدت بركته في نفسي إلى وقتي هذا ، وأسمعني حديث عائشة رضي الله عنها فيمن أرضي الله بسخط الناس إلى آخره ، وقال لي : احفظ هذا الحديث فإنك سوف تبتلي بالناس وكان يجتمع بالخضر عليه السلام ، وذلك أدل دليل على ولايته ، فإن الخضر لا يجتمع إلا بمن حقت له قدم الولاية المحمدية ، وسمعته يقول : وهو بالمدرسة الكاملية لا يجتمع الخضر عليه السلام بشخص إلا إن جمعت فيه ثلاث خصال فإن لم تجتمع فيه فلا يجتمع به قط ، ولو كان على عبادة الملائكة : الخصلة الأولى أن يكون العبد على سننه في سائر أحواله ، والثانية ألا لا يكون له حرص على الدنيا ، والثالثة أن يكون سليم الصدر لأهل الإسلام لا غل ، ولا غش ولا حسد ، وحكى له عن الشيخ أبي عبد الله التستري أحد رجال رسالة القشيري أنه كان يجتمع بالخضر عليه السلام ، ويقول : إن الخضر لا يجتمع بأحد إلا على وجه التعليم له فإنه غني عن علم العلماء لما معه من العلم اللدني ، وقد بلغني أن الشيخ عبد الرازق الترابي أحد تلامذته جمع مناقبه نظما ، ونثرا فمن أراد الزيادة على ما ذكرناه فعليه بذلك الكتاب توفي في يوم عرفة سنة سبع عشرة ، وتسعمائة ، ودفن ببلده ، وضريحه بها ظاهر يزار ، وهذا من نظمه : ومالي لا أنوح على خطائي . . . وقد بارزت جبار السماء قرأت كتابه ، وعصيت سرا . . . لعظم بليتي ، ولشؤم رائي بلائي لا يقاس به بلاء . . . وآفاتي تدل على شقائي فيا ذلي إذا ما قال : ربي . . . إلى النيران سوقوا ذا المرائي فهذا كان يعصيني مرارا . . . ويزعم أنه من أوليائي تصنع للعباد ، ولم يردني . . . وكان يريد بالمعنى سوائي إلى أن قال في آخرها : فيا ربي عبيد مستجير . . . يروم العفو من رب السماء حقير ثم مسكين فقير . . . بنبتيت أقام على الرياء علي باسمه في الناس يعرف . . . وما يدري اسمه حال ابتداء فآنسه إذا أمسى وحيدا . . . رهين الرمس في لحد البلاء رضي الله عنه . ومنهم الشيخ علي بن الجمال النبتيتي رحمه الله تعالى أحد أصحاب سيدي أبي العباس الغمري ، وكان من الرجال المعدودة في الشدائد ، وكان صاحب همة يكاد يقتل نفسه في قضاء حاجة الفقراء ، وحج هو وسيدي أبو العباس الغمري ، وسيدي محمد بن عنان ، وسيدي محمد المنير وسيدي أبو بكر الحديدي ، وسيدي محمد العدل في سنة واحدة ، فجلسوا يأكلون تمرا في الحرم النبوي فقال : سيدي أو بكر الحديدي لا أحد يأكل أكثر من رفيقه ، وكانت ليلة لا قمر فيها فلما فرغوا عدوا النوى ، فلم يزد واحد على آخر تمرة واحدة ، وأخبرني الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري أن الشيخ أبو العباس الغمري رضي الله عنه أودع عنده قفص دجاج ، وهو في الريف ليرسله له في القاهرة فتحزم ، وتشمر ، وشاله على رأسه من نبتيت إلى القاهرة ، وكان يسافر كل سنة إلى مكة بالحبوب يبيعها على المحتاجين ، وكان مشهورا في مكة بالخواف في البيع لأنه كان يخر في الثمن بزيادة على الناس ، ويقول : لا أبيع إلا بذلك الثمن بنفسه فكل من رضي بذلك الثمن يعلم أنه محتاج فيعطيه ، ولا يأخذ له ثمنا ، وكل من قال : هذا غال لا يبيعه ويعرف أنه غير محتاج ، وكان يفرق كل سنة الثياب على أهل مكة ، ويفرق عليهم السكر ، وكذلك على أهل المدينة فكل من أخبر الناس بذلك يسترد منه ما أعطاه له ، ويقول : يا أخي غلطت فيك هذا ما هو لك ، وكان يخلط ماله على الذي يجيئه من الناس باسم الفقراء ، ويفرقه ويقول : هذا من مال فلان وفلان ، توفي سنة نيف وتسعمائة ودفن في نبتيت في زاويته ، ولم أجتمع عليه غير مرة واحدة فدعا لي بأن الله يسترني بين يديه في القيامة ، فنسأل الله أن يقبل ذلك رضي الله تعالى عنه . ومنهم الشيخ عبد القادر بن عنان أخو الشيخ محمد رحمهما الله تعالى آمين : صحبته نحو سبع سنين على وجه الخدمة ، وكان يتلو القرآن آناء الليل ، وأطراف النهار إن كان يحصد أو يحرث أو يمشي لأن ورده كان قراءة القرآن فقط ، وكان سيدي محمد بن عنان يقول الشيخ عبد القادر عمارة الدار والبلاد ، وكان رضي الله عنه يغلب عليه الصفاء ، والاستغراق تكون تتحدث أنت ، وإياه فلا تجده معك ، ووقائعه كثيرة مع الحكام ، ومشايخ العرب لأنه كان كثير العطب لهم ، وكان يقول : كل فقير لا يقتل من هؤلاء الظلمة عدد شعر رأسه فما هو فقير . مات سنة العشرين والتسعمائة ودفن ببرهمتوش ببلاد الشرقية ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ محمد العدل رحمه الله تعالى آمين صحبته نحو خمس سنين ، فكان ذا سمت حسن ، وقبول تام بين الخاص ، والعام ، وكان أصله من جماعة سيدي علي الدويب ، وكان أخلاه سنة كاملة لا يحضر جمعة ، ولا جماعة ، فأرسل له الشيخ محمد بن عنان كتابا يقول له : فيه إن لم تخرج للجمعة والجماعة ، وإلا فأنت مهجور حتى تموت ، فخرج من الخلوة ، واجتمع بسيدي محمد بن داود ، وسيدي أبي العباس الغمري ، وهجر شيخه الدويب ، وذلك أن شيخه كان من أرباب الأحوال الذين لا يقتدي بأحوالهم ، وكان مقصد الجماعة لسيدي محمد العدل أن يكون من المقتدى بهم ، وأصل تسميته العدل أن شخصا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له قل لمحمد العدل الطناجي يتبع سنتي وينفع الناس فاشتهر بالعدل من ذلك اليوم ، ومات ، ودفن بطناح ، وقبره ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ ابن داود المنزلاوي رحمه الله تعالى اجتمعت به مرات ، ودعا لي بالبركة في العمر ، وذلك أن سيدي خضرا الذي كان كفلني ، وأنا يتيم أخذني بيده ، وجاء بي إلى سيدي محمد بن عنان ، وكان عند الشيخ محمد العدل ، والشيخ محمد بن داود ، والشيخ أبو بكر الحديدي ، وقال كل منكم يدعو لهذا الولد دعوة فدعا كل واحد منهم لي دعوة ، فوجدت بركة دعائهم إلى وقتي هذا ، وكان سيدي محمد بن داود يضرب به المثل في اتباع الكتاب ، والسنة ، وخدمة الفقراء ، والمنقطعين وعدم تخصيص نفسه عنهم بشيء من المأكل ، والمشرب ، والملبس ، وربما كانت زوجته تطبخ له الدجاجة فلا تظهره عليها حتى تنام الفقراء ليأكلها وحده فيأخذها ، ويخرج إلى الزاوية ، وينبه الفقراء ويفرقها عليهم ، وأحواله مشهورة في المنزلة ، وولده الشيخ شهاب الدين كان يضرب به المثل في اتباع الكتاب ، والسنة ، وما رأيت في عصري هذا أضبط منه للسنة ، ولا من الشيخ يوسف الحريثي . مات بالسمية قرية في بلاد المنزلة ، ودفن بزاويته ، وقبره ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ محمد السروي رحمه الله تعالى آمين المشهور بأبي الحمائل أحد الرجال المشهورة في الهمة ، والعبادة ، وكان يغلب عليه الحال فيتكلم بالألسن العبرانيه ، والسريانية ، والعجمية وتارة يزغرت في الأفراح ، والأعراس كما تزغرت النساء ، وكان إذا قال : قولا ينفذه الله له ، وشكا له أهل بلده من الفأر ، وكثرته في مقثأة البطيخ فقال : لصاحب المقثأة رح ، وناد في الغيط حسب ما رسم محمد أبو الحمائل إنكم ترحلون أجمعون ، فنادى الرجل لهم كما قال : الشيخ فلم ير بعد ذلك اليوم منهم ، ولا فأرا واحدا فسمعت البلاد بذلك ، فجاءوا إليه فقال : لهم يا أولادي الأصل الإذن من الله ، ولم يرد عنهم الفأر وكان مبتلي بزوجته يخاف منها أشد الخوف حتى كان يخلي الفقير في الخلوة فتخرجه من الخلوة بلا إذن من الشيخ فلا يقدر يتكلم ، وأخبرتني قبل موتها أنه كان كثيرا يكون جالسا عندها فتمر عليه الفقراء في الهواء فينادونه فيجيبهم ، ويطير معهم فلا تنظره إلى الصباح ، وكان لا يقرب أحدا قط إلا بعد تكرار امتحانه بما يناسبه ، وجاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق ، فرآه ملتفتا لنظافة ثيابه ، فقال : إن كنت تطلب الطريق ، فاجعل ، ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء فكان كل من أكل سمكا أو زفرا يمسح في ثوبه يده مدة سنة ، وسبعة شهور حتى صارت ثيابه كثياب الزباتين أو السماكين وكان فقيها موسوسا فلما رأى ثيابه لقنه الذكر وجاء منه في الطريق ، وأخذ عنه تلامذة كثيرة ، وسمعته يحكي قال : بينما أنا ذات يوم في منارة جامع ، فارسكور ليلة من الليالي إذ مر علي جماعة طيارة ، فدعوني إلى مكة فطرت معهم ، فحصل عندي عجب بحالي فسقطت في بحر دمياط ، فلولا كنت قريبا من البر وإلا كنت غرقت ، وساروا ، وتركوني وكان إذا اشتد عليه الحال في مجلس الذكر ينهض قائما ويأخذ الرجلين ، ويضرب بهما الحائط ، وأخبرني الشيخ يوسف الحريثي قال : رأيت الشيخ محمد السروري وقد حصل له حال في جامع فارسكور فحمل تامور الماء ، وفيه نحو الثلاثة قناطير من الماء على يد واحدة وصار يجري به في الجامع ، وأخبرني الشيخ علي بن ياقوت أنه سمعه يقول : لقنت نحو ثلاثين ألف رجل ما عرفني منهم أحد غير محمد الشناوي وقد اجتمعت به مرارا عديدة ، وهو في الزاوية الحمراء خارج القاهرة ، ولقنني الذكر ، ولما دخل مصر سكن بنواحي جامع الغمري ، فكنت أقبل يده فيدعو لي فأجد بركة دعوته في نفسي ، وكان يكره للمريد قراءة حزب الشاذلية ، وأحزاب غرهم ، ويقول : ما رأينا قط أحدا وصل إلى الله بمجرد قراءة الأحزاب ، والأوراد ، وكان يقول : نحن ما نعرف إلا لا إله إلا الله بعزم وهمة ، وكان يقول : مثال أرباب الأحزاب مثال شخص من أسافل الناس اشتغل بالدعاء ليلا ، ونهارا أن الله تعالى يزوجه بنت السلطان ، وكان يقول : لجماعة الشيخ أبي المواهب على وجه التوبيخ بلسان حالهم اجعل لي ، واعمل لي ، واصطفني ، ولا تخلي أحدا فوقي ، وأحدكم نائم بطول الليل ، ومهما وجده من الحرام والشبه يلف ما هكذا درج السلف ، وقال : كنت يوما أقرأ على الشيخ يحيى المناوي في جامع عمرو بن العاص في خلوة الكتب وقت القيلولة ، فدخل علينا رجل في وسطه خيشة محزم عليها بحبل ، وهو أسود كبير البطن ، فقال : السلام عليكم فقلنا ، وعليكم السلام ، فقال : للشيخ أيش تعمل بهذه الكتب كلها فقال : أكشف عن المسائل فقال : أما تحفظها فقال له : الشيخ لا فقال أنا أحفظ جميع ما فيها فقلنا له كيف فقال : كل حرف فيها يقول : لك كن رجلا جيدا ثم خرج فلحقنا منه بهت ، فخرجنا خلفه فلم نجد أحدا ، وكان رضي الله عنه يغير على أصحابه أن يجتمعوا بأحد من أهل عصره ، ويقول : الذي أبنيه تهدونه عند غيري ، ولما حج رضي الله عنه اجتمع عليه الناس في مكة من تجار ، وغيرهم ، وقال : لخادمه نحن جئنا نتجر ، وإلا نتجرد للعبادة في هذا البلد ، ولا نشتغل بالناس ، فإذا كان وقت المغرب امض إلى بيوت هؤلاء الجماعة الذين يأتون إلينا ، وقل لهم الشيخ يمسي عليكم ، ومحتاج إلى ألف دينار وقل : لكل واحد منهم بمفرده ، وكل من لقيته قل له ، هكذا فلم يأت أحد منهم من تلك الليلة وانقطعوا كلهم من ذلك اليوم ، فقال الحمد لله رب العالمين ، ووقائعه مشهورة بين أصحابه رضي الله عنه ومات رحمة الله عليه بمصر وصلى عليه بالجامع الأزهر ، ودفن بزاويته بخط بين السورين في سنة اثنتين ، وثلاثين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ علي نور الدين المرصفي رحمه الله تعالى ، ورضي عنه آمين كان من الأئمة الراسخين في العلم ، وله المؤلفات النافعة في الطريق ، واختصر رسالة القشيري رضي الله عنه ، وتكلم على مشكلاتها ، وقرأتها عليه بعد قراءتها على الشيخ زكريا رحمه الله تعالى ، فكنت أعرض عليه ما سمعته من شرح الشيخ لها فيقره ، ويمدحه ، ويقول : كان الشيخ زكريا من العارفين ، ولكنه تستر بالفقه ، وتلقنت عليه الذكر ثلاث مرات متفرقات أول مرة ، وأنا شاب أمرد دخلت عليه بعد العصر ، فقلت له : يا سيدي لقني الذكر بحال قوي فقال : بسم الله الرحمن الرحيم يا ولدي ، وأطرق ساعة ، وقال : قال : لا إله إلا الله فما استتمها الشيخ إلا وقد غبت عن إحساسي فما استفقت إلا المغرب ، فلم أجد عندي أحدا ، فمكثت خمسة عشر يوما مطرودا لا أستطيع الاجتماع به لسوء أدبي معه في قولي لقني بحال قوي الثانية لقنني فسمعت منه لا إله إلا الله ثلاث مرات فعبت كذلك ، فرأيت في تلك الليلة كأن الشيخ بيده ثلاث مآثر فغرزها في جلدي إلى آخرها ، فلما أفقت ذكرت له ذلك فقال : الحمد لله الذي أظهر أثرها الثالثة لقنني حين لقن الشيخ أبا العباس الحريثي رضي الله عنه لكونه كان أصفى قلبا مني ، وأكبر سنا وأعرف بمقام الرجال ثم لا زلت أتردد بصحبته مدة حياة الشيخ رضي الله عنه ، وذكر لي سيدي أبو العباس رحمه الله أنه قرأ بين المغرب والعشاء خمس ختمات ، فقال : الشيخ الفقير ، ووقع له أنه قرأ في يوم ، وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة كل درجة ألف ختمة ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا وقع من المريد شيء مذموم عند شيخه ، وهو محمود عند غيره ، فالواجب عليه عند أهل الطريق رجوعه إلى كلام شيخه دون كلام غيره ، وإن قال : للمريد إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم فعليه بالرجوع إلى كلام شيخه ، وأولى إذا كان من الراسخين في العلم ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا خرج المريد عن حكم شيخه ، وقدح فيه فلا يجوز لأحد تصديقه لأنه في حالة تهمة لارتداده عن طريق شيخه وهذا الأمر قال : أن يسلم منه مريد طرده شيخه لأنه لضعفه يخاف من تجريحه فيه ، وتنقضه عند الناس حين يرون أن شيخه طرده ، وتضيق عليه الدنيا ، فلا يجد منفسا إلا الحط في شيخه ، والرد عن نفسه بنحو قوله لو رأينا فيه يعني الشيخ خيرا ما فارقناه ، فيزكي نفسه ، ويخرج في شيخه ، وبذلك يستحكم المقت فيه لا سيما إن اجتمع بعد شيخه على من ينقص شيخه ، ويزدريه ويظهر فيه المعايب فإنه يهلك مع الهالكين ، ولكن إذا أراد الله بمريد خيرا جمعه عند غضب شيخه على من يحب شيخه ، ويعظمه فإن المريد يندم على شيخه ضرورة ، ويرجع إليه ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا خرج المريد عن حكم شيخه وانقطع عن مجلسه فإن كان سبب ذلك الحياء من الشيخ أو من جماعته لزلة وقع فيها أو فترة حصلت منه فهو كالطلاق الرجعي ، فللشيخ أن يقبله إذا رجع لأن حرمة الشيخ في نفس هذا المريد لم تزل لا سيما ، والمريد أحوج ما يكون إلى الشيخ حال اعوجاجه فينبغي للشيخ التلطف بهذا المريد ، وعدم الغلظة عليه ، والهجر له إلا أن يكون وثق به لقوة العهد الذي بينه ، وبينه . وكان رضي الله عنه يقول : ليس للمريد أن يسأل شيخه عن سبب غيظه ، وهجره له بل ذلك من سوء الأدب ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يجوز للمريد عند أهل الطريق أن يجيب عن نفسه أبدا إذا لطخه شيخه بذنب لأنه يرى ما لا يرى المريد فإنه طبيب ، وكان يقول : ليس للشيخ أن يبين للمريد صورة الفتح الذي علم من طريق الكشف أنه يئول إليه أمر المريد بعد مجاهداته ، وكمال سلوكه لأن المريد إذا حصل معنى صورة ذلك في نفسه ، وتكرر شهوده له ربما ادعى الفتح ، وباطنه معرى عن ذلك إذ النفس معرضة للخيالة ، وعدم الصدق ، وكثرة الدعوى ، وربما فارق هذا شيخه ، وادعى الكمال لعلمه بصورة النتج علما لا حذقا ، ولا ذوقا كما يظهر المنافق صورة المؤمن في العمل الظاهر ، وباطنه معرى عن الموجب لذلك العمل ، وكلامه رضي الله عنه غالبه سطرته في كتابة رسالة الأنوار القدسية ، وغيرها من مؤلفاتي . وكان رضي الله عنه في بداية أمره أميا ، واجتمع بسيدي مدين رضي الله عنه وهو ابن ثمان سنين ، ولم يأخذ عنه كما سمعته منه فلما كبر اجتمع بابن أخته سيدي محمد رضي الله عنه ، وأخذ عنه الطريق ، واجتمعت عليه الفقراء في مصر ، وصار هو المشار إليه فيها لانقراض جميع أقرانه ، وكان رضي الله عنه من شأنه إذا كان يتكلم في دقائق الطريق ، وحضر أحد من القضاء ينفل الكلام إلى مسائل الفقه إلى أن يقوم من كان حاضره ويقول : ذكر الكلام بين غير أهله عورة ، ومن وصيته لي إياك أن تسكن في جامع أو زاوية لها وقف ، ومستحقون ، ولا تسكن إلا في المواضع المهجورة التي لا وقف لها لأن الفقراء لا ينبغي لهم أن يعاشروا إلا من كان من حرفتهم ، وعشرة الضد تكدر نفوسهم . مات رضي الله عنه ، ورحمة سنة نيف وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بزاويته بقنطرة الأمير حسين بمصر ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ تاج الدين الذاكر رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه وجهه يضيء من نور قلبه ذا سمت حسن ، وتجمل بالأخلاق الجميلة تكاد كل شعرة منه تنطق ، وتقول : هذا ولي الله ، وكان رضي الله عنه يفرش زاويته باللباد الأسود لئلا يسمع وقع أقدامهم إذا مشوا ، ويقول : حضرة الفقراء من حضرة الحق لا ينبغي أن يكون فيها علو صوت ، ولا حس قوي ، وكان أصحابه في غاية الجمال ، والكمال ، وكان رضي الله عنه له التلامذة الكثيرة ، والاعتقاد التام في قلوب الخاص ، والعام وكان رضي الله عنه كثير الشفاعات عند السلطان ، والأمراء . وكان رضي الله عنه يمكث السبعة أيام بوضوء واحد كما أخبرني بذلك خادمه الشيخ عبد الباسط الطحاوي . قال : وانتهى أمره أنه كان في آخر عمره يتوضأ كل أحد عشر يوما وضوءا واحدا قال : وعزم عليه جماعة في جامع طولون ليمتحنوه في ذلك فدعوه إلى ناحية الجيزة في الربيع ، وصاروا يعملون له الخراف ، والدجاج ، واللبن بالرز ، وغير ذلك وهو يأكل معهم من ذلك جمله ثم لا يرونه يتوضأ لا ليلا ، ولا نهارا مدة تسعة أيام فقيل للشيخ في ذلك يا سيدي إنك في امتحان مع هؤلاء فتشوش منهم ، وجاء إلى البحر يعدى ، فعدى في مركب ، والجماعة الممتحنون في مركب فغرقت بهم فأخبروا الشيخ ، فقال : لله الحمد ثم تدارك ذلك ، وقال : ما وقعت مني قبل ذلك قط قال : الشيخ عبد الباسط خادمه رحمه الله تعالى فمرض الشيخ بسبب هذه الكلمة نحو سبعة وأربعين يوما ، وأخبرني أخي الشيخ الصالح شمس الدين المرصفي رضي الله عنه أنه قال لي : أربعون سنة أصلي الصبح بوضوء العشاء ، وقد طويت سجادتي بعدي ، ومكث رضي الله عنه خمسا وعشرين سنة لم يضع جنبه على الأرض ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس القناعة أن يأكل الفقير كل ما وجد من يسير الخبز والأدم إنما القناعة أن لا يأكل إلا بعد ثلاثة أيام لقيمات يقمن صلبه ، وأكثرها خمس ولما حضرته الوفاة قالوا له : يا سيدي من هو الخليفة بعدكم لنعرفه ، ونلزم والأدب معه ، فقال قد أذنا لفلان ، وفلان وعد عشرة من أصحابه أن كل من حضر منهم يفتتح الذكر بالجماعة ، والطريق تعرف أهلها ، ولو هربوا منها تبعتهم ، وكان من العشرة سيدي شهاب الدين الوفائي ، وسيدي الشيخ إبراهيم ، وسيدي الشيخ عبد الباسط ، وهم أجل من أخذ عنه ، فنسأل الله أن يفسح في أجلهم للمسلمين ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تصح الصحبة لشخص مع شيخه إلا إن شرب من مشروبه ، واتحد به اتحاد الدم في العروق مات رحمه الله تعالى سنة نيف وعشرين وتسعمائة ، ودفن بزاويته بجوار حمام الدود خارج باب زويلة وكانت جنازته مشهورة رضي الله عنه آمين . ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أبو السعود الجارحي رضي الله تعالى عنه هو من أجل من أخذ عن الشيخ شهاب الدين المرحومي رضي الله عنه ، وكانت له في مصر الكرامات الخارقة ، والتلامذة الكثيرة ، والقبول التام عند الخاص ، والعام ، والملوك ، والوزراء ، وكانوا يحضرون بين يديه خاضعين ، وعملوا بأيديهم في عمارة زاويته في حمل الطوب ، والطين ، وكان كثير المجاهدات لم يبلغنا عن غيره ما بلغنا عنه في عصره من مجاهداته ، وكان ينزل في سرب تحت الأرض من أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام ، وذلك بوضوء واحد من غير أكل ، وأما الماء ، فكان يشرب منه كل ليلة قدر أوقية ، وكان رضي الله عنه يقول : إني لا أبلغ إلي الآن مقام مريد ولكن الله تعالى يستر من يشاء ، وكان رضي الله عنه إذا سمع كلاما يسمعه بالسمع الباطن ، وسمع قائلا يقول : يا سيدي فسدت المعاملة ، ونودي على الفلوس بأنها بطالة فصاح ، وسقط على وجهه ، ونتف لحيته ، ومكث يصيح يوما كاملا ، وجاءه مريد من بلبيس يريد أن يجتمع به فلم يأذن له فقال : جئتك من مكان بعيد فقال له : تمن علي بمجيئك من موضع بعيد اذهب لا تأتني لثلاث سنين ، فلم يجتمع به إلا بعد ثلاث سنين ثم قال : الشيخ كان المريد يسافر ثلاث شهور في طلب مسألة في الطريق ، ويرى تلك السفرة قليلة ، وكان رضي الله عنه يعامل أصحابه بالامتحان ، فلا يكاد يقرب منهم أحدا إلا بعد امتحانه سنة كاملة ، وكان يلقي حاله على الفقير فيتمزق ، وأخبرني الشيخ شمس الدين الأبوصيري رضي عنه أجل أصحابه قال : لم يزل الشيخ يمتحنني إلى أن مات ، وأراني ضرب المقارع على أجنابه من الدعاوي التي كان يدعيها علي عند الحكام قال : وكنت أعترف عند الحكام إيثارا لجناب الشيخ أن يرد قوله : فإذا قال : هذا زنى بجاريتي أقول نعم أو يقول : هذا أراد الليلة أن يقتلني أقول نعم أو يقول : هذا سرق مالي أقول : نعم . وكان رضي الله عنه يتنكر علينا أوقاتا فلا نكاد نعرفه ، وهرب منا إلى مكة ، ونحن في الحبس ، فلم نشعر به إلى أن وصل إلى مكة ، فخرجت أنا وأبو الفضل المالكي في غير أوان الحج فوصلنا مكة في خمسة عشر يوما ، فلما وصلنا إلى مكة استخفى منا وأشاع أنه سافر إلى اليمن ، فسافر إليه خمسة شهور من مكة ، فخرج إلينا شخص خارج زبيد ، وقال : إن شيخكم في مكة في هذا اليوم فرجعنا فلما بقي بيننا ، وبين مكة يوم ، وليلة خرج إلينا ، وقال : إن شيخكم باليمن فرجعنا إليه ، وقال لنا : إن الذي قال : لكم إن شيخكم بمكة شيطان ، فرجعنا إلى اليمن ، فخرج إلينا ، وقال : إن شيخكم بمكة ، فلم نزل كذلك ثلاث سنين حتى ظهرلنا أنه بمكة ، فأقمنا معه ، فادعى علينا دعاوي ، وضربونا ، وحبسونا ، ولم نر منه يوما واحدا كلمة طيبة ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس لي أصحاب . قلت : وقال لي : يوما من حين عملت شيخا في مصر لي سبع ، وثلاثون سنة ما جاء لي قط أحد يطلب الطريق إلى الله ، ولا يسأل عن حسرة ، ولا عن فترة ، ولا عن شيء . يقربه إلى الله ، وإنما يقول ؛ أستاذي ظلمني ، وامرأتي تناكدني جاريتي هربت جاري يؤذيني شريكي خانني ، وكلت نفسي من ذلك ، وحننت إلى الوحدة ، وما كان لي خيرة إلا فيها ، فيا ليتني لم أعرف أحدا ، ولم يعرفني أحد . وكان رضي الله عنه إذا غلب عليه الحال نزع ثيابه ، وصار عريانا ليس في وسطه شيء ، وجاءه مرة أمير بقفص موز ، ورمان فرده عليه ، فقال : هذا لله تعالى فقال : الشيخ إن كان لله فأطعمه للفقراء ، فأخذه الأمير ، ورجع به إلى بيته ، فأرسل الشيخ فقيرين بصيرا ، وضريرا ، وقال : الحقاه ، وقولا له يا أمير أعطنا شيئا لله من هذا الموز ، والرمان فتوجها مثل ما قال : لهما الشيخ ، ولحقاه وقالا له يا أمير أعطنا شيئا لله ، فنهرهما ، ولم يعطهما شيئا فرجعا ، وأخبرا الشيخ بما وقع لهما ، فأرسل له الشيخ يقول : له تقول : هذا الله ، وتكذب على الفقراء ، وتنهر من يقول لك : أعطنا يا أمير شيئا ، فلا عدت تأتينا بعد ذلك اليوم أبدا ، فحصل له العزل ، ولحقته العاهات في بدنه ، ومات على أسوأ حال ، ولما حضرت الشيخ الوفاة أرسل خلف شيخ الإسلام الحنفي ، وجماعة وقال : أشهدكم علي بأني ما أذنت لأحد من أصحابي في السلوك فما منهم أحد شم رائحة الطريق ثم قال : اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد ، وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة ، وكان كثير العطب ، فكان عطبه للناس بحمية . مات رحمه الله سنة نيف ، وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بزاويتة بالكوم الخارج بالقرب من جامع عمرو في السرداب الذي كان يعتكف فيه ، وما رأيت أسرع كشفا منه ، وحصل لي منا دعوات وجدت بركتها ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تجعل لك قط مريدا ، ولا مؤلفا ، ولا زاوية وفر من الناس فإن هذا زمان الفرار ، وسمعته مرة يقول : لفقيه من الجامع الأزهر متى تصير هاء الفقيه راء ، والحمد لله رب العالمين . ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المنير رضي الله تعالى عنه أحد أصحاب سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه ، وهو الذي أمره بحفر البئر ، والسقي منها على الطريق في المحل الذي هو فيه الآن قبل عمارة البلد ، فأقام مدة يسقي عليها ، وبني لزوجته خصا ثم عمرت الناس حول الخص إلى أن صارت بلدا ، وكان يحج كل سنة ، ويقدس بعد أن يصل إلى مصر ، ويقيم شهرا ، وأخبرني رضي الله عنه قبل موته أنه حج سبعة ، وستين حجة هذا لفظه لي بالجامع الأزهر ، وهو معتكف أواخر رمضان ، وكان رضي الله عنه يكره الكلام في الطريق من غير سلوك ، ولا عمل ويقول : هذا بطالة ، ومكث نحو ثلاثين سنة يقرأ في الليل ختمة ، وفي النهار ختمة ، وكانت عمامته صوفا أبيض ، وكان يلبس البشت المخطط بالأحمر ، ويقول : أنا رجل أحمدي تبعا لسيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه ، وترددت إليه في حياته نحو العشرين سنة ، وحججت معه الحجة الأولى سنة خمس عشرة وتسعمائة ، وكان رضي الله عنه أكثر أوقاته يحج على التجريد ماشيا ، وعلى كتفه ركوة يسقي الناس منها ، وكان رحمه الله يطوي الأكل ، والشرب في الطريق ، وفي مدة إقامته بمكة ، والمدينة خوف التغوط في تلك الأماكن ، وكان عليه القبول ، وكان له شعرة طويلة بيضاء ، وكان يحلقها في كل سنة في الحج ، وكان رحمه الله يحمل لأهل مكة ، والمدينة ما يحتاجون إليه من الزاد ، والسكر ، والصابون والخيط ، والإبر ، والكحل لكل واحد عنده نصيب فكانوا يخرجون يتلقونه من مرحلة ، وكان سيدي محمد بن عراق رضي الله عنه ينكر عليه ، ويقول هذه الأشياء يحملها من الأمراء ، وتجار مصر من الحرام ، والشبهات فبلغه ذلك فمضى إليه حافيا مكشوف الرأس . فلما وصل إلى خلوته بالحرم النبوي قبل العتبة ، ووقف خاضعا غاضا طرفه ، وقال : يا سيدي يدخل محمد المنير فلم يرد عليه سيدي محمد بن عراق شيئا فكرر عليه القول فلم يرد عليه شيئا فرجع منكسرا ، فما حكيت هذه الحكاية لسيدي على الخواص حين قدم مع الحاج المصري قال : وعزة ربي قتله ، وعزة ربي قتله ، فإنه ما ذهب قط لفقير على هذه الحالة إلا وقتله فجاء الخبر بأنه مات بعد خروج الحاج من المدينة بعد عشرين يوما . قلت : ولما بلغني أنه حضرته الوفاة أخبرت أخي العباس الحريثي ، وأخي أبا العباس الغمري ، فقالوا : نسافر إليه نعوده ، فتوافقنا أن كل من سبق رفيقه بعد الفجر ينتظره في باب النصر ، فذهبت فقال لي : البواب إن جماعة وقفوا ، وانتظروا هنا ساعة ثم ساروا نحو طريق الخانكة فظننت أنه الشيخ أبو العباس الغمري فرحلت خلفه فرافقني فقير هيئة أهل اليمن . وقال : أين قاصد ؟ قلت : المنير فقال : وأنا كذلك وكان تحتي حمار أعرج ، وكان ذلك في أيام الشتاء ، وكان أقصر الأيام فما ارتفعت الشمس إلا ، ونحن داخلون المنير ، فدخلت فوجدت الشيخ محتضرا له ثلاثة أيام لم ينطق فقال : من أنت ؟ قلت : عبد الوهاب فقال يا أخي كلفت خاطرك من مصر فقلت ما حصل إلا الخير فدعا لي دعوات منها أسأل الله تعالى أن يسترك بستره الجميل في الدنيا ، والآخرة ثم ودعته بعد الظهر ، وأقمت بالخانكة إلى بعد العصر ثم دخل سيدي أبو العباس ، فاعتقد أني ما رحت إلى الشيخ إلى الآن ، فقال : اركب فقلت له : إني رحت إلى الشيخ ، وسلمت عليه وبالأمارة تحت رأسه مخدة حمراء مصبوغة فهذه كرامة للشيخ ، فإن المدة بعيدة من مصر لا يصل المسافر في العادة إليها أواخر النهار . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وثلاثين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ أبو بكر الحديدي رضي الله تعالى عنه رفيق المنير في الحج كل سنة ، وكان من أكرم الناس ، وكان إذا دعا شخصا إلى طعامه ، ولم يرض يكشف رأسه ويصير يمشي خلفه حتى يجيبه وكان من أصحاب الشيخ أحمد بن مصلح المنزلاوي أبي الشيخ عبد الحليم ، وكانت طريقته سؤال الناس للفقراء سفرا ، وحضرا في طريق الحاج ، وغيره ، وكان رضي الله عنه يحمل لأهل مكة الدراهم ، والخام وما يحتاجون إليه ، وهو الذي أشار علي بلبس الصوف الجبب الحمر ، والسود من حين كنت صغيرا بحضرة سيد محمد بن عنان ، والشيخ محمد العدل رضي الله تعالى عنه ، وعن الجميع ، وكان رحمه الله بمرض عسر البول ، فكان يصيح كلما يبول ، ورأى الشيخ محمدا العدل رضي الله عنه يحسس على بطن امرأة أجنبية لمرض كان بها فصاح عليه واديناه ، وامحمداه الله أكبر عليك يا عدل فقال : والله ما قصدتها بشهوة ، فقال له : أنت معصوم نحن ما نعرف إلا ظاهر السنة وقال لي : مرة يا عبد الوهاب قم معي ، فخرجت معه إلى سوق أمير الجيوش ، فصار يأخذ من هذا نصفا ، ومن هذا عثمانيا ، ومن هذا درهما فما خرج من السوق إلا ، ومعه نحو أربعين نصفا ، فلقي شخصا معه طبق خبز ، فأعطاه ثمنه وصار يفرق على الفقراء والمساكين ، وهو ذاهب إلى نحو بين القصرين ، وقال : نفعنا الفقراء من هؤلاء التجار على رغم أنفهم ثم صار يعطي هذا نصفا ، وهذا درهما إلى أن فرغت ، وكان معه مقص يقص كل شارب رآه ، فإن لم يرض صاحبه يصيح ، ويقول : واديناه ، واإسلاماه ، وامحمداه إلى يقصه غصبا ، وكان رضي الله عنه الغالب عليه البسط ، والإنشراح ، وكان رضي الله عنه حصل للشيخ محمد بن عنان قبض لا يستطيع أحد أن يكلمه إلا إذا حضر الشيخ أبو بكر الحديدي رضي الله عنه فبمجرد ما يراه يتبسم ، ولما حج هو ، والشيخ أبو العباس الغمري والشيخ محمد بن عنان ، والشيخ محمد المنير والشيخ علي بن الجمال نزلوا بباب المعلا ، فبينا هم جلوس إذ جاءتهم امرأة من البغايا ، فقال لها الشيخ ما تبغين ، فقالت ما يفعله الرجال بالمرأة ، فقال لها اذهبي إلى هذا الرجل يعني سيدي محمد بن عنان فجاءت إليه فقال لها : ما تبغين قالت : ما يفعله الرجل بالمرأة فأخذ العكاز ، وقام لها فهربت ، فضحك الجماعة فقال : من أرسل لي هذه ؟ فقالوا : الشيخ أبو بكر فقال ما حملك على هذا ؟ قال : حتى تنظر إليها نظرة بحال تكون سببا لتوبتها عن مثل ذلك فلم تفعل فتبسم الشيخ محمد بن عنان وقال : لا آخذك الله بذلك . توفي بالمدينة النبوية سنة خمس ، وعشرين وتسعمائة ، ودفن بالبقيع ، رحمه الله تعالى ، ويرحمنا إذا عدنا إليه آمين . ومنهم شيخي وقدوتي إلى الله تعالى العارف بالله تعالى سيدي محمد الشناوي رحمه الله تعالى كان رضي الله عنه من الأولياء الراسخين في العلم أهل الإنصاف ، والأدب في أولاد الفقراء ، وفقد ذلك كله بعد الشناوي ، وكان رضي الله عنه يقول ما دخلت على فقير إلا ، وأنظر لنفسي دونه ، وما امتحنت قط فقيرا ، وكان رضي الله عنه يحكي عن الشيخ عبد الرحيم القناوي رضي الله عنه أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف فقام له إجلالا للخرقة الصوف ، وكان رضي الله عنه أقامه الله في قضاء حوائج الناس ليلا ، ونهارا ، وربما يمكث نحو الشهر ، وهو ينظر بلده ، ولا يتمكن من الطلوع لها ، وهو في حاجة الشخص ، وكان أهل الغربية ، وغيرها لا أحد يزوج ، ولده ، ولا يطاهره إلا بحضوره ، وكان رضي الله عنه يلقن الرجال ، والنساء ، والأطفال ، ويرتب لهم المجالس في البلاد ، ويقول يا فلانة اذكري بأهل حارتك ، ويا فلانة اذكري بإخوانك ، فجميع مجالس الذكر التي في الغربية ترتيبه ، وكان رضي الله عنه يقول : أشعلنا نار التوحيد في هذه الأقطار ، فلا تنطفئ إلى يوم القيامة . ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أبطل الشعير الذي كان في بلاد ابن يوسف لأنه كان يموت فيه خلق كثير لأن ابن يوسف كان رجلا عنيدا ظالما ، وكان ملتزما بتلك البلاد وكان يستلزم بطيق السلطنة ، وجميع العساكر من هذا الشعير ، وكان لا يقدر أحد يتجاهى عليه وكان يأخذ الناس غصبا من جميع البلاد حتى يموتوا من العطش ، فتعرض له سيدي الشيخ محمد الشناوي شفقة على الفقراء ، والمساكين فكان يجمع تلامذته ، وأصحابه ، ويقعد يملخ في الشعير ، ويقول اعتق الفقراء لئلا يموتوا ، فتحمل منه ابن يوسف في الباطن ، وظن أنه يبطل عادته من البلاد ، فأتى إليه بطعام فيه سم فقدمه للشيخ ، وجماعته فلما جلسوا يأكلون صار دودا ببركة الشيخ ، فتغيظ منه الشيخ ، وقال : لا بد أن أبطل هذا الشعير ببركة الله تعالى لئلا تهلك الخلق ، فكان محبو الشيخ يتفقدونه بالماء والطعام ، وهو يقطع في الشعير فكان حمادة الذي بمحلة ديبة لم يقطع الطعام عن الشيخ ، وهو ملازم للإرسال له في كل يوم فدعا له الشيخ بالبركة في المال ، والولد فهو إلى الآن في بركة دعاء الشيخ هو وأولاده ، وعزم الشيخ على السفر لبلد السلطان ابن عثمان بسبب ذلك ، فرآه السلطان سليمان في داره ليلا وهو راكب حمارته السوداء ، وقال له أبطل الشعير الذي ببلاد مصر في درك ابن يوسف ، فقال : للوزراء ذلك عند الصباح . فكاتبوا نائب مصر قاسم كزك ، فأرسل لهم إن الخبر صحيح والذي رآه السلطان هو الشيخ محمد الشناوي ، فأرسل السلطان بإبطال الشعير ، فهو إلى الآن بطال ببركة الشيخ رحمه الله ، وكانت بهائمه ، وحبوبه على اسم المحاويج لا يختص منها بشيء ، وكان لا يقبل هدايا العمال ولا المباشرين ، ولا أرباب الدولة ، وأهدى له نائب مصر قاسم كزك أصوافا ، وشاشات ، وبعض مال فرده عليه ، وقال : للقاصد الفقراء غير محتاجين إلى هذا وعزة ربي عندي جلة البهائم خير من هديتك ، وقال : للقاصد لا تعد تأتينا بشيء ، وكان رضي الله عنه لم يزد في مقاعده جبائر القطن ملفوفة من كثرة الركوب في حوائج الناس ، وما رأيت في الفقراء أوسع خلقا منه ، وكان يقول : الطريق كلها أخلاق ، وكان إذا جلس إليه أبعد الناس عنه لا يقوم من مجلسه حتى يعتقد أنه أعز أصحابه أو أقاربه من حسن إقباله عليه ، وطلع مرة لابنة الخليفة قصرها ، فلقنها الذكر ، ولقن جواربها ووقعت عصائبهن من كثرة الاضطراب في الذكر . فلما نزل قال : الحمد لله الذي ما كان هناك أحد من المنكرين على هذه الطائفة ، وكان كثر تربيته بالنظر ينظر إلى قاطع الطريق ، وهو مار عليه فيتبعه في الحال لا يستطيع رد نفسه عن الشيخ ، ورأيت منهم جماعة صاروا من أعيان جماعته ، وكان رضي الله عنه إذا افتتح المجلس بعد العشاء لا يختمه في الغالب إلا الفجر ، فإذا صلى الفجر افتتح إلى ضحوة النهار ، وأخبرني الشيخ محمد السنجيدي قال : كنا إذا زرنا الشيخ محمدا في ابتداء أمره في ناحية الحصة لا نرجع إلا ضعافا من كثرة السهر لأننا كنا نمكث عنده اليومين ، والثلاثة ، والأربعة لا يمكننا النوم بحضرته لا ليلا ، ولا نهارا فإن قراءة القرآن عنده دائما ، فإذ فرغ من القرآن افتتح الذكر فإذا فرغ من الذكر افتتح القرآن ، وهذا كان دأبه إلى أن مات رحمه الله . وكان عنده جماعة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بمكان ، وسمعته مرة يحدثه إلى القبر ، وسيدي أحمد يجيبه ، وهو الذي أبطل البدع التي كانت الناس تطلع بها في مولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه من يهب له أمتعة الناس ، وكل أموالهم بغير طيبة نفس ، وتعلموا أنه حرام ، وكانوا قبله يرون أن جميع ما يأخذونه من بلاد الغربية حلال ويقولون هذه بلاد سيدي أحمد ، ونحن من فقرائه ، وكان يطلعون بالدف ، والمزمار ، فأبطل ذلك وجعل عوضه مجلس الذكر ، فيفتح الذكر من نواحي قحافة ، ويجمع معه خلائق كثيرا يذكرون إلى أن يدخلوا مقام سيدي أحمد ، ويحصل للناس بسط عظيم برؤيته ، وخشوع ، وبكاء ورقة ، ومناقبه كثيرة مشهورة بين الناس ، وأذن بتلقين الذكر لجماعة قبل ، وفاته رضي الله عنه ، وأنشد : أهيم بليلي ما حييت ، وإن أمت . . . أو كل بليلي من يهيم بها بعدي فمن الجماعة الشيخ شهاب الدين السبكي رضي الله عنه ، ومنهم الشيخ عبد الرحيم المناوي ، ومنهم الشيخ أبو العباس الحريثي رضي الله عنه ثم الفقير رحمه الله ، وقال : وقد صار معكم الإذن إذا فتح الله عليكم ، وأما الآن فتلقوا كلمة لا إله إلا الله تشبيها وتبركا بطريق القوم ، وكان ذلك في ربيع الأول سنة اثنتين ، وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بزاويته بمحلة روح ، وقبره بها ظاهر يزار معمور بالفقراء ، والمجاورين بواسطة ولده الشيخ عبد القدوس ، فسح الله في مدته للمسلمين ، ولما ودعته بزاوية سيدي محمد بن أبي الحمائل رضي الله عنه قال : ليس هذا آخر الاجتماع لا بد من اجتماعنا مرة أخرى ، ولما حضرته الوفاة ما علمت بذلك إلا من وارد ورد علي قال : اذهب إلى محلة روح ، فلم أستطع أرد نفسي عن ذلك الخاطر حتى سافرت إليه تصديقا لقوله لا بد من الاجتماع مرة أخرى ، فدخلت عليه فوجدته محتضرا ففتح عينيه ، وقال : أسأل الله أن لا يخليك من نظره ، ولا من رعايته طرفة عين ، وأن يسترك بين يديه ثم توفي تلك الليلة ، ودفن في غفلة من الناس ، واقتتل الناس على النعش ، وذهلت عقولهم من عظم المصيبة بهم فإنه كان معدا لتفريج كربهم ساعيا في إرشادهم لخير دنياهم ، وخير أخراهم ، رضي الله عنه ورحمه . ومنهم الشيخ عبد الحليم بن مصلح المنزلاوي رضي الله عنه كان من الأخلاق النبوية على جانب عظيم ، وكان كثير التواضع ، والازدراء لنفسه ، وجاءه مرة شخص يطلب الطريق فقال : يا أخي النجاسة لا تطهر غيرها ، وجاءه رضي الله عنه شخص مرة بجبة صوف ، وقال : يا سيدي : اقبل مني هذه الجبة لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الليلة ، وقبلني على صدري ، وأنا لابسها فأبى الشيخ ، وقال شيء مسه النبي صلى الله عليه وسلم لا أقدر على لبسه خوف أن يقع مني معصية ، وأنا لابسها ، ولكن نتبرك بها فمسح بها على وجهه وردها على صاحبها ، وكان رضي الله عنه يربي من كان عنده دعوى بالمسارقة فيقرأ عليه شيئا من أحوال القوم ثم يصير يورد عليه الأسئلة ، ويعطف عليه بالجواب بحيث يظن أن ذلك الفقير هو الشيخ ، والشيخ هو المريد ، وجاءه شخص من اليمن فقال أنا مأذون لي في تربية الفقراء من شيخي ، فقال : الشيخ عبد الحليم الحمد لله الناس يسافرون في طلب الشيخ ونحن الشيخ جاء عندنا فتلقن على اليماني ، ولم يكن بذاك ، وكان الشيخ يعلمه في صورة المتعلم إلى أن كمله وزاد حاله ثم كساه عند الفسر ، وزوده ، وصار يقبل رجل اليماني ، ويقول : صرنا محسوبين عليكم ، ولقيه رجل من أرباب الأحوال ، وكان مشهورا بالكرامات ، فقال : يا عبد الحليم أنت مسكين ما كنت أظن مع هذه الشهرة أنك عاجز هكذا ثم قبض هو دراهم من الهواء ، وأعطى الشيخ عبد الحليم فأثر ذلك في سيدي الشيخ عبد الحليم ثم قال له : يا عبد الحليم اشتغل بالله تعالى حتى تصير الدنيا في طوعك هكذا ، فانقطع الشيخ عبد الحليم في الخلوة تسعة شهور يقرأ في الليل ختما ، وفي النهار ختما ثم خرج ينفق من الغيب إلى أن مات ، وأقمت عنده في زاويته نحو سبعة ، وخمسين يوما رأيت الفقراء احتاجوا إلى شيء إلا ويخرج لهم من كيس صغير كعقدة الإبهام جميع ما يطلبونه ورأيته بعيني قبض منه ثمن خشب من دمياط نحو خمسين دينارا ، وكان رضي الله عنه لا يسأله فقير شيئا إلا أعطاه حتى يخرج بعمامته وجبته فيرجع بالفوطة في وسطه ، وعمر رضي الله عنه عدة جوامع في البحر الصغير ، وله جامع بالمنزلة فيه فقراء ، ومجاورون ، وفيه سماط على الدوام ، ومارستان للضعفاء من الفقراء ، والغرباء والمستضعفين ، وكراماته كثيرة مشهورة في بلاده رضي الله عنه . مات رحمه الله سنة نيف ، وثلاثين وتسعمائة ، وكان رضي الله عنه لا يخصص نفسه بشيء من الهدايا الواصلة إليه بل أسوته بأسوة الفقراء في ذلك ، واجتمع عنده في زاويته نحو المائة نفس ، وهو يقوم بأكلهم ، وكسوتهم من غير وقف إنما هم على ما يفتح الله عز وجل ، ولما وقف الناس عليه الأوقاف أخبرني أن الحال ضاق على الفقراء ، وقال : تعرف سببه ؟ قلت : لا فقال : لركون الفقراء إلى المعلوم من طريق معينة ، وكانوا قبل ذلك متوجهين بقلوبهم إلى الله تعالى ، فكان يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، ومن مناقبه أني نصب عليه شخص مرة وأخذ منه أربعمائة دينار يبني بها بئر ساقية ، ويجعل عليه سبيلا في طريق غزة ، وقال : إن الناس محتاجون إلى ذلك فأخذ الفلوس تزوج بها ، وفتح له دكانا بها فلما استبطأه الشيخ أرسل خلفه جماعة فأخرج لهم إبريق ماء حلو ، وقال : لهم هذا من ماء البئر والناس يدعون للشيخ كثيرا فلما ورد على الشيخ جماعة مسافرون سألهم عن البئر فقالوا ليس هناك شيء ، فأرسل يطلبه ، فجاء فقال له : الشيخ ما فعلت بالفلوس ، فقال : للشيخ الماء الذي أرسلته لك في الإبريق ، وقلت إنه من البئر فإن هذا الكلام لا حقيقة له ، وإني تزوجت بالفلوس ، فأراد الفقراء حبسه ، فمنعهم الشيخ ، وقال : الدنيا كلها لا تساوي إرعاب مسلم ، وخلي سبيله ، وكان رضي عنه شديد المحبة لي حتى قال لي : مرة لا أحب أحدا في مصر مثلك أبدا ، رضي الله عنه ، وأرضاه ، ورحمنا به آمين . ومنهم الشيخ علي أبو خودة رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه من أرباب الأحوال ، ومن الملامتية ، وكان رضي الله عنه يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصدا ، فإذا أنكر عليه أحد عطبه ، ورأيته خارج باب الشعرية ، وهو يقول : الخادمة أيش قلت : من يخلي هذا الرجل هراره في رجليه يعني الشيخ عبد القادر الدشطوطي ، فلما مر عليه كركبت بطن الشيخ عبد القادر ، وساح هرره على المسطبة التي كان قاعدا عليها ، فقال الله يلقيك فعرف أنه أبو خودة رضي الله عنه ، وكان الشيخ عبد القادر قد كف بصره ، وكانت خودة سيدي على من الحديد ، وكان زنتها قنطارا ، وثلثا لم يزل حاملها ليلا ، ونهارا ، وكان شيخا أسمر قصيرا ، وكان معه عصا لها شعبتان كل من زاحمه ضربه بها وكان رضي الله عنه يهوى العبيد السود ، والحبش لم يزل عنده نحو العشر يلبسون الخود لكل واحد منهم حمار يركبه فكانوا هم جماعته كل موضع ركب يركبون معه ، وما رآه أحد يصلي مع الناس إلا وحده . وكان رضى الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه ، وحسن على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ، ولو كان بحضرة والده أو غيره ، ولا يلتفت إلى الناس ، ولا عليه من أحد وكان إذا حضر السماع يحمل المنشد ، ويجري به كالحصان ، وأخبرني الشيخ يوسف الحريثي رضي الله عنه قال : كنت يوما في دمياط ، فأراد السفر في مركب قد انوسقت ، ولم يبق فيها مكان لأحد فقالوا للريس إن أخذتت هذا غرقت المركب لأنه يفعل في العبيد الفاحشة ، فأخرجه الريس من المركب فلما أخرجوه من المركب قال : يا مركب تسمري ، فلم يقدر أحد يسيرها بريح ، ولا بغيره ، وطلع جميع من فيها ، ولم تسر ، وأخبرني أيضا أنه نزل معه في مركب ، فمرس عليها الريح فضربها بعكازه فلم تتزحزج فنزل هو وعبيده يمشون على الماء إلى أن وصلوا إلى شربين ، والناس ينظرون ذلك . وكان رضي الله عنه يخرج خلفه على قرقماش أمير كبير كان أيام الغوري ، فيضربه بحضرة جنده فإذا آلمه الضرب يهرب منه فيتبعه ، فإذا قفل عليه الباب خلعه فلا يستطيع أحد أن يرده حتى يرجع هو بنفسه ، واجتمعت به مرات عديدة ، وقال لي : مرة أحذر أن تنيكك أمك ، فقلت : لعبد من عبيده ما معنى كلام الشيخ قال : يحذرك أن يدخل حب الدنيا في قلبك لأن الدنيا هي أمك . مات سنة نيف ، وعشرين وتسمعمائة ، ودفن بزاويته بالحسينية بالقرب من جامع الأمير شرف الدين الكردي رضي الله عنه ، ورحمنا به والمسلمين . ومنهم الشيخ محمد الشربيني رحمه الله تعالى شيخ طائفة الفقراء بالشرقية كان من أرباب الأحوال ، والمكاشفات ، وكان رضي الله عنه يتكلم على سائر أقطار الأرض كأنه تربى فيها ، ورأيته مرة وهو لابس بشتا من ليف ، وعمامته ليف ، ولما ضعف ولده أحمد ، وأشرف على الموت ، وحضر عزرائيل لقبض روحه قال له : الشيخ ارجع إلى ربك فراجعه ، فإن الأمر نسخ فرجع عزرائيل ، وشفي أحمد من تلك الضعفة ، وعاش بعدها ثلاثين عاما ، وكان رضي الله عنه يقول : للعصا التي كانت معه كوني إنسانا فتكون إنسانا ، ويرسلها تقضى الحوائج ثم تعود كما كانت ، وكراماته كثيرة ، وكان رضي الله عنه يخرج من بلده شربين كل ليلة من المغرب لا يرجع إلى الفجر لا يعلمون إلى أين يذهب ، وكان الأمير قرقماش ، وغيره من الأمراء يعتقدونه اعتقادا زائدا ، وعمر له زاوية عظيمه ، ولم تكمل ، وكان من طريقته أنه يأمر مريديه بالشحاتة على الأبواب دائما في بلده ، ويتعممون بشراميط البرد السود ، والحمر والحبال وكان الشيخ محمد بن عنان ، وغيره ينكرون عليه لعدم صلاته مع الجماعة ، ويقول : نحن ما نعرف طريقا تقرب إلى الله تعالى إلا ما درج عليه الصحابة ، والتابعون ، وكان يقبض من الهواء كل شيء يحتاجون إليه للبيت ، وغيره ويعطيه لهم ، وأخبر بدخول ابن عثمان السلطان سليم قبل دخوله بسنتين ، وكان يقول : أتوكم محلقين اللحاء ، فكان الناس يضحكون عليه لقوة التمكين الذي كانت الجراكسة عليه ، فما كان أحد يظن انقراضهم في مدة يسيرة . مات رحمه الله تعالى قبل العشرين ، والتسعمائة ودفن بزاويته سربين ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ علي الدويب رحمه الله تعالى آمين بنواحي البحر الصغير : كان رضي الله عنه من الملامتية الأكابر ، وأرسل لي السلام مرات ، ولم أجتمع به إلا في النوم ، ذلك أني سمعت قائلا يقول لا إله إلا الله على الدويب قطب الشرقية ، وما كنت سمعت اسمه فسأله جماعة الشيخ محمد بن عثمان فأخبروني به ، وقالوا له : موجود ، وهو شيخ لشيخ محمد العدل الطناحي ، وكان يلبس عمامة الجمالين ونعلهم ، وعمر أكثر من مائة سنة رضي الله عنه ، وكان مقيما في البرية لا يدخل بلده إلا ليلا ، ويخرج قبل الفجر ، وكان رضي الله عنه يمشي على الماء في البحر ، وما رآه أحد قط نزل في مركب ، وجاء إلى مصر أقام بها عشرين سنة ، وكان لم يزل واقفا تجاه المارستان بين القصرين من الفجر إلى صلاة العشاء ، وهو متلثم وبيده عصا من شوم ثم تحول إلى الريف وظهرت له كرامات خارقة للعادة وكان رضي الله عنه يقول : فلان مات في الهند أو في الشام أو في الحجاز فبعد مدة يأتي الخبر كما قال : الشيخ ، ولما مات رأوا في داره نحو المائة ألف دينار ، وما علموا أصل ذلك ، فإنه كان متجردا من الدنيا ، فأخذها السلطان . مات رحمه الله بالقباب بالشرقية ، ودفن في داره رحمه الله سنة سبع ، وثلاثين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ أحمد السطيحة رحمه الله تعالى كان من الرجال الراسخين صحبته عشرين سنة ، وأقام عندي أياما ، وليالي ، وأن رضي الله عنه يقول : ما أحببت أحدا في عمري قدرك ، وكان رضي الله عنه على قدم الشيخ أحمد الفرغل رضي الله عنه في لبسه كل جمعة مركوبا جديدا يقطعه مع أنه سطيحة لا يتحرك ، وكان رضي الله عنه يتكلم في الخواطر ، ويقضي حوائج الناس عند الأمراء ، وولاة الأمور ، وطريقه مخلاة بلا معارض ، ووقعت له كرامات كثيرة : منها أن أم زوجته تسللت عليه ليلة فرأته قد انتصب قائما سليما من الكساح كأحسن الشباب ، فلما شعر بها زجرها ، فخرست وتكسحت وعميت إلى أن ماتت ، وكان رضي الله عنه لم يزل في عصمته أربع نساء ، وكانت كفه ألين من العجين خفي الصوت لا يتكلم إلا همسا كثير المباسطة خفيف الذات ، ولما وردت عليه من بلد سيدي أحمد البدوي قال : كم نفر معك فقلت : سبعة قال : قل : بيت الوالي ثم ضيفنا ضيافة كثيرة تلك الليلة ، وكان على زاويته الوارد كثيرا يعشي ، ويعلق على البهائم ، وله زرع كثير ، والناس تقصده بالهدايا من سائر البلاد ، وكان يحضنه خادمه على الفرس كالطفل ، وله طرطور جلد طويل ، وله زناق من تحت ذقنه ، ويلبس الجبب الحمر ، وكانت آثار الولاية لائحة عليه إذا رآه الإنسان لا يكاد يفارقه ، وحاكي إنسان به ، وعمل له طرطورا ، وركب على فرس في حجر خادم ، فانكسرت ركبته فصاح اذهبوا بي إلى الشيخ أحمد السطيحة قأتوه به فضحك الشيخ عليه ، وقال : تزاحمني على الكساح تب إلى الله ، ورقبتك تطيب فتاب واستغفر ، فأخذ الشيخ زيتا ، وبصق فيه ، وقال : ادهنوا به رقبته فدهنوها فطابت ، وكانت ، وارمة مثل الخلاية فصارت تنقص إلى أن زال الورم ، وقلع الطرطور ، وصار يخدم الشيخ إلى أن مات ، وكان من بلد تسمى بطا ، وكان ببولاق فنزل في مركب ليسافر ، وكان الريس لا يعرفه ، فطلعه هو ، وجماعته فلما أن طلع الشيخ انخرقت المركب ، وغرقت بجانب البر ، فأخذوا بخاطر الشيخ ، فقال : الشيخ للريس سد خرق مركبك فإننا لم نعد ننزل معك ، ومن مناقبه رضي الله عنه أن بعض الفلاحين سخر بطرطوره ، وأكل شوك اللحلاح ، فوقفت شوكة في حلقه فمات في الحال ، وخطب مرة بنتا بكرا فأبت ، وقالت : أنا ضاقت علي الدنيا حتى أتزوج بسطيحة فلحقها الفالج فلم ينتفع بها أحد إلى أن ماتت ، وطلبته بنت بنفسها فقال لها : البنات يا امرأة المكسح ، وعايروها فدخل بها الشيخ ، وأزال بكارتها ، وساح الدم حتى ملأ ثيابها ووضعوا ثوبها بالدم على رمح في الدار لينظره الناس ، ومن كراماته أنه شفع عند أمير من الأمراء كان نازلا بمنف فقبل شفاعته . فلما خرج من عنده رجع ، وحبس الرجل ثانيا ، فطلعت في رقبته غدة فخنقته فمات في يومه ، ومن كراماته أن امرأة تكسحت ، وعجز الأطباء عن دوائها مدة أربع سنين فدخل الشيخ لها ، وبصق في شيء من الزيت ، وقال : ادهنوا بدنها فدهنوها في حضرة الشيخ فبرئت وحضر مجلس سماع في ناحية دسوق فطعنه فقير عجمي تحت بزه فقال : طعنني العجمي ثم قال يا رب خذ لي حقي فأصبح العجمي مشنوقا على حائط لا يدرون من شنقه ، ومن كراماته أنه وقف على باب زاويتي مرة ، وهو في شفاعة عند الباشا فقال : يكون خاطركم معنا في هذه الشفاعة ، فأخذتني حالة فرأيت نفسي واقفا على باب الكعبة فقال : يا هو أبعدت عنا ، وكان رضي الله عنه يعرف سريان القلوب وكان رضي الله عنه صائم الدهر ، وتوفي سنة اثنتين ، وأربعين وتسعمائة ودفن بزاويته بشبرا قبالة الغربية وقبره ظاهر يزار ، وكان يدعو عليها بالخراب ، وعلى أهلها الذين كانوا ينكرون عليه فوقع بينهم القتل وخربوا ، وهي خراب إلى وقتنا هذا فقلت له : الفقير يعمر بلده ، وإلا يخربها فقال : هؤلاء منافقون وفي حصادهم مصلحة للدين فنسأل الله أن يحفظنا من الشيطان ، والحمد الله وحده . ومنهم الشيخ بهاء الدين المجذوب رضي الله عنه المدفون بالقرب من باب الشعرية بزاويته ، كان رضي الله عنه من أكابر العارفين ، وكان كشفه لا يخطئ ، وكان رضي الله عنه أولا خطيبا في جامع الميداني ، وكان أحد شهود القاضي ، فحضر يوما عقد زواج فسمع قائلا يقول : هاتوا لنا رجال الشهود ، فخرج هائما على وجهه ، فمكث ثلاثة أيام في الجبل المقطم لا يأكل ، ولا يشرب ثم ثقل عليه الحال فخرج بالكلية ، وكان رضي الله عنه يحفظ البهجة فكان لا تزال تسمعه يقرأ فيها ، وذلك أن كل حالة أخذ العبد عليها يستمر فيها ، ولو خرج عنها يرجع إليها سريعا حتى إن من المجاذيب من تراه مقبوضا على الدوام لكونه جذب على حالة قبض ، ومنهم من تراه مبسوطا ، وهكذا ، وكان الشيخ فرج المجذوب رضي الله عنه لم يزل يقول : عندك رزقة فيها خراج ودجاج ، وفلاحون لكونه جذب وقت اشتغاله بذلك ، وزمن المجذوب من حين يجذب إلى أن يموت زمن فرد لا يدري بمرور زمان عليه ، ورأيت ابن البجائي رضي الله عنه لم يزل يقول : الفاعل مرفوع ، والمخفوض مجرور ، وهكذا لأنه جذب ، وهو يقرأ في النحو ، ورأيت القاضي ابن عبد الكافي رضي الله عنه لما جذب لم يزل يقول : وهو في بيت الخلاء ، وغيره ، ولا حق ، ولا استحقاق ، ولا دعوى ، ولا طلب ، ولا غير ذلك ، ومن وقائعه رضي الله عنه أننا حضرنا يوما معه وليمة فنظر للفقهاء في الليل ، وزعق فيهم ، وقال : لهم : كفرتم بكلام الله ثم حذفهم بقلة من الماء كانت بجانبه فصعدت إلى نحو السقف ثم نزلت فقال : فقيه منهم كسر القلة فقال : له كذبت فوقعت على الأرض صحيحة كما كانت ، فبعد خمس عشرة سنة رأى الفقيه فقال له : أهلا بشاهد الزور الذي يشهد أن القلة انكسرت ، ومكاشفاته مشهورة بين الأكابر بمصر من المباشرين وعامة الناس . مات رحمه الله سنة نيف وعشرين وتسعمائة رضي الله عنه وأرضاه آمين . ومنهم الشيخ عبد القادر الدشطوطي رضي الله عنه ورحمه كان من أكابر الأولياء رضي الله عنه صحبته ، نحو عشرين سنة ، وحصل لي منه نفحات وجدت بركتها وكان صاحيا ، وهيئته هيئة المجاذيب رضي الله تعالى عنه ، وكان مكشوف الرأس حافيا ، ولما كف صار يتعمم بجبة حمراء ، وعليه جبة أخرى فإذا اتسخت تعمم بالآخرى ، واجتمعت به في أول يوم من رمضان سنة اثنتي عشرة وتسعمائة ، وكنت دون البلوغ ، فقال : اسمع من هذه الكلمات ، واحفظها تجد بركتها إذا كبرت فقلت له : نعم فقال يقول : الله عز وجل يا عبدي لو سقت إليك ذخائر الكونين فملت بقلبك إليها طرفة عين فأنت مشغول عنا لابنا فحفظتها فهذه بركتها . وقال لي : أمورا أخر لم يأذن لي في إفشائها ، وكان يسمى بين الأولياء صاحب مصر ، وقالوا : إنه ما رؤى قط في معدية إنما كانوا يرونه في مصر ، والجيزة ، وحج رضي الله عنه ماشيا حافيا ، وأخبرني الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري رحمه الله أنه لما وصل إلى المدينة المشرفة وضع خده على عتبة باب السلام ، ونام مدة الإقامة حتى رجع الحج ، ولم يدخل الحرم ، وعمر عدة جوامع في مصر ، وقراها ، وكان رضي الله عنه له القبول التام عند الخاص ، والعام وكان السلطان قايبتاي يمبرغ وجهه على أقدامه . ومن مناقبه أنهم زوروا عليه برجل كان يشبهه ، فأجلسوه في تربة مهجورة في القرافة ليلا ، وراحوا إلى السلطان ، وقالوا له : إن سيدي عبد القادر الدشطوشي يطلبك في بالقرافة ليلا فنزل إليه ، وصار يقبل أقدامه فقال : الرجل المزور عليه الفقراء محتاجون لعشرة آلاف دينار فقال : السلطان بسم الله فمضى ثم أرسلها له فبلغ السلطان أنهم زوروا عليه ، فأرسل خلف المزور فضربه إلى أن مات ، وكان من شأنه التطور ، وحلف اثنان أن الشيخ نام عند كل منهما إلى الصباح في ليلة واحدة في مكانين ، فأفتى شيخ الإسلام الشيخ جلال الدين السيوطي بعدم وقوع الطلاق ، وأخبرني الأمير يوسف بن أبي أصبغ قال : لما أراد السلطان قايتباي أن يسافر إلى بحر الفرات استأذن الشيخ عبد القادر الدشطوطي في السفر ، فأذن له قال : الأمير يوسف فكنا طول الطريق ننظره يمشي أمامنا ، فإذا أراد السلطان ينزل إليه يختفي ، فلما دخلنا حلب وجدنا الشيخ رضي الله عنه ضعيفا بالبطن في زاوية بحلب مدة خمس شهور ، فتحيرنا في أمره رضي الله عنه ، ودخلت ، وأنا شاب أعزب . فقال لي : تزوج ، واتكل على الله خذ بنت الشيخ محمد بن عنان فإنها صبية هائلة ، فقلت ما معي شيء من الدنيا فقال : بلى قل : معي أشر في قل : اثنان قل : ثلاثة معي قل : أربعة قل : خمسة ، وكان لي عند شخص بنواحي المنزلة ذلك القدر فحسبه الشيخ ، وكنت أنا ناسيه ثم أذن الظهر فتغطى الشيخ بالملاية ، وغاب ساعة ثم تحرك ثم قال : الناس معذورون يقولون عبد القادر ما يصلي والله ما أظن أني تركت الصلاة منذ جذبت ، ولكن لنا أماكن نصلي فيها فقلت : للشيخ محمد بن عنان رضي الله عنه فقال : صدق له أماكن إنه يصلي في الجامع الأبيض برملة لد ، وسمعته مرة يقول كل من قال : السعادة بيد أحد غير الله كذب ، وإني كنت جهدان في الدنيا يضرب بي المثل فحصل لي جاذب إلهي ، وصرت أغيب اليومين ، والثلاثة ثم أفيق أجد الناس حولي ، وهم متعجبون من أمري ثم صرت أغيب العشرة أيام ، والشهر لا آكل ، ولا أشرب فقلت : اللهم إن كان هذا وارد منك فاقطع علائقي من الدنيا فمات الأولاد ، ووالدتهم ، والبهائم ، ولم يبق أحد دون أهل البلد ، فخرجت سائحا إلى وقتي هذا فهل كان ذلك في قدرة العبد . قلت له لا ، وسمعته يقول : للشيخ جلال الدين البكري : يا جلال الدين وقفنا هذا كله للفقراء ، والمساكين ، والمتكشفين الركب ، وكأني بك ، وقد جاءوا إليك بسياق فلان ، وفلان اجعل لهذا وظيفة فتخرب المكان ، وكان رضي الله عنه عالما بأحوال الزمان ، وما الناس عليه ، وكان رضي الله عنه أكثر ما ينام عند شخص نصراني في باب البحر فيلومه الناس ، فيقول : هذا مسلم ، ومن بركته أسلم النصراني على يديه ، وحسن إسلامه ، وسمعته يقول : وقد سأله الشيخ شمس الدين البهنسي عن جماعة في مصر من الفقراء الذين في عصره فقال : يا ولدي هؤلاء بعيدون عن الطريق والله ما يذوقون قشر الطريق فضلا عن لبها ، ولما دنت وفاته أكثر من البكاء ، والتضرع وكان يقول : للبناء الذي يبنى في القبة عجل في البناء ، فان الوقت قد قرب فمات ، وبقي منها يوم فكملت بعده ، ودفن في قبره وأوصي أن لا يدفن عليه أحد ، وأوصى أن يعمل فوقه ، وجانبه مجاديل حجر حتى لا تسع أحدا يدفن معه . مات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة وصلى عليه ملك الأمراء خير بك ، وجميع الأمراء ، وأكابر مصر ، وكراماته مشهورة في مصر ، والبلاد التي كان يمر فيها رضي الله عنه . ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي حسن العراقي رحمه الله تعالى المدفون بالكوم خارج باب الشعرية رضي الله عنه بالقرب من بركة الرطلي ، وجامع البشيري ترددت إليه مع سيدي أبي العباس الحريثي ، وقال أريد أن أحكي لك حكايتي من مبتدأ أمري إلى وقتي هذا كأنك كنت رفيقي من الصغر ، فقلت له : نعم فقال كنت شابا من دمشق ، وكنت صانعا ، وكنا نجتمع يوما في الجمعة على اللهو واللعب ، والخمر ، فجاءني التنبيه من الله تعالى يوما ألهذا خلقت ؟ فتركت ما فيهم فيه ، وهربت منهم فتبعوا ورائي فلم يدركوني ، فدخلت جامع بني أمية ، فوجدت شخصا يتكلم على الكرسي في شأن المهدي عليه السلام ، فاشتقت إلى لقائه فصرت لا أسجد سجدة إلا وسألت الله تعالى أن يجمعني عليه فبينما أنا ليلة بعد صلاة المغرب أصلي صلاة السنة ، وإذا بشخص جلس خلفي ، وحسس على كتفي ، وقال لي : قد استجاب الله تعالى دعاءك يا ولدي مالك أنا المهدي فقلت تذهب معي إلى الدار ، فقال نعم ، فذهب معي ، فقال : أخل لي مكانا أنفرد فيه فأخليت له مكانا فأقام عندي سبعة أيام بلياليها ، ولقنني الذكر ، وقال أعلمك ورعي تدوم عليه إن شاء الله تعالى تصوم يوما ، وتفطر يوما ، وتصلي كل ليلة خمسمائة ركعة ، فقلت : نعم فكنت أصلي خلفه كل ليلة خمسمائة ركعة وكنت شابا أمرد حسن الصورة فكان يقول : لا تجلس قط إلا ورائي فكنت أفعل ، وكانت عمامته كعمامة العجم ، وعليه جبة من وبر الجمال فلما انقضت السبعة أيام خرج ، فودعته ، وقال لي : يا حسن ما وقع لي قط مع أحد ما وقع معك فدم علي ، ورعك حتى تعجز ، فإنك ستعمر عمرا طويلا انتهى كلام المهدي . قال : فعمري الآن مائة وسبعة وعشرون سنة قال : فلما فارقني المهدي عليه السلام خرجت سائحا فرحت إلى أرض الهند ، والسند والصين ، ورجعت إلى بلاد العجم ، والروم ، والمغرب ثم رجعت إلى مصر بعد خمسين سنة سياحة فلما أردت الدخول إلى مصر منعوني من ذلك ، وكان المشار إليه فيها سيدي مدين المتبولي رضي الله عنه فأرسل يقول لي : أقم في القرافة فأقمت في قبة مهجورة عشر سنين تخدمني الدنيا في صورة عجوز تأتيني كل يوم برغيفين وإناء فيه طعام فلا كلمتها ، ولا كلمتني قط ثم سألت في الدخول فأذنوا لي أن أسكن في بركة القرع فأقمت فيها سنين عديدة في حارة . ثم جاء الشيخ عبد القادر الدشطوطي رضي الله عنه يريد أن يبني له جامعا هناك فصار يقاتلني ، ويقول : اخرج من هذه الحارة فقلت له يوما مالك ، ولي أنا مالي أحد يعتقدني من الأمراء ، ولا من غيرهم فما لك ولي فلم يزل بي حتى خرجت إلى هذا الكوم فيه سبع سنين فبينما أنا ذات يوم جالس هنا إذ طلع على الدشطوطي ، فقال : انزل من هذا الكوم ، فقلت : لا أنزل ، فخرجت النفس مني ، ومنه فدعا علي بالكساح ، فتكسحت ، ودعوت عليه بالعمى فعمي فهو كالطوبة الآن هناك ، وأنا رمة في هذا الموضع وأنا أوصيك يا عبد الوهاب أنك لا تصادم أحدا قط بنفس ، وإن صدمك فلا تصادمه ، وإن قال لك : اخرج من زاويتك أو دارك ، فاخرج ، وأجرك على الله ، وكان رضي الله عنه إذا جاءه شخص بجوخة أو ثوب صوف يأخذ السكين ، ويشرحها سيورا سيورا ثم يخيطها بخيط دارج ، ومسلة ، ويقول : إن نفسي تميل إلى الأشياء الجديدة ، فإذا قطعتها لم يبق عندها ميل . توفي رضي الله عنه سنة نيف وثلاثين وتسعمائة ، ودفن في القبة التي في الكوم المتقدم ذكره رضي الله عنه . ومنهم سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله تعالى عنه آمين كان خطه الذي يمشي فيه من باب الشعرية إلى قنطرة الموسكي إلى جامع الغمري ، وكان كثير الكشف ، وله وقائع مشهورة ، وكان أصله من البحر الصغير ، وظهرت له الكرامات ، وهو صغير : منها أنه كان ينام في الغيط ، ويأتي البلد ، وهو راكب الذئب أو الضبع ، ومنها أنه كان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب ، وكان بوله كاللبن الحليب أبيض ، وكان يغلب عليه الحال فيخاصم ذباب وجهه ، وكان يتشوش من قول المؤذن الله أكبر فيرجمه ، ويقول : عليك يا كلب نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكبروا علينا وما ضبطت عليه قط كشفا أخرم فيه ، وليلة أحرقت منارة المدرسة التي هي مسكننا بين السورين أخذ من إنسان نصفين وأعطاهما للسقاء ، وقال : كب هذه الراوية على هذا الحريق فصبه على الأرض تجاه المدرسة ، فقال : الناس للسقاء اللهم إن هذا مجذوب ما عليه حرج تصب الماء على الأرض خسارة ، فطلع الوقاد تلك الليلة ، فأوقد المنارة ، ورشق الجنيب في حائطها ، وكانت خشبا ، ونزل ، ونسيه فاحترقت تلك الليلة ، ووقعت الثلاثة أدوار كأن إنسانا نزعها ، وحملها ، ووضعها على الأرض ممدودة في الشارع لم تصب أحدا من الجيران ، وكان رضي الله عنه يقول : جاكم ابن عثمان جاكم ابن عثمان فكان غز الغوري يسخرون به . وكان رضي الله عنه كثير الشطح ، وكان أكثر نومه في الكنيسة ، ويقول النصارى لا يسرقون النعال في الكنيسة بخلاف المسلمين ، وكان رضي الله عنه يقول : أنا ما عندي من يصوم حقيقة إلا من لا يأكل اللحم الضاني أيام الصوم كالنصارى ، وأما المسلمون الذين يأكلون اللحم الضاني ، والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل ، وكان رضي الله عنه يقول : لخادمه أوصيك أن لا تفعل الخير في هذا الزمان فينقلب عليك بالشر ، وجرب أنت نفسك ، ولما سافر الأمير جانم إلى الروم شاوره ، فقال : تروح وتجيء سالما ففارقه ، وراح للشيخ محيسن فقال له : إن رحت شنقوك ، وإن قعدت قطعوا رقبتك فرجع إلى الشيخ ابن عصيفير فقال : تروح وتجيء سالما ، وكان الأمر كذلك فراح تلك السفرة ، وجاء سالما ثم ضرب عنقه بعد ذلك ، فصدق الشيخان . ولما سافر ابن موسى المحتسب بلاد العصاة أرسل إلى عياله بقمقم ماء ورد ، وقال : صبوه على كفنه ، وهو على المغتسل فجاء الخبر بأنهم قتلوه ، وأتوا به في سحلية فصبوه عليه كما قال : الشيخ ، وكان شخص يؤذيه في الحارة فدعا عليه ببلاء لا يخرج من بدنه إلى أن يموت فتورمت رجلاه ، ونتفخا وخرج منهما الصديد ، وترك الصلاة حتى الجمعة ، والجماعة وصار لا يستنجي قط ، فإذا غسلوا ثوبه يجدوا فيه العذرة كثوب الأطفال وقال له : شخص مرة ادع لي يا سيدي فقال الله : يبليك بالعمى في حارة اليهود فعمي كما قال : في حارتهم ، وقال له : شخص ومعه بنية حاملها ادع لينيتي هذه فقال : الله يعدمك حسها فماتت بعد يومين ، وكان يفرش تحته في مخزنه التبن ليلا ، ونهارا ، وقبل ذلك كان يفرش زبل الخيل ، وكان إذا مرت عليه جنازة ، وأهلها يبكو يمشي أمامها معهم ، ويقول زلابية هريسة زلابية هريسة ، وأحواله غريبة ، وكان يحبني وكنت في بركته ، وتحت نظره إلى أن مات سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة ودفن بزاويته بخط بين السورين تجاه زاوية الشيخ أبي الحمائل رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ شهاب الدين الطويل النشيلي رضي الله تعالى عنه كان من أولاد سيدي خليل النشيلي أحد أصحاب سيدي أبي العباس المرسي رضي الله عنه ، ورأيته ، وهو في أوائل الجذب ، والحروز معلقة على رأسه ، وكان أهله يعتقدون أنه من الجان ، ولم أزل أوده ، ويودني إلى أن مات ، وأول ما لقيته ، وأنا شاب أمرد ، وقال لي : أهلا يا ابن الشوني أيش حال أبوك ، وكنت لا أعرف قط الشوني فبعد عشر سنين حصل لي الاجتماع بالشوني فأخبرته ، بقول : الشيخ شهاب الدين فقال : صدق أنت ولدي ، وإن شاء الله تعالى يحصل لك على يدينا خير ، وكان رضي الله عنه يأتيني ، وأنا في مدرسة أم خوند ساكن فيقول : أقل لي بيضا قريصات ، فأفعل له ذلك ، فيأكل البيض أولا ثم الخبز ثانيا وحده ، وكان رضي الله عنه إذا راق يتكلم بكلام حلو محشو أدبا ، ومكث مولى من أصحاب النوبة بمصر سبع سنين ثم عزل ، وكان يحب دخول الحمام لم يزل يدخلها حتى مات فيها ، وكان ينادي خادمه ، وهو في الصلاة فإن لم يجئه مشى إليه ، وصكه ومشى به ، وقال : كم أقول لك لا تعد تصلي هذه الصلاة المشئومة ، فلا يستطيع أحد أن يخلصه منه ، وكان يضرب الإنسان على وجهه ، ولقيه مرة إنسان طالع من جامع الغمري ، وهو جنب فلطمه علم وجهه ، وقال : ارجع اغتسل ، وجاءه شخص فعل فاحشة في عبده يطلب منه الدعاء ، فأخذ خشبة ، وضربه بها نحو مائة ضربة ، وقال : يا كلب تفعل في العبد الفاحشة فانفضح ذلك الشخص . مات رضي الله عنه ، ودفن بزاويته بمصر العتيقة سنة نيف وأربعين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر ، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول : ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ، ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب ، وكان مقطوع الذكر قطعة بنفسه أوائل جذبه ، وكان جالسا على الرمل صيفا ، وشتاء ، وإذا جاع أو عطش يقول أطعموه ، وأسقوه ، وكان ثلاثة أشهر يتكلم وثلاثة أشهر يسكت ، وكان يتكلم بالسرياني ، وأخبرني سيدي على الخواص رضي الله عنه قال : ما مثلت نفسي إذا دخلت عند الشيخ عبد الرحمن رضي الله عنه إلا كالقط تجاه السبع ، وكان يرسل لي السلام ، ويخبر خادمه بوقائعي بالليل واحدة واحدة ، فيخبرني بها فأتعجب من قوة اطلاعه ، وحصل لي مرة وارد طغت على فيه نار فنزعت ثيابي ، ومررت عليه في زقاق سويقة اللبن قبيل العشاء فصار يقول : لخادمه اذهب بهذه البردة والحق بها عبد الوهاب غطه بها ، فما أخبرني الخادم إلا بعد أيام ، وقال : قال لنا : في الوقت الفلاني كذا وكذا فقلت : هذا مجذوب ، واستبعدنا كونك تثعري رضي الله عنه ، وكان مقعدا نحو نيف ، وعشرين سنة أقعده الفقراء ، وكان يخبر عن سائر الأقطار الأرض ، وعن أقواتهم وأحوالهم رضي الله عنه . مات رضي الله عنه سنة أربع ، وأربعين ، وتسعمائة ، ودفن بالقرب من جامع الملك الظاهر بالحسينية ، وقبره ظاهر بالحسينية يزار في زاويته رضي الله عنه . ومنهم سيدي محمد الرويجل العريان رضي الله عنه كان رضي الله تعالى عنه من أرباب الكشف التام رأيته مرة من بعيد نحو مائة قصبة فقال لي رفيقي هل يحس بأحد إذا ضربه فلما وصلنا إليه قال : لرفيقي تضربني على أيش ، وكان يدخل ينام في كنون الطباخ ، وأخبرني سيدي الشيخ شهاب الدين الرملي الشافعي رضي الله عنه قال : أصل ما حصل لي من العلم ، والفتوى ببركة دعاء الشيخ محمد الرويجل . مات رضي الله عنه سنة ثلاث ، وعشرين ، وتسعمائة مقتولا قتله عسكر ابن عثمان حين دخل مصر ، وأخبرني عن قطع رقبته يوم موته وصار يقول : أيش عمل الرويجل يقطعون رقبته ووقف على شباك سيدي محمد بن عنان ، وصار يقول : يا سيدي أيش عمل الرويجل يقطعون رقبته رضي الله عنه . ومنهم سيدي حبيب المجذوب رضي الله تعالى عنه كان سيدي على الخواص رضي الله عنه يقول : حبيب حية رقطاء خلقه الله تعالى أذى صرفا ، وكان إذا رآه يقول : اللهم اكفنا السوء وكان مبتلي بالإنكار عليه بمزح معه الصغار ، وغيرهم ويعطيهم ، وليس له كرامة إلا في أذى الناس فلا تحكي عنه شيئا ، وكان كلما نظر إلي إذا مررت عليه يحصل عندي قبض عظيم ، ولم أزل ذلك النهار جميعه في تكدير فلما مات قال : سيدي على الخواص رضي الله عنه الحمد لله على ذلك ، ودفن رحمه الله تعالى بالكوم بالقرب من بركة القرع خارج باب الشعرية رضي الله عنه . ومنهم سيدي فرج المجذوب رضي الله تعالى عنه كان له الكرامات الظاهرة ، ووقع لي معه كرامات ، وكان يطلب الفلوس من الناس ، فإذا اجتمعت أعطاها للمحاويج والأرامل ، وكثيرا ما يدفنها في جوار حائط ، ويذهب ، ويخليها فيأخذها الناس ، وأخبرني سيدي جمال الدين ابن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رضي الله عنه قال : خرجت إلى الحمام فرآني الشيخ ، فرج رضي الله عنه فقال : هات نصفا فأعطيته فقال : هات آخر فأعطيته ، فلم يزل كذلك إلى تسعة ، وثلاثين نصفا فقال : هات آخر فقلت له : بقي نصف للحمام فقال : كتبت لك وصولا على شموال اليهودي ، وفارقته فلما رجعت من الحمام جاءني يهودي بتسعة وثلاثين دينارا فقال : إن والدك أقرضني أربعين دينارا ، وما بيني ، وبينه إلا الله ولكن ما قدرت إلا على تسعة وثلاثين فاقبضها إلي ، ووقائعه كثيرة ، وانقطع آخر عمره في المارستان حتى مات ، ودفن عند الشيخ شهاب الدين المجذوب بباب الشعرية رضي الله عنه . ومنهم سيدي إبراهيم المجذوب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه كل فلوس حصلها يعطيها للمطبلين ، ويقول : طبلوا لي زمروا لي ، ولم يزل يقول : يا إبراهيم روح للنوبة قال سيدي : على الخواص رضي الله عنه إنه كان من أصحاب النوبة ، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه إذا حصل له ضرورة يرسل يعلمه بها فتقضي ، وكان كل قميص لبسه يخيطيه ، ويحزقه على رقبته ، فإن ضيقه جدا حتى ينخنق حصل للناس شد عظيمة ، وإن وسعه حصل للناس الفرج ، صحبته نحو سبع سنين وكان كلما رآني تبسم ، وكان شهرته الشيخ إبراهيم النوبة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ أحمد المجذوب المشهور بحب رمانتي رحمه الله تعالى كان رضي الله عنه لا يلبس إلا الحرير على بدنه وكان قمعه طول ذراع ، ونصف ، وكان رضي الله عنه يقف على الدكان ويصيح يا مالي ، ومال السلطان عند صاحب هذا الدكان فلا يزال كذلك إلى أن يأخذ ما يطلبه منه ثم يدفنه تحت جدار ، ويذهب ، وكانت له كرامات كثيرة . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وعشرين وتسعمائة ، ودفن بباب اللوق رضي الله عنه . ومنهم الشيخ إبراهيم العريان رضي الله تعالى عنه ، ورحمه كان رضي الله عنه إذا دخل بلدا سلم على أهلها كبارا ، وصغارا بأسمائهم حتى كأنه تربى بينهم ، وكان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا فيقول : السلطان ، ودمياط باب اللوق بين القصرين ، وجامع طيلون الحمد لله رب العالمين فيحصل للناس بسط عظيم ، وكان رضي الله عنه إذا صحا يتكلم بكلام حلو حتى يكاد الإنسان لا يفارقه ، طلع لنا مرارا عديدة في الزاوية وسلم علي باسمي ، واسم أبي ، وأمي ثم قال : للذي بجنبه أيش اسم هذا ، وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول : هذه ضرطة فلان ، ويحلف على ذلك ، فيخجل ذلك الكبير منه مات رضي الله عنه سنة نيف ، وثلاثين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ محيسن البرلسي رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه من أصحاب الكشف التام ، وكان يربط عنده عنزا وديكا بحبل ، والنار موقدة عنده في أغلب أوقاته صيفا ، وشتاء ، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه إذا شك في نزول بلاء على أهل مصر يقول : اذهبوا للشيخ محيسن فانظروا النار التي عنده هل هي موقودة أو مطفية فإن كانت مطفية حصل في مصر رخاء ، ونعمة وكان الناس في غاية الراحة فأوقد الشيخ محيسن رضي الله عنه النار فقال : الشيخ الله لا يبشره بخير فأصبح الناس في شدة عظيمة في مسكنهم لبلاد الهند ، وحصل لهم غاية الضيق ، وكنت عنده مرة فجاء إنسان ومزح معه ، وكان في رجله أكلة من أصحاب النوبة لم تزل تدود إلى أن مات فقال له : ذلك الإنسان الذي جعل في هذه الرجل الأكلة قادر أن يجعلها في الآخرى فقال : ما يستحق ذلك إلا الذي زنى بامرأة جاره فخجل ذلك الإنسان ، فقلت له : مالك ؟ فقال : هذا وقع لي ، وأنا شاب في نواحي دمياط من منذ خمسين سنة فقتل : الذي يطلع على هذا تمزح معه ؟ فقال : والله ما علم بهذه الواقعة أحد إلا الله عز وجل ، وكان رضي الله عنه يحبني ويرسل يخبرني بالوقائع التي تحصل لي في البيت واحدة واحدة ، وكان رضي الله عنه إذا رأى صغيرا من الريف في بولاق يريد أبوه أن يعلمه القرآن يقول له : اذهب إلى زاوية عبد الوهاب ، فأرسل لي كذا ، وكذا ولدا وحصل لهم الخير ، ووقع مني مرة سوء أدب فأرسل أعلمني به ، وهو في الرميلة ، وذلك أن الأمير جانم كان مطلوبا إلى استنبول فكتبت له كتابا إلى أصحاب النوبة بنواحي العجم ، والروم بالوصية به ، وطواه ووضعه في رأسه ، وخرج ، فأرسل لي في الحال يقول : الناس في عينيك كالقش ما بقي أحد في البلد له شوارب إلا أنت تكاتب أصحاب النوبة بغير إذن من أصحاب البلد ، فاستغفرت في نفسي فأرسل يقول لي : إذا سألت أحد في شيء يتعلق بالولاة بمصر شاور بقلبك أصحاب النوبة بها إعطاء لحقهم من الأدب معهم ثم افعل بعد ذلك ما تريد لا حرج لأنهم لا يحبون من يقل أدبه معهم . مات رضي الله عنه ، ودفن بالقرب من الإمام الشافعي رضي الله عنه في تربة البارزي في سنة نيف ، وأربعين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ أبو الخير الكليباتي رضي الله عنه كان رضي الله عنه من الأولياء المعتقدين ، وله المكاشفات العظيمة مع أهل مصر ، وأهل عصره ، وكانت الكلاب التي تسير معه من الجن ، وكانوا يقضون حوائج الناس ، ويأمر صاحب الحاجة أن يشتري للكلب منهم إذا ذهب معه لقضاء حاجته رطل لحم ، وكان أغلب أوقاته واضعا وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم ، ويدخل الجامع بالكلاب ، فأنكر عليه بعض القضاة ، فقال : هؤلاء لا يحكمون باطلا ، ولا يشهدون زورا فرمى القاضي بالزور ، وجرسوه على ثور بكرش على رأسه ، ولم يزل ممقوتا إلى أن مات ، وكان رجلا قصيرا في يده عصا فيها حلق ، وشخاشيخ ، وكان يعرج دعا لي مرة بأن الله يصبرني على البلوى ، وحصل لي ببركته بعض ذلك . مات رضي الله عنه سنة عشر وتسعمائة ، ودفن بالقرب من جامع الحاكم في المكان الذي كان يجلس فيه أوقاتا رضي الله عنه . ومنهم سيدي عمر البجائي المغربي رضي الله تعالى عنه دخل مصر في أيام السلطان الغوري ، وكان له القبول التام عند الأكابر ، وغيرهم ، وكان رضي الله عنه بخبر بالوقائع الآتية في مستقبل الزمان للولاة فيقع كما أخبر لا يخطئ ، وسكن في جامع آل ملك بالحسينية ثم انتقل إلى جامع محمود فنازعه أهل القرافة ، فرجع إلى قبة المارستان بخط بين القصرين ، فلم يزل بها إلى أن مات ، وكان وجهه كأنه قنديل ينور ، وهو رجل طويل ليس على رأسه عمامة إنما يتطرح بملاية على عرقية ، وكان الشيخ محمد بن عنان رضي الله عنه يحبه محبة شديدة رضي الله عنه مات رضي الله عنه في سنة عشرين ، وتسعمائة ودفن بالقرافة في حوش عبد الله بن وهب بالقرب من القاضي بكار وصلى عليه الملأ من الناس ، وحصل لي منه دعوات مباركات وجدت أثرها رضي الله عنه . ومنهم سيدي سعود المجذوب رضي الله عنه بسويقة العزى بالقرب من مدرسة السلطان حسن ، كان رضي الله عنه من أهل الكشف التام ، وكان له كلب قدر الحمام لم يزل واضعا بوزه على كتفه ، وكان يرسل لي السلام مرات ، وترددت إليه كثيرا ، فكنت كلما أزور القرافة أطلع له ، وله وقائع مشهورة في أهل حارته . مات رضي الله عنه سنة إحدى ، وأربعين وتسعمائة ، ودفن بزاويته ، وله قبة خضراء بناها له الباشا سليمان رحمه الله . ومنهم سيدي سويدان المدفون بالخانكة رضي الله تعالى عنه ، ورحمه أقام في مدرسة ابن الزين في رصيف بولاق سنين عديدة فلازمناه ملازمة طويلة ، وكان مكشوف الرأس له شعر طويل ملبد ، وكان له كل سنة جوخة حمراء بندقي على خوند امرأة السلطان يلبسونها له ، ويأخذ النقباء العتيقة ووقع له ، وقائع ، وكرامات ، وكان فمه لم يزل فيه نحو الخمسين حبة من الحمص ليلا ونهارا يقال إنها حملات الناس ، وكان لا يفهم عنه إلا الفقراء الصادقون فإن كلامه كله إشارات . مات رضي الله عنه سنة تسع عشرة ، وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي بركات الخياط رضي الله عنه كان رضي الله عنه من الملامتية ، وهو شيخ أخي أفضل الدين ، وشيخ الشيخ رمضان الصائغ الذي بنى له الزاوية ، وكان رضي الله عنه يلبس الشاش المخطط كعمامة النصارى ، فيقول له : الناس حشاك يا نصراني ، وكان يخيط المضربات المثمنة ، وكان رضي الله عنه يقول : لمن يخيط له هات معك فوطة ، وإلا يتسخ قماشك من ثيابي ، وكان دكانه منتنا قذرا لأن كل كلب وجده ميتا أو قطا أو خروفا يأتي به ، فيضعه داخل الدكان ، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده ، وكان سيدي الشيخ نور الدين المرصفي رضي الله عنه ، وغيره يرسلون له الحملات . فيضعون له الحجر على حانوته فيعلم بالحاجة فيقضيها ، ويقول : الاسم لطوبى ، والفعايل لأمشير نحن نتعب ، وهؤلاء يأخذون الهدايا منهم ، وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه قال : مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر ، وجماعة فقالوا امضوا بنا نزوره ، وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة فقالوا له : نصلي الجعة فقال : مالي عادة بذلك فأنكروا عليه فقال : نصلي اليوم لأجلكم ، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه ، وصاروا يوبخون الشيخ عبد الواحد الذي جاء بهم إلى هذا الرجل ، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ، ويقول : أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبدا والله يا ولدي مسقاة الكلاب إنما هي مثال مطعمهم ، ومشربهم ، وكذلك مشخة الحمير إنما هي صورة اعتقادهم النجس ، وأخبرني سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى قال : فبينما نحن يوما خارج باب زويلة بالقرب من بيت الوالي ، وإذا هو بشخص تاجر مغربي راكب بغلة فمسكه الشيخ رضي الله عنه ، وقال : هذا سرق بيتي فدخلوا به بيت الوالي فقال : للوالي يا سيدي اضربه مقارع وكسارات ، وإن مات أنا أزن ديته فلما فرغ الوالي من عقابه نظر إلى وجه التاجر ، وقال : للوالي أنا غلطت هذا ما هو الذي أخذ حوائجي ، فضرب الوالي الشيخ بعصاه ، فخرج ، ورقد على بابه ، وقال : والله يا زربون ما أفارق هذه العتبة حتى أعزلك ، فقام فجاء الفاصد بعزله من السلطان في الحال ، وكان رضي الله عنه إذا قدموا له لحم الضاني ، واشتهى لحم حمام ينقلب في الحال حماما وله وقائع مشهورة . مات رضي الله عنه سنة دخول ابن عثمان مصر سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ، ودفن بالقرب من حوض الصارم بالحسينية ، رضي الله عنه . ومنهم سيدي علي الشونوزي رضي الله تعالى عنه ورحمه أجل أصحاب الشيخ شعبان البلقمطري بدمنهور البحيرة ، كان رضي الله عنه ظريفا نظيفا لطيفا ، والغالب عليه الاستغراق ، وكان أكثر أوقاته ماشيا في مصر ، وبولاق ، والقرافة ، وغيرها ، وعليه ثياب حسنة كلبس القاضي ، وكانت له الموشحات النفيسة في التوحيد صحبته نحو عشر سنين ، وقال لي : أنا كيلاني زماني ، وكان يرى ذلك من باب التحدث بالنعم . مات رضي الله عنه ، ودفن بالقرافة عند الشيخ محمد الغربي الشاذلي رضي الله عنه سنة نيف وثلاثين وتسعمائة رضي الله عنه . وأخبرتني زوجته قالت بينما نحن يوما في جوف الليل وإذا بشخص نازل من الهواء فأشار إليه الشيخ رضي الله عنه بيده فلصق بالدور قاعة فقال فتوة ارجع ، وتعال من الباب فقال باسم الله . ثم قال هذا الدشطوطي رضي الله عنه . ومنهم سيدي أحمد الزواوي أخو الشونوزي في الطريق رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه على قدم عظيم وكان ورده في اليوم ، والليلة عشرين ألف تسبيحة وأربعين ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما سافر الغوري لقتال ابن عثمان جاء إلى القاهرة ، وقال : جئت لأرد ابن عثمان عن دخول مصر فعارضه الأولياء فلحقته البطن فأشرف على الموت فحملوه إلى بلده فمات في الطريق ، وكانت له كرامات في الطريق اجتمعت به مرات عديدة ، ودعا لي بدعوات ، وأرشدني إلى ورد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . مات رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي أحمد البهلول رضي الله تعالى عنه ورحمه ثالث من قبله الطريق على الشيخ شعبان ، وكان سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه كلما مر عليه يقف يقرأ الفاتحة ، وكان يعظمه كثيرا ، وهو الذي أشار علي بالزواج في أول أمري فقال : زوجتك زينب بنت الشيخ خليل القصبي وأقبضت عنك المهر ثلاثين دينارا ، وأعطيتك البيت ، وأخدمتك أخوتها الثلاثة ، ففارقته فجاءني والد الصبية ، وخطبني بنفسه ، ووجدت اسمها زينب ، ولها ثلاثة أخوة ، ووجدت البيت مقفلا على اسمها كما قال رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يقول لا تدفعوني إلا خارج باب القرافة في الشارع ولا تجعلوا لقبري شاهدا ودعوا البهائم ، والبغال تمشي علي . واحذروا أن تجعلوا على قبري تابوتا أو سترا يبقي كل من مر علني يدق تابوتي يمنعني أن أستريح في القبر فقالوا له قد عملنا لك قبرا في جامع بطيخة فقال إن قدرتم أن تحملوني ففعلوا فعجزوا أن يحركوا النعش إلى ناحية جامع بطيخة فلما حملوه لناحية القرافة خف عليهم رضي الله عنه مات رضي الله عنه سنة ثمان وعشرين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري رضي الله عنه كان رضي الله عنه من الراسخين في العلم ، وانتهت إليه الرئاسة في علو السند بالكتب الستة وغيرها ، وكان يقرأ السبع وله صوت بالمحراب لم يسمع السامعون في عصره مثله ، ولما دخل السلطان ابن عثمان فريد أيام الغوري مصر طلبوا له إماما يخطب به فأجمع رأي أهل مصر كاملا على الشيخ أمين الدين رضي الله عنه فصار يؤم به إلى أن سافر إلى الروم . وكان رضي الله عنه ينزل من بيته يتوضأ ، ويصلي ما شاء الله تعالى أن يصلي ثم يصعد الكرسي فيقرأ في المصحف قبل الفجر نحو سبعة عشر حزبا سرا فإذا أذن للصبح قرأ جهرا قراءة تكاد تأخذ القلوب من أماكنها فمر نصراني من مباشري الديوان يوما في السحر فرق قلبه فطلع ، وأسلم على يد الشيخ رضي الله عنه ، وهو يقرأ على الكرسي ، وصار يبكي ، وحسن إسلامه ، ورأيته يصلي خلفه إلى أن مات ، كان الناس يأتون إلى الصلاة خلفه من بولاق ، ومن نواحي الجامع الأزهر في صلاة الصبح لحسن صوته ، وخشوعه ، وكثرة بكائه حتى يبكي غالب الناس خلفه ، وكان سيدي أبو العباس الغمري رضي الله عنه يقول الجامع جثة ، والشيخ أمين الدين رضي الله عنه روحها ، ومصداق ذلك أن الناس كانوا يخرجون من الجامع في مثل خروج الحج فلم يبق في الجامع إلا هو فكأن الجامع لم يخرج منه أحد ، وكان رضي الله عنه إذا سافر صار الجامع كأنه ما فيه أحد . ومما وقع لي معه أنني كنت أقابل معه في شرح البخاري في جزاء الصيد فذكر جزاء التيتل فقلت ما هو التيتل فقال هذا لوقت تنظره فخرج التيتل من المحراب فوقف على كتفي فرأيته دون الحمار ، وفوق تيس المعز ، وله لحية صغيرة فقال ها هو ثم دخل الحائط فقبلت رجله فقال اكتم حتى أموت ، ورأيته بعد موته بسنتين فروى لي حديثا سنده بالسرياني ، ومتنه بالعربي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ' من أدمن النوم بعد صلاة الصبح ابتلاه الله تعالى بوجع الجنب ' وفي رواية ' ابتلاه الله في جنبه بالبعج ' ، ومكث رضي الله عنه سبعا وخمسين سنة إماما لم يدخل وقت واحد عليه ، وهو على غير ، وضوء ، وليلة مات كان مريضا فزحف إلى ميضأة الجامع فوقع بثيابه فيها فطلع ، والناس يحاذونه فصلى بالناس المغرب وثيابه تخر ماء وبقي معه العزم إلى أن مات ، وكان يلبس الثياب الزرق ، والجبب السود ، ويتعمم بالقطن غير المقصور ، وكان رضي الله عنه يتفقد الأرامل ، والمساكين ، والعميان ، ويتعب لهم في حوائجهم ، ويجمع لهم الزكوات ، ويفرقها عليهم ، ولا يأخذ لنفسه شيئا ، وكان يعطي ذلك سرا ، وما علم الناس بذلك إلا بعد موته . مات رضي الله عنه في سنة تسع وعشرين وتسعمائة ، ودفن بتربته خارج باب النصر . لقرب من سيدي إبراهيم الجعبري رضي الله عنهما . ومنهم سيدي أبو الحسن الغمري رحمه الله تعالى ابن سيدي أبي العباس الغمري رضي الله عنهما : كان رضي الله عنه من الصفاء ، والصلاح على جانب عظيم ، وكان سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه يقول فرعان فاقا أصلهما في الكرم ، والحياء أبو الحسن ، وعبد الحليم بن مصلح ، وكان من أخلاقه رضي الله عنه أنه يخدم في البيت مع الخادم ويغسل الأواني ، ويوقد تحت الدست ، ويقرص العجين ، ويكنس البيت ، وكان رضي الله عنه لا يجالس أحدا إلا وقت الصلاة أو الذكر أو تلاوة القرآن أو لما لا بد منه من المصالح ، وكان يستحي أن يركب في مصر حمارا أو غيره ، وكان إذا ركب إلى بولاق أو مصر يركب في الغلس ، ويقصد المواضع الخالية ذهابا ، وإيابا ، ويقول لا أستطيع أن أركب فوق رءوس الناس أبدا ، وكان رضي الله عنه إذا دعي إلى وليمة ، وحضر يصير يعرق ويمسح العرق حياء من الناس ، وكنا إذا سافرنا معه إلى ميت غمر أو إلى المحلة لا يأكل في المركب ولا يشرب حياء من الناس ، ويقول لا يخرج لي بول ، وأحد ينظر إلي ، ولو على بعد ، وكان لا ينام مع أحد في فراش ، ولا بحضرة أحد لا في ليل ولا في نهار ، ويقول أخاف أن يخرج مني ريح ، وأنا نائم ، صحبته نحو ثلاثين سنة إلى أن مات ما رأيته تغير علي يوما واحد فلما انتقلت من جامعه صار يتردد إلي فأكاد أن أذوب من الخجل من مشيه إلي ، ويقول أنا أشتاق إليك . مات رضي الله عنه سنة تسع وثلاثين وتسعمائة ، ودفن عند والده بالجامع بما المحروسة رضي الله عنهما . ومنهم سيدي الشيخ عبيد البلقيني رضي الله تعالى عنه صحبته نحو عشر سنين ، وكان رضي الله عنه من أرباب الأحوال ، والكشف إذا أخبر عن شيء يأتي كفلق الصبح ، وكان السلطان قايتباي ينزل لزيارته في بلقين فلما اتتقل إلى القاهرة كان يتردد إليه ، وكذلك السلطان قانصوه الغوري ، وكان رضي الله عنه إذا سمع كلام سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه أو غيره يقوم كالجمل الهائج لا يستطيع أحد أن يقعده حتى يقعد بنفسه ، وكان جمالي المقام يلبس النفيس ، ويأكل اللذيذ ، وليس للدنيا عنده قدر فكان يخلع الجوجة ، والصوف النفيس يعطيه للسائل ، وحصل له جذب في أول عمره فمكث نحو الخمس عشرة سنة بلباس جلده مكشوف الرأس ، والبدن لا يلتفت لتدبير بدنه حتى صار الدود يتساقط من تحت قلنسوته من محل الزيق ، ولم يزل أثره ظاهرا في ناحية قفاه رضي الله تعالى عنه وعمر زمانا . ومات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بزاويته التي أنشأها بالقرب من الجامع الأزهر المشهور بالحلاوية رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ يوسف الحريثي رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه على قدم عظيم في اتباع السنة ، وقيام الليل ، وتلاوة القرآن ، وكان يميل إلى إخفاء العبادات جهده ، وأخبرني رضي الله عنه قال : لما تزوجت أم أبي العباس مكثت أقرأ في حضنها كل ليلة ختما مدة عشر سنين ما أظن أنها شعرت بي ليلة واحدة وأخبرني رضي الله عنه ليلة توفي فقال قد خرجت في الدنيا ، وما عرفت أن أتوضأ فقلت كيف قال سألت عدة من العلماء والحفاظ عن كيفية تخليل اللحية في الوضوء فما منهم أحد عرف كيف كان صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته ، وكان رضي الله عنه يقول أنا أحب في مصر ثلاثة عبد الرحمن الأجهوري المالكي ، ويوسف البشلاوي وعبد الوهاب ، وكان رضي الله عنه يكره لولده أبي العباس رضي الله عنه تلقينه للناس الذكر ويقول يا ولدي أيش بلانا بهذه الطريق ، وكان على هضم النفس دائما مات رضي الله عنه سنة أربع وعشرين وتسعمائة ودفن بجامع البشير رضي الله عنه . ومنهم الشيخ عبد الرزاق الترابي رضي الله عنه ورحمه أحد أصحاب سيدي علي النبتيتي الضرير رضي الله عنه كان رضي الله عنه على قدم عظيم من العبادة ، والتقشف ، واعتقده الناس بعد موت سيدي علي رضي الله عنه ثم انتقل إلى ناحية الجيزة ، وأقبل الناس عليه ، وصنف رسائل في الطريق ، وكان له النظم الرائق في أحوال القوم ، وطلع رضي الله عنه لنائب مصر في شفاعة فأغلظ عليه فأقسم إنه لا ينزل من جامع القلعة إلا إن مات خير بك فطلعت فيه جمرة فمات في اليوم الثالث فنزل الشيخ . مات رضي الله عنه سنة نيف وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بساقية مكة بالجيزة ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الشيخ مخلص رضي الله تعالى عنه ورحمه أحد أصحاب سيدي الشيخ أبي الخير بن نصر ببلاد الغربية ، كان رحمه الله تعالى من الفقراء الصادقين ، وكان سيدي الشيخ محمد الشناوي رضي الله عنه يعظمه ، ويوقره اجتمعت به مرات عديدة ، وحصل لي منه نفحات ، وجدت بركتها ، وكان على هدى الفقراء الأول من كثرة الصوم ، وتلاوة القرآن ، والإعراض عن الدنيا ، وأهلها . مات رضي الله عنه سنة أربعين وتسعمائة ، ودفن بابشيه الملق ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه آمين . ومنهم الشيخ صدر الدين البكري رضي الله تعالى عنه أحد أصحاب سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه والشيخ أبي العباس الغمري رضي الله عنه ، كان رضي الله عنه ذا سمت حسن قليل الكلام لا يكاد ينطق بكلمة إلا بعد تثبت ، صحبته نحو عشر سنين ، وحصل لي منه نفحة . وجدت بركتها . ولما حج رضي الله عنه ، وزار النبي صلى الله عليه وسلم سمع رد السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم . مات رضي الله عنه سنة ثمان عشرة ، وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ دمرداش المحمدي رضي الله عنه أحد جماعة سيدي عمر رويشين بمدينة توريز العجم رضي الله عنه ، كان رحمه الله على قدم السلف الصالح من الأكل من عمل يده والتصدق بما فضل ، وعمل الغيط المجاور لزاويته خارج مصر ، والحسينية فأقام هو وزوجته في خص يغرسون فيه خمس سنين ، وقال لي : ما أكلت منه ، ولا واحدة لأنني زرعته على اسم الفقراء ، والمساكين وابن السبيل ، والسائلين ، ونمت عنده ليالي فكنت لا أراه ينام من الليل إلا يسيرا ثم يقوم يتوضأ ويصلي ثم يتلو القرآن فربما يقرأ الختم كاملا قبل الفجر ، وليس في مصر ثمرة أحلى من ثمرة غيطه وقسم وقفه ثلاثة أثلاث ثلث يرد على مصالح الغيط ، وثلث للذرية ، وثلث للفقراء القاطنين بزاويته ورتب عليهم كل يوم ختما يتناوبونه ، ويهدون ذلك في صحائف سيدي الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه ، وكان أمره كله جدا . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وثلاثين وتسعمائة ، ودفن بزاويته رضي الله عنه . ومنهم الشيخ إبراهيم أخوه في الطريق رضي الله تعالى عنه كانت له المجاهدات فوق الحد اجتمعت به أنا وسيدي أبو العباس الحريثي رضي الله عنه مرارا كثيرة ، ورأيناه على قدم عظيم إلا أنه أمي أغلف اللسان يكاد يفصح عن المقصود ، وأعطى القبول التام في دولة ابن عثمان ، وأقبل عليه العسكر إقبالا زائدا ، وأرادوا نفيه لذلك فجمع نفسه ، وعمر له قبة وزاوية خارج باب زويلة ، ودفن فيها وجعل في الخلاوي المحيطة بقبته قبورا بعدد أصحابها على طريقة مشايخ العجم ، وكان يقبل علي إقبالا زائدا لكن يقول أنتم مشايخ الخير فكان لا يعجبه إلا المجاهدات من غير تخلل راحة . مات رحمه الله سنة أربعين ، وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ مرشد رضي الله عنه كان رضي الله عنه قادري الخرقة ، وكان يطوي الأيام ، والليالي ، وأخبرني أنه مكث نحو أربعين سنة يأكل كل يوم زبيبة واحدة حتى لصق بطنه على ظهره رضي الله عنه ، وكان يحبك الشدود ، وغيرها ، ويتقوت بذلك اجتمعت به كثيرا ، وأخبرني بأمره من مبدئه إلى ذلك الوقت ، ونبهني على أمور في الباطن كنت مخلابها ، وحصل لي منه مدد واجتمع عليه آخر عمره طائفة السودان من الفقراء ، واعتقدوه اعتقادا زائدا مات رضي الله عنه سنة نيف وأربعين وتسعمائة ، ودفن بباب الوزير بالقرب من قلعة الجبل ، وله من العمر نحو المائة رحمه الله تعالى . ومنهم الشيخ ناصر الدين أبو العمائم الزفتاوي رضي الله تعالى عنه أقام بالنجارية وبني بها زاوية ، وبستانا ومات بها ، وكان عبدا صالحا أحمدي الخرقة ، وكان بينه ، وبين سيدي الشيخ نور الدين الشوني رضي الله عنه ود ، وإخاء ، وكان رضي الله عنه يتعمم بنحو ثلاث برد صوف ، وأكثر ، وكان لسانه لهجا بذكر الله تعالى ، وتلاوة القرآن صحبته نحو خمس سنين ، وحصل لي منه نفحات ، ودعا لي بدعوات منها قوله اللهم اجعل أخي هذا من الذين لا يرضون بسواك . مات رحمه الله تعالى بالنجارية سنة تسع عشرة وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ شرف الدين الصعيدي رضي الله عنه كان رضي الله عنه صاحب كشف واجتهاد ، وقيام ، وصيام وطي ، وكان يطوي الأربعين يوما ، وأكثر ، وامتحنه السلطان الغوري ، وحبسه في بيت أربعين يوما مقفلا عليه الباب ثم فتحه فوجده قائما يصلي . صحبته نحو ثلاث سنين آخر عمره ثم مات ، ودفن بالقرب من الإمام الشافعي رضي الله عنه في تربة شرف الدين الصغير رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشيخ أبو القاسم المغربي الفاسي القصري رضي الله عنه قدم مصر سنة سبع عشرة ، وتسعمائة حاجا فصحبته إلى أن سافر ثم رجع من الحج فصحبته إلى أن سافر إلى المغرب فلما وصل إلى فاس أرسل لي كذا ، وكذا كتابا مشتملا على آداب ، وإرشادات ، وكان رضي الله عنه ذا خلق حسن ، وكرم ، وحلم لم يزل متبسما منشرحا ، وجاء مصر في نحو خمسمائة مريد حج بهم ، وكان دأبه الجهاد طول عمره إلى أن مات رحمه الله تعالى . ومنهم سيدي علي البلبلي رضي الله تعالى عنه وبلبل قبيلة من عرب المغرب كان رضي الله عنه ذا سمت حسن ، وخلق حسن لم يزل يسافر الحجاز ، والقدس ، واليمن إلى أن مات في الحجاز وكان يقيم إذا جاء مصر في الجامع الأزهر ، وهو الذي قال لي جميع ما يقدم إليك من المأكل مائدة الله تعالى فكل منها بالتعظيم لمن قدمها ، وميزان الشريعة بيدك من حيث الورع ، ولا تتركها تهلك وكان سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه يحبه حبا شديدا . وكذلك الشيخ نور الدين الشوني رضي الله عنه ، وغيرهما ، وكان رحمه الله على قدم من الزهد ، والورع ، ودخل عليه مرة الشيخ محمد بن عنان رضي الله عنه فرآه مريضا قد أشرف على التلف فرقد الشيخ محمد مكانه فقام سيدي علي نشطا في الحال كأن لم يكن به مرض ، ومكث سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه مريضا نحو أربعين يوما رحمه الله تعالى . ومنهم الشيخ إبراهيم أبو لحاف المجذوب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه من أوسع الناس خلقا لا يكاد أحد قط يغضبه ، ولو فعل معه ما فعل ، وكان أولا مقيما في برج من أبراج قلعة الجبل نحو عشرين سنة فلما قرب زوال دولة الجراكسة أرسل يقول للغوري تحول ، وأعط مفاتيح القلعة لأصحابها فلم يلق إليه بالا ، وقال هذا مجذوب فنزل إلى مصر ، وزالت دولة الجراكسة ولم يزل في مصر إلى أن مات ، ودفن في قنطرة السد بالقرب من مصر العتيق في الحوش الذي هناك ، وكان يقيم عندي الشهر ، وأكثر فكنت أراه لا ينام شيئا من الليل إلا قبيل الفجر ، وكان رضي الله عنه يقول : طول ليله الله الله لله لا يفتر ، وكان حافيا مكشوف الرأس ملتحقا بملاءة حمراء ، وبيده عصا غليظ لم تزل في حضنه ، ويقول احتاج الزمان إلى هذا ، ولما مددت للتسويط في أيام السلطان أحمد بسبب شخص من أكابر الدولة قيل إنه مخبأ عندي ، وقف عند رأسي ، وقال : لا تخف ما عليك باس غدا تقضي الحاجة أذان الظهر فلما كان الغد خرج السلطان أحمد هاربا من القتل أذان الظهر كما قال ، وكنت لم أزل أسمعه يقول هذه الكلمات سبحان من خلق الخلق احتياط علم خبر فقط رحمة الله تعالى عليه . ومنهم الشيخ محمد بن زرعة رضي الله تعالى عنه كان رضي ، الله عنه مقيما بمصر بقنطرة قديدار ، وكان رضي الله عنه يتكلم ثلاثة أيام ، ويسكت ثلاثة أيام زرته مرات ، ودعا لي بدعوات منها الله يجعلك من رءوس حزب محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : بعضهم ، وكان سيدي عبد القادر الدشطوطي رضي الله تعالى عنه من سعاة محمد بن زرعة إذا جالت روحه في الأرض . مات رحمه الله سنة أربع عشرة ، وتسعمائة ، ودفن بالشباك الذي كان يقعد فيه في بيته رضي الله عنه . ومنهم سيدي علي وحيش من مجاذيب النجارية رضي الله عنه كان رضي الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال ، وكان يأتي مصر ، والمحلة ، وغيرهما من البلاد ، وله كرامات ، وخوارق ، واجتمعت به يوما ، في خط بين القصرين فقال لي ، وديني للزلباني فوديته له فدعا لي ، وقال الله يصبرك على ما بين يديك من البلوى ، وأخبرني الشيخ محمد الطنيخي رحمه الله تعالى قال : كان الشيخ : وحيش رضي الله عنه يقيم عندنا في المحلة في خان بنات الخطا وكان كل من خرج يقول : له قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج فيشفع فيه ، وكان يحبس بعضهم اليوم ، واليومين ، ولا يمكنه أن يخرج حتى يجاب في شفاعته ، وقال يوما لبنات الخطا اخرجوا فإن الخان رائح يطبق عليكم فما سمع منهن إلا واحدة فخرجت ووقع على الباقي فمتن كلهن ، وكان إذ رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ، ويقول له أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها فإن أبي شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة ، وإن سمع حصل له خجل عظيم ، والناس يمرون عليه ، وكان له أحوال غريبة ، وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه فقال هؤلاء يحيلون للناس هذه الأفعال ، وليس لها حقيقة . مات رحمه الله تعالى بالنجارية سنة سبع عشرة وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم سيدي الشريف المجذوب رضي الله تعالى عنه ، ورحمه كان رضي الله عنه ساكنا تجاه المجانين بالمارستان المنصوري ، وكان له كشف ، ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه ، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ، ويقول أنا معتوق أعتقني ربي ، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال ، وأرسل لي مرة رغيفا مع إنسان ، وقال قل له يأكل هذا الرغيف ، وطوى فيه مرض سبعة ، وخمسين يوما فلم يأكله فأكله القاصد فمرض سبعة ، وخمسين يوما فقال للقاصد لا تخف إن شاء الله تعالى أصطاده في مرة أخرى فلم يقدر له ذلك ، وكان رضي الله عنه يتظاهر يبلع الحشيش فوجدوها يوما حلاوة ، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء ، والسعداء في هذه الدار ، وكان أصله جمالا عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب ، وكان سيدي على الخواص رضي الله عنه جاءه الشريف ورد عنه الطعنة ، وقال لم يجئني أحد في مصر غير الشريف فكان لا ينساها له ثم إنهم طعنوه مرة أخرى فأصابته ، وذلك أن الشفاعات كثرت على سيدي علي الخواص رضي الله عنه أيام السلطان ابن عثمان وكان أصحاب النوبة بمصر عجما فكانوا لم يزالوا يعارضونه ، ويعارضهم فطعنوه بخنجر في مشعره ولم يزل به إلى أن مات بعد ثلاثين يوما رضي الله عنه . ومنهم سيدي علي الدميري المجذوب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه جالسا ليلا ، ونهارا ، على دكان يباع الرقاق تجاه حمام المارستان ، وكان رضي الله عنه لا يتكلم إلا نادرا ، وكان مكشوف الرأس ملفوفا في بردة كلما تتقطع يبدلونها له بأخرى أقام على هذه الحالة نحو عشرين سنة وكان كلما رآني تبسم . مات رضي الله عنه سنة خمس ، وعشرين وتسعمائة ، ودفن بالمسجد الذي بقرب باب النصر اليشبكي ، وقبره ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم شيخي ، وأستاذي سيدي علي الخواص البرلسي رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه أميا لا يكتب ، ولا يقرأ ، وكان رضي الله عنه يتكلم على معاني القرآن العظيم ، والسنة المشرفة كلاما نفيسا تحير فيه العلماء ، وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو ، والإثبات فكان إذا قال قولا لا بد أن يقع على الصفة التي قال ، وكنت أرسل له الناس يشاورونه عن أحوالهم فما كان قط يحوجهم إلى كلام بل كان يخبر الشخص بواقعته التي أتى لأجلها قبل أن يتكلم فيقول : طلق مثلا أو شارك أو فارق أو اصبر أو سافر أو لا تسافر فيتحير الشخص ، ويقول من أعلم هذا بأمري ، وكان له طب غريب يداوي به أهل الاستسقاء ، والجذام ، والفالج ، والأمراض المزمنة فكل شيء أشار باستعماله يكون الشفاء فيه . وسمعت سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه يقول : الشيخ علي البرلسي أعطي التصريف في ثلاثة أرباع مصر ، وقراها وسمعته يقول : مرة أخرى لا يقدر أحد من أرباب الأحوال أن يدخل مصر إلا بإذن الشيخ علي الخواص رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يعرف أصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض ، ويعرف من تولى منهم ساعة ، ولايته ومن عزل ساعة عزله ولم أر هذا القدم لأحد غيره من مشايخ مصر إلى ، وقتي هذا ، وكان له اطلاع عظيم على قلوب الفقراء فكان يقول : فلان اليوم زاد فتوحه بهذا كذا دقيقة ، وفلان نقص اليوم كذا كذا ، وفلان فتح عليه بفتوح يدوم إلى آخر عمره ، وفلان يدوم فتحه سنة أو شهرا أو جمعة فيكون الأمر كما قال . ومر عليه فقير فتح عليه بفتوح عظيم فنظر إليه ، وقال هذا فتوجه يزول عن قريب فمر على ذلك الفقير شخص من أرباب الأحوال فازدراه ، ونقصه بكلمات فراح ذلك الشخص إلى ذلك الفقير ، ودار له نعله فسلبه ذلك الفتوح فقال : له الشيخ يا ولدي قلة الأدب لا يمكث معها فتوح ، ولم يزل مسلوبا إلى أن مات ، وكان رضي الله عنه يعظم أرباب الحرف النافعة في الدنيا كالسقاء ، والزبال ، والطباخ ، والفيخراني ومقدم الوالي ، ومقدم أمير الحاج ، والمعداوي ، والطوافين على رءوسهم بالبضائع ، ويدعو لهم ، ويكرمهم وكان رضي الله عنه يعظم العلماء ، وأركان الدولة ، ويقوم لهم ، ويقبل أيديهم ، ويقول : هذا أدبنا معهم في هذه الدار ، وسيعلمنا الله تعالى الأدب معهم إذا ، وصلنا إلى دار الآخرة ، وكان إذا علم من أحد من أرباب الدولة أو غيرهم أنه قاصد السلام عليه يذهب إليه قبل أن يأتي ، ويقول كل خطوة يمشيها الناس إلى الفقير تنقصه من مقامه درجة فقيل له فكيف تذهب أنت إليهم فقال : أنا أذهب ، وأسأل الله تعالى : لهم أن لا ينقص درجتهم فإن أجري على الله تعالى لا عليهم ، وكان رضي الله عنه أولا طوافا يبيع الصابون ، والجميز ، والعجوة ، وكل ما وجد ثم فتح دكان زياتة سين عديدة ثم صار يضفر الخوص إلى أن مات ، وكان لا يأكل شيئا من طعام الظلمة ، وأعوانهم ، ولا يتصرف في شيء من دراهمهم في مصالح نفسه أو عياله إنما يضعه عنده للنساء الأرامل ، والشيوخ ، والعميان ، والعاجزين عن الكسب ، ومن ارتكبتهم الديون فيعطيهم من ذلك ما قسم ، وورمت عيناه مرة ، ورما شديدا ، وهو يضفر الخوص فأتاه شخص من أصحابنا بدراهم ، وقال يا سيدي أنفقها ، واسترح حتى تطيب عيناك فردها ، وقال : والله أنا في هذا الحال ، ولا تطيب نفسي بكسب نفسي فكيف بكسب غيري . وكان رضي الله عنه يعامل الخلق على حسب ما في قلوبهم لا على حسب ما في ، وجوههم . ومر عليه مرة شخص من الفقراء ، والنور يخفق من وجهه فنظر إليه الشيخ فقال : اللهم اكفنا السوء إن الله إذا أراد بعبد خيرا جعل نوره في قلبه وظاهر جسده كآحاد الناس ، وإذا أراد به سوءا أظهر ما في قلبه على وجهه وجعل قلبه مظلما ، وكان رضي الله عنه يكنس المساجد ، وينظف بيوت الأخلية ، ويحمل الكناسة تارة ، ويخرجها إلى الكوم احتسابا لوجه الله تعالى كل يوم جمعة ، وكان يكنس المقياس في كل سنة ثاني يوم نزول النقطة ، وينفق على أصحابه ذلك اليوم نفقة عظيمة يقبض من عبه الدراهم ، ويعطيها كل من رآه من المستحقين ، ويزن عنهم كراء المعدية ، وهم نحو مائة نفس ثم يفرق السكر ، والخشكنان على أهل المقياس ، وجيرانه ثم ينزل فيكشف رأسه ، ويتوضأ من المقياس ، ويصير يبكي ، ويتضرع ويرتعد كالقصبة في الريح ثم يطلع يصلي ركعتين ، ويأمر كل واحد من أصحابه أن ينزل ثم يكنس السلم بمشط من حديد ، ويخرج الطين الذي فيه بنفسه لا يمكن أحدا يساعده فيه . وكان يقال إن خدمة النيل كانت عليه ، وأمر طلوع النيل ، ونزوله ورى البلاد ، وختام الزرع كل ذلك كان بتوجهه فيه إلى الله تعالى ، وكان أولياء عصره تقر له بذلك . ولما دخل ابن عثمان مصر أرسل له فقيرا ينظركم معه من أصحاب النوبة فذهب ، ورجع فقال معه سبعة فقال ، والله مغفر يرجع إلى بلاده سالما ، وكان سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه إذا جاءه أهل الحوائج الشديدة كشخص رسم السلطان بشنقه أو مسكه الوالي بزغل أو حرام أو نحو ذلك يرسل صاحب الحاجة للشيخ علي رضي الله عنه ، ويقول نحن ما معنا تصريف في هذا البلد فتقضي الحاجة . وجاءته امرأة مرة ، وأنا قاعد فقالت يا سيدي نزلوا بولدي يشنفونه على قنطرة الحاجب فقال اذهبوا بسرعة للشيخ علي البرلسي رضي الله عنه فذهبت إليه أمه فقال : روحي معه ، وإن شاء الله تعالى يلحقه القاصد من السلطان قبل الشنق فهو طالع قنطرة الحاجب للشنق ، وإذا بالشفاعة جاءت فأطلق ، ورأى الشيخ محمد بن عنان رضي الله عنه ليلة بلاء عظيما نازلا على مصر فأرسل للشيخ علي فقال الله لا يبشره بخير ، ولكن توافى البركة فجاء جان بلاط المؤتمر محتسب مصر فأخذ الشيخ عليا من الدكان ، وضربه مقارع ، وخزمه في كتفه ، وأنفه ، ودار به مصر وبولاق فلما صلى الشيخ محمد رضي الله عنه الظهر ، ورأى البلاء ارتفع قال روحوا انظروا أيش جرى للشيخ علي فراحوا فوجدوه على تلك الحال فردوا على الشيخ محمد رضي الله عنه الخبر فقال الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يتحمل عنها البلايا ، والمحن ثم خر ساجدا لله عز وجل ، وكان إذا وقع نوء أيام زهر الفواكه لا ينام تلك الليلة ، وهو يتضرع ، ويبكي ، ويسأل الله تعالى في رفعه ، وكان رضي الله عنه يملأ أوعية الكلاب دائما في حاراته ، وغيرها ، وكان لا يراه أحد قط يصلي الظهر في جماعة ، ولا غيرها بل كان يرد باب حانوته ، وقت الأذان فيغيب ساعة ثم يخرج فصادفوه في الجامع الأبيض برملة لد في صلاة الظهر ، وأخبر الخادم أنه دائما يصلي الظهر عندهم ، وكانت مدة صحبتي له عشر سنين فكأنها كانت ساعة ، وله كلام نفيس رقمنا غالبه في كتابنا المسمى بالجواهر ، والدرر كل جواب منه يعجز عنه فحول العلماء حتى تعجب من كتب عليه من العلماء كسيدي الشيخ شهاب الدين الفتوحي الحنبلي رضي الله عنه ، وسيدي الشيخ شهاب الدين بن الشلبي الحنفي رضي الله عنه ، وسيدي الشيخ ناصر الدين اللقاني المالكي رضي الله عنه ، والشيخ شهاب الدين الرملي الشافعي رضي الله عنه ، وغيرهم وقال الشيخ شهاب الدين الفتوحي رضي الله عنه لي سبعون سنة أخدم العلم فما أظن قط أنه خطر على بالي لا السؤال ، ولا الجواب من هذا الكتاب يعني الجواهر ، والدرر ، وكان له جبة ، واحدة ، وشاش صغير على زنط يغسل العمامة ، والجبة في السنة مرة واحدة بالملح ، ويقول : نوفر الصابون لغيرنا من الفقراء ، وكان إذا اشتهت نفسه الدسم أخذ عظم الأذناب من قاعة العظام ، وصلقها ثم قطف الدهن وكب ماءها ثم طبخ به القمح ، والرز هذا كان لحمه ، ويقول : الأذناب لا تصيبها العيون ، ولا أحد ينظر إليها ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يسمى عالما عندنا إلا من كان علمه غير مستفاد من نقل أو صدر بأن يكون خضري المقام ، وأما غير هذا فإنما هو حاك لعلم غيره فقط فله أجر من حمل العلم حتى أداه لا أجر العالم ، والله لا يضيع أجر المحسنين ثم قال من أراد أن يعرف مرتبته في العلم يقينا لا شك فيه فليرد كل قول حفظه إلى قائله ، وينظر بعد ذلك إلى علمه فما وجده معه فهو علمه ، وأظن أن لا يبقى معه إلا شيء يسير لا يسمى به عالما ، وكان يقول : لا يصير الرجل عندنا مصمودا من أهل الطريق إلا إن كان عالما بالشريعة المطهرة جملها ، ومبينها ناسخها ، ومنسوخها خاصها ، وعامها ، ومن جهل حكما واحدا منها سقط عن درجة الرجال فقلت له إن غالب مسلكي هذا الزمان على هذا ساقطون عن درجة الرجال فقال نعم إن هؤلاء يرشدون الناس إلى بعض أمور دينهم ، وأما المسلك فهو من لو انفرد في جميع الوجود لكفى الناس كلهم من العلم في سائر ما يطلبونه ، وكان رضي الله عنه يقول : في معنى قول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين رأى رب العزة جل جلاله في منامه فقال : يا رب بم يتقرب إليك المتقربون ؟ قال يا أحمد بتلاوة كلامي قال يا رب بفهم أم بغير فهم ؟ قال يا أحمد بفهم ، وبغير فهم المراد بفهم ما يتعلق بعلماء الشريعة ، وبغير فهم ما يتعلق بعلماء الحقيقة فإن العلماء ما لهم آلة لفهم كلام الله تعالى إلا بالفكر والنظر وأما العارفون فطريقهم إلى فهمه الكشف ، والتعريف الإلهي وذلك لا يحتاج إلى تفهم فقيل له فما تقول : فيمن يقرؤه من العوام من غير فهم فقال : قد صح أن له بكل حرف عشر حسنات ، فتحت قوله ، وبغير فهم مسألتان ، والله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا حفت العناية الإلهية عبدا صار كل ذرة من عمره تقاوم ألف سنة من عمر غيره ، وإذا تخلفت العناية عن عبد صار كل ألف ذرة من عمره لا تساوي ذرة من عمر غيره ، وكان يقول : ونحن في سنة إحدى وأربعين وتسعمائة جميع أبواب الأولياء قد تزحزحت للغلق ، وما بقي الآن مفتوحا إلا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلوا كل ضرورة حصلت لكم به صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول : لا يكمل الفقير في باب الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصير مشهودا له في كل عمل مشروع ويستأذنه في جميع أموره من أكل ، ولبس ، وجماع ، ودخول ، وخروج فمن فعل ذلك فقد شارك الصحابة في معنى الصحبة ، وكان رضي الله عنه يقول : لو شهد المعتزل عن الناس أن الناس خير منه ما اعتزل عنهم بل كان يطلب الخلطة بهم ، ويتعلم من أخلاقهم ، وكان يقول : في قولهم بئس الفقير بباب الأمير هذا في حق من يأتي الأمير يسأله الدنيا فإن كان لشفاعة ، ونحوها فنعم الفقير بباب الأمير وكان يقول : من أدب الزائر أن لا يشغل المزور عن الله تعالى بدخوله عليه إما لقوة حال المزور ، وإما أن يكون ، وقت فراغ . قلت ، ويقاس على ذلك تعطيله عن الحرفة التي تكفه عن سؤال الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : أيضا من أدب الزائر أن لا يزور أحدا إلا إن كان يعرف من نفسه القدرة على كتمان ما يرى في المزور من العيوب ، وإلا فترك الزيارة أولى ، وكان رضي الله عنه يقول : سمعت سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول : زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول شجرة الحنظل فكلما ازداد ريا ازداد مرارة ، وكان رضي الله عنه يقول : في معنى حديث ' إن الله يكره الحبر السمين ' أي لأن المراد بالحبر العالم ، وسمنه يدل على قلة ، ورعه ، وعمله بعلمه . فلو تورع لم يجد شيئا في عصره يسمن به ، وكان رضي الله عنه يقول : الراسخ في العلم واقف ، ولو لم يرسخ لدام ترقيه ' وما يذكر إلا أولوا الألباب ' ' البقرة : 269 ' . مرتبته في العلم يقينا لا شك فيه فليرد كل قول حفظه إلى قائله ، وينظر بعد ذلك إلى علمه فما وجده معه فهو علمه ، وأظن أن لا يبقى معه إلا شيء يسير لا يسمى به عالما ، وكان يقول : لا يصير الرجل عندنا مصمودا من أهل الطريق إلا إن كان عالما بالشريعة المطهرة جملها ، ومبينها ناسخها ، ومنسوخها خاصها ، وعامها ، ومن جهل حكما واحدا منها سقط عن درجة الرجال فقلت له إن غالب مسلكي هذا الزمان على هذا ساقطون عن درجة الرجال فقال نعم إن هؤلاء يرشدون الناس إلى بعض أمور دينهم ، وأما المسلك فهو من لو انفرد في جميع الوجود لكفى الناس كلهم من العلم في سائر ما يطلبونه ، وكان رضي الله عنه يقول : في معنى قول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين رأى رب العزة جل جلاله في منامه فقال : يا رب بم يتقرب إليك المتقربون ؟ قال يا أحمد بتلاوة كلامي قال يا رب بفهم أم بغير فهم ؟ قال يا أحمد بفهم ، وبغير فهم المراد بفهم ما يتعلق بعلماء الشريعة ، وبغير فهم ما يتعلق بعلماء الحقيقة فإن العلماء ما لهم آلة لفهم كلام الله تعالى إلا بالفكر والنظر وأما العارفون فطريقهم إلى فهمه الكشف ، والتعريف الإلهي وذلك لا يحتاج إلى تفهم فقيل له فما تقول : فيمن يقرؤه من العوام من غير فهم فقال : قد صح أن له بكل حرف عشر حسنات ، فتحت قوله ، وبغير فهم مسألتان ، والله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا حفت العناية الإلهية عبدا صار كل ذرة من عمره تقاوم ألف سنة من عمر غيره ، وإذا تخلفت العناية عن عبد صار كل ألف ذرة من عمره لا تساوي ذرة من عمر غيره ، وكان يقول : ونحن في سنة إحدى وأربعين وتسعمائة جميع أبواب الأولياء قد تزحزحت للغلق ، وما بقي الآن مفتوحا إلا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلوا كل ضرورة حصلت لكم به صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول : لا يكمل الفقير في باب الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصير مشهودا له في كل عمل مشروع ويستأذنه في جميع أموره من أكل ، ولبس ، وجماع ، ودخول ، وخروج فمن فعل ذلك فقد شارك الصحابة في معنى الصحبة ، وكان رضي الله عنه يقول : لو شهد المعتزل عن الناس أن الناس خير منه ما اعتزل عنهم بل كان يطلب الخلطة بهم ، ويتعلم من أخلاقهم ، وكان يقول : في قولهم بئس الفقير بباب الأمير هذا في حق من يأتي الأمير يسأله الدنيا فإن كان لشفاعة ، ونحوها فنعم الفقير بباب الأمير وكان يقول : من أدب الزائر أن لا يشغل المزور عن الله تعالى بدخوله عليه إما لقوة حال المزور ، وإما أن يكون ، وقت فراغ . قلت ، ويقاس على ذلك تعطيله عن الحرفة التي تكفه عن سؤال الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : أيضا من أدب الزائر أن لا يزور أحدا إلا إن كان يعرف من نفسه القدرة على كتمان ما يرى في المزور من العيوب ، وإلا فترك الزيارة أولى ، وكان رضي الله عنه يقول : سمعت سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول : زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول شجرة الحنظل فكلما ازداد ريا ازداد مرارة ، وكان رضي الله عنه يقول : في معنى حديث ' إن الله يكره الحبر السمين ' أي لأن المراد بالحبر العالم ، وسمنه يدل على قلة ، ورعه ، وعمله بعلمه . فلو تورع لم يجد شيئا في عصره يسمن به ، وكان رضي الله عنه يقول : الراسخ في العلم واقف ، ولو لم يرسخ لدام ترقيه ' وما يذكر إلا أولوا الألباب ' ' البقرة : 269 ' . وسئل رضي الله عنه عن المراد بالسر الذي ، وقر في صدر أبي بكر رضي الله عنه فقال : هو عدم ، وقوفه مع الوسائط فكان مع الله عز وجل ، وكان يرى محمدا صلى الله عليه وسلم طريقا يجري له الخير منها كحكم المريد مع شيخه إذا كمل المريد ، وقد ظهر ذلك السر يوم موته صلى الله عليه وسلم فإنه ثبت ، وخطب الناس وحضهم ، ولم يظهر عليه تأثير كما وقع لعمر رضي الله عنه ، ولغيره من الصحابة ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس لفقير أن يدخر قوت العام إلا إن كان على بصيرة بأن ذلك قوته ، وحده ، وليس لأحد فيه نصيب فإن لم يكن على بصيرة فليس له أن يدخر لأن سبب ذلك إنما هو شح في الطبيعة فإن أطلعه الله تعالى على أن هذا المدخر رزق قوم آخرين لا يصل إليهم إلا على يديه فله الادخار لهذا الكشف . فإن علم أنه رزق قوم ، ولكن لم يطلعه الله على أن ذلك يكون على يديه فلا ينبغي له إمساكه فإن أطلعه الله تعالى على أن ذلك لا يصل إليهم إلا على يديه لكن في زمان معين فهو بالخيار إن شاء أمسكه إلى ذلك الوقت ، وإن شاء أخرجه عن يده فإنه ما هو حارس ، ولا أمره الحق لإمساكه ، وإذا ، وصل إلى ذلك الوقت المعين فإن الحق تعالى يرده إلى يده حتى يوصله إلى صاحبه . قلت ، وهذا أولى لأنه بين الزمانين يكون غير موصوف بالادخار لأنه خزانة الحق ما هو خازن الحق وكان رضي الله عنه يقول : لا تبدءوا أحدا بهدية إلا إن كان فقيرا محتاجا أو لا يتكلف للمكافأة فإن من بدأ من يكافئه أساء في حقه لأنه عرضه لكلفة المكافآة ، وكان يقول : لا تقوموا لأحد من الإخوان ، وغيرهم إلا إذا علمتم منهم عدم الميل إلى القيام فإن من قام لمن يحب القيام كبر نفسه بغير حق ، وأساء في حقه من حيث لا يشعر ، وكان رضي الله عنه يقول : يكفي الفقير في هذه الأيام حجة الإسلام ، ولا ينبغي له الزيادة على ذلك إلا إن كان خاليا من منة الناس عليه لا يطرق عليه قلبه تكدير من التجار الذين لم يحسنوا إليه إذ جاع أو عجز عن المشي ، ونحو ذلك لأن الله تعالى شرط الاستطاعة في الحج نفله ، وفرضه ، وكان رضي الله عنه يقول : في قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ' يدخل فيه العالم أو المسلك إذا لم يعمل بعلمه في نفسه ولكن أفتى ودل الناس على طريق الله عز وجل ، وكذلك يدخل فيه العالم ، والعابد إذا لمس هذا في الدنيا طول عمرهما فلما قربت ، وفاتهما مالا إلى الدنيا ، وأحباها ، وجمعا المال من غير حله فيموتان على ذلك فيحشران مع الفجار الخارجين عن هدى العلماء العاملين . وكان رضي الله عنه يقول : إنما كان مشايخ القوم يجيبون تلامذتهم من قبورهم دون مشايخ الفقهاء في الفقه لصدق الفقراء في اعتقادهم في أشياخهم دون الفقهاء . فلو صدق الفقيه لأجابه الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وخاطبه مشافهة وكان رضي الله عنه يقول : جميع المنافع التي أوجدها الله تعالى في هذه الدار إنما أوجدها بالأصالة لتسبح بحمده ، وأما انتفاع عباده بها فإنما هو بحكم التبعية ، ومن قال بعكس ذلك فهو مكر ، واستدراج وكان يقول : منع قوم التفكر للمبتدئ ، وهو كلام من لا تحقيق عنده ، والحق أنه ينفع المبتدئ لأن القلب أو النفس أو الروح أو السر أو غيرها من المعاني الباطنة يألفون صفاتهم الباطنة فإذا ألفوا التفكر ولد وهما ، والوهم ، ولد خيالا ، والخيال يولد علما ، والعلم يولد يقينا . فلا يزال العبد المتفكر يترقى بهمته ، وفكره حتى يبلغ درجات الكمال فإذا كمل أخذ ما كان يدركه بالفكر من طريق كشفه ، وتعريفه ولا يحتاج بعد ذلك إلى تفكر ، ولو أنه أراد التفكر لم يجد ما يتكفر فيه مع أنه ، في حال كماله يدرك في الزمن الفرد من العلوم ، والمعارف ما لا يعلم ، ولا يوصف ، وكان يقول : ليس لفقير الدخول بنفسه في مواطن التهم بل من شأن الفقير أن يخاف على نفسه من مواطن التهم أكثر مما يخاف من وجود الألم لأن مواطن التهم توجب السقم على القلب . كما توجب الأغذية الفاسدة السقم على البدن لا سيما وأطباء القلوب قليل ، ومواطن التهم كثيرة ، وإن كنت بريا فإنها تحكم عليك كما تحكم الشمس بضيائها وحرها على الأمكنة ، وهي برية من النور ، والحر ، وكان يقول : إنما أبر الحق تعالى بأنه أقرب جار لنا بشارة بإفاضة فضله ، ورحمته علينا قبل كل أحد من الخلق فنحن أقرب إلى عفوه ، ومغفرته ، وفضله ومسامحته لأنه أولى من وفي بحق الجوار ، وإن كنا نحن لم نوف به ، وكان رضي الله عنه يقول : عداوتنا لأفعال من أمر الحق بعداوته عداوة شرعية ، وعداوتنا لذاته عداوة طبيعية ، والسعادة في الشرعية لا في الطبيعة ، وكان رضي الله عنه يقول : كما لم يجب الحق تعالى عبده في كل مسألة كذلك العبد لم يطعه في كل ما أمره جزاء وفاقا ، وكان رضي الله عنه يقول : يجب على الفقير أن يذكر لشيخه أمراضه الباطنة وإن كانت قبيحة ليدله على طريق شفائه منها ، وإن لم يفعل . وترك ذلك حياء طبع فربما مات بدائه لأن حياء الطبع مذموم لكون الإفصاح عن المرض فيه زوال رياستها ، وذمها ، وقع للشيخ زون بهار المدفون بالقرافة بالقرب من سيدي يوسف العجمي رضي الله عنه أنه كان يصعق في حب الله تعالى فتضع الحوامل ما في بطنها من صعقته فحول الله تعالى ذلك إلى حب امرأة من البغايا فجاء إلى الصوفية ورمى لهم الخرقة ، وقال لا أحب أن كذب في الطريق إن واردى تحول إلى حب فلانة ثم صار يحمل لها العود ، ويركبها ، ويمشي في خدمتها إلى أن تحول الوارد إلى محبة الحق بعد عشر شهور فجاء إلى الصوفية فقال ألبسوني الخرقة فإن ، واردى رجع عن محبة فلانة فبلغها ذلك فتابت ، ولزمت خدمته إلى أن ماتت ، وكان رضي الله عنه يقول : كل ما جاءك من الحق تعالى من أمور الدنيا ، والآخرة من غير سؤال أو بسؤال عن إذن إلهي فهو منة من الله تعالى عليك ، ولا حساب عليك بسببه إن شاء الله تعالى بخلاف ما جاء من غير هذين الطريقين ، وكان يقول : ليس مما يصيب الأطفال ، والبهائم من الأمراض كفارة لها لعدم معصيتها ، وإنما هو في البهائم لكونها تطعم ، وتسقى في غير وقته أو غير ما تشتهي أو لا تقتصر في الأكل على الحاجة بل تزيد ثم تستخدم مع ذلك فتتعب أبدانها لا سيما في شدة الحر ، والبرد وأما في الأطفال فلأن الحوامل من النساء ، والمرضعات يأكلن ، ويشربن بشر ، وحرص أكثر ما ينبغي من ألوان الطعام ، والشراب فيتولد في أبدانها أخلاط غليظة مضادة للطباع فيؤثر ذلك في أبدان الأجنة التي في بطونهن ، وفي أبدان أطفالهن من اللبن الذي هو فاسد ، ويكون ذلك سببا للأمراض ، والأعلال ، والأوجاع من الفالج ، والزمانات ، واضطراب البنية ، وتشويه الخلقة ، وسماجة الصورة ثم قال ، ومن أراد السلامة من ذلك فلا يأكل ، ولا يشرب إلا في وقت الحاجة بقدر ما ينبغي من لون واحد بقدر ما يسكن ألم الجوع ثم يستريح ، وينام ويمتنع من الإفراط في الحركة ، والسكون ، وكان رضي الله عنه يقول : في حديث ' إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي ' إنما لم ينفعه بكاؤه ، ولا توبته لأنه لا يمكنه أن يبكي إلا بوجه ، واحد ، وذلك أن له وجهين ، وجه يمد به العصا فلا يمكنه التوبة من هذا الوجه طرفة عين لأن الوجود لا يخلو عن عاص فيكل لمحة ووجه يؤدي منه عبوديته لله عز وجل إذ هو متصرف بمشيئة الله عز وجل في أصحاب قبضة الشقاء ، وكان رضي الله عنه يقول : في قوله تعالى : ' وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ' ' البقرة : 30 ' ، مقاولة الحق تعالى لعباده تخلف باختلاف العوالم التي يقع بها التقاول فإن كان واقعا في العالم المثالي فهو شبيه بالمكالمة الجسمية ، وذلك بأن يتجلى لهم الحق تعالى تجليا مثاليا كتجليه في الآخرة بالصور المختلفة كما نطق به حديث التحول ، وإن كان التقاول ، واقعا في عالم الأرواح من حيث تجردها فهو كالكلام النفسي فيكون قول الله للملائكة على هذا إلقاء في قلوبهم للمعنى المراد ، وهو جعل آدم خليفة في الأرض دونهم ، ويكون قولهم هو عدم رضاهم وإنكارهم الناشئين من احتجاجهم بروية نفوسهم ، وتسبيحهم عن مرتبة من هو أكمل منهم باطلاعهم على نقائصه دون كماله . ثم قال ، ومن أمعن النظر فيما ذكر تفطن لفهم كلام الله تعالى ، وعلم مراتبه وأنه تعالى عين المتكلم في مرتبته ، ومعنى قائم به في أخرى كالكلام النفسي فإنه يركب من الحروف ومعبر عنه بها في عالمي المثال ، والحس . وكان رضي الله عنه يقول : الممنوع من رؤية الجان إنما هو في صورتهم التي خلقهم الله تعالى عليها ، وإذا أراد الحق تعالى أن يطلع أحدا من عبيده على رؤيتهم من غير إرادة منهم رفع سبحانه ، وتعالى الحجاب عن عين الرائي فيراهم ، وقد يأمر الله تعالى الجن بالظهور لنا فيتجسدون لنا فنراهم رأى العين . ثم إذا رأيناهم فتارة يكونون على صورهم في أنفسهم وتارة يكونون على صورة البشر أو غيرها فإن لهم التشكل في أي صورة شاءوا كالملائكة وقد أخذ الله تعالى بأبصارنا عنهم فلا نراهم إلا إذا كشف الحجاب لنا مع حضورهم في مجالسنا ، وحيث كنا ، قال ، وأصواتهم لا تشبه أصواتنا من كل وجه بل هي مختلفة ، وذلك لأن أجسامهم لطيفة فلا يقدرون على مخارج الحروف الكثيفة لأنها تطلب انطباقا ، وصلابة ، وحصول العلم لنا من كلامهم إنما هو لنطقهم بمثال حروفنا لا بحقيقتها هذا حكم كلامهم ما داموا في صورهم الأصلية ، وأما إذا دخلوا في غير صورهم فالحكم للآلة التي دخلوها من إنسان أو بهيمة أو غير ذلك ، وكان رضي الله عنه يقول : من تحقق بكتم الأسرار سمع كلام الموتى ، ورأى ما هم فيه ، وتأمل البهائم لما لم تكن من عالم التعبير كيف سمعت عذاب الموتى وكان يقول : صدقة السر ما جهلت معناه ، ولم يعلم خاطرك ما هو ، والسر يتنوع باختلاف مقامات العارفين فربما يكون سر إنسان جهرا بالنسبة لإنسان آخر ، وكان يقول : إذا توجهت إلى الله تعالى في حصول أمر دنيوي أو أخروي فتوجه إليه ، وأنت فقير ذليل فإن غناك ، وعزتك يمعنانك الإجابة ، وإن كان بالله عز وجل لأن الغنى والعز صفتان لا يصح للعبد الدخول بهما على الله تعالى أبدا لأن حضرة الحق تعالى لها العزة ذلتية فلا تقبل عزيزا ، ولا غنيا ، وهذا أمر من ذاقه لا يمكنه أن ينكره من نفسه ، وكان رضي الله عنه يقول : آفة العقل الحذر ، وآفه الإيمان الإنكار ، وآفة الإسلام العلل ، وآفة العمل الملل ، وآفة العلم النفس وآفة الحال الأمن وآفة العارف الظهور وآفة العقل الجور وآفة المحبة الشهوة وآفة التواضع المذلة ، وآفة الصبر الشكوى ، وآفة التسليم التفريط ، وآفة الغنى الطمع ، وآفة العز البطر ، وآفة الكرم السرف الزائد ، وآفة البطالة الفقر ، وآفة الكشف التكلم وآفة الاتباع التأويل ، وآفة الأدب التفسير وآفة الصحبة المنازعة ، وآفة الفهم الجداد ، وآفة المريد التسلل على المقامات ، وآفة الانتفاع التسلق ، وآفة الفتح الالتفات وآفة الفقيه الكشف ، وآفة المسلك الوهم ، وآفة الدنيا شدة الطلب ، وآفة الآخرة الإعراض ، وآفة الكرامات الاستدراج ، وآفة الداعي إلى الله تعالى الميل إلى الرياسة ، وآفة الظلم الانتشار وآفة العدل الانتقام ، وآفة التقيد الوسوسة ، وآفة الإطلاق الخروج عن الحدود ، وآفة الحديث النقص . وكان رضي الله عنه يقول : إنما سمي المجذوب مجذوبا لأن العبد لم يزل يتعشق حاله ، ويألفه ، ولا ينجذب عنه إلا بما هو أقوى منه وإذا أراد الله تعالى أن يخلص عبدا ، ويستخلصه لنفسه جذبه عما كان ، واقفا معه من أمر الدنيا ، والآخرة فإذا تعشق بما جذبه الحق إليه ثانيا جذبه عنه ثالثا ، وإنما فعل الحق تعالى ذلك لعبده لينبه العبد على أن جميع حركاته معلولة ، وربما زها العبد بالقوة الإلهية التي أعطاها الحق تعالى له فإذا زها العبد قال له الحق ما جذبتك عن ميل منك لي ، وإنما هو لشدة تعشق نفسك لأحوالها الناقصة فلولا وجود الحلاوة ، والالتذاذ في نفسك ما جذبتك فلنفسك سعيت لا لي ، وكان رضي الله عنه يقول : إياك والفرار من حال أقامك الله فيه فإن الخيرة فيما اختاره الله تعالى لك ، وتأمل السيد عيسى عليه السلام لما فر من بني إسرائيل حين عظموه ، وأطروه كيف عبد من دون الله تعالى فوقع في حال أشد مما فر منه . ثم قال وأصل اختيار العبد مع الحق إنما هو لظن العبد أنه مخلوق لنفسه ، والحق تعالى ما خلق العبد إلا له تعالى فلا يعطي تعالى لعبده إلا ما يصلح أن يكون له تعالى ، وكان رضي الله عنه يقول : من علامة العلم الإلهي أن تمجه العقول ، والأفكار ، ولا تقبله إلا بالإيمان فقط ، وذلك لأنه برز من حضرة الموت الأكبر الذي هو موت النفوس ، والنفس تنفر من الموت لأنه يلحقها بالعدم ، وكان رضي الله عنه يقول : من منذ خلق الله العالم ما يحلي قط في جلاله الصرف وإنما تجلى في جلال جماله وكان رضي الله عنه يقول الخلوة بالله وحده لا تكون إلا للقطب الغوث في كل زمان فإذا فارق هيكله المنور بالانتقال إلى الدار الآخرة انفرد الحق تعالى بشخص آخر مكانه لا ينفرد بشخصين قط في زمان ، واحد . قال ، وهذه الخلوة وردت في الكتاب ، والسنة ، ولكن لا يشعر بها إلا أهل الله تعالى خاصة . قلت ، ورأيت هذا بعينه في كلام الشيخ محيي الدين رضي الله عنه أيضا قال : وأما خلوة غير القطب فلا تكون بالله ، وإنما هي لمزيد الاستعداد ، والبعد عمن يشغله عن الطاعات من المخلوقين لا غير ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يكمل إيمان عبد حتى يصير الغيب عنده كالشهادة في عدم الريب ، ويسري منه الإيمان في نفس العالم كله فيأمنوه على القطع على أنفسهم ، وأموالهم ، وأهليهم من غير أن يتخلل ذلك الأمان تهمة . وكان رضي الله عنه يقول : أكمل الإيمان ما كان عن تجل إلهي لأنه حينئذ على صورة إيمان الرسل عليهم الصلاة ، والسلام ، ودونه ما كان عن دليل فلما علم الصحابة رضي الله عنهم أن إيمان الرسل عليهم الصلاة ، والسلام لا يكون عن دليل لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه وذلك لأن حقيقة الرسالة تقتضي أن لا دليل عليها . وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الحق في التوحيد العام كنحن معهم إذ هم مأمورون كما نحن مأمورون إذ هم مقلدون للحق ونحن مقلدون لهم ، وكان رضي الله عنه يقول : من تحقق برتبة الإيمان علم أن جميع المراتب تصاحب رتبة الإيمان كمصاحبة الواحد لمراتب الأعداد الكلية ، والجزئية إذ هو أصلها الذي بنيت عليه فروعها وثمارها ، وكان رضي الله عنه يقول لا يوصف الملأ الأعلى ، والأرواح العلا بأنهم أولياء ، ولا أنبياء كصالحي الآنس ، والجن لأنهم لو كانوا أنبياء ، وأولياء ما جهلوا الأسماء ، وكان رضي الله عنه يقول لا يصح التعبير عن حقيقة الإيمان لأنه شيء ، وقر في الصدر لا يمكن التعبير عنه . قال : وأما ما ورد في السنة من الألفاظ التي تحكم لصاحبها بالإيمان فكلها راجعة إلى التصديق ، والإذعان اللذين هما مفتاحان لباب العلم بالمعلوم المستقر في قلب العبد بالفطرة ، ولذلك لم يسأل أحد من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة هذه الألفاظ ، ولا ناقشوا أصحابها بل أجروا حكمهم على الظاهر ووكلوا سرائرهم إلى الله تعالى هذا بالنظر للعوام ، وإلا فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حارثة رضي الله تعالى عنه عن حقيقة إيمانه ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا سئل أحدكم عن شيخه فليقل كنت خادمه ، ولا يقل كنت صاحبه فإن مقام الصحبة عزيز ، وكان رضي الله عنه يقول إذا كمل توحيد العبد لا يصح له أن يرأس على أحد من المخلوقين لأنه يرى الوجود لله ، وكان رضي الله عنه يقول حقيقة القول بالكسب في مسألة خلق الأفعال أنه يعني بالكسب تعلق إرادة الممكن بفعل ما فيوجد الاقتدار الإلهي عند هذا التعلق فسموا ذلك كسبا للممكن بمعنى أنه كسب الانتفاع به بعد احتياجه إليه ، ثم قال ، ومن حقق النظر علم أنه لا أثر لمخلوق في فعل شيء من حيث التكوين ، وإنما له الحكم فيه فقط فافهم فإن غالب الناس لا يفرق بين الحكم ، والأثر . وإيضاح ذلك أن الله تعالى إذا أراد إيجاد حركة أو معنى من الأمور التي لا يصح وجودها إلا في موادها لاستحالة أن تقوم بنفسها إذ لا بد من وجود محل يظهر فيه تكوين هذا الذي لا يقوم بنفسه فللمحل الذي هو العبد حكم في الإيجاد لهذا الممكن ، وماله فيه ولولا هذا الحكم لكان نسبة الأفعال إلى الخلق مباهتة للحس وكان لا يوثق بالحس في شيء وسمعته مرة يقول ليس للممكن قدرة أصلا ، وإنما له التمكن في قبول تعلق الأثر الإلهي به لأن النعت الأخص الذي انفردت به الألوهية كونها قادرة فإثبات القدرة للممكن دعوى بلا برهان . قلت : وهذا الكلام مع الأشاعرة المثبتين لها مع نفي الفعل عنها . وقلت مرة ذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن مسألة الكسب لا يزول إشكالها أبدا فقال بل يزول إشكالها من طريق الكشف . وذلك أن الله تعالى خالق وحده بإجماع أهل السنة ، وإنما للعبد قبول إسناد العمل إليه لا غير ، ثم قال : ومن أراد زوال اللبس باكلية فلينظر في المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مادة أبدا ، ويتأمل هل هناك أحد يسند إليه الفعل غير الله تعالى فيزول إشكاله ، فإنه لا يصح ، وجود كون هناك يسند إليه الفعل فيسقط قول من قال : لا يوجد لنا قط فعل الله تعالى ، وحده لا بد من مشاركة الكون فتأمل . قلت : وذكر نحو ذلك سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله عنه في الفتوحات ، وكان رضي الله عنه يقول من كمال الرجل أن يحسن إلى أعدائه ، وهم لا يشعرون تخلقا بأخلاق الله عز وجل فإنه تعالى دائم الإحسان إلى من سماهم أعداءه وكان رضي الله عنه يقول : من صح توحيده لله عز وجل انتفى عنه الرياء ، والإعجاب ، وسائر الدعاوي المضلة عن طريق الهدى ، وذلك لأنه يشهد جميع الأفعال والصفات ليست له . وإنما هي لله وحده ، ولا يعجب أحد قط بعمل غيره ، ولا يتزين به ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يصحب كمال الإسلام اعتراض ولا يصحب كمال الإيمان تأويل ولا يصحب الإنسان سوء أدب ، ولا يصحب المعرفة همة ، ولا يصحب الإخلاص في العمل لذة ، ولا يصحب العلم جهل . وكان رضي الله عنه يقول : من ملكته نفسه عذب بنار التدبير ومن ملكها الله تعالى عذب بنار الاختيار ، ومن عجز عن العجز ذوقه الله تعالى حلاوة الأعمال ، وكان رضي الله عنه يقول : من أدرك من نفسه التبديل ، والتغيير في كل نفس فهو العالم بقوله : تعالى : ' كل يوم هو في شأن ' ، وكان يقول : الطلب لا يتعلق إلا بمعدوم ، وكان رضي الله عنه يقول : من علامة فقد النفس في حق الفقير عدم شهوته لشيء من أمور الدنيا والآخرة ، وكان رضي الله عنه يقول : خص بالبلاء من عرفه الناس أو عرف الناس لكن الأول مبتلى بالله تعالى والثاني مبتلى بنفسه ، وكان رضي الله عنه يقول : الإيمان محله الدنيا ، والولاية محلها الآخرة ، وكان رضي الله عنه يقول : لم تثبت السيادة إلا له ، ولم تثبت العبودية إلا لك فالسيد لا يملك ، والعبد لا يملك : وكان يقول : المكاتب قن ما بقي عليه شيء فان ، وفي خرج من رق سيده ، ودخل في رق نفسه ، وإن لم يوف فحاله موقوف ، وخاتمته مجهولة ، وكان رضي الله عنه يقول : العبد يحمل إليه رزقه وهو في رق سيد واحد ، والمكاتب يسعى في طلب رزقه ، وهو في رق ثلاثة سيده ، ونفسه ، ودينه ، وسمعته يقول : من طلب دليلا على الوحدانية كان الحمار أعرف منه بالله ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تنصح من لا يستشيرك ، ولا يسألك إلا إن أعطاك الله تعالى أحد أمرين : إما الكشف التام الذي لا يدخله محو ولا إثبات ، وإما الإلقاء في الروع لأن القصد من استشارة الفقراء إنما هو الكشف عن حقيقة الشيء الثابت لا غير ، وكان رضي الله عنه يقول : الرزق في طلب المرزوق دائر والمرزوق في طلب رزقه حائر ، وبسكون أحدهما يتحرك الآخر ، وكان رضي الله عنه يقول : بقدر غفلتك عنه هنا يطول حضورك معه هناك إلا أنه حضور حساب لا حضور عتاب ، وكان يقول : يحتاج العارف في هذا الزمان أن يحمي نفسه وأخوانه بالحال ، ولو مرة فإن كان ذلك نقصا في الأدب فهو كمال في العلم ، وكان يقول : أخلاق الورثة امتثال الأوامر الإلهية ، وأخلاق كمل المؤمنين اجتناب المناهي ، وأخلاق الشياطين بالضد من ذلك ، وأخلاق الحيوانات بالعكس من ذلك كله فمن لم يعلم حقيقة نفسه فليعلم حقيقة عمله فإن الثوب يدل على لابسه وكان رضي الله عنه يقول : العلوم الإلهية لا تنزل إلا في الأوعية الفارغة ثم أنشد لبعضهم : أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى . . . فصادف قلبا فارغا فتمكنا وكان رضي الله عنه يقول : على قدر استعداد الجسد ينفخ فيه الروح ، وليس الاستعداد إلا العمل ولا الروح إلا المعرفة ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا كثرت منافذ الدار قل أمنها ، وكثر ضوءها ، وكان رضي الله عنه يقول : القفل على الباب ، ومفتاحه عند صاحب الدار ، وصاحب الدار فيها فمن طلب المفتاح ، وصل إلى صاحب الدار ، وإلى المفتاح ، ومن طلب صاحب الدار لم يصل إلى المفتاح ، ولا إلى صاحب الدار ، وسمعته يقول : الفرائض مفتاح ، والسنن أسنان فما نقص من أسنان المفتاح ضر ، وما زاد حكمه كذلك إلا أنه إن قلع لم يضر ، وسمعته يقول : إذا جاء وقت غروب الشمس تأهب الناس إلى منازلهم بأزوادهم ، وما يستضيئون به تذكرة لأولى الأبصار ، وسمعته يقول : لا يعلم بأن الحق تعالى مع كل شيء إلا الإنسان خاصة ، وكان رضي الله عنه يقول : إنما وقع الكفر في العالم مع كون الكفار كلهم كانوا موجودين عند أخذ الميثاق الأول لأن ظهورهم هناك كان على التدريج كظهورهم هنا لكن على غير هذه الصفة كونا ، وزمنا ، والوجود واحد فمن كان موجودا عند أخذ الميثاق الأول آمن بجميع ما آمن به نبيه ، ومن لم يكن موجودا آمن ببعض ، وكفر ببعض قال ، وكان أخذ العهد على الموجودات حال كونها مجسدة روحانية ، ولولا الروحانية ما حصل لها النطق ، والإجابة ببلي فما أجاب منها حقيقة إلا الأرواح لا الأجسام لأن الموجودات ، في الأولية عبارة عن أشباح تتعلق بها أرواح ، ولكن الروح ظاهر على الشبح لا ظهور للشبح معه وسمعته رضي الله عنه يقول : مأثم في الفرق الإسلامية أسوأ حالا من المتكلمين في الذات بعقلهم القاصر فإن الله عز وجل قد تنزه في حمى عزته عن أن يدرك أو يعلم بأوصاف خلقه عقلا كان أو علما روحا كان أو سرا . وذلك لأن الله تعالى ما جعل الحواس الظاهرة ، والباطنة طريقا إلا إلى معرفة المحسوسات لا غير ، والعقل بلا شك فلا يدرك الحق تعالى به لأن الحق ليس بمحسوس ، ولا معلوم معقول وكان رضي الله عنه يقول الأفلاك تدور بدوران القلوب ، والقلوب تدور بالأرواح ، والأرواح ، بالأشباح والأشباح بالأعمال ، والأعمال بالقلوب فرجع الآخر للأول ، وكان رضي الله عنه يقول إياكم ، والوقوع في المعاصي ثم تقولون هذا من إبليس فإن إبليس يتبرأ منكم في مكان يصدق فيه الكذوب ، وذلك حين يخطب في النار ، ويقول في خطبته : ' فلا تلوموني ولوموا أنفسك ' ' إبراهيم : 22 ' يعني ما أغويتكم حتى ملتم بنفوسكم إلى الوقوع في المعاصي : ' وما كان لنا عليكم من سلطان ' ' الصافات : 30 ' يعني قبل أن تميلوا ثم قال ولولا أعيان العصاة طلبت وقوعها في المعاصي ما أقيمت عليهم الحجة فافهم . وكان رضي الله عنه يقول العارفون يعرفون بالأبصار ما تعرفه الناس بالبصائر ، ويعرفون بالبصائر ما لا يدركه أحد غيرهم ، ومن ذلك فهم لا يأمنون على نفوسهم من نفوسهم ، وكان رضي الله عنه يقول ما في القلب يظهر على الوجه ، وما في النفس يظهر على الملبوس وما في العقل يظهر في العين وما في السر يظهر في القول ، وما في الروح يظهر في الأدب ، وما في الصورة كلها يظهر في الحركة ، وكان رضي الله عنه يقول إذا لم تقدر على العدل بين النساء مع نقصهن فكيف تقدر على العدل بين الرجال مع كمالهم ، وكان رضي الله عنه يقول : أرباب الأحوال يعرفون بصفرة الوجوه مع سواد البشرة ، وسعة العيون ، وخفض الصوت ، وقلة الفقه لما يقال لهم ، وسمعته يقول مرة أخرى أرباب الأحوال كالسفن مسرعين سائرين بالهواء إن سكن سكنوا ، وإن سار ساروا ، والعارفون كالجبال ، وسمعته رضي الله عنه يقول : ما دامت العلوم في معادنها فهي واسعة مطلقة لا تقبل تغييرا ، ولا تبديلا فإذا ظهرت مقيدة بالحروف دخلها ما يدخل الكون من التغير ، والتبديل ، واختلاف العبارات ، وكان يقول : شهود الكثرة في الوجود تزيد الجاهل جهلا ، والعالم علما . وكان رضي الله عنه يقول لا تنازع أحدا في طبعه فإنه مملوك لنفسه ، أو للكون وإن كان ، ولا بد فاعرف مالكه ثم نازعه ، وكان رضي الله عنه يقول العلم ، والمعرفة ، والإدراك ، والفهم ، والتمييز من أوصاف العقل ، والسمع ، والبصر ، والحاسة ، والذوق والشم ، والشهوة ، والغضب من أوصاف النفس ، والتذكر ، والمحبة ، والتسليم ، والانقياد ، والصبر من أوصاف الروح ، والفطرة ، والإيمان ، والسعادة ، والنور ، والهدى ، واليقين من أوصاف السر ، والعقل ، والنفس ، والروح ، والسر المجموع أوصاف للمعنى المسمى بالإنسان ، وهي حقيقة واحدة غير متميزة ، وهذه الحقيقة وأوصافها روح هذا القالب المتحرك المتميز ، والجميع روح صورة هذا القالب ، والمجموع من الجميع روح الجميع العالم . قلت : وهذا كلام ما سمعته قط من عارف ، ولا رأيته مسطورا في كتاب ، وهو دليل على علو مقام شيخنا رضي الله عنه في المعرفة . وكان رضي الله عنه يقول العبادات كالحلواء المعجونة بالسم فكما لا ترضي النفس منها بالقليل فتسلم كذلك لا تصبر على فعل الكثير منها فتغنم وكان رضي الله عنه يقول أشد العذاب سلب الروح ، وأكمل النعيم سلب النفس ، وألذ العلوم معرفة الحق وأفضل الأعمال الأدب ، وبداية الإسلام التسليم ، وبداية الإيمان الرضا . وكان يقول : الإيمان يتلون بحسب الجسد ، والجسد بحسب المضغة ، والمضغة بحسب إصلاح الطعمة ، ومن قال بخلاف ذلك فليس عنده تحقيق ، وكان رضي الله عنه يقول علامة الراسخ في العلم أن يزداد تمكينا عند السلب لأنه مع الحق بما أحب لا مع نفسه بما تحب فمن وجد اللذة في حال علمه ، وفقده عند سلبه فهو مع نفسه غيبة وحضورا ، وكان رضي الله عنه يقول من شرط المتواضع أن يغيب عند شهود التواضع ، وكان يقول الطعمة تؤثر في القلب أكثر مما يؤثره السلب ، ولكن إذا استمر توجه القلب إلى الحق في كل حركة وسكون من غير علة فباب الفتح موجود ، ولا بد ما دام العبد متوجها فالمدد فياض ، ويوشك أن يوصل صاحبه لمراتب الكمال . وكان رضي الله عنه يقول يقبح على العبد أن يميل بنفسه إلى خرق العوائد ويألف النعمة دون المنعم فإن الله تعالى ما أعطى عبده النعم إلا ليرجع إليه بها عبدا ذليلا ليكون له ربا كفيلا فانظر بأي شيء استبدلت ربك ' أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ' ' البقرة : 61 ' ثم قال : ' وضربت عليهم الذلة والمسكنة ' ' البقرة : 61 ' أي لأجل اختيارهم مع الله تعالى ثم قال رضي الله عنه الميل إلى كل شيء دون الله تعالى مذموم إلا في حقوق الله تعالى ، ومأموراته فقال له الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى يا سيدي إن كل شيء غير الحق مجهول معدوم إلا الحق فإنه معروف موجود فمن أين جاء للعبد أنه يألف أو يركن إلى الجهل ، والعدم دون المعرفة ، والوجود فقال رضي الله عنه الجهل ، والعدم أصل لظهورنا ، والمعرفة ، والوجود أصل لظهور الحق ، وما حصل بأيدي عباده من المعرفة والوجود ففضل منه ورحمة وما حصل بأيديهم من الجهل ، والعدم فعدل منه ، ونعمة ' ولا يظلم ربك أحدا ثم إلى ربهم يحشرون ' . وسئل رضي الله عنه عن الأكل من الأطعمة المرسلة من بيوت الأصحاب الذين لا يتورعون فقال رضي الله عنه عند العبد لا ينبغي أن يكون له اختيار مع عدم المختار فكيف يكون له اختيار مع وجود المختار ، ولكن إن كنت جائعا صادقا فكل بقدر حاجتك وادفع ما بقي بعد ذلك لمن شاء الله تعالى ، ولا تدبر لنفسك حالا محمودا تخرج عن رتبة التحقيق ، واسأله أن يسترك في الدنيا ، وفي الآخرة بالجود ، والكرم ، وقال له بعض الإخوان دستور يا سيدي إذا مت أدفنك في المقام الفلاني ، وأجعل لك تابوتا ، وسترا فقال رضي الله عنه نحن لا اختيار لنا مع الله في حال الحياة فكيف يكون لنا اختيار بعد الموت . وكان رضي الله عنه يقول : إياكم ، والجزع في مواطن الامتحان يمتحنكم الحق تعالى بأشد من ذلك فقال له الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى : الصبر لا يصح إلا عند حصول الاستعداد ، ومن لا استعداد له فكيف يصبر فقال رضي الله عنه : لا تقيد على الحق فإن الطرق إليه أوسع من مظاهره ، وشؤونه ، وأسمائه ، وصفاته ، والاستعداد طريق واحد ، وكان رضي الله عنه يقول لا يكمل الفقير حتى يحمل كله عن شيخه فإن من رمي أثقاله على شيخه فهو سيء الأدب مع أنه إذا تعود ذلك ألفت نفسه ذلك فينقص استعداده فإذا جاءته صدمة هدت جداره ، وشيخه ليس بمقيم له وكان رضي الله عنه يقول إذا لازمت الأحوال صاحبها حتى غاب معها عن حسه فهو نقص ، وكلما خف الحال ، وأبطأ وجوده كان في حق صاحبه خيرا كثيرا ، وأين الحاضر من الغائب ، وأين الموجود من المعدوم ، وقد حكى أن الشبلي رضي الله تعالى عنه قال ، والحلاج مصلوب سكرت أنا ، والحلاج من إناء واحد فبلغ ذلك الحلاج فقال : لو شرب كما شربت لسكر كما سكرت فقدم الأشياخ كلام الشبلي لصحوه على كلام الحلاج ، وكان رضي الله عنه يقول : الميزان التي يوزن بها الرجال واحدة كميزان الحق تعالى ، وإنما جمعت لتفاوت الموزونات ، وكان رضي الله عنه يقول في تفسير قوله تعالى : ' إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ' ' فصلت : 30 ' الآية المراد بالذين قالوا ربنا الله كمل الأنبياء ، والمراد بقوله ثم استقاموا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد بمن تتنزل عليهم الملائكة عامة النبيين ، وبالذين لا يخافون كمل الأولياء ، وبالذين لا يحزنون عامة الأولياء ، وبالذين يقال لهم : ' وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ' ' فصلت : 30 ' المؤمنون الذين عبدوا الله تعالى طلبا لثوابه ، وسئل رضي الله عنه عن القطب الغوث هل هو دائما مقيم بمكة كما قيل فقال رضي الله عنه عنه قلب القطب دائما طواف بالحق الذي وسعه كما يطوف الناس بالبيت فهو رضي الله عنه يرى وجه الحق تعالى في كل وجهة كما يستقبل الناس البيت ، ويرونه من كل وجهة إذ مرتبته رضي الله عنه التلقي عن الحق تعالى جميع ما يفيضه على الخلق ، وهو بجسده حيث شاء الله من الأرض . ثم قال رضي الله عنه . واعلم أن كمل البلاد البلد الحرام ، وكمل البيوت البيت الحرام لقوله تعالى : ' إليه ثمرات كل شيء رزقا ' ' القصص : 57 ' ، وكمل الخلق في كل عصر القطب ، فالبلد نظير جسده ، والبيت نظير قلبه . وسئل رضي الله عنه عن نزول الناس من الدنيا إلى البرزخ الفاصل بين عالمي الحس ، والبرزخ المطلق في حال اتصال الشاهد بهما فقال رضي الله عنه ' والتفت الساق بالساق ' كالتفاف لا ثم قال إيضاحه خذ من سعة إلى ضيق ثم خط في الأرض بمسلة كان يخيط بها القفاف صورة لا في الأرض ، وقال انظروا إلى هذا الحرف فإنه دال بالتفافه على نفسه صورة ، ومعنى كدلالة الخلق على الحق ، وعكسه فافهم . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى عن قوله تعالى : ' وجعلنا الليل والنهار آيتين ' ' الإسراء : 12 ' فقال رضي الله عنه كمون ، وستر ، والحس أصدق شاهد فقال : سيدي أفضل الدين رحمه الله تم الجواب ، وكان رضي الله عنه يقول ليس للمجاذيب في جنة الأعمال قدم ، ولا مكان مخصوص يرجعون إليه ، ولا قدم في مأكل ، ولا ملبس ، ولا نكاح ، ولا غير ذلك ما عدا المشاهدة فقط للحق فإنهم يشتركون مع أهل الجنة فيها على خصوص ، وصف في المشاهد . ثم قال رضي الله عنه إن السوقة ، وأهل الصنائع ، والحرف أعظم درجة عند الله ، وأنفع من المجاذيب لقيامهم في الأسباب ، وكثرة خوفهم من الله تعالى ، وأكل الفقراء ، والظلمة من أموالهم مع احتقارهم نفوسهم ، ولهم في كل جنة نعيم من الجنان الأربع التي هي جنة الفردوس ، وجنة المأوى ، وجنة النعيم ، وجنة عدن ، وهي المخصوصة بالمشاهدة ، والزيادة . وكان رضي الله عنه يقول : المجاذيب والأطفال في الحالة سواء إلا أن الأطفال يتميزون عن المجاذيب بسريانهم في الجنة كما ورد أنهم دعاميص الجنة أي غواصون فيها . وكان رضي الله عنه يقول : نشأة أهل الجنة مخالفة لنشأة الدنيا التي نحن عليها الآن صورة ، ومعنى كما أشار إليه حديث ' إن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ' وإيضاح ذلك أن حجاب البشرية ما دام موجودا في الشخص فلا يعلم أحوال الجنة لأن الجنة نشأة شهود ، وإطلاق لا حجاب ، وتقييد ، ولذلك كان علم أحوال الجنة خاصا بالعارفين ثم قال رضي الله عنه ، واعلم يا أخي أن الحق تعالى جعل لنا السمع والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس واللذة في النكاح ، والإدراك حقائق متغايرة حكما ، ومحلا مع اتحادها في الباطن لأن الإدراك ليس إلا للنفس ، وهي حقيقة واحدة بمنافذ مخصوصة ، وإنما تنوعت الآثار في هذه الحقائق بتنوع محالها فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الصفات المتغايرة هنا حكما ، ومحلا يقع الاتحاد بينها في الآخرة حكما ، ومحلا فيسمع بما به يبصر بما به يتكلم بما به يذوق بما به يشم وكذلك الحكم في الضد من غير تضاد فيبصر بسائر جسده ، ويسمع كذلك ، ويأكل كذلك ، وينكح كذلك ، ويشم كذلك ، وينطق كذلك ، ويحرك كذلك ، ثم قال رضي الله عنه ، وهذا القدر النزر من أحوال أهل الجنة لا يصح ، وجوده في العقل لأنه محال في عقل من يسمع ذلك فكيف بغير النزر مما هو أعظم من ذلك قال ، ولم أر أحدا تكلم على ما ذكرته غير سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه في تائيته فراجعها . وكان رضي الله عنه يقول : في معنى حديث ' إن الجنة تشتاق إلى أربع عمار ، وعلي ، وسلمان ، وبلال ' إنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأربع لأنهم أرواح الجنان ، وأسماؤهم أشد مناسبة للجنة لأن عمارا رضي الله عنه من العمارة ، وعليا رضي الله عنه من العلو وسلمان من السلامة ، وبلالا من البلل الذي هو الرحمة قال ، وهؤلاء الأربعة هم الموكلون بالأنهار الأربعة المذكورة في القرآن فيغرفون منها بحسب حصة كل أحد ، ومشربه من التوحيد ، واستعداده . وكان رضي الله عنه يقول : كان الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام علة مظهر الأفعال المقابلة لما عليه كمل الأنبياء الذين هم فوقه في الدرجة ، وسئل رضي الله عنه عن طائفة المسلكين كسيدي أحمد الزاهد ، وسيدي مدين وأضرابهما رضي الله تعالى عنهم هل كانوا أقطابا فقال : رضي الله عنه لا ، وإنما هم كالحجاب على الملك فلا يدخل عليه أحد من الناس إلا بإذنهم ، وعلمهم فهم يعلمون الناس الآداب الشرعية ، والحقيقية ، وما يظهر عليهم من الكرامات ، والأحوال إنما هو لصفاء نفوسهم ، وإخلاصهم ، وكثرة مراقبتهم ومجاهدتهم ، وأما القطابة فجل أن يلج مقامها الأحوط غير من اتصف بها قال ، وقد الشيخ عبد القادر الجبيلي رضي الله عنه ، وقال إن لها ستة عشر عالما الدنيا والآخرة عالم واحد من هذه العوالم فقيل له فالتصريف الذي يظهر على أيدي هؤلاء المسلكين هل هو لهم أصالة كالقطب أم لا فقال : رضي الله عنه ليس هو لهم أصالة ، وإنما هو بحكم الإفاضة عليهم من الدوائر التي هي فوقهم إلى القطب ، وإيضاح ذلك أن الله تعالى إذا أراد إنزال بلاء شديد مثلا فأول ما يتلقى ذلك القطب فيتلقاه بالقبول ، والخوف ثم ينتظر ما يظهره الله تعالى في لوح المحو والإثبات الخصيصين بالإطلاق ، والسراح فإن ظهر له المحو ، والتبديل نفذه ، وأمضاه في العالم بواسطة أهل التسليك الذين هم سدنة ذلك فينفذون ذلك ، وهم لا يعلمون أن الأمر مفاض عليهم ، وإن ظهر له الثبوت دفعه إلى أقرب عدد ، ونسبه منه ، وهما الإمامان فيتحملان به ثم يدفعانه إن لم يرتفع إلى أقرب نسبة منهما كذلك حتى يتنازل إلى أصحاب دائرته جميعا فإن لم يرتفع تفرقته الأفراد ، وغيرهم من العارفين إلى عموم المؤمنين حتى يرفعه الله عز وجل بتحملهم . ولو لم يحمل هؤلاء ذلك من العالم لتلاشي في طرفة عين قال تعالى : ' ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ' وقال تعالى : ' خلق السموات بغير عمد ترونها ' إشارة إلى القطب الذي هو العمد المعنوي الممسك للسموات ففيه إشارة إلى خفائه في العالم ، وسئل رضي الله عنه عن كلام بعض العارفين ، وهو أنه ذكر في كتاب له أنه شهد جميع النبيين والمرسلين مجتمعين في محل واحد ، وأنه لم يكلمه منهم إلا هود عليه السلام فإنه رحب به ، وفرح به ما الحكمة في خصوصية كلام هو دله دون غيره ، وفرحه بهذا العارف ، فقال : رضي الله عنه أما خصوصية الكلام فلا يمكنني ذكرها ، أما فرحه فلأن البرزخ قيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالنسبة إلى إطلاق الآخرة ، وما فيها من النعيم فهم ، وإن شهدوا ذلك في البرزخ لا يشهدونه إلا من خلف حجاب بغير ، واسطه جسمهم فإن أجسامهم مقيمة تحت الأرض ، وكمال النعيم إنما هو بواسطة اجتماع الجسم ، والروح معا فكان فرحه عليه السلام بهذا العارف الذي هو من هذه الأمة المحمدية لاستبشاره بانقضاء مدة البرزخ لأن هذه الأمة . آخر من يدخل البرزخ من الأمم ، وقد أخبر هذا العارف عن نفسه بأنه أحد الختمين اللذين يختم الله تعالى بأحدهما ، ولاية الخصوص ، وبالآخر ، ولاية العموم ، وفرح هود عليه السلام بهذا العارف مما يؤيد ختميته فإنه لما رأى أحد الختمين علم قرب انشقاق الفجر الآخروي وخلاصه من قيد البرزخ إلى إطلاق الآخرة . قلت : وهذا الذي أشار إليه السائل ببعض العارفين هو سيدي محيي الدين بن العربي رضي الله عنه . وسئل عن الأحدية ، وسريانها مع شدة ظهورها فقال : ألهاكم التكاثر فافهم ، وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى فقال : هل أكتب ما أجد في نفسي من العلوم فقال : إن صحبك ذلك عند انفصام تنزله فاكتب ، وإن عجزت عن التعبير عنه فلا تتكلف له عبارة ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يحتاج السالك إلى الواسطة إلا ، وهو في الترقي فإذا وصل إلى معرفة الله عز وجل فلا يحتاج إلى واسطة ، ثم قال رضي الله عنه ، وإيضاح ذلك أن الداعي إلى الله عز وجل من بني أو ولي واسطة بين العبد ، وبين الله تعالى في الدعوى إلى الله تعالى لا إلى نفسه فإذا وقع الإيمان الذي هو مراد الله تعالى من عباده ارتفعت واسطة الرسول ، والولي عن القلب حينئذ ، وصار الحق حينئذ أقرب إلى المدعو من نفسه ، ومن رسوله ، وما بقي للرسول إلا حكم الإفاضة على العبد من جانب التشريع ، والاتباع ، ثم قال ، وانظر إلى غيرة الحق تعالى على عباده بقوله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ' وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ' فأضاف عباده إليه ، وأخبر أنه أقرب إلينا من أنفسنا ، ومن رسولنا الذي جعله واسطة بيننا وبينه مع أنه مدحه حتى كاد أن يلحقه به لما هو عليه من الكمالات ثم إنه تعالى قال له ' ليس لك من الأمر شيء ' فأخرجه من الخلق ، ونفاه منهم ، وأثبته معهم فافهم وسئل رضي الله عنه هل يصح تعلق الذات بصفاتها فقال : لا فإن الصفات معدومة الظهور عندها لعدم من يتعلق بها من الخلق ' كان الله لا شيء معه ' فما ظهرت الصفات إلا بوجود الخلق فقيل له فهل يصح تعلق الذات بالعلم فقال : رضي الله عنه العلم من لازمهم ، وهو لا يحيط إلا بالصفات إذ هو من جملتها . وكان رضي الله عنه يقول : إذا بلغ العارف مقام الكمال فليس له الاستناد لغير ما يظهره الله فيه من العلوم فإن روحك أقرب إليك مما تنقل عنه ، وهذا أمر لا يعرف إلا بالذوق ، وكان رضي الله عنه يقول : من علامة المتسلق على مقام العارفين أن يحصل له الخشوع والشهود في حال ذكره ثم إذا فرغ يذهب ذلك مع الذكر ، وحكم ذلك كالرطب المعمول يتغير بسرعة . وسأله سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى عن القساوة التي يجدها في قلبه فقال رضي الله عنه اشكر الله تعالى حيث ستر عنك حالك لتكون عبدا له صرفا لا عبد خشوعك ، وحضورك فقال : وأنا إن شاء الله تعالى عبد له صرفا مع ذلك ، ومع غيره فقال صحيح لكن الامتحان آفاته كثيرة ، والمحبوب عند الله من ادخر له ما وعده به على أعماله إلى الدار الآخرة ، وخرج من الدنيا برأس ماله كاملا من غير خسارة ، ثم قال رضي الله عنه إياك ، وكل شيء ألفته نفسك فإن السم فيه ، ولا بد لنفوذ السم من معين ، ولا معين له إلا النفس . وانظر إلى قوله تعالى لآدم ، وحواء : ' ولا تقربا هذه الشجرة ' ' البقرة : 35 ' مع علمه بها حال علمه بالأسماء فلما أراد الله تعالى نفوذ قدرله ألف بينه ، وبين من كان سببا في أكله ، وليست إلا نفسه التي حواء مظهرها فما نزل به البلاء إلا منه ، وبه ، وكان رضي الله عنه يقول إذا نظرت الوجود فرد شيء فلا تعبر عن شيء لأن التعبير يفصل . وشكا إليه أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى مرة ما يقع له من كثرة النوم فقال رضي الله عنه لا تلتفت إلى شيء دون الله تعالى فإن من وقف مع الأسباب أشرك مع الحق وفي لمحة تقع الصلحة فقال : له أيضا يقع لي كثيرة السهر والقلق في بعض الأوقات فقال له : إن كان في فكر في المصالح فمدد ، وخير كبير ، وإن كان السهر مع الغفلة فبلاء نزل يوزعه الله على المؤمنين حتى يرتفع . وكان رضي الله عنه يقول : القمر آية شهود لدلالته على ظهور الأحدية ، وسريانها ، والشمس آية علم لدلالتها على ظهور الوحدانية ، وإحاطتها بتكثرها ، وكان رضي الله عنه يقول : إياكم ، والطواف بالليل فقال : أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى : إن كثيرا من الناس يطوفون ليلا فقال هم معذورون ولكن ' هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ' ' الزمر : 9 ' فقال : لا ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا كنت مؤمنا وسمعت أنه تعالى يمدح المؤمنين فلا تبادر إلى كونك مؤمنا ، وتأمل قبل ذلك هل أنت على ما وصف الله به المؤمنين من الصفات التي مدحهم عليها أم لا ثم ، إن كنت على ما وصف فهل تموت على ذلك أم لا فإن علمت أنك تموت على ذلك فقد أمنت مكر الله ' فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ' ' الأعراف : 99 ' وإن علمت أنك تموت على غير ذلك فقد أيست من رحمة الله و ' لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ' ' يوسف : 78 ' فكن بين الخوف ، والرجاء فإنه الصراط المستقيم ، وسمعته مرة يقول : كل وصف ونعت محمود فباطنه ذم وتخويف ، وكل وصف ، ونعت مذموم فباطنه مدح ، ورجاء لمن استبصر هكذا حكمة الله في كلامه فافهم ، وكان رضي الله عنه يقول : في قوله صلى الله عليه وسلم : ' يحشر المرء على دين خليله ' النفس أقرب خليل إليك فانظر كيف تكون فإن من هنا جاء البلاء ، والخوف فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكان رضي الله عنه يقول لا تأكل قط طعام أحد إلا إن كنت وليه في التربية أو من أهل آية ' ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ' فإن كل لقمة نزلت في جوفك نقصت من عبوديتك بقدرها : واسترقتك لصحب تلك اللقمة ، وكان رضي الله عنه يقول : الأفعال المحمودة إذا رجع نفعها إلى صاحبها فاض منه على الكون لكن أكثر النفع نفع للعامل والأفعال المذمومة إذ وقعت رجع جزاؤها عاما ، ولو أنه رجع خاصا لأهلك العاصي لوقته ، وساعته فلذلك ، وزعه الله تعالى على المؤمنين ، وفتح للعاصي باب التوبة ببقاء روحه ، ثم قال : وقد يثقل الله تعالى البلاء على العاصي حتى يرجع عما هو عليه أو لتذهب به يد الشقاء حيث أراد الله عز وجل وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى عن نور البرزخ لم كان كثيفا ، ولم يكن شفافا كهذه الأنوار فقال : إنما كان كثيفا لأنه نور أعمال الجوارح في الدنيا ، والجوارح ، والدنيا كثيفان ، وأيضا فإن الأنوار تصير في محل الظلمة كثيفة لأن البرزخ ، واحد بسيط ، وليس فيه كثرة مباينة ليتميز بالنور الشفاف وكان رضي الله عنه يقول من قرب من أخلاق رسوله كان له الإطلاق ، والسراح في البرزخ تبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فيجتمع كلما شاء بمن شاء من أصدقائه ، وغيرهم ، وأما من بعد من أخلاق رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالأفعال الرديئة فإن شاء الله تعالى أطلقه ، وإن شاء قيده فلا يصح له الاجتماع بمن يريد ، وكان رضي الله عنه يقول الأفعال ، والأحوال المحمودة هي المدبرة للفلك ثم إن الأمداد تنزل على الخلق بحسب رتبتهم ، وكثرة نصحهم فمن كانت أعماله متقنة كاملة كان دوران الفلك في حقه أسرع ثم تضاعف له الحسنات بحسب كثرة النفع ، ومن كان تاركا للأسباب دار الفلك بنصيب غيره ولم يحصل له شيء من الأمداد لأنه لم يعمل ، ومن لا عمل له لا أجرة له ثم قال رضي الله عنه لكن لا يخفي أن الحق تعالى لا نسبة بيننا ، وبينه في العطاء عنده لبراءته عن أن ينفصل عنه شيء لنا أو يتصل به شيء منا ، وإنما الأمر راجع منا لنا بحسب أعمالنا ، وهو الغني الحميد ، ومن هنا كان عتب الخضر على موسى حين أقام الجدار من غير أجر لعلمه بهذا الأمر فأراد الخضر عليه السلام أن يفتح لموسى باب الاكتساب ليجمع له بين مرتبتي الكسب ، والوهب فلهذا قال تعالى : ' بلى عبدنا خضر أعلم منك ' وسمعته رضي الله عنه يقول الفائدة في مصاحبة الكمل مجهولة لأن رتبة الكامل التي أقامه الحق فيها هي للحق لا للعبد ، والعبد لا تعرض عنده على سيده في شيء فهو لا يشفع ، ولا يدفع ، ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن من الله تعالى مخصوص ، وأني له بذلك ، والرسالة قد انقطعت فإن أمر الكامل بالتنزل للتلامذة نفع ، وشفع ، وأعطى ، ومنع وإلا فهو مع الله تعالى دائما على قدم الخوف لنظره إلى عالمي المحو والإثبات ، وخاتمة العبد المدعو مجهولة على العارف . وإيضاح ما ذكرناه أن المصاحبة تقتضي الميل إلى الصاحب ، والميل إما لإثبات أو نفي ، وكلاهما ممتنع في حق العارف الكامل ، وكان رضي الله عنه يقول لا يلزم من تربية العارف لتلميذه أن يرثه ذلك التلميذ لأن التربية حقيقة لله يورثها من يشاء من عباده ، وكان يقول الألوهية مطلقة قابلة للجمع بين الضدين من غير ضد فإنها قبلت التسمى بالرحمن كما قبلت التسمى بالمنتقم وليست الألوهية أولى باسم المنتقم مثلا من غيره كما أن أمره تعالى ليس أولى من نهيه في النفوذ ' إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ' . وكذلك حكم العكس فهو يقول يا عبدي أفعل فإنك عبد مأمور مأجور ، ولا تشهد الفعل لك فإن الفعل لي ، وأنت محدث متردد بين العدم ، والوجود ، وأنا الفعال لما أريد بفعلك لي وفعلك لك لأني غني عنك ، وعن فعلى فيك ولك وبك فإن شهدت الفعل لك فأنت مشرك ، وإن تفعل فأنت كافر فاحذرني ، وافعل كل ما أمرتك به ولا تنسب لنفسك قولا ، ولا فعلا ، وأنا الخلاق العليم ، وسئل رضي الله عنه عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، بالألفاظ المطلقة ، والألفاظ المقيدة أيهما أولى في حقه صلى الله عليه وسلم ، وهل الإطلاق الذي يعتمده المصلي في صلاته النبي صلى الله عليه وسلم ، مطلق عند الله أم لا ، وهل التقييد الذي يتبرأ منه المصلي هو مقيد عند الله أم مطلق فقال : رضي الله عنه للسائل لا تستعمل نفسك في شيء من حيث نظرك في إطلاقه أو تقييده فإن الإطلاق غايته التقييد كما أن التقييد غايته الإطلاق مع علمنا بأن الأحوال الموصوفة بالإطلاق أو التقييد غير مفتقرة إلى وصفنا لها مطلقا لاستغنائها بصفاتها الذاتية التي جعلها الحق حدا لها تتميز به عن غيرها ، ونحن لا اطلاع لنا على حقائق الذوات لنعرف ما تستحقه من الصفات المقتضية لذلك أو لغيره ، وكيف يمكن لأحد إيجاد العدم ، وقيامه بالوجود ، وذلك خصيص بالجناب الإلهي أم كيف يحكم على الصفات التي هي أعراض ببقائها زمانين في عرض آخر فكيف بقيامها في جوهر واحد فإذا قال : المصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، اللهم صل على سيدنا محمد عدد ما كان ، وعدد ما يكون ، وعدد ما هو كائن في علم الله فقد استغرق هذا اللفظ العدد ، والمعدود حسا ومعنى ، واستغرق أيضا الزمن المطلق بأقسامه ، واستغرق جميع المتخيلات المضافات إلى القدرة ، والعلم وإذا كان المصلي لا يساوي رتبة هذا العموم ، والشمول لضيقه ، وحصره ، وتقييده فكيف يظهر عنه إطلاق والأعمال كلها لا تكون إلا على صورة عاملها . كما أشار إليه حديث ' الولد سر أبيه ' فمن علم ما ذكرناه ، وتحققه علم أنه لا يظهر له عمل ، ولا صدقة ، ولا صلاة ، ولا قراءة ، ولا وصف من الأوصاف إلا بحسب استعداده في ذلك الوقت ، وبحسب رتبتة في التوحيد إطلاقا ، وتقييدا سواء كان ذلك اللفظ مطلقا أو مقيدا فلا تتعب نفسك يا أخي في شيء وصل عليه كما أمرك الله تعالى أن تصلي عليه لتكون عبدا محضا أمرك ربك بشيء امتثلت أمره ، وليكن هذا شأنك في جميع عبادتك البدنية ، والقلبية ، وكان رضي الله عنه يقول التفكر ، والتدبر من صفات العقل الذي جعله الله تعالى آلة يقطع الإنسان بحدها كل شيء والقلب ، وعاء الكل ، وإصلاح الأطعمة أصل ذلك ، وغيره فإن الإناء إذا كان شفافا كزجاج ، وبلور وياقوت ظهر ما فيه على صورة الإناء ، ولونه من استدارة ، وتربيع ، وغير ذلك ، وإذا كان الإناء غير شفاف كالخشب ، والحديد ، والفخار ، وغيرها لم يظهر لما فيه صورة ، ولا لون ، ولا يعرف له حقيقة ثم إن هذه الآلة إذا طبع فيها الخير أو الشر مكث ، ودام ما لم تتغير النشأة من أصلها ، وطبعها وهذا غير ممكن لأن الحقائق لا تبدل ، ولأن القدرة إنما تتعلق بتغير الصور قبل كمال تكوينها قال وهذا سر من لم يشهده لم يعرفه فعلم أن القلب إذا كان متحققا بصفة ما فما فيه كذلك لأن القلب دائما له الحكم على الجسد ، والروح ، وصفاتهما كما أنه كذلك محكوم عليه بإصلاح الأطعمة . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : ' إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ' فتأمل كيف أتي بلفظ كل التي تقتضي العموم ، والشمول تعرف ما ذكرناه . ومن كلام سيدي أحمد بن الرفاعي رضي الله عنه إذا صلح القلب كان بيت الله ، ومهبط الوحي ، والأنوار ، وإذا فسد كان بيت الشيطان والهوى ، والظلمة انتهى فالبيت لا يقبل إلا مشاكله فافهم ، وكما أن الأحرف ، وعاء للمعاني فكذلك القلب ، وعاء للحق ، والشرع ، والنور كما أن الحرف إذا تغير بعض صورته أو نقطه فسد المعنى كذلك القلب إذا لغير بعض صورته ، وصفته فسد ما فيه ، وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى ، وأنا حاضر عن لذة العلوم عند إيجادها في القلب قبل أن توجد في النفس هل هي مغيبة للإنسان عن حسه كما هو الأمر في النفس فقال رضي الله عنه إذا كان القلب يسع علم الحق كما ورد فكيف لا يسع علم غيره فقال له أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى عالم الغيب أوسع من عالم الشهادة فقال : هو أوسع عينا وأما الشهادة فهي أوسع حكما ، والحكم لا يفترق العين كما لا يفترق لا إله إلا الله من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أخي المذكور فما الحكم في الإفاضة على النفس قال الشيخ رضي الله عنه هو بحكم استعدادها وقربها من عالمها الأول أو بحكم تقييدها ، وعدم استعدادها ، وبعدها عن عالمها فقال له أخي المذكور لا بد من الفرق قال الشيخ رضي الله عنه فرق بلا فرق كخطاب قلبك لنفسك ، وأنت أنت ، وهما عين أينيتك فافهم ، وسئل رضي الله عنه عن العلوم المتولدة عن الفكر هل هي مستقيمة نفسها أم لا ؟ لا فقال رضي الله عنه الحكم في ذلك للوقت فهو علم الوقت يذهب بذهابه ، والذهاب عدم ، والعدم لا حكم له ، ولا عليه فقال له أخي أفضل الدين رضي الله عنه ، وكان حاضرا هذا إذا كان الفكر بتفكره هو أما إذا كان الفكر عن وقع القلب في الوقت فذلك إلهام فعال بشرطه انتهى ، ومعنى قوله بشرطه أن يخرج صاحب الإلهام عن مواطن التلبيس ، والله أعلم ، وسئل رضي الله عنه عن بقاء العلوم في لوح النفس ، وعن إدراكها مع كثرة ، واردات العلوم الفياضة على القلب فقال رضي الله عنه بقاء العلوم محفوظ في الصورة التي ظهرت عنها أعمالا كانت أو أقوالا أو أنفاسا ، والإدراك لها يكون بالصفاء الذي هو نور القلب المطلق ، وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى ، وأنا حاضر عن قولهم العلم قد يكون حجابا ، والجهل قد يكون علما فقال رضي الله عنه أما كون العلم حجابا فلأن العلم صفة ، وركونك إليه صفة والصفة مع أختها لا توجب نتيجة كحكم الأنثى إذا اجتمعت مع الأنثى ، وأما كون الجهل علما فهو كونك جاهلا بحقيقة نفسك متحيرا في حقيقتها فسمى جهلك بذلك علما ، ومن هنا قال الأشياخ سبحان من جعل عين المعرفة به عين الجهل به ، وذلك لعدم الإحاطة ، ولا يخرج العبد عن الجهل بالله إلا إن أحاط به . وسئل وأنا حاضر عن التفكر في القرآن هل هو كالتفكر في غيره فقال رضي الله عنه الأمر راجع إلى قوة الآلة في القطع ، وصلابة المقطوع ، ولينه . وسئل رضي الله عنه عن قوله تعالى : ' أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن ' ' القصص : 57 ' هل هذا الرزق لكل من دخل مكة أو هو خاص بقوم دون آخرين فقال رضي الله عنه الرزق عام لكل من دخل مكة من المسلمين بحسب استعداده لكن لا يصح تنزل هذا الإمداد على قلب إلا بعد تجرده عن حسناته ، وسيئاته . كما أشار إليه خبر ' من حج ، ولم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ، ولدته أمه ' فيولد الداخل هناك ، ولادة ثانية ، ومن تأمل بعين البصيرة هناك ، وجد حسناته ذنوبا بالنسبة لذلك المحل الأكمل فقال له أخي أفضل الدين رضي الله عنه ، وكان حاضرا التجرد عن السيئات قد عرفنا أن محله جبل عرفة فأين يكون التجرد عن الحسنات فقال رضي الله عنه هو بحسب المراتب ، ولا أظنه إلا في باب المعلاة فقال : له أخي أفضل الدين الذكور رحمه الله إن غالب الحجاج لا يتجردون مما ذكر فقال رضي الله عنه يتجردون ، ولكن لا يشعرون كما يشعر به العارفون فقال له أخي المذكور فمتى يكون اللباس فقال : رضي الله عنه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، وذلك ليظهر الحق تعالى كرمه ، وآثاره نعمته على أمته بحضرته حتى تقر بذلك عينه صلى الله عليه وسلم ، فقال له أخي المذكور كثيرا ما يرجع بعض الحجاج عريانا بلا كسوة فقال رضي الله عنه هذا لا يقع إلا لأصحاب الدعاوي الذين يظنون بأنفسهم الكمال ، وأنهم أتوا بالمناسك على وجه الكمال دون غيرهم فنسأل الله العافية ، ومثل هذا هو المراد بقولهم إذا حج جارك حول باب دارك للمقت الذي حصل له هناك ثم قد يتفضل الحق تعالى عليه ، ويرسل له الخلعة إلى بلاده بواسطة انكسار قلبه أو بواسطة دعاء والديه ، وإخوانه ، ونحو ذلك . وسئل رضي الله عنه عن قطب الغوث هل له فعل خرق العوائد من طي الأرض ، ونحوها فقال رضي الله عنه قد تحكم عليه المرتبة بفعل ذلك وإذا حكمت المرتبة على كامل بشيء فلا تؤثر في كماله رضي الله عنه سواء كان قطبا أو غيره ، وكان رضي الله عنه يقول المراقبة الصحيحة لله تعالى تنشأ من إصلاح الجسد بواسطة القلب ، وإصلاح القلب يكون بإصلاح الطعمة وإصلاح الطعمة يكون بالكسب في الكون مع التوكل على الله عز وجل ، والتوكل حقيقة هو المراقبة ، وذلك يكون من الله تعالى ابتداء ، ومن العبد في النهاية اكتسابا فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : ' أفلا أكون عبدا شكورا ' ولم يقل شاكرا إذ هو بتحققه بالعلم يكون شاكرا ، ولا يكون شكورا إلا بتخلقه بالعمل وفرق كبير بينهما ، وكان رضي الله عنه يقول التجريد عن رؤية الأسباب خاص بعالم الخيال ، ولذلك كان العلم والتجريد عن الاكتساب خاصا بعالم الشهادة لأنه أفاد العمل ، وحقيقة الجمل ظهور صورة العلم لا غيره فقال له أخي أفضل الدين رضي الله عنه فإذا كان الأمر كذلك فما الفرق بينهما قال تعلمه كما علمت بالله كل شيء ، وأنا ، وأنت غير محتاجين إلى البيان ، والقلوب لا تمسك مثل ذلك لأنه غير مألوف في الحديث ' إن من البيان لسحرا ، والله يحب من عباده الستيرين ' فاحتفظ يحفظك الله وسمعته مرة يقول كما حكمت الذات على نفسها بالوجود المطلق فيجب على غيرها أن يحكم على نفسه بالعدم المطلق قال ومن هنا تعلم الفرق بين الألوهية ، والربوبية وبين العبد ، وعجزه ، وبين الرب ، وقدرته ، وتعلم أيضا الفرق بين الروح ، والجسد ، والفرق بين توحيد الأكابر من الرجال ، وتوحيد غيرهم ، وهو من أوضح الفروق وأجلاها . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله ، وأنا حاضر فقال رأيت كأني ميت ، وأنا أغسل جسدي حتى فرغت ثم حملت نصفي الأسفل ، وأنت يا سيدي حملت نصفي الأعلى ثم سألت نفسي عوضا عن الملكين فقال الشيخ رضي الله عنه أنت مقصر لم لا تحمل نفسك كلها فتكون كاملا تقاتل عن نفسك بالمدافعة ، وشيخك يساعدك إن شاء الله تعالى ، وتأمل في حديث ' أعني على نفسك بكثرة السجود ' . وأما سؤالك نفسك عوضا عن الملكين فهو صحيح فإن السؤال حقيقة إنما ثمرته ، وفائدته للملكين لا لك لأنك لم تزدد بسؤالهما علما عما كنت عليه ، وكان رضي الله عنه يقول لا يخرج أحد من الدنيا حتى يكشف له عن حقيقة ما هو عليه ، ويتساوى مع أهل الكشف إنما هو تقديم ، وتأخير ثم قال رضي الله عنه ، وأما نحن فلا كشف لنا محسوس ، ولا حس معقول ، ولا عقل ، ولا نقل ، ولا وصف إلا العقل الملازم لنا في رتبة الإيمان العاري عن الدليل بالمدلول . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى ، وأنا حاضر فقال ؛ له إذا كان العبد على يقين من الأمان من سوء الخاتمة هل عليه ضرر فقال رضي الله عنه الخوف من لازم كل مقرب لأن غاية يقينه لا يتعدى نفسه ، ولا يمكنه العلم بتعيين الحق تعالى فيما يحكم فيه فإذا ما علم إلا حال نفسه في ذلك الوقت فقط دون ما قبله ، وما بعده وعلم الوقت ضرورة يذهب بذهابه ، ولا تقييد على الحق تعالى فيما يفعل بل ، ولو كلمك تعالى ، وأقسم بنفسه على ذاته أنك سعيد فلا تأمنه فإنه واسع عليم ' كل يوم هو في شأن ' ' الرحمن : 29 ' ولولا الأدب لقلنا كل نفس له شئون إن كنت قلته فقد علمته وهو على كل شيء رقيب . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله مرة عن التوحيد فقال : الشيخ رضي الله عنه هو عدم فقال له أخي المذكور بل هو وجود فقال وجود فقال له فإذا العدم وجود ، والوجود عدم فقال رضي الله عنه نعم فقال له أخي المذكور فانعدم العدم لأنه عدم ، والعدم لا كلام فيه ، ولم يبق إلا الوجود كما كان ، وهو الآن على ما عليه كان فقال : رضي الله عنه نعم ' إنا لله وإنا إليه راجعون ' ' البقرة : 156 ' فهو تعالى الموحد نفسه بنفسه لنفسه حقيقة ، والخلق لهم الإيمان ، والتصديق لا غير . وسأله أيضا ، وأنا حاضر عن الاسم ، والرسم هل هما حرفان أو حرف ، ومعنى ؟ فقال رضي الله عنه المعنى لا يقوم إلا بالحرف ، والحرف قائم بنفسه فهو غني عن المعنى كما أشار إليه قوله تعالى : ' يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ' فاسم الله الأول هو المعنى ، واسم الثاني هو الحرف لأنه قال فيه ' وهو الغني الحميد ' ثم قال رضي الله عنه ، ولا أعلم الآن أحدا في مصر يعلم هذا العلم غير قائله فالحمد لله على كل حال ، وسمعته رضي الله عنه يقول إذا صادمكم أحد من أرباب الأحوال من أصحاب النوبة فلا تستعينوا عليه إلا بالله تعالى أو برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم يرجعون عنكم إجلالا لله تعالى ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والزموا الأدب معهم ظاهرا ، وباطنا ، ولا تخرجوا قط من سور بلدكم إلى حاجة حتى تستأذنوهم بقلوبكم فإنهم يحبون من يراعي الأدب معهم ، وربما صدموا من خرج غافلا عن مراعاتهم فيحصل له الخراب في باطنه حتى يكاد أن يهلك لا يهتدي أحد من الأطباء إلى دوائه كما جربنا لك . وسمعته رضي الله عنه يقول لأخي أفضل الدين رحمه الله تعالى إياك أن ترق لمن أفقره الله تعالى من الدنيا بعد غناه فتعطيه أكثر من قوت يومه فإن الله تعالى ما أفقره إلا لحكمة بالغة ، وربما عاقبك الحق تعالى بنظير ذلك كما نقلت بنفسك ما أراد الله تعالى لذلك العبد فتقلق فإنه لا يثبت مع الحق إذا نقله مما يحبه ، ويرضاه إلى ما يحبه تعالى ، ويرضاه إلا الكاملون المكملون ثم إنه تعالى إذا عفا عنك ، ولم يعاقبك بنظير ما فعل بذلك العبد فلا تعلم أنه استدراج أم لا فإن كان استدراجا هلكت مع الهالكين ، والغالب أنه استدراج لأنه تعالى حذرك من ذلك ، وما حذرك إلا من موجود تقع فيه ' وما يعقلها إلا العاقلون ' ' العنكبوت : 43 ' . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى مرة عن المسببات هل لها أسباب مخصوصة لا تقبل غيرها أم لا فقال له ما مذهبك أنت فقال مذهبي أن الأسباب كالمرائي المجلوة القابلة لظهور الصور ، والمرآة الواحدة تعطي الصور حقها من الظهور ، وتقبل كل ما ظهر فيها من لطيف ، وكثيف والأعيان التي هي المسببات مرآة واحدة غير منقسمة ، ولا متناهية ، ولا متكثرة في الحقيقة وإنما هي انطباع أسماء المتجلي فيها ، وصفاته فالتنوع من المتجلي لا من غيره قال تعالى : ' وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ' فقال الشيخ رضي الله عنه ، وهو مذهبي . وسأله أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يوما وأنا حاضر على باب حانوته عن تفسير ' إذا الشمس كورت ' فقال رضي الله عنه اللسان في هذا الوقت عاجز عن البيان باللسان المألوف فقال له أخي المذكور قل ما تيسر فقال رحمه الله أكتب في ورقة ' إذا الشمس كورت ' بطنت ، وباسمه الباطن ظهرت ، ولم تظهر ، ولم تبطن ' إنك لعلى خلق عظيم ' وانقست بعد ما توحدت ثم تعددت ، وانعدمت بظهور المعدود ' والقمر إذا تلاها ' ثم تنزلت بما عنه انفصلت لما به اتصلت ، واتخذت ' والنجم إذا هوى ' ثم تنوعت بالأسماء ، واتحدت بالمسمى ، وظهرت من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، ثم رجعت إلى نحو ما تنزلت ' ولولا دفع الله الناس بغضهم ببعض لفسدت الأرض ' ' البقرة : 251 ' وبالجبال سكن ميدها ، وميدها هو فسادها ثم اتصفت وبعدت بما وصفت عما به اتصفت ، وما اتصفت إلا لما خلقت ، وانحرفت فحشرت ، وبأعمالها انحشرت ، ولوحوشها اتحدت ' كل ميسر لما خلق له ' ' قل كل يعمل على شاكلته ' ' الإسراء : 84 ' ثم انعدم التقييد بوجود الإطلاق ، وانخرق الحجاب ، وتعطلت الأسباب فطلبت القلوب ظهور المحبوب ليكون معها كما كان يوم يأتيهم الله في ظلل من الغمام ' وإذا النفوس زوجت ' ' التكوير : 7 ' وبزوجها تعلقت ولجها تشوقت ، وبحقيقتها اتصلت ، وبمظاهرها تعددت ، وبها تنعمت ' والتفت الساق بالساق إلى ربك يؤمئذ المساق ' ' القيامة : 29 و 30 ' ' وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ' والروح لم تقتل لأنها حية ، وإن قتلت فبه قتلت ، وإن سئلت فيه سئلت فقاتلها هو محييها بقتلها ومماتها ، والموت عدم العلم والعلم عند الله تعالى لأنه هو العالم بالقاتل ، وما يستحقه فجزاؤه عليه ، ورجوعه إليه ' قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ' ' وإذا الصحف نشرت ' الصحف هي الحاوية للأعمال ، والأعمال علوم القلب المفاضة على الجوارح فالعمل صورتها كما أنه روحها ، ومن لا روح لصورته فلا نشر لصحفه ' وسيرى الله عملكم ورسوله ' فرسوله يرى عملكم لأنه هو المعلم ، والله يرى عملكم لأنه العامل حقيقة ، وقد تنزه تعالى عن الرؤية بالأبصار ، والقلوب المقيدة بغيره ' يحشر المرء على دين خليله ' ' وإذا السماء كشطت ' ' التكوير : 11 ' لا أطيق التعبير عن معناه ' وإذا الجحيم سعرت ' نار الخلاف اشتعلت ، والأعمال المظلمة عذبت ' أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ' ' المائدة : 49 ' فما عذبهم إلا بهم ، وما رحمهم إلا به ، والواحد ليس من العدد لأن الواحد موجود مستور ، والعدد معدوم مشهور ' وإذا الجنة أزلفت ' الآيات لا أستطيع النطق بمعناها ' إنه لقول رسول كريم ' لأنه مستو بنبوته على عرش ولايته ، وهم العيون الأربعة تسقى بماء واحد لأن الحكم في ذلك اليوم لله باسمه الله لا باسمه الرب لأن حكم الله يعم ، وحكم الرب يخص ' ثم إلى ربهم يرجعون ' ، ولا وجم لصفة مع ذاتها ' في قوة عند ذي العرش مكين ' المراد به العرش المطلق لذلك اليوم المطلق يتجلى المعبود المطلق على العابد المطلق الذي هو إطلاق المقيدات كما بدأنا أول خلق نعيده ' مطاع ثم أمين ' ' التكوير : 21 ' إلى آخر السورة صفات ، ونعوت ، وأسماء للموصوف المنعوت بالأسماء انتهى . قلت وهذا لسان لا أعرف له معنى على مراد قائلة ، وإنما ذكرته تبركا ، والله أعلم . وسمعته رضي الله عنه يقول الرجل كالشجرة ، وأصحابه كأغصانها ونسبة الغصن الذي لا يثمر إلى الشجرة كنسبة الغصن الذي يثمر على حد سواء في اتصاله بها لا تقدر الشجرة تنفيه عنها . وسمعته رضي الله عنه يقول الرجل ، ولو ارتفعت درجته في معرفة الطريق لا يقدر أن يجعل شجرة الشوك تفاحا أبدا ، ولو أخلي المريد مدى الدهر فإن الحقائق لا تتبدل . وسمعته مرة يقول البرزخ كله عالم خيال لا حقيقة له ثابتة إذ لو كانت له حقيقة ثابتة ما صح لأهله الانتقال عنه إلى الدار الآخرة ، وهو محل تجلى الصفات الإلهية كما أن الجنة محل لتجلي الذات الغنية عن العالمين ' إنكم سترون ربكم ' الحديث . وسمعته رضي الله عنه يقول لأخي أفضل الدين رحمه الله مظاهر العوالم ثلاثة أفراد آدم ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فآدم عليه السلام خصيص الأسماء ، وعيسى عليه السلام خصيص بالصفات ، ومحمد عليه الصلاة ، والسلام خصيص بالذات فآدم عليه السلام فاتق لرتق المسميات ، والمقيدات بصورة الأسماء ، وعيسى عليه السلام فاتق لرتق الصفات البرزخيات بصورة الصفات ، ومحمد عليه الصلاة والسلام فاتق لرتق الذات ، وراتق لسر الأسماء ، والصفات إذ الخصيص بالظهر الآدمي الآثار الكونية . ل تجلى الصفات الإلهية كما أن الجنة محل لتجلي الذات الغنية عن العالمين ' إنكم سترون ربكم ' الحديث . وسمعته رضي الله عنه يقول لأخي أفضل الدين رحمه الله مظاهر العوالم ثلاثة أفراد آدم ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فآدم عليه السلام خصيص الأسماء ، وعيسى عليه السلام خصيص بالصفات ، ومحمد عليه الصلاة ، والسلام خصيص بالذات فآدم عليه السلام فاتق لرتق المسميات ، والمقيدات بصورة الأسماء ، وعيسى عليه السلام فاتق لرتق الصفات البرزخيات بصورة الصفات ، ومحمد عليه الصلاة والسلام فاتق لرتق الذات ، وراتق لسر الأسماء ، والصفات إذ الخصيص بالظهر الآدمي الآثار الكونية . ولذلك ظهرت عجائبه ، وتنوعت حقائقه ، ورقائقه ، والخصيص بالمظهر العيسوي المعارف الإلهية والكشوفات البرزخية ، والتنوعات الملكية ، والفئات ، الروحية والخصيص بالمظهر المحمدي سر الجمع ، والوجود ، والإطلاق في الصفات ، والحدود لعدم انحصاره بحقيقة أو تلبسه بقيد فإن سره جامع ، ومظهره لامع ، وقد ، ولج هؤلاء الأفراد الثلاثة كل واحد في عالمه المختص به في هيكله الذي هو عليه الآن ، ولم يكن ذلك لغيرهم فإن آدم عليه السلام تحقق ببرزخيته أولا قبل نزوله إلى هذا العالم ، وعيسى كذلك ، وإلى الآن في المحل الذي ، ولجه آدم عليه السلام مع ما اختص به من الصفات ، وأحاطتها من عوالم الأسماء . ولذلك طال مكثه ضعفي ما مكثه آدم عليه السلام في جنته ، وأما محمد عليه الصلاة ، والسلام فقد ، ولج العوالم الثلاثة إذ هو مظهر سر الجمع ، والوجود حيث أسرى به من عالم الأسماء الذي أوله مركز الأرض ، وآخره السماء الدنيا ثم ، ولج البرزخ باستفتاحه السماء الدنيا إلى انتهاء السابعة ثم ، ولج ما فوقها استفتاحه عالم العرش إلى ما لا يمكن التعبير عن نهايته ، ولذلك ادخر صلى الله عليه وسلم دعواته ، ومعجزاته الخصيصة به لذلك اليوم المطلق الذي لا يسعه غيره ثم أطال الكلام في ذلك بما لا تسعه العقول فتركته لدقته ، وغموضه ، وبنائه على الكشف الصحيح التام الخاص بالكمل ، وفي هذا القدر كفاية على التنبيه على علو شأنه رضي الله عنه وجميع ما ذكرته عنه لا يوجد عند أحد من أصحابه غير أخي الكامل الراسخ الشيخ أفضل الدين رضي الله عنه فإنه كان كاتم سره ، وهذا الأمر الذي ذكرته ، وقع لي مع عدة مشايخ . فبمجرد ما أصحبهم على وجه الإقتداء ، ومحو الرسوم يمنحونني أمورا ، وأسرارا لا توجد عند أحد من أصحابهم ، ولو طالت مدة صحبتهم حتى إن بعضهم ينكرها : ويقول هذا شيء ما سمعناه من شيخنا قط وهو صحيح فإنه لم يطلعهم بحمد رب العالمين . ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي علي البحيري رضي الله عنه أحد الأولياء المكملين ، كان رضي الله عنه على قدم السلف الصالح من الخوف ، والورع ، والتقوى ، ورثاثة الثياب ، وكان أحد من جمع بين الشريعة ، والحقيقة في عصره ، وكنت إذا رأيته تذكرت بأحواله أحوال سيدي الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبد العزيز الدريني رضي الله عنه المنقولة عنه ، وكان رضي الله عنه مقيما في قرى الريف يحرس للناس العلم ، ويفتيهم ، ويعلمهم الآداب ، والأخلاق ، وكنت إذا رأيته لا يهون عليك مفارقته ، ولو طال الزمان لما هو عليه من حسن الأخلاق ، وهضم النفس ، وتذكر أحوال الآخرة حتى كأنها رأى عين . وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي شهاب الدين بن الإقطيع البرلسي رضي الله عنه ثم بعده عن سيدي الشيخ العارف بالله تعالى سيدي على النبتيتي الضرير ، وهو أكبر مشايخه تخلقا ، وتحققا ، ولم يفارق شيخه إلى أن مات ، وأخبرني بعض الفقراء الصادقين أنه سمع بعض الناس يقول إن سيدي عليا البحيري رضي الله عنه أحد الأربعين فأنكر ذلك فنام تحت دكة المؤذنين بالجامع الأزهر فرأى في منامه جماعة بعد جماعة يقولون بل هو إمام الأربعين وكان رضي الله عنه كثير البكاء فإذا عتبوه في ذلك يقول : وهل النار إلا لمثلي ، وكانت فتاواه تأتي إلى مصر فيتعجب العلماء من حلاوة لفظها ، وكثرة ما فيها من التخويف للخصم حتى يرجع إلى الحق وكان رضي الله عنه يقول قد عشنا إلى زمان صار الخلق فيه في غمرة ، ونسوا يوما تشيب فيه الأطفال ، وتسير فيه الجبال ، وكان رضي الله كنه إذا مر على الأطفال يسلم عليهم ، ويسألهم الدعاء ، وكان رضي الله عنه يقول أدركنا جماعة يكون طول ليلهم ، ويتضرعون في حق هذه الخليقة ، ويقولون كل شيء نزل بهذه البلاد التي حولنا فهو بسوء أفعالنا ، ولو خرجنا لخف عنهم البلاء رضي الله عنه . مات رضي الله عنه في شوال سنة ثلاث ، وخمسين ، وتسعمائة ، ودفن بنواحي سيدي محمد المنير رضي الله تعالى عنهما . ومنهم أخي العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أبو العباس الحريثي رضي الله عنه صحبته نحو ثلاثين سنة فما رأيته قط انتصر لنفسه ساعة ، ونشأ رحمه الله تعالى على العبادة ، والاشتغال بالعلم ، وقراءة القرآن بالسبع ثم خدم الشيخ محمد بن عنان رضي الله عنه ، وزوجة ابنته وقربه أشد من جميع أصحابه ثم أخذ بعض الطريق عن سيدي الشيخ علي المرصفي رضي الله عنه وأذن له أن يتصدر بعده لطريق الله تعالى ، وأن يلقن كلمة التوحيد قالوا ولم يقع من الشيخ رضي الله عنه الإذن لغيره رضي الله عنه لعزة مقامه ، ومعرفته بشروط أهل الطريق ، وبرع رضي الله عنه في الطريق ، وانتفع الناس على يديه في طريق الله تعالى ، ووقع له كرامات كثيرة لا تحصى بحضرتي فمنها ما أعلم أنه كان يحب كتمانه فكتمته ، ومنها ما سكت عنه فذكرته . وقد طلع لي مرة بواسير حتى حصل لي منها ضرر شديد فشكوت ذلك له فقال غدا تزول إن شاء الله تعالى في صلاة العصر فصليت العصر ونظرت فلم أجد لها أثرا رضي الله عنه ، وأعطى رضي الله عنه القبول التام عند الخاص ، والعام حتى إذ بعضهم شرب ماء غسالة يديه من ذفر السمك ، وعمر عدة مساجد في دمياط ، والمحلة ، وغيرهما ، وكان رضي الله عنه كريم النفس ظريفا حسن المعاشرة بطيء الغيط كثير التبسم زاهدا في الدنيا كثير الوحدة في الليل وطوى الأربعين يوما : وكان حلو المنطق لا تكاد تسمع منه إلا ما تحب ، وربما جلست معه بعد صلاة العشاء فيطلع الفجر ، ونحن في مجلس ، واحد ، وكنت أقدر الليلة بنحو سبع درج ، وكان رضي الله عنه كثير التحمل لهموم الخلق حتى صار كأنه شن بال جلد على عظم ، وما سمعته قط بعد نفسه من أهل الطريق ، وكثيرا ما كان يقول إذا سمع شيئا من كلام أهل الطريق استراحت العرايا من شراء الصابون ، وكان فتحه الكبير بعد وفاة شيخه رضي الله عنه فدخل الخلوة مرارا ، وما خرج حتى سمع الهواتف تأمره بذلك فخرج ، ودعا الناس إلى طريق الله تعالى ، ولقن رضي الله عنه نحو الشعرة آلاف مريد ، ولم يزل على طريقته الحسني لم يتغير حتى مات . وكان رضي الله عنه يحط كثيرا على فقراء المطاوعة ويقول لأنهم قطاع الطريق على فقراء الأرياف ، وليس في طريقهم ترق لعدم الشيخ الذي يبين لهم الأخلاق . ولم يكن حطه عليهم نقضا فيهم إنما هو لمصلحة المريدين الذين أخذوا عنه الطريق ، ولم تعلق فيهم صنارة ، وذلك لأن عضب الكامل على الإنسان إنما هو لمصلحة ذلك الإنسان لا حظا للنفس فأفهم وسبق سيدي أبا العباس إلى ما ذكرناه سيدي محمد الغمري ، وسيدي مدين ، وغيرهما فكانوا كلهم ينهون جماعتهم عن الاجتماع بالمطاوعة لهذه العلة التي تقدمت ، والله أعلم ، ولما حضرته الوفاة قال لسيدي أحمد بن محيي الدين الغمري ، وللحاضرين خرجنا من الدنيا ، ولم يصح معنا صاحب في الطريق . قلت : وكذلك وقع لسيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه . فقيل له إن من أصحابك فلانا وفلانا فقال رضي الله عنه هؤلاء من معارفنا إنما صاحبك من شرب من بحرك . توفي رضي الله عنه بثغر دمياط في سنة خمس ، وأربعين ، وتسعمائة ، وقبره بها ظاهر يزار رضي الله عنه ، ولقد قصدته في حاجة ، وأنا فوق سطوح مدرسة أم خوند بمصر فرأيته خرج من قبره يمشي من دمياط ، وأنا أنظره إلى أن صار بيني وبينه نحو خمسة أذرع فقال عليك بالصبر ، ثم اختفى رضي الله عنه . ومنهم شيخي ووالدي وقدوتي الشيخ نور الدين الشوني رضي الله تعالى عنه وهو أطول أشياخي خدمة خدمته خمسا وثلاثين سنة لم يتغير علي يوما واحدا ، وشوني اسم بلدة بنواحي طندتا بلد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه ربي بها صغيرا ثم انتقل إلى مقام سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه ، وأنشأ فيه مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو شاب أمرد فاجتمع في ذلك المجلس خلق كثير ، وكانوا يجلسون فيه من بعد صلاة المغرب ليلة الجمعة إلى أن يسلم على المنارة لصلاة الجمعة ثم إنه خرج يشيع جماعة مسافرين إلى مصر في بحر الفيض فخرجت المركب به من غير قصد منه فلم يقدر أحد على رجوعها إلى البر فقال توكلنا على الله فجاء إلى مصر فأقام بها أولا في تربة السلطان برقوق بالصحراء ، وأنشأ في الجامع الأزهر مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام سبع وتسعين وثمانمائة ، وكان رضي الله عنه يقوم من التربة كل ليلة جمعة إلى الأزهر ، ويرجع فلما عمر السلطان طومان ، باي العادل تربته نقله إليهما ، وأعطاه ، وظيفة المزملات بها فكان يسقي الناس طول النهار فأقام بها سنين عديدة ثم دخل إلى مصر ، وتزوج بها ، وله من العمر تسعون سنة وكان لم تزوج قط ثم انتقل إلى مدرسة السيوفية التي وقع لسيدي عمر بن الفارض مع شيخه البقال فيها ما وقع فأقام بها إلى أن مات في سنة أربع وأربعين وتسعمائة ، ودفن عندنا بالقبة لمجاورة لباب المدرسة القادرية بخط بين السورين ، وقبره بها ظاهر يزار . وأخبرني رضي الله عنه قال من حين كنت صغيرا أرعى البهائم في شوني وأنا أصب لصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أدفع غذائي إلى الصغار ، وأقول لهم كلوه ، وصلوا أنا وإياكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نقطع غالب النهار في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : ولما دخلت مصر في سنة إحدى عشرة وتسعمائة لقيني الشيخ شهاب الدين الطويل المجذوب رضي الله عنه فقال لي أنت ابن الشوني أيش حال أبوك ، وكنت لا أعرف قط من هو الشوني فما كان إلا نحو سنتين فأخبرني شخص أن رجلا يسمى الشيخ نور الدين الشوني من الصالحين في تربة العادلية امض بنا نزوره فلما دخلنا عليه رحب بي أكثر من أصحابي وقال لي أيش قال لك الشيخ شهاب الدين فأخبرته ، فقال هو صاحب اطلاع ، وإن شاء الله تعالى يحصل لك من جهاتنا نصيب من الخير فكنت أحضر معه المجلس نحو سبع سنين فلما كانت سنة تسع عشرة قال لي مقصودي تجمع لك جماعة في الجامع الذي أنت فيه مقيم ، وتحيي بهم ليلة الجمعة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ترتيب هذا المجلس فشرعت فيه في السنة المذكورة فلم ينقطع ببركته ليلة واحدة إلى ، وقتنا هذا ثم إنه خطر لي ليلة من الليالي أن أقرأ بالجماعة ' إنا أعطيناك الكوثر ' نحو ألف مرة فقرأناها فرأى جماعة بكثرة تلك الليلة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرت الشيخ بذلك ففعلها بمجلسه بالجامع الأزهر ثم إني كررت ليلة قوله تعالى : ' واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ' ' البقرة : 286 ' نحو خمسين درجة فحصل للجماعة بسط عظيم فأخبرته بذلك فصار يفعلها بمجلسه ، وتوارثها عنه جماعته . ورأيت مرة في واقعة أنني أمشي خلفه في أرض بلور أبيض ، وعليها سور شاهق يقرب من السماء ، وحصل لي أنس عظيم في تلك الأرض كدت أن أسكر منه فبينما نحن نمشي إذ نزل من السماء سلسلة فضة بيضاء ، وفيها قربة فيها ماء أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل فنزلت إلى أن صار الإنسان يصل إليها بفمه فشرب الشيخ رضي الله عنه منها ، وأعطاني الفضلة فشربتها ثم تخلف الشيخ ، ومشيت حتى غبت عن الشيخ فنزلت لي سلسلة ذهب ، وفيها شيء مربع نحو الشبر في شبر ، وفيها ثلاث عيون مكتوب على العليا منها مستمد هذه العين من الله ، وعلى الوسطى مستمد هذه العين من الله ، وعلى السفلى مستمد هذه العين من الكرسي فألهمني الله تعالى فشربت من الوسطى ثم رجعت إلى الشيخ رضي الله عنه فأخبرته بما شربته ، وبأنه من العين التي تستمد من العرش فقال يا فلان تتخلق إن شاء الله تعالى بالرحمة على جميع العالم وسر بذلك سرورا عظيما رضي الله عنه . ثم قال لي صدق كلام الشيخ شهاب الدين المتقدم . وكان رضي الله عنه حسن العشرة جميل الخلق كريم النفس حسن السمت كثير التبسم . صافي القلب ممسوحا كباطن الطفل سواء ، وهذه الصفة من صفات الجلة ، وكان إذا نزل بالمسلمين هم أو غم لا يقر له قرار حتى يرتفع ، وكان لا يتفوه قط برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان يقول رأي بعض الفقراء ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له كذا ، وكذا مع أن مرتبته كانت تقتضي كثرة الرؤيا له صلى الله عليه وسلم . ورأيته عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم ، في ، وقائع لا أحصيها فكنت أذكر له ذلك فيقول : اشتبهت بي ، ولا يعترف بذلك . ورأيت مرة قائلا يقول في شوارع مصر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند الشيخ نور الدين الشوني رضي الله عنه فمن أراد الاجتماع به فليذهب إلى مدرسه السيوفية فمضيت إليها فوجدت السيد أبا هريرة رضي الله عنه على بابها الأول فسلمت عليه ، ثم وحدت المقداد بن الأسود على بابها الثاني فسلمت عليه ثم ، وجدت شخصا لا أعرفه على بابها الثالث فلما ، وقفت على باب خلوة الشيخ وجدت الشيخ ، ولم أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عنده فبهت في وجه الشيخ فأمعنت النظر فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء أبيض شفافا يجري من جهته إلى أقدامه فغاب جسم الشيخ ، وظهر جسم النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ورحب بي وأوصاني بأمور وردت في سنته فأكد على ما فيها ثم استيقظت فلما أخبرت الشيخ رضي الله عنه بذلك قال ، والله ما سررت في عمري كله كسروري بهذا ، وصار يبكي حتى بل لحيته رضي الله عنه وروى في عرفات في الموقف مرارا لا تحصى حتى حلف شخص من أصحابه بالطلاق إنه رآه وسلم عليه فيه ، وهو لم يعترف ، ويقول أنا ما برحت من مصر موضعا ، وتفرعت عنه سائر مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي على وجه الأرض الآن في الحجاز والشام ، ومصر ، والصعيد ، والمحلة الكبرى وإسكندرية ، وبلاد الغرب وبلاد التكرور . وذلك لم يعهد بأحد قبله إنما كان الناس لهم أوراد في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى في أنفسهم ، وأما اجتماع الناس على هذه الهيئة فلم يبلغنا وقوعه من أحد من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصره رضي الله عنه ، ولما توفي رضي الله عنه رأيته في قبره ، وقد اتسع مد البصر ، وهو مغطى بلحاف حرير أخضر مساحته قدر فدان ثم إني رأيته بعد سنتين ، ونصف ، وهو يقول لي غطني بالملاية فإني عريان فلم أعرف ما المراد بذلك فمات ولدي محمد تلك الليلة فنزلنا به ندفنه بجاتبه في الفسقية فرأيته عريانا على الرمل لم يبق من كفنه ، ولا خيط واحد ووجدته طريا يخر ظهره دما مثل ما دفناه سواء لم يتغير من جسده شيء فغطيته بالملاية ، وقلت له : إذا قمت وكسوك ، أرسل لي ملايتي . وهذا من أدل دليل على أنه من شهداء المحبة فإن الأرض لم تأكل من جسده شيئا بعد سنتين ، ونصف ، ولا انتفخ ، ولا نتن له لحم ، وإنما وجدنا الدم يخر من ظهره طريا لأنه لما مرض لم يستطع أحد أن يقلبه مدة سبع وخمسين يوما فذاب لحم ظهره فضممناه بالقطن ، وورق المون ، ولم يتأوه قط ، ولم يئن في ذلك المرض ، ورأيته مرة أخرى فقلت يا سيدي أيش حالكم فقال جعلوني بواب البرزخ فلا يدخل البرزخ عمل حتى يعرض علي ، وما رأيت أضوأ ، ولا أنور من عمل أصحابنا يعني من قراءة ' قل هو الله أحد ' والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورأيت مرة الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وقال لي : أنا عاتب عليك وعلى نور الدين الطرابلسي ونور الدين الشوني ، وكنت تلك الليلة نائما في الروضة عند بني الوفاء فقلت للإمام نزوركم بكرة إن شاء الله فقال لا هذا الوقت فأخذ بيدي ، ومشى من الروضة حتى طلع بي فوق قبته ، وفرش لي حصيرا بقرب الهلال بحيث أني صرت أمسك المركب النحاس بيدي ومضى فأتى ببطيخ وجبن طري ، وخبز لين ، وقال : كل فقد ماتت ملوك الدنيا بحسرة الأكل في هذا الموضع فرجعت ، وقصصت المنام على الشيخ نور الدين الطرابلسي فركب في الحال للزيارة دخلت للشيخ نور الدين الشوني فقلت له ، وكان عنده عرعر صاحب الشريف بركات سلطان مكة فقال هذه أباطيل مثل الإمام الشافعي رضي الله عنه يعتب علي مثلكم في الزيارة الشريف عرعر تلك الليلة فرأى الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وقال له قول عبد الوهاب صحيح ، وأنا عاتب على الثلاث فجاء الشيخ نور الدين ، وأخبره الخبر . ثم قال : وقال لي لولا الشوني في مصر لهوى بأهلها ما هوى ومناقبه رضي الله كثيرة ، وإن شاء الله تعالى نفردها بالتأليف إن كان في الأجل فسحة ، والله أعلم . ؟ ومنهم أخي وصاحبي سيدي الشيخ أبو الفضل الأحمدي رضي الله تعالى صاحب الكشوفات الربانية ، والاتفاقات السماوية ، والمواهب اللدنية سمعت الهواتف تفول في الأسحار ما صحبت مثل الشيخ أبي الفضل ، ولا تصحب مثله ، كان رحمه الله تعالى أكابر أولياء الله ، وما رأيت أعرف منه بطريق الله عز وجل ، ولا بأحوال الدنيا ، والآخر له نفوذ البصر في كل شيء لو أخذ يتكلم في أفراد الوجود لضاقت الدفاتر . صحبته رضي الله عنه نحو خمس عشرة سنة ، ووقع بيني وبينه اتحاد لم يقع لي قط مع غيره ، وهو أنه كان يرد على الكلام من الحكمة في الليل فأكتبه فإذا جاء عرضته عليه فيخرج لي ورقة من عمامته ، ويقول وأنا الآخر ، وقع لي ذلك فنف بل الكلام على الآخر فلا يزيد أحدهما على الآخر حرفا ، وربما يقول بعض الناس إن أحدنا كتب ذلك من الآخر ، وكان رضي الله يحرك تطور الأعمال الليلية ، والنهارية ، ويرى معارجها ، وهذا أمر ما رأيته لأحد قط الأشياخ الذين كتبت مناقبهم في هذه الطبقات ، وقد سألني مرة الأمير محيي الدين بن أصبغ أسبغ الله عليه نعم الدارين أن أدعو له بالخلاص من سجن السلطان فسألتا لله تعالى في الأسحار فجاءني سيدي الشيخ أبو الفضل ، وقال لي ضحكت الليلة عليك في دعائك لابن أبي أصبغ بالخلاص من السجن ، وقد بقي له من المدة خمسة شهور ، وسبعة أيام كنت شاطر مصر لم تقدر على إخراجه حتى تنقضي هذه المدة . قال ورأيت دعاءك ، وهو يصعد إلى السماء نحو قامة ، ويرجع إليك وربما كان يأتيني فيخبرني بجميع ما وقع لي في الليل ، وكان من شأنه تحمل هموم الناس حتى صار ليس عليه أوقية لحم ، وكان رضي الله عنه يقول لي منذ سنين ، وأنا أحس بلحمي كأنه في صحن نحاس على النار يطشطش ، وكان من شأنه التقشف في المكل ، والملبس ، وخدمته جميع إخوانه ، وكنا إذا خرجنا لمثل أهرام الجيزة أو غيرها من التنزهات يحمل نعال الجماعة كلهم في خرج على عنقه ، ومن أبي أقسم عليه بالله تعالى حتى يمكنه من حمل نعله ، وشكوت له مرة مرضا نزل بي فقال : والله العظيم لي منذ عشر سنين ، وأنا أحس أنني في صحن نحاس على النار من غير ماء يطشطش فيه فحط مرضك بجنب هذا تجده ، ولاش . وكان رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا نحو عشر درج صيفا ، وشتاء ، وكان رضي الله عنه من أعظم الناس تعظيما للمساجد لم يتجرأ قط أن يدخل مسجدا إلا تبعا لغيره فكان يمكث واقفا على باب المسجد حتى إذا دخل أحد دخل في ذراه ، ويقول : مثلنا لا ينبغي له أن يدخل المساجد إلا تبعا لعامة المسلمين لعجزنا عن القيام بآدابها ، ورأيت مرة في ثوبه أثرا فقلت له دعني أغسله لك فقال : أنت ما تعرف حالي ، والله إني لأستحي من لبس الثوب النظيف على ذاتي هذه القذرة ، وكان رضي الله عنه يقول أعطاني الله تعالى أن لا أنظر قط إلى شيء من الحبوب نظرة واحدة ، ويسوس أو يتلف أبدا ، وجربنا ذلك في مخزن القمح الذي كان يسوس عندنا . وكان رضي الله عنه يعرف أصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض ، ويعرف من تولى ذلك اليوم منهم ، ومن عزل ، وكان لونه أصفر نحيفا لا تكاد تجد عليه أوقية لحم . وحج رضي الله عنه مرات على التجريد فلما كان آخر حجة كان ضعيفا فقلت له في هذه الحالة تسافر فقال لترابي فإن نطفتي مرغوها في تربة الشهداء ببدر فكان كما قال فمرض مرضا شديدا قبل بدر بيومين ثم توفي ، ودفن ببدر كما قال ، وذلك في سنة اثنتين و أربعين وتسعمائة فلما حججت سنة سبع ، وأربعين مضيت إلى قبره فقلت له أقسم عليك بالله إلا ما نطقت لي من القبر ، وعرفتني بقبرك فناداني تعال فإني ها هنا فعرفت قبره بتعريفه لي رضي الله عنه ، ومدحت له مرة بعض الفقراء فقال أجمعني عليه فدخلنا فوجدناه في الخلوة فقال له سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى يا هو بهمة فتخبط ذلك الفقير من صياحه عليه حتى كاد يذهل فقال سيدي أفضل الدين رضي الله عنه وعزة ربي لولا الشفقة عليه لشققت قلبه بالصوت ثم قال لي هذا يكل مهما وجد لا يتورع فهذا الذي تركه يتخبط كما قال الله تعالى : ' الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ' ' البقرة : 275 ' ، فذاكره مذاكرة في حقائق اليقين ودقق عليه الكلام حتى قال له ذلك الفقير تنزل لنا في العبارة ، والمقام ثم رأى عنده رجلا مختليا وصوته ضعيف في الذكر فقال له أخرج هذا الفقير ، وأطعمه وإلا مات ، ودخل النار فقال الفقير هذا من شرط الخلوة فقال له سيدي أفضل الدين رضي الله عنه : وماذا يطلب بالخلوة هذه فإن العبد إذا كان وليا لله فلا يحتاج إلى هذا العلاج وإن كان غير ولي لله فلا يصير وليا بالعلاج وشجرة السنط لا تكون تفاحا بالعلاج فأخذ سيدي أبو الفضل رغيفا . وقال اسمع مني واخرج ، وما وعدك الله به يحصل إن شاء الله تعالى فلم يخرج فقال الله يبتليك بالموت فمات بعد يوم وليلة ، وكان رضي الله عنه يقول بواطن هذه الخلائق كالبلور الصافي أرى ما في بواطنهم كما أرى ما ظواهرهم ، وكان إذا انحرف من إنسان يذوب ذلك الإنسان ، ولا يفلح في شيء من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة ، وكان رضي الله عنه يعرف من أنف الإنسان جميع ما يفعله في داره ويقول هذا ما هو باختياري ، وسألت الله تعالى الحجاب فلم يحجبني ؛ والله تعالى في ذلك حكم ، وأسرار وكان له كلام عال في الطريق ، والمقامات ، وأحوال الكمل ، وكان يقول من وراثي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام . ومن كلامه رضي الله عنه : اعلم يا أخي المراد من الإيجاد الإلهي الإنسان ، والتكوين الطبيعي الناري ليس إلا معرفه الربوب وأوصافها ، والعبودية ، وأخلاقها فأما أوصاف الربوبية فكيفيك يا أخي منها ما وصل إليك علمه إلهاما ، وتقليدا بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير تشبيه ، ولا تعطيل ، وأما أخلاق العبودبة فهي مقابلة الأوصاف الربوبية على السواء فكل صفة استحقتها الألوهية طلبت العبودية حقها من مقابلة ذلك الوصف ، ومن هذا المقام كان استغفاره صلى الله عليه وسلم فكل عن مقامه يتكلم ، وعما وصف به يترجم ، وسمعته رضي الله عنه يقول من نظر إلى ثواب في أعماله عاجلا أو آجلا فقد خرج عن أوصاف العبودية التي لا ثواب لها إلا وجه الله تعالى . وكان يقول عليك بحسن الظن في شأن ولاة أمور المسلمين ، وإن جاروا فإن الله لا يسأل أحدا قط في الآخرة لم حسنت ظنك بالعباد ، وكان يقول لا تسب أحدا من خلق تعالى على التعيين بسبب معصية ، وإن عظمت فإنك لا تدري بم يختم لك ، وله ولا تسبب من أحد إذا سببت إلا فعله لا عينه فإن عينك ، وعينه واحد فلا تسب إلا الفعل الرديء المذموم لقوله صلى الله عليه وسلم في الثوم ' إنها شجرة أكره ريحها ' ، فلم ، يقل أكرهها وإنما أكره ريحها الذي هو بعض صفاتها ، وكان رضي الله عنه يقول لا يخلو المنقص لأعراض الناس عن ثلاثة أحوال إما أن يرى نفسه أفضل منهم فهو حينئذ أسوأ حالا منهم كما وقع لإبليس مع آدم عليه السلام ، وإما أن يرى نفسه مثلهم فما أنكر إلا على حال نفسه حقيقة ، وإما أن يرى نفسه دونهم فلا يليق به تنقيص من هو خير منه . سمعته مرة يقول هؤلاء المنقصون لأعراضنا فلاحون لنا يزنون لنا الخراج فقلت له كيف ؟ فقال لأنهم ينقلون في صحائفنا جميع أعمالهم الصالحة الخالصة ، وثم ذنوب لا يكفرها إلا كلام الناس في عرض الإنسان ، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بحسن الإعتقاد فإنه ربط القلب مع الله تعالى بواسطة المعتقد فيه ، ولو كان غير أهل لذلك فإنكم لم تربطوا قلبكم إلا مع الله تعالى لا مع الواسطة ، والله يستحي من طلب عبده له أن يفقده عندما طلبه ، وكان رضي الله عنه يقول كونوا عبيد الله لا عبيد أنفسكم ، ولا عبيد ديناركم ، ودرهمكم فإن كل ما تعلق به خاطركم من محمود أو مذمم أخذ من عبوديتكم بقدر حبكم له ، وأنتم له تخلقوا للسكون ، ولا لأنفسكم بل خلقكم له فلا تهربوا منه فإنكم حرام على أنفسكم فكيف لا تحرموا على غيركم ، وكان رضي الله عنه يقول كفوا غضبكم عمن يسيء إليكم لأنه مسلط عليكم بإرادة ربكم ، وكان يقول افعلوا كل ما أمركم به الشرع إن استطعتم ، ولكن من حيث مشروعيته والأمر به لا من حيث علة أخرى ، واتركوا العلل كلها في جميع أحوالكم ، وأعمالكم ، واقطعوا الكل بقوله : ' يمحو الله ما يشاء ويثبت ' ، ' الرعد : 39 ، ' وكان رضي الله عنه يقول لا تقطعوا بما علمتموه من الكتاب ، والسنة ولو كان حقا في نفسه ، وكان يقول لا تركن إلى شيء ، ولا تأمن نفسك في شيء ، ولا تأمن مكر الله لشيء ، ولا تختر لنفسك حالة تكون عليها فإنك لا تدري أتصل إلى ما اخترته أم لا ثم إن وصلت إليه فلا تعلم ألك فيه خير أم لا ، وإن لم تصل إليه فاشكر الذي منعك فإنه لم يمنعك عن بخل ، وكان رضي الله عنه يقول إذا خيرك الحق تعالى في شيء فاختر عدم الاختيار ، ولا تقف مع شيء ، ولا تر لنفسك شيئا ، ولا تحزن على شيء خرج عنك فإنه لو كان لك ما خرج عنك ولا تفرح قط بما حصل لك من أمور الدنيا ، والآخرة دون الله تعالى فإن ما سوى الله عدم . وكان رضي الله عنه يقول إذا نقل إليكم أحد كلاما في عرضكم من أحد فازجروه ، ولو كان من أعز إخوانكم في العادة ، وقولوا له إن كنت تعتقد هذا الأمر فينا فأنت ، ومن نقلت عنه سواء بل أنت أسوأ حالا لأنه لم يسمعنا ذلك ، وأنت أسمعته لنا ، وإن كنت تعتقد أن ذلك لأمر باطل في حقنا وبعيد منا أن نقع في مثله فما فائدة نقله لنا . وسمعته رضي الله عنه يقول لا تتكلموا قط مع من فتى في التوحيد فإنه مغلوب وكلوه لمشيئة الله تعالى ، ولا تشتغلوا بإكثار من مطالعة كتب التوحيد فإنها توقفكم عما أنتم مخلوقون له فكل تكلم بحسب علمه ، وذوقه ، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بحفظ لسانكم مع أهل الشرع فإنهم بوابون لحضرة الأسماء ، والصفات ، وعليكم بحفظ قلوبكم من الإنكار على أحد من الأولياء فإنهم بوابون لحضرة الذات ، وإياكم ، والانتقاد على عقائد الأولياء بما علمتموه من أقوال المتكلمين فإن عقائد الأولياء مطلقة متجردة في كل آن على حسب الشئون الإلهية ، وكان رضي الله عنه يقول لا تقربوا من الأولياء إلا بالأدب ، ولو باسطوكم فان قلوبهم مملوكة ، ونفوسهم مفقودة ، وعقولهم غير معقولة فيمقتون على أقل من القليل ، وينفذ الله مرادهم فيكم ، وكان رضي الله عنه يقول إذا صحبتم كاملا فلا تؤولوا له كلاما إلى غير مفهومه الظاهر فإن الكمل لا يسترون لهم كلاما ، ولا حالا إذ التدبير من بقايا تدبير النفس ، وحفظها ، وكان رضي الله عنه يقول اسألوا الله العفو ، والعافية وألحوا عليه ، ولو كان أحدكم صبورا ، وكان رضي الله عنه يقول الحقيقة ، والشريعة كفتا الميزان وأنت قلبها فكل كفة حصل منك ميل إليها كنت لها . ت قلبها فكل كفة حصل منك ميل إليها كنت لها . وكان رضي الله عنه يقول عليكم بتنظيف باطنكم من الحرص ، والغل ، والحقد ونحو ذلك فإن الملك لا يرضى أن يسكن بجواركم ، وأنتم على هذا الحال فكيف يسكن الله تعالى قلوبكم يا داود طهر لي بيتا أسكنه . وكان رضي الله عنه يقول عليكم بإخراج كل علقت به نفوسكم ولم تسمح بإظهاره من علم أو حال أو غيرهما ، ولا تتركوا النصح لإخوانكم ، ولو ذموكم لأجل ذلك ، وكان رضي الله عنه يقول عليكم بإصلاح الطعمة استطعتم فإنها أساسكم الذي يتم لكم به بناء دينكم ، وجميع أعمالكم الصالحة فإن كنتم متجردين عن الأسباب فاقبلوا كل ما أرسله الحق تعالى إليكم من غير سؤال ما عدا الذهب والفضة ، والثياب الفاخرة فإذا بلغ أحدكم مبلغ الرجال عرف كل لقمة من أين جاءت وعرف من يستحق أكلها كالبناء يعرف مكان كل طوبة يضعها ، وكان رضي الله عنه يقول إذا غضب شيخك على أحد فعليك أن تجتنبه فإن علمت أن غضب شيخك لغير الله فأمسك عن الاجتناب كأحوال المشايخ القاصرين الآن . وكان رضي الله عنه يقول إذا فاجأك في حال الذكر شيء من حال أو غيره فلا تدفعه عن نفسك ، ولا تستجلب ذلك بجميع باطنك ، وتفعلك فإن ذلك سوء أدب ، وكان رضي الله عنه يقول لا تأنفوا من التعلم ممن خصه الله تعالى من فضله كائنا من كان لا سيما أهل الحرف النافعة فإن عندهم من الأدب ما لا يوجد عند خصوص الناس ، وكان يقول إياكم أن تظهر ، والكم حالا أو وصفا دون أن يتولى الله ذلك من غير اختياركم ، وكان رضي الله عنه يقول احذروا من قربه تعالى لكم أن يفتنكم بالقرب مع أنه لا خصوصية ، لكم فيه ، وإذا علم أحدكم ما هو عليه من القرب فهو بعيد من القرب فإن حقيقة القرب الغيبية بالقرب عن القرب حتى لا تشهد حالك في القرب إلا بعد ، ولا في العلم إلا جهلا ولا في التواضع إلا كبر فإن شهود القرب يمنع العلم بالقرب ' ونحن أقرب إليه منكم ، ولكم لا تبصرون ' وكان رضي الله عنه يقول : احذروا من الاغترار بصحبته لكم أن يستدرجكم بحبكم له فيشغلكم بكم عنه وإذا كشف لكم عن حقائقكم حسبتم أنكم هو ، ومن هنا يفع الاستدراج ، ولا خلاص لكم إلا إن شهدتموه به تعالى لا بكم . وسئل رضي الله عنه مرة عن قوله تعالى : ' ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ' ' هود : 113 ' الآية هل يدخل في ذلك الركون إلى النفس فقال رضي الله عنه نعم ، ثم قال رضي الله عنه : وإيضاح ذلك أن هذه الآية أيضا متضمنة لعدم اختيار العباد مع ربهم ، ومتضمنة أيضا لمعرفة أقرب الطرق إلى الحق وهو أصل جامع لجميع الطرق الظاهرة ، والباطنة فإن في باطنها الحث على الآمر بالتخلق بالمقام الإبراهيمي الذي نحن مكلفون باتباعه ، وذلك أن الأركان صفة من صفات النفس والظلم أيضا من صفاتها ، وهي موصوفة بالظلم والأركان في نفسها لاعتمادها على نفسها ودعواها بأنها أفضل وأعلم من غيرها ، ولو لم تعلم هي ذلك من نفسها ، ولولا أنها موصوفة بالظلم ما ظهر عنها قط فعل ولا أمر قبيح ، وهذا أيضا أقوى دليل على جهلها بمعرفة نفسها ، وربما حيث لم تسند إلى ربها جميع أفعالها وأقوالها ، وحركاتها ، وسكناتها الظاهرة والباطنة ، ومعلوم أن الظالم نفسه إنما هو معذب في هذه الدار بنار نفسه ، وشهواته لا بالنار المحسوسة التي تقع له في الدار الآخرة . وانظر يا أخي إلى إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة ، والسلام لما لم تؤثر فيه نار الشهوة لم تؤثر فيه نار الحس بل ، وجدها بردا لأجل صفة البرد الذي في باطنه عليه الصلاة ، والسلام من حر التدبير المفضي إلى الشرك الأكبر المشار إليه بقول لقمان لابنه ' إن الشرك لظلم عظيم ' فعلم أن الظالم لحق ربه معذب بنار البعد عنه ، ومتقرب إلى هواه الذي جعله معبوده ، ووجهته قال تعالى : ' أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ' ' الجاثية : 23 ' وإنما وصفه هنا بالعلم لأنه لم يتخذ له إلها خارجا عنه بعيدا منه ، والإله من شأنه القرب ، وما ثم أقرب إلى الإنسان من نفسه لنفسه لأن هواه المعبود عالم بما يظهر في سره ، ونجراه بخلاف الإله المجعول في الظاهر فإنه غير عالم بمصالح تلك النفس ، وأحوالها لبعده ، وعدم علمه ، ومن هنا قالوا ألطف الأوثان الهوى ، وكثفها الحجارة ، وأيضا فإن النفس العابدة لهواها هي المعبودة لهذا فإن صفاتها عابدة لذاتها ، ولذلك وقع علينا التوبيخ الإلهي في قوله تعالى : ' وفى أنفسكم أفلا تبصرون ' ' الذاريات : 21 ' ، وفي حديث من ' عرف نفسه عرف ربه ' فإن المعرفة هنا تكررت وهي لم تقبل تكرارا ، والنفس ، والرب قبلا التكرار فاعلم ما تحته تصب التحقيق إن شاء الله تعالى ، وصلى الله وسلم على معلم الخير ، ومظهر التوحيد . وكان رضي الله عنه يقول ثم ثلاث مرات لثلاث رجال زاحم عليها متصوفة زمامنا بغير حق وهي تلقين الذكر للمريدين ، سهم وإلباسهم الخرقة وإخاؤهم لهم العذبة ، فأما تلقين الذكر فشرطه عندي أن يعطيه الله تعالى من القوة ، والتمكين وكمال الحال ما يمنح المريد عند قوله قال لا إله إلا الله جميع علوم الشرائع المنزلة إذ هي كلها أحكام لا إله إلا الله فلا يحتاج بعد ذلك المجلس إلى تعليم شيء من الشرائع كما وقع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى كان يقول عندي من العلم الذي أسره إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل فيقول له ابن عباس كيف ؟ فيقول إن جبريل عليه السلام تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وقال : ' وما منا إلا له مقام معلوم ' فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك . هذا هو التلقين الحقيقي ، ولا يكون إلا لمن اتحد بشيخه حتى صار كأنه هو . لإسراء ، وقال : ' وما منا إلا له مقام معلوم ' فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك . هذا هو التلقين الحقيقي ، ولا يكون إلا لمن اتحد بشيخه حتى صار كأنه هو . وأما إلباس الخرقة فشرطه عندي أيضا أن يعطي الله ذلك الشيخ من القوة ما ينزع به عن المريد حال قوله له اخلع قميصك أو قلنسوتك مثلا جميع الأخلاق المذمومة فيتعطل عن استعمال شيء منها إلى أن يموت ذلك المريد ثم يخلع على المريد مع إلباسه تلك الخرقة جميع الأخلاق المحمودة التي هي غاية درجة المريد في علم الله عز وجل فلا يحتاج ذلك المريد بعد إلباس شيخه له الخرقة إلى علاج خلق من الأخلاق فمن لم يعطه الله تعالى ذلك ففعله كالاستهزاء بطريق العارفين ، ولبسها على هذا الشرط سيدي الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه من الخضر عليه السلام عند الحجر الأسود وأخذ عليه العهد بالتسليم لمقامات الشيوخ ؛ وأما إرخاء العذبة فشرطه عندي أيضا أن يقدر الله ذلك الشيخ على أن يخلع على المريد حال إرخائها له سر النمو ، والزيادة لكل شيء مسه ذلك المريد أو نظر إليه لتكون تلك الزيادة المرخاة من العمامة علامة ، وإشارة إلى التحقيق لتلك المرتبة من باب التحدث بالنعم . ولما أرخاها معروف الكرخي رضي الله عنه للسري السقطي رضي الله عنه سقف بيتا له فقصر خشبة عن الوصول إلى الجدار الآخر فمطها فطالت ، ومن قال من متصوفة هذا الزمان ليس ما قلته في هذه الثلاثة الأمور شرطا لكونه هو عاريا عن تلك الشروط فقد أساء الظن ، وكذب بكرامات السلف الصالح فلا حول ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكان رضي الله عنه يقول في قوله تعالى : ' ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ' ' الأنعام : 2 ' الأجل الأول هو أجل الجسم بموته في الحياة الدنيا والأجل المسمى عنده هو أجل الروحانية التي خلقت قبل الأجسام بألفي عام فإنها مستمرة الحياة إلى الصعق الأخروي حين تصعق الأرواح فتخمد ، وذلك أعني خمودها هو حظها من الموت ، والفناء اللازم لصفة الحدث فلا تبقى روح على وجه الأرض ، ولا في البرزخ إلا ماتت يعني خمدت فقل له فهل للطائفة الذين لا يصعقون عند النفخة أجل مسمي كذلك يخصهم ؟ فقال ذهب قوم إلى أنهم لا يصعقون أبدا لأن الله تعالى أنشأهم على حقائق لا تقبل الموت . والذي تذهب إليه أنهم يموتون لكنهم اشتغلوا بحضرة الشهود عن سماع النفخة فلم يدركهم حس النفخة فلم يصعقوا إذ ذاك ثم إنهم يموتون بعد ذلك بأمر الله تحقيقا لوعده وتمييزا لصفة القدم عن الحدوث قال ، وعليه يحمل قوله تعالى : ' لمن الملك اليوم ' ' غافر : 16 ' فلا يجيبه أحد وعلى ما ذهب إليه غيرنا يخصص عدم الإجابة بمن صعق يعني فلا يجيبه أحد ممن صعق ويكون الاستثناء منقطعا ، وما ذهبنا إليه أولي فقل له فما المراد بالصور الذي ينفخ فيه . فقال المراد به الحضرة البرزخية التي ننقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها ، وهو المسمى أيضا بالناقور ، وإنما اختلف عليه الأسماء لاختلاف الصفات فصارت أسماؤه كهو فجميع أرواح الأجسام الطبيعية ، والعنصرية التي قبضها الله تعالى مودعة في صورة جسدية في مجموع الصور المكنى عنه بالقرن ، وجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن ، وكان رضي الله عنه يقول : كل رؤيا فهي صادقة ، وإذا أخطأت الرؤية فالمراد أن من عبرها هو المخطئ حيث لم يعرف ما المراد بتلك الصورة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي رأى في منامه كأنه ضربت عنقه إن الشيطان لعب بك ، وما قال له خيالك فاسد فالخيال كله صحيح عند المحقق والسلام ، وكان رضي الله عنه يقول من صفي جوهرة نفسه علم أن الحياة إما هي لعين الجوهر وعلم أن الموت إنما هو لتبدل الصور ، وحينئذ يشهد موته كلا موت . فالشهيد المقتول في سبيل الله ينقله الله تعالى إلى البرزخ لا عن موت فهو مقتول لا ميت . ومن هنا قالوا العارفون لا يموتون وإنما ينقلون من دار إلى دار لأنهم أماتوا نفوسهم في دار الدنيا بالمجاهدة ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : من ' أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ' وكان رضي الله عنه يقول : لا بد للموت من الموت لأنه مخلوق قال الله تعالى : ' خلق الموت والحياة ' ' الملك : 2 ' ولكن موته في الظاهر حياته في الباطن ، والمتولي لقبض روحه الحياة الأبدية التي مظهرها يحيى عليه السلام كما ورد ' إن الموت يمثل في صورة كبش ، ويذبحه يحيى عليه السلام ' بشارة لأهل الجنة بالحياة التي لا موت بعدها ، وكان رضي الله عنه يقول : موازين الآخرة تدرك بحاسة البصر كموازين أهل الدنيا لكنها ممثلة غير محسوسة عكس الدنيا فهي كتمثل الأعمال سواء فإن الأعمال في الدنيا أعراض وفي الآخرة تكون أشخاصا ، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ' يؤتى بالموت في صورة كبش ' ولم يقل يؤتى به كبشا لأن الحقائق لا تنقلب ، فإذا وضعت الموازين لوزن الأعمال جعلت فيها كتب الخلائق الحاوية لجميع أعمالهم لكن أعمالهم الظاهرة دون الباطنة لأن الأعمال الباطنة لا تدخل الميزان المحسوس لكن يقام فيها العدل ، وهو الميزان الحكمي المعنوي فمحسوس لمحسوس ، ومعنى لمعنى يقابل كل بمثله ، وآخر ما يوضع في الميزان في قول العبد الحمد لله ، ولهذا ورد ' والحمد لله تملأ الميزان ' وإنما لم تكن لا إله إلا الله تملأ الميزان كالحمد لله لأن كل عمل خير له مقابل من ضمه هذا الخير في موازينه ولا يقابل لا إله إلا الله إلا الشرك ، ولا يجتمع توحيد ، وشرك في ميزان واحد بخلاف المعاصي غير الشرك إذ العاصي لم يخرج عن الإسلام بمعصيته . وإيضاح ما لناه أن الإنسان إن كان يقول لا إله إلا الله معتقدا لها فما أشرك ، وإن أشرك فما اعتقد لا إله إلا الله فلما لم يصح الجمع بينهما لم تدخل لا إله إلا الله الميزان لعدم ما يعادلها في الكفة الأخرى ، وإنما دخلت لا إله إلا الله ميزان صاحب السجلات التسعة والتسعين من السيئات لأن صاحب السجلات كان يقول : لا إله إلا الله معتقدا لها إلا أنه لم يعمل معها خيرا قط فكان وضع لا إله إلا الله في مقابلة التسعة والتسعين سجلا من السيئات فترجح كفة لا إله إلا الله بالجميع ، وتطيش السجلات فلا يثقل مع اسم الله شيء . وكان رضي الله عنه يقول : لا نور للصراط في نفسه لأنه منصوب على ظهر جهنم وهي مظلمة ، وإنما النور الذي يكون على الصراط من نور الماشين عليه قال تعالى : ' يسعى نورهم بين أيديهم ، وبأيمانهم ' فقلت له : لم لم يقل تعالى ، وبشمائلهم ؟ فقال رضي الله عنه لأن المؤمن في الآخرة لا شمال له كما أن أهل النار لا يمين لهم . وكان رضي الله عنه يقول : ثم من تشتاق إليه الجنة كما يشتاق إليها ، وهم المطيعون ، وثم من لا تشتاق إليه الجنة ، وهم يشتاقون إليها ، وهم عصاة المؤمنين ، وثم من تشتاق إليه الجنة ، وهو لا يشتاقها ، وهم أرباب الأحوال ، وثم من لا تشتاق إليه الجنة ، ولا يشتاق هو إليها ، وهم المكذبون بيوم الدين ، والقائلون بنفي الجنة المحسوسة وكان رضي الله عنه يقول يقع التمني في الجنة لأهلها فيتنعمون بذلك أشد التنعم ، وذلك لأنه تمن محقق لوجود ما يتمناه حال التمني فلا يتوهم أحد من أهل الجنة نعيما فوق نعيمه أو يتمناه إلا حصل له بحسب ما توهمه إن توهمه معنى كان معنى ، وإن توهمه حسا كان حسا . وسئل رحمه الله تعالى عن المراد بقوله تعالى في فاكهة الجنة : ' لا مقطوعة ولا ممنوعة ' ' الواقعة : 33 ' هل المراد لا مقطوعة صيفا ، ولا شتاء أو أنها لا تقطع حين تقطف ؟ فقال رضي الله عنه جميع فاكهة الجنة تؤكل من غير قطع ؟ فمعنى لا مقطوعة أنها لا تقطع حال القطع بل يقطف الإنسان ، ويأكل من غير قطع ، فالأكل موجود ، والعين باقية في غصن الشجرة هذا أعطاه الكشف فعين ما يأكله هو عين ما يشهده في غصن الشجرة ، والله أعلم . وكان رضي الله عنه يقول الذي عليه المحققون أن أجسام أهل الجنة تنطوي في أرواحهم فتكون الأرواح ظروفا للأجسام بعكس ما كانت في الدنيا فيكون الظهور ، والحكم في الدار الآخرة للروح لا للجسم ، ولهذا يتحولون في أي صورة شاءوا كما هم اليوم عندنا الملائكة ، وعالم الأرواح ، وكان رضي الله عنه يقول : يتناسل أهل الجنة فيها إذا شاءوا فيجامع الرجل زوجته الآدمية أو الحوراء فيوجد الله تعالى عند كل دفعة ولذا وذلك لأن الله تعالى جعل النوع الإنساني غير متناهي الأشخاص دنيا ، وأخرى لشرفه عنده ، وكان رضي الله عنه يقول ليس لأهل الجنة دبر مطلقا لا الرجل ، ولا المرأة لأن الله تعالى إنما جعل الدبر في دار الدنيا مخرجا للغائط ، ولا غائط هناك ، وإنما يخرج الأكل ، والشرب رشحا من أبدانهم ، ولولا أن ذكر الرجل ، وقبل المرأة محتاج إليهما في جماع أهل الجنة ما كان وجدا في الجنة لعدم البول هناك ، وكان رضي الله عنه يقول لذة جماع أهل الجنة تكون من خروج الريح لا من خروج المني إذ لا مني هناك فيخرج من كل الزوجين ريح مثيرة كرائحة المسك فتلقى في الرحم فتتكون من حينه فيها ولدا وتكمل نشأته ما بين الدفعتين . فيخرج ولد مصور مع النفس الخارج من المرأة ، ويشاهد الأبوان كل من ولدا لهما من ذلك النكاح في كل دفعة ثم يذهب ذلك الولد فلا يعود إليهما أبدا كالملائكة المتطورين من أنفاس بني آدم في دار الدنيا ، وكالملائكة الذين يدخلون البيت المعمور ثم إن هؤلاء الأولاد ليس لهم حفظ في النعيم المحسوس ، ولا المعنوي إنما نعيمهم برزخي كنعيم صاحب الرؤيا ، وكان رضي الله عنه يقول ، تتوالد الأرواح مع الأرواح في الجنة فينكح الولي من حيث روحه زوجته من حيث روحها فيتولد بينهما أولاد روحانيون بأجسام ، وصور محسوسات وكان يقول شجرة طوبي في منزل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهي حجاب مظهر نور فاطمة الزهراء رضي الله عنها فما من جنة ، ولا درجة ، ولا بيت ، ولا مكان إلا وفيه فرع من شجرة طوبي وذلك ليكون سر نعيم كل درجة ونصيب كل ولي فيها من نورانية فاطمة في حجاب ذلك الفرع وكان رضي الله عنه يقول في قوله تعالى : ' أكلها دائم ' ' الرعد : 35 ' معناه أن الأكل لا ينقطع عنهم متى طلبوه لا أنهم يأكلون دائما فالدوام في الأكل هو عين التنعيم بما به يكون الغذاء للجسم فإذا أكل الإنسان حتى شبع فليس ذلك بغذاء ، ولا يأكل على الحقيقة ، وإنما هو كالجابي الجامع للمال في خزانته والمعدة جامعة لما جمعه هذا الآكل من الأطعمة ، والأشربة فإذا اختزن ذلك في معدته ، ورفع يده فحينئذ تتولاه الطبيعة بالتدبير ، وينتقل ذلك الطعام من حال إلى حال ، ويغذيه بها في كل نفس فهو لا يزال في غذاء دائم ، ولولا ذلك لبطلت الحكمة في ترتيب نشأة كل متغذ ثم إذا خلت الخزانة من الأكل حرك الطبع الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به وهكذا على الدوام هذا معنى أكلها دائم . وسمعته يقول : الناس في رؤية ربهم عز وجل على أقسام : منهم من يراه بباصر العين فقط ، ومنهم من يراه بكلها ، ومنهم من يراه بجميع ، وجهه ، ومنهم من يراه بجميع جسده ، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ورثهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه ، وكرمه آمين . وفي هذا القدر كفاية من كلامه رضي الله عنه ، والحمد لله رب العالمين . ومنهم الشيخ ناصر الدين النحاس رضي الله تعالى عنه ورحمه صحبته نحو خمس عشرة سنة ، كان من رجال الله المستورين ، وكان على قدم التعب لا يذيق نفسه راحة ، ولا شهوة ، وكان يذهب كل يوم إلى المذبح يأتي بكروش البهائم ، وطحالاتها ، وشغتها في قفة عظيمة على رأسه يطعمها للكلاب العاجزين ، والقطط ، والحدادي ، والغربان ، وكانت داره مأواهم في غالب الأوقات ، ورأيت حدأة عجوزا مقيمة في داره يوم موته فلما غسلناه ، وحملناه خرجت معه طائرة على نعشه حتى دفناه في زاوية الشيخ على الخواص رضي الله عنه خارج باب الفتوح بمصر المحروسة ، وسافر على التجريد من مصر ماشيا من غير زاد ، ولا راحلة ، ولا قبول شيء من أحد إلى مكة ، وأخبرني بموت أخي أفضل الدين رحمه الله يوم مات ، وقال مات أخونا أفضل الدين هذا اليوم ، وغدا يدفن ببدر فلما جاء الحجاج أخبرونا أنه مات قبل دخول بدر بمرحلة ، وحمل إلى بدر ، ودفن بها رضي الله عنه بجوار قبور الشهداء ، وكراماته كثيرة ، ولكنا تركنا ذكرها لكونه كان يحب الخمول ، وعدم الشهرة . مات سنة خمس ، وأربعين وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ الكامل العارف بالله تعالى سيدي علي الكازروني رحمه الله أحد أصحاب سيدي علي بن ميمون شيخ سيدي محمد بن عراق رضي الله عنه ، كان رضي الله عنه كثير المجاهدة ، والرياضة أخبرني رضي الله عنه أنه ربما يمكث الخمسة الشهور أو أكثر لا يضع جنبه بالأرض لا ليلا ، ولا نهارا صحبته مدة إقامة الحج بمكة المشرفة نحو عشرين يوما سنة سبع ، وأربعين ، وتسعمائة وكذلك في حجتي سنة ثلاث وخمسين ، وتسعمائة مدة الموسم ، وانتفعت بكلامه ، وإشاراته ، ومواعظه ، ودقائقه في علم التوحيد ، وله رسائل نافعة في الطريق أطلعني على بعضها ، وكان ذا تمكين ، ومحبة لستر مقامه بين الناس حتى إن أهل مكة غالبهم ينكر عليه ، ويقول هذا رجل محب للدنيا ، وسبب ذلك ما أسره إلي ، وقال لي هذه بلد الله ، وحضرته الخاصة ، وكل من تظاهر فيها بصلاح أقبل عليه الناس ، وشغلوه عن ربه عز وجل فلما دخلت مكة على حالتي التي كنت عليها في الشام اعتقدوني ، وأقبلوا علي فتظاهرت بحب الدنيا ، وسؤالي لهم من الصدقات فنفروا عني فاسترحت رضي الله عنه . ومن كلامه رضي الله عنه الإرشاد على ثلاثة أقسام : إرشاد العوام إلى معرفة ما يجب على المكلف معرفته من الحدود ، والأحكام من فروض العين والكفاية ، وإرشاد الخواص إلى معرفة النفس ، وهو معرفة الداء ، والدواء فيما يرد على النفس ، وعلى الضمائر من الخواطر . وإرشاد خواص الخواص ، وهو معرفة ما يجب لله وما يجوز وما يستحيل ، وتنزيه صفاته ، وأسمائه ، وذاته ، وأفعاله . وقال رضي الله عنه الطريق إلى الله كمال الشهود ولزوم الحدود ، وقال من ثبت له الاستقامة فقد أذن له في الكلام ، وقال الوقوف مع المظاهر حجاب ظاهر ، والترقي عن المظاهر كشف ظاهر ، وقال من صدق ما يقال فيه من المذموم فقد سلك ، ومن صدق ما يقال فيه من المحمود فقد هلك ، وقال من كان مجاهدا فحقيق أن يكون مشاهدا ، وقال من صدق في طلب الله لم يبال بترك ما سواه ، ومن بالغ في مدح نفسه فقد بالغ في ذم غيره ، ومن بالغ في ذم غيره فقد بالغ في مدح نفسه ، وكان يقول فسق العارف في نهايته أن يتوسع ، وينعم نفسه بالمباح فوق الكفاية وكان يقول من نفي فقد أثبت ، ومن أثبت فقد نفي ، ومن أثبت ونفي ثبت ، وكان يقول ذكر منك إليه وذكر منه إليك ، وذكر منه إليه لا منك ، ولا إليك ، وكان يقول من ادعى كمال الطريقة بغير أدب الشريعة فلا برهان له ، ومن ادعى ، وجود الحقيقة بغير كمال آداب الطريقة فلا برهان له ، وكان يقول من زهد في فضول الثياب كان من الأحباب . وكان يقول إذا طلعت شمس المعرفة على وجود العارف لم يبق نجوم ، ولا قمر ، وإن وجد الأثر . وأن يقول من ترقي عن الخواطر الشيطانية قطع حجب العنصر الناري ومن ترقي عن الخواطر النفسانية قطع حجب العنصر الترابي ، ومن ادعي الطاعة ، وأخلص فيها ولم يقف مع حظوظ نفسه فيها قطع حجب العنصر المائي ، ومن عرف الله في كل شيء ، وبكل شيء ، وعند كل شيء ، ولم يقف مع شيء قطع حجب الهوائي ، ومن ترقي عن الحجب النورانية فقد ترقي عن ملاحظة روحه القائم بصورته الجثمانية ، وكان يقول من تفقه ، ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن تصوف ، ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ، وتصوف فقد تحقق ، وكان يقول كل ما خفي عن المظاهر ظهر إشراقه في الباطن ، وكان يقول إذا تجاهل العارف قوي في الإخلاص ، والسلامة من القواطع ، وكان يقرر من غلب نفسه فلا غالب له ومن غلبته نفسه غلبه كل أحد ، وكان يقول الفرق المجرد شرك خفي ، والجمع المجرد جحود جلي ، وشهود الجمع في الفرق كمال علي ، وكان يقول البعيد في عين القرب ، والقريب في عين البعد ، وأجر القياس ' والله يعصمك من الناس ' وكان يقول في باطن الزهد طمع ، وفي باطن الطمع زهد ، وفي باطن الكبر تواضع وفي باطن التواضع كبر ، وفي باطن الفقر غني ، وفي باطن الغني فقر ، وفي باطن العز ذل ، وفي باطن الذل عز ، وفي باطن الإيمان بالله كفر بغيره ، وفي باطن الكفر بغيره إيمان به وأجر القياس ' والله يعصمك من الناس ' : فكن كافر ، وكن مؤمن . . . ولا مؤمن ، ولا كافر وكن باطن ، وكن ظاهر . . . ولا باطن ، ولا ظاهر وكن أول ، وكن آخر . . . ولا أول ، ولا آخر وكن حامد ، وكن شاكر . . . ولا حامد ، ولا شاكر قلت : معناه الفناء عن شهود الكمالات على سبيل الافتخار بالله ، والله أعلم : القصد رمز فكن ذكيا . . . والرسم سر على الأشاير فلا تقف مع حروف رسمي . . . كل المظاهر لنا ستاير وكان يقول كل مقام أو كل معنى يتعسر على السالك فإنما هو لبقية في ، وجوده ، ومن الإلباس أن يسأل عن ذلك المقام أو يكرر فيه النظر الفكري فان أراد أن يتضح له المعنى من غير طلب فليجتهد في إزالة تلك البقية ، وكان يقول الهواء إذا مر على الجيفة حمل رائحتها ، وإذا مر على المسك حمل رائحته وكذلك الماء يكتسب قيدا بواسطة مقره أو ممره فافهم ، وكان يقول إنما خلق الإنسان أولا في أحسن تقويم لأنه كان عند الفطرة بلا شهوة فلما ابتلى بالشهوات رد إلى أسفل سافلين . وكان يقول : من نظر بعين الجمع كانت له الحقائق ، والأسرار أفلاكا ، ومن نظر بعين الفرق كانت المظاهر له أشراكا ومن عرف الواحد عند كل موجود في كل زمان فقد هدى إلى صراط مستقيم ، وكان يقول : الحجاب بصورة الفعل عن ملاحظة الفاعل ، ولو بقدر نفس واحد جحود خفي ، وأجر القياس على سائر الحواس وكان يقول : الوقوف مع صورة الشيء من كل وجه شرك خفي ، والاعراض عن الشيء من كل وجه جحود خفي فانف ، ولا تنف ، وأثبت ، ولا تثبت آه آه آه ، وكان يقول : الكمال في شهود الجمع إعطاء كل ذي حق حقه في مقام الفرق ، وكأنه يقول : كل ذرة من الوجود معراج ، والمربي جبريل السالك انتهى كلامه رضي الله عنه . مات سنة ستين ، وتسعمائة رضي الله تعالى عنه . ومنهم الشيخ الإمام الكامل الراسخ الأمين على الأسرار العارف بالله تعالى ، والداعي إليه الوارث الرباني النوراني الفرقاني العياني ذو المؤلفات الجليلة ، والصفات الحميدة ، والألفاظ الرشيقة والمعاني الدقيقة من شاع علمه في أقاليم مصر ، وذاع . ومن كراماته ، وصفاته قد شرفت البقاع ، ومن يكل لسان ، واصفه في بيان أوصافه الزكية ، وشيمه المرضية الشيخ محمد الجاولي رضي الله عنه صحبته رضي الله عنه مدة فما رأيت عليه شيئا يشينه في دينه بل تربي في حجر الأولياء على وجه اللطف ، والدلال كما قال الأستاذ سيدي علي بن وفا رضي الله عنه : فما عرفنا ، ولا ألفنا . . . سوى الموافاة ، والوصال مات بمكة سنة نيف ، وثلاثين ، وتسعمائة رضي الله عنه آمين . ومنهم شيخنا ، وقدوتنا إلى الله تعالى الإمام الصالح الورع الزاهد شمس الدين الديروطي ثم الدمياطي الواعظ كان في الجامع الأزهر أيام السلطان قانصوه الغوري كان رضي الله عنه مهابا عند الملوك ، والأمراء ، ومن دونهم زاهدا ، ورعا مجاهدا صائما قائما آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وقد حضرت مجلس ، وعظه في الجامع الأزهر مرات فرأيته مجلسا تفيض فيه العيون ، وكان إذا تكلم أنصتوا بأجمعهم ، وكان يحضرها أكابر الدولة ، وأمراء الألوف فكان كل واحد يقوم من مجلسه متخشعا صغيرا ذليلا رضي الله عنه ، وكان إذا مر في شوارع مصر يتزاحم الناس على رؤيته ، وكان من لم يحصل ثوبه رمي بردائه من بعيد على ثيابه ثم يأخذ رداءه فيمسح به على وجهه رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يختفي إذا شاء في بيته أو غيره ، وذكرت ، والدته أنها كانت تضع ما يأكل ، وما يشرب فيأكل وهي لا تراه إنما تسمع كلامه فقط ، وكان شجاعا مقداما في كل أمر مهم ، وخرج عليه مرة قطاع الطريق وهو في بحر دمياط فخاف أهل المركب فقال لهم الشيخ لا تخافوا ثم أشار إليها فتسمرت في الماء فلم يقدروا أن يحركوها فاستغفروا وتابوا ، وقالوا للريس من معك فقال الشيخ شمس الدين الدمياطي فقالوا أخبروه أنا تبنا إلى الله تعالى فقال ميلوا إلى جانب البر ، وأنتم تخلصون فمالوا فخلصوا رضي الله عنه . وحط مرة على السلطان الغوري في ترك الجهاد فأرسل السلطان خلفه فلما وصل إلى مجلسه مال للسلطان السلام عليكم ، ورحمة الله وبركاته فلم يرد عليه فقال إن لم ترد السلام فسقت ، وعزلت فقال ، وعليكم السلام ، ورحمة الله ، وبركاته ثم قال علام تحط علينا بين الناس في ترك الجهاد ، وليس لنا مراكب نجاهد فيها فقال عندك المال الذي تعمر به قطال بينهما الكلام فقال : الشيخ للسلطان قد نسيت نعم الله عليك ، وقابلتها بالعصيان أما تذكر حين كنت نصرانيا ثم أسروك ، وباعوك من يد إلى يد ثم من الله عليك بالحرية ، والإسلام ، ورقاك إلى أن صرت سلطانا على الخلق ، وعن قريب يأتيك المرض الذي لا ينجع فيه طب ثم تموت ، وتكفن ويحفرون لك قبرا مظلما ثم يدس أنفك هذا في التراب ثم تبعث عريانا عطشانا جيعان ثم توقف بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة ثم ينادي المنادي من كان له حق أو مظلمة على الغوري فليحضر فيحضر خلائق لا يعلم عدتها إلا الله تعالى فتغير وجه السلطان من كلامه فقال كاتب السر وجماعة السلطان الفاتحة يا سيدي الشيخ خوفا على السلطان أن يختل عقله فلما ولي الشيخ ، وأفاق السلطان قال ائتوني بالشيخ فعرض عليه عشرة آلاف دينار يستعين بها على بناء البرج الذي في دمياط فردها عليه ، وقال أنا رجل ذو مال لا أحتاج إلى مساعدة أحد ، ولكن إن كنت أنت محتاجا أقرضتك ، وصبرت عليك فما رؤى أعز من الشيخ في ذلك المجلس ، ولا أذل من السلطان في هكذا كان العلماء العاملون ، وقد صرف على عمارة البرج بدمياط نحو أربعين ألف دينار ، ولم يساعده فيها أحد إنما كان يعقد الأشربة ، ويتاجر في الخيار شنبر ، ونحوه رضي الله عنه ، ولم يأخذ قط معلوم وظيفة من وظائف الفقهاء ، وكان ينفر طلبته من أكل أوقاف الناس ، قبول صدقاتهم ، ويخبرهم أنها تسود وجه قلوبهم رضي الله عنه . وله من المصنفات شرح منهاج النووي في الفقه ، وشرح الستين مسألة ، وكتاب القاموس في الفقه ، وشرح قطعة من الإرشاد لابن المقري رضي الله عنه ، وكان متواضعا مع من قرأ عليهم القرآن ، وهو صغير ولم يصده ما وصل إليه من العلوم ، والمعارف ، والشهرة عن ذلك ، ولقد رأيته مرة راكبا فنزل ، وقبل يد أعمى تقوده ابنته فقلت له من هذا ؟ فقال هذا أقرأني ، وأنا صغير حزبين من القرآن رضي الله عنه فما أقدر قط أن أمر عليه ، وأنا راكب ، وأخبر زوجته أن ، ولدها حمزة يقتل شهيدا ، وأنه يأتيه مدفع فيطير رأسه معه فكان كما قال ، وأخبر أن ولده سريا يعيش صالحا ، ويموت على ذلك ، ولما حضرته الوفاة أخبر ، والدته أنه يموت في تلك الرقدة فقالت له من أين لك علم هذا ؟ فقال أخبرني بذلك الخضر عليه السلام فكان كما قال فكانت ، والدته تخبر أنها لما حملت به رأت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعطاها كتابا فكان الكتاب هو الشيخ . وأخبرني ، ولده سيدي سري فسح الله في أجله أن والدته رأت الشيخ بعد مماته فقالت له ما وقع لك مع منكر ، ونكير فقال كلمونا بكلام مليح ، وأجبناهم بجواب فصيح . توفي رضي الله عنه في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وله من العمر نيف ، وخمسون سنة رضي الله عنه ، ودفن بزاويته بدمياط ، ودفن عنده الأخ العزيز العارف بالله تعالى سيدي أبو العباس الحريثي رضي الله عنه . ومنهم الأخ الصالح الشيخ محمد السندناوي المحلي رحمه الله تعالى كان شابا صواما قواما قليل الكلام حسن السمت كريم النفس يحب الوحدة لا يمل منها ، أحب إليه يجلس في المساجد المهجورة ، والخرائب . اجتمع رحمه الله تعالى بالشيخ العارف بالله تعالى سيدي علي الدويب بالبحر الصغير بنواحي دمياط ، وحصل له منه نفحات ، وكساه جبته ، وقال يا محمد ما فرح مني بذلك قط أحد غيرك وكانت له ، والدة يبرها ، ولا يكاد يرفع صوته عليها ، وكان يقول لها هبيني الله عز وجل ، والميعاد بيننا في الآخرة ليقطع طمعها منه ، ومكث رضي الله عنه سنين عديدة يحج على التجريد ماشيا حافيا لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يقبله منه ، وكان الغالب عليه السذاجة في أمور الدنيا ، والحذق في أمور الآخرة ، وكان كثير التوجه إلى الله تعالى قليل الكلام حسن المعاشرة لين الجانب لعامة المسلمين واسع الأخلاق لا يكاد أحد يغضبه ، ولو فعل معه ما فعل ، أخذ عنه جماعة من أهل الطريق ، وانتفعت بمواعظ ، وآدابه رضي الله عنه ، وصحبته نحو خمس عشر سنة ما رأيت عليه شيئا يشينه في دينه رضي الله عنه . مات سنة ثلاث ، وثلاثين ، وتسعمائة ، ودفن بسندفا بالمحلة الكبرى رحمه الله تعالى . ومنهم الشيخ الكامل المحقق سيدي أحمد الرومي رضي الله تعالى عنه المقيم بمصر العتيق تجاه مقياس نيل مصر المحروسة . صحبته رضي الله عنه نحو عشرين سنة ، وكان كثير المجاهدات والرياضات أخبرني أن له سبع عشرة سنة لم يقرب من عياله اشتغالا بالله تعالى ، وكان يقول : قد فعلنا السنة ، وولدنا أولادا كثيرة ، وحصل المقصود ، وكان رضي الله عنه حسن السمت على الهمة كثير العزلة يحب الخمول ، ويأخذ في أسباب الخفاء ، ويقول ما بقي للظهور الآن فائدة فإن الفقير لا ينبغي له الظهور إلا لمصلحة الناس من أخذهم الطريق عنه ، وقبول شفاعاته فيهم عند الملوك والأمراء ، وما بقي عند الأمراء اعتقاد في أحد ، ولا عند أحد من الفقراء همة يطلب بها السلوك في طريق الله عز وجل وكان له كل يوم من الجوالي ، وغيرها نحو كذا كذا دينارا فينفقها كل يوم ، ويتظاهر بجمع الدنيا ويقول نظهر الشمم على أركان الدولة صيانة للخرقة عن الانتهاك جهدنا رضي الله عنه ، وكان محققا في علوم النظر غواصا في بحار التوحيد هينا لينا بشوشا غالب أيامه صائما ، وربما طوى لأربعين يوما لا يأكل كل يوم غير تمرة أو زبيبة رضي الله عنه . مات سنة نيف وتسعين رضي الله عنه . ومنهم الشيخ الصالح العابد شاهين المحمدي رضي الله عنه أحد أصحاب سيدي الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عمر روشني بناحية توريز العجم رضي الله عنه ، كان من جند السلطان الأعظم قايتباي رحمه الله ، وكان مقربا عنده فسأله أن يتركه ، ويخليه لعبادة ربه ففعل ، وأعتقه فساح إلى بلاد العجم ، وأخذ عن شيخه المذكور ثم رجع إلى مصر فسكن الجبل المقطم ، وبنى له فيه معبدا ، وحفر له فيه قبرا ، ولم يزل مقيما فيه لا ينزل إلى مصر نحو ثلاثين سنة ، وكان له الشهرة العظيمة بالصلاح في دولة السلطان ابن عثمان ، وتردد الأمراء ، والوزراء إلى زيارته ، ولم يكن ذلك في مصر لأحد في زمنه وكان كثير المكاشفة قليل الكلام جدا تجلس عنده اليوم كاملا لا تكاد تسمع منه كلمة ، وكان كثير السهر متقشفا في اللبس معتزلا عن الناس إلى أن توفاه الله تعالى سنة نيف ، وتسعمائة رضي الله عنه . ومنهم الشيخ الصالح عبد القادر السبكي رحمه الله تعالى أحد رجال الله تعالى : كان من أصحاب التصريف بقرى مصر رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه كثير التلاوة للقرآن كثير الشطح لا يصبر على معاشرته إلا أكابر الفقراء . وكان كثير التشعيث لمن عرف منه أنه يعتقده ، وكان كثير الكشف لا يحجبه الجدران ، والمسافات البعيدة من اطلاعه على ما يفعله الإنسان في قعر بيته وكان ليله كله تارة يقرأ ، وتارة يضحك ، وتارة يكلم نفسه إلى الصباح ، وكان إذا ذهب إلى السوق يسخره أهل الحارة في قضاء حوائجهم فيقضيها لهم على أتم الوجوه ، وكان له في خرجه وعاء واحد يشتري قيه جميع ما يطلبه الناس من المائعات فكان يضع فيه الشيرج ، والعسل ، والزيت الحار ، وغير ذلك ثم يرجع فيعصر من الإناء لكل أحد حاجته من غير اختلاط ، وكان له حمارة يجعل لها ولأولادها براقع على وجوهها ، ويقول إنما أفعل ذلك خوفا من العين ، وكان إذا لم يجد مركبا يعدي فيه يركبها ويسوقها على وجه الماء إلى ذلك البر ، وكان يتكلم بالكلام الذي يستحي منه عرفا ، وخطب مرة عروسا فرآها فأعجبته فتعرى لها بحضرة أبيها . وقال انظري أنت الآخرى حتى لا تقولي بعد ذلك بدنه خشن أو فيه برص أو غير ذلك ثم مسك ذكره ، وقال انظري هل يكفيك هذا ، وإلا فربما تقولي هذا ذكره كبير لا أحتمله أو يكون صغيرا لا يكفيك فتقلقي مني وتطلبي زوجا أكبر آلة مني ، وكان له بنت يحملها على ظهره أي موضع ذهب حتى كبرت ، وهو يحملها على كتفه ، وهو يقول : خوفا من أولاد الزنا ، وكان ربما ذهب ليغسل لها ثوبها في البركة فيحفر لها في الأرض ، ويردم التراب عليها حتى ينشف ثوبها ، وركب آخر عمره الخيول المسومة ، ولبس لباس الأمراء ، ووضع الريش في عمامته كالجاويش فكان كل من رآه يعتقد أنه جاويش ، وكان الباشا داود لا يرد له كلمة ، وكذلك الدفتردار وابن بغداد ، وغيرهم من قضاة الشرع ، وربما ادعى على بعض المنكرين عليه دعاوي باطلة في ظاهر الشرع ، وحكم له القضاة بها لا يستطيعون مخالفته قهرا عليهم ، وأخرب دورا كثيرة من المنكرين عليه رضي الله عنه لكونه كان كثير العطب . مات سنة نيفة ، وتسعمائة . ومنهم الشيخ الصالح العابد أحمد الكعكي رضي الله عنه كان عابدا زاهدا كثير الغوص في علم التوحيد لكن لسانه مغلق لا يكاد يفهم عنه ، وكان أول ما يبلي من ثوبه موضع ركبتيه من كثرة السجود ، والجلوس ، وكان ورده في اليوم ، والليلة نحو أربعين ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واثني عشر ألف تسبيحة ، وأحزابا ، وأسماء ، وربما دخل في ورده من اصفرار الشمس فما يقوم منه إلى ضحوة النهار ، وكان كثير الشطح تبعا لشيخه سيدي الشيخ محمد الكعكي المدفون بالقلعة بزاويته بالقرب من سيدي سارية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر على صحبته كل أحد ، وكان الغالب عليه محبة الخمول ، وعدم الشهرة ، وكان لا يسكن إلا في الربوع بين السوقة ، والمحترفين وينهي عن سكني الزوايا ، والربط ، ويقول : ما بقي أهل القرن العاشر يقدرون على القيام بحق الظهور . صحبته رضي الله عنه أكثر من عشرين سنة ، وكان يخبرني بما يقع في بيتي وبما يخطر لي ، وكان غالب الناس لا يعتقده لكثرة تشعيثه قولا لا فعلا تسترا لحاله رضي الله عنه . مات رضي الله عنه خامس عشر رجب سنة اثنتين ، وخمسين ، وتسعمائة ، ودفن ببولاق في مقام العارف بالله تعالى سيدي حسين أبي علي رضي الله عنه . ومنهم الشيخ الكامل سيدي علي الهندي رضي الله تعالى عنه نزيل مكة اجتمعت به فيها سنة سبع ، وأربعين ، وتسعمائة ، وترددت إليه ، وتردد إلي ، وكان عالما ورعا ، وزاهدا نحيف البدن لا تكاد تجد عليه أوقية لحم من كثرة الجوع ، وكان كثير الصمت كثير العزلة لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة في الحرم فيصلي في أطراف الصفوف ثم يرجع بسرعة ، وأدخلني داره فرأيت عنده جماعة من الفقراء الصادقين في جوانب حوش داره كل فقير له خص يتوجه فيه إلى الله تعالى منهم التالي ، ومنهم الذاكر ، ومنهم المراقب ، ومنهم المطالع في العلم ما أعجبني في مكة مثله ، وله عدة مؤلفات منها ترتيب الجامع الصغير للحافظ السيوطي ، ومنها مختصر النهاية في اللغة ، وأطلعني على مصحف بخطه كل سطر ربع حزب في ورقة واحد ، وأعطاني نصفي فضة ، وقال لك المعذرة في هذا البلد فوسع الله علي الحج ببركته حتى أنفقت مالا عظيما من حيث لا أحتسب ، رضي الله عنه . ومنهم الشيخ شعبان المجذوب رضي الله عنه كان من أهل التصريف بمصر المحروسة وأقعد آخر عمره في زاويته بسويقة اللبن إلى أن مات ، وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل ، وأخبرني سيدي على الخواص رضي الله عنه أن الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوبا على العباد ، وكان إذا اطلع على موت البهائم يلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم البقر أو الغنم أو تسخير الجمال الجهة السلطنة يلبس الشليف الليف فيقع الأمر كما نوه به . وكان سيدي على الخواص إذا أشكل عليه أمر يبعث يسأله عنه ، وكان رضي الله عنه يرسل يخبرني مع النقيب عن أحوالي الواقعة في الليل . وجاءني مرة امرأة من الريف تريد أن تفسخ نكاح ابنتها لكون زوجها غاب عنها مدة طويلة فباتت عندي من غير علمي فأرسل نقيبه لي من الفجر يقول لي يقول لك الشيخ لا تفرق بين رأسين في الحلال فعلمت أن زوجها سيرجع فأخبرت المرأة فرجعت عن ذلك ، وجاء الأمر كما قاله ، هذا ، والمرأة لم تخاطبني بكلام ، وإنما كانت مضمرة في نفسها أنها تحبرني بذلك بكرة النهار فعلم الشيخ بخاطرها رضي الله عنه . وكان يقرأ سورا غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة ، وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامي يظن أنها من القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل ، وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار على طريقة الفقهاء الذين يقرءون في البيوت فصغيت إلى ما يقول فسمعته يقول ، وما أنتم في تصديق هود بصادقين ، ولقد أرسل الله لنا قوما بالمؤتفكات يضربوننا ، ويأخذون أموالنا ، وما لنا من ناصرين ، ثم قال اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان ، وفلان إلى آخر ما قال ؛ وكان رضي الله عنه عريانا لا يلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد يغطي قبله ، ودبره فقط ، وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب ، وكانت الخلائق تعتقله اعتقادا زائدا لم أسمع قط أحدا ينكر عليه شيئا من حاله بل يعدون رؤيته عيدا عندهم تحنينا عليه من الله تعالى رضي الله عنه ، مات رضي الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة . ومنهم الشيخ الصالح المعتزل عن الناس بجامع آل ملك إبراهيم كان رضي الله عنه مقيما بالجامع المذكور نحو أربعين سنة صابرا على الوحدة حين خربت حارة الجامع ليلا ، ونهارا شتاء وصيفا ، وكانت الأكابر تتردد إليه تتبرك به ، وكان يلبس العمامة أو الثوب لا يخلعها حتى تذوب عليه ، صحبته نحو ثلاثين سنة . مات رضي . الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة . ومنهم الشيخ العارف بالله تعالى محمد الصوفي رحمه الله تعالى نزيل مدينة الفيوم : كان رضي الله عنه من أكابر العارفين يأكل من عمل يده بالحياكة ، وغيرها ، ولا يقبل من أحد شيئا ، وكان يحل مشكلات الشيخ محيي الدين بن العربي بأفصح عبارة ، ومن كلامه رضي الله عنه : اعلم أن السير في الطريق سيران : سير إلى الله ، وسير في الله فما دام السالك في المسالك الفانية التي هي طريق العدم فهو في السير إلى الله فإذا قطع كرة الوجود صار إلى المعبود ، ولم تكن هذه الرتبة إلا من طريق الأسماء كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه بقوله : على سمة الأسماء تجري أمورهم . . . وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة ففي البداية أنت أنت ، والاسم الاسم ، وفي وسط الطريق تارة أنت ، وتارة الاسم وفي النهاية أنت ، ولا اسم فإن التخلق به يظهر فعله على ناسوتك لقوته فلا يرى منك إلا فعل الاسم فالمرئي أنت لا الاسم لقصور نظر الرائين ، وأما النافذ البصر فهو يعرف قوة الإكسير يرجع صاحب هذا المقام به من غير مفارقة ، ولا بعد مسافة ، ولا قربها قال ، وثم مقام يدخل به العبد إلى حضرة الرب من غير واسطة أسماء ، وأطال في ذلك بكلام يدق على العقول رضي الله عنه ، وكان يقول طي المعاني مجال أهل العلم الأكبر ، وطي المحسوسات مجال أهل العلم الأصغر ، وكان يقول الصفات ، وإن كانت راجعة لعين واحدة فبعضها متوقف على بعض توقف ظهور لا توقف إيجاد لأنها زمام الباطن من حيث الظاهر ، والباطن زمام لها من حيث إن الفيض لها لا تكون إلا منه ، وانظر كم شخص يقول لا إله إلا الله فلا يحصل له فتوح أهلها ، وكان يخبر أنه يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يقظة أي ، وقت أراد ، وهو صادق لأنه صلى الله عليه وسلم ، سائر في كل مكان وجدت فيه شريعته وما منع الناس من رؤيته إلا غلظ حجابهم ، صحبته نحو خمس ، وثلاثين سنة ، وانتفعت بكلامه ، وإشارته ، رضي الله عنه . ومنهم الشيخ عبد العال المجذوب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يلبس قميصا إنما كان يلبس إزارا صيفا ، وشتاء ، وكان مكشوف الرأس لم يزل محافظا على الطهارة ، وكانت صلاته تامة بطمأنينة ، وذيول كأنه جذع نخلة ، وكان يمدح النبي صلى الله عليه وسلم فيحصل للناس من إنشاده عبرة ، ويبكون ، وكان يطوف البلاد ، والقرى ثم يرجع إلى مصر ، وكان سواكه مربوطا في إزاره ، وكفنه لم يزل مربوطا على بطنه إلى أن توفي ، وكان يحمل إبريقا عظيما فيه ماء ويمر على الناس في شوارع مصر يسقيهم . ولما دنت ، وفاته دخل لنا الزاوية ، وقال الفقراء يدفنون في أي بلد فقلت الله أعلم فقال في قليوب فكان الأمر كما قال بعد ثلاثة أيام ، ودفن قريبا من القنطرة التي في وسط قليوب وبنوا عليه في سنة ثلاثين وتسعمائة ، رضي الله عنه . ومنهم الشيخ خليل المجذوب رضي الله عنه أصله من قرية يقال لها المنيتين قريب من مليج ، وشيبين ، وكان عريانا ، ولم يزل بالمنيتين إلى سنة أربعين ، وتسعمائة فانتقل إلى شيبين فلما سافرنا إليها لعمارة الجامع بها ، وجدناه مقيما بالبقعة التي عملنا فيها الجامع ، وأخبرنا أهل شيبين أن له مدة سنة وهو يحفر حفرا في تلك البقعة ، ويقول : الجامع الجامع فكان الناس لا يعرفون معنى كلامه حتى عمرنا الجامع في ذلك الموضع ، ولما وصلنا في المركب إلى ساحل البحر خرج من شيبين ، وتلقانا ، وهو يضحك ، وأظهر السرور ، ولم يزل حولنا حتى عمرنا الجامع ، وظهرت له كرامات خارقة ، وكشوفات صادقة رضي الله عنه ، وكان له طونس ساقية لم يزل خارقه في عنقه ليلا ، ونهارا نحو قنطار ، وكان يطوف حول بلده طول النهار ، ويزغرت ، وتارة يصيح ، وتارة يصمت ، ورأيته مرة من بعيد ، وهو صاعد كوم بلده فقلت في سري يا ترى هل هو أحمدي أم برهامي فصاح يا دائم يا دائم يشير إلى أنه برهامي رضي الله عنه . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة ، ودفن ببلده بشيبين رضي الله عنه . ومنهم الشيخ عامر المجذوب رضي الله تعالى عنه أصله من قرية يقال لها البيجور ثم انتقل إلى ناحية سرس ، ومنوف ، وكان شأنه الصمت ليلا ونهارا ، وكان عامة نهاره ، وليله واقفا على كوم عال ومعه طوق حجر طاحون يحركه بين رجليه ، وهما مفرقتان ، وكانت له عمامة نحو قنطار لا يستطيع أحد أن يضعها على رأسه من ثقلها يجمعها من شراميط الكيمان ، وقد أخبرني الشيخ الصالح أحمد السطيحة أنه لما سافر إلى صعيد مصر عارضة فقراء الصعيد من أهل الباطن ، وأنه استنجد بسائر الأولياء فما أجابه ، وخلصه سوى الشيخ عامر هذا رضي الله عنه ، وكان لا يأكل إلا إذا وضعوا له الأكل ، وإن لم يطعمه أحد يصبر ، ولو شهرا . مات رضي الله عنه في سنة نيف ، وتسعمائة . ومنهم الشيخ عمر المجذوب رضي الله عنه كان رضي الله عنه مقيما بسوق أمير الجيوش بمصر المحروسة ، وكان كثير المكاشفات ، ومن جملة ما وقع لي معه أنني لما سافر السلطان قانصوه الغوري إلى مرج دابق سنة قتل في معركة ابن عثمان قلت له يا شيخ عمر هل يدخل السلطان ابن عثمان مصر قال نعم ، ويمر من هذا المكان ، وهنا موضع حافر فرسه فحفظنا عليه ذلك القول حتى دخل السلطان سليم مصر ، ووقع حافر فرسه في ذلك الموضع الذي عينه رضي الله عنه ، وكان يخبر بالأمور المستقبلة ، ومن يتولى من الولاة أو يعزل أو يموت ، وكان إذا نام لا يضع رأسه عن الأرض إلى الصباح ، وكان ليله كله سهران ، كان إذا لبس القميص لا ينزعه حتى يذوب ، وكان على رأسه عرقية بيضاء فقط من غير قلنسوة ، ولا عمامة ، صحبته نحو ثلاثين سنة . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة . ومنهم الأخ الصالح الورع الزاهد الشيخ سلمان الحانوتي رضي الله عنه مكث نحوا من سبعة وثلاثين سنة لا يضع جنبه الأرض كما أخبر بذلك على سبيل التحدث بالنعم ، كان أكثر إقامته في المساجد المهجورة ، والبساتين الخراب ليلا ، ونهارا ، وكانت ثيابه تارة رثة ، وتارة كثياب القضاة التجار ، ولونه تارة ، تجده أحمر كالقرمزي ، وتارة أصفر متحولا ، تارة تجده أسمن ما يكون ، وتارة أهزل ما يكون ، وكان يخبرني بوقائعي في الليل واحدة كأنه جالس معي فيها ، وكان يحب الخمول وعدم الشهرة فكل مكان عرف فيه انتقل منه وكان تارة تجده في بركة الحبش وتارة في الريدانية وتارة ، في الجزيرة الوسطانية ، وكان يدخل مصر أبدا إنما هو حواليها ينتقل من ناحية إلى ناحية وبني خصه بالطوب من غير طبن فكان كل ساعة ينهدم ، ويبنيه ثانيا ، وثالثا ، وهكذا ، ولا يمكن أحدا يبنيه بالطين . مات رضي الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة . ومنهم الشيخ الصالح السني المحمدي شهاب الدين بن داود بن المنزلاوي رضي الله عنه كان رضي الله عنه ملازما للعمل بالكتاب ، والسنة ، ما رأت يعني بعد الشيخ محمد بن عنان أضبط للسنة منه ، وكان يقول من أراد حفظ السنة فليعمل بها فإنها تتقيد عنده ، ولا ينساها ، وكان يدرس العلم ، ويقرأ كتب التصوف في زاويته على بحيرة دمياط ، وكان موردا للضيوف الواردين من دمياط ، والصادرين ، وكان ربما لم يجد شيئا للضيف غير الأرز فيعلق الدست ، ويضع الماء يغليه ، ويطعمه للضيف فيقول له ما أطيب لبن هذا الرز فيقول الشيخ سبحان الستار ، صحبته رضي الله تعالى عنه نحوا من أربعين سنة ما رأيته قط زاغ عن السنة في شيء من أحواله . مات سنة إحدى وخمسين وتسعمائة عن نيف وثمانين سنة رضي الله تعالى عنه . ومنهم الشيخ الصالح العابد الزاهد الشيخ علي العياشي رضي الله عنه كان من أجل أصحاب سيدي أبي العباس الغمري رضي الله عنه ، ومكث رضي الله عنه نحو نيف ، وسبعين شنة لا يضع جنبه الأرض إلا من مرض شديد ، وكان اشتغاله دائما ليلا ، ونهارا ، من قراءة إلى ذكر إلى صلاة ، وكان ينظر إبليس ، ويضربه بالعصا فقال يوما إني لا أخاف من العصا ، وإنما أخاف من نور القلب ، وجلس معنا ليلة في مجلس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة فأخذ عصاه ، وضرب بها إنسانا في المجلس فقال : لم ضربتني فقال له ؛ إنما ضربت الشيطان الذي رأيته راكبا على عنقك ، ورجلاه مدلاتان على صدرك ، وكانت الأولياء الأموات يزورونه كثيرا لا سيما الإمام الشافعي رضي الله عنه فكان يخبر كل قليل أنه كان عنده يقظة لا نوما ، وكان من لا يعرف حاله يقول هذا خراف ، ورأيته مرة افتتح القرآن من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر فقرأ خمسة أحزاب فقط بترتيل ، وتكرارا ، وكنا ونحن شباب نقوم من الليل فنجده قائما يصلي هكذا على الدوام ، وما رأيت له قط فروة يجلس عليها ، ولا مخدة ، ولم يزل على ذلك إلى أن كف بصره أواخر عمره فلم ينقص من أوراده شيئا ، وكان إذا لم يجد من يوضئه تأتيه الأولياء فيوضئونه فيقول وضأني الإمام الشافعي رضي الله عنه هذا الوقت وضأني فلان وضأني فلان ويصلي بذلك الوضوء ، وكان يعض الناس ينكر ذلك حيث لم ير من يوضئه ، ويقول هذا خف عقله رضي الله عنه ، مات رضي الله عنه سنة نيف ، وتسعمائة . وليكن ذلك آخر الطبقات ، وقد أحببت أن ألحقها بذكر نبذة صالحة من أحوال العلماء العاملين من أهل مذهبنا فقط تبركا بذكرهم ، ونشرا لعبير مسكهم رضي الله عنهم فأقول ، وبالله التوفيق كان أبو بكر بن إسحاق الضبعي لا يترك قط قيام الليل في سفر ، ولا حضر ، ولا صيف ، ولا شتاء ، وكان إماما في جميع الحلوم ، وكان ابن الصباغ رضي الله عنه حافظ للمذهب صائم الدهر ، وكان القمولي رضي الله عنه لا يفتر قط عن قول لا إله إلا الله . وكان أبو العباس الدبيلي رضي الله عنه يصوم دائما ، ويدرس القرآن دائما ، ويخيط بالنهار فإذا أمسى صلى المغرب واشتغل بالفقه رضي الله عنه . وكان أبو زيد المروزي رضي الله عنه متقشفا زاهدا ، وكان أصحابه رضي الله عنهم يقولون خالطناه إلى أن مات فما نظن أن الملائكة كتبت عليه خطيئة رضي الله عنه . وكان الإمام ابن الحداد يختم كل يوم ، وليلة ختمة ، ويصوم يوما ، ويفطر يوما ، ويختم كل جمعة ختمة أخرى في ركعتين في الجامع قبل الصلاة سوى التي يختمها كل يوم رضي الله عنه . وكان الإمام أبو جعفر الترمذي رضي الله عنه نفقته أربعة دراهم في كل شهر ، وكان لا يسأل أحدا قط رضي الله عنه وربما كان رضي الله عنه يتقوت بحبة زبيب كل يوم ، وكان مع ذلك شجاعا رضي الله عنه ، وكان الإمام ابن خزيمة رضي الله عنه يضرب به المثل في الأدب لا سيما مع شيخه البوشنجي حتى إنه سئل عن مسألة وهو في جنازة فقال لا أفتي حتى أواري أستاذي التراب رضي الله عنه . وكان الشيخ أبو العباس النيسابوري رضي الله عنه يقول : ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ألف ختمة وضحيت عنه اثنتي عشرة ألف أضحية رضي الله تعالى عنه . وكان الإمام محمد بن برذزبه البخاري رضي الله تعالى عنه يختم القرآن كل يوم ، ويقرأ في الليل عند السحر ثلثا من القرآن فمجموع ذلك ختمة ، وثلث ، وكان يقول : أرجو أن ألقى الله تعالى ، ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضي الله تعالى عنه يقول : ما تكلمت قط كلمة ، ولا فعلت فعلا منذ وعيت على نفسي حتى أعددت لذلك جوابا بين يدي الله عز وجل . وكان الإمام محمد النيسابوري يصلي طول نهاره ، ويصوم الدهر فإن أتاه مستفت أفتاه ، وإلا فهو في صلاة رضي الله عنه . وكان الإمام محمد المعروف بفقيه الحرم أحد تلامذة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي يقرأ كل يوم ستة آلاف مرة ' قل هو الله أحد ' من جملة أوراده رضي الله تعالى عنه . وكان الإمام الحسن الأصبهاني رضي الله تعالى عنه ينفرد عن تلامذته كل أسبوع ، ويبكي حتى ذهبت عيناه ، ويقول : قد بكى من كان قبلي الدم ، وما قاموا بواجب حق الله عز وجل رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ زين الأمناء الدمشقي رضي الله تعالى عنه قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء ثلثا للتلاوة ، والتسبيح ، وثلثا للنوم ، وثلثا للعبادة ، والتهجد ، وكان يطول السجود ، وكان يقال له السجاد ، وكان نهاره كذلك رضي الله عنه . وكان الإمام الحسن بن سمعون رضي الله عنه إماما زاهدا ورعا كثير التهجد قلما يخرج من بيته إلا في أيام الجمع لأجل الصلاة ، وطول نهاره في قعر بيته رضي الله عنه . وكان الشيخ أبو علي بن حيران رضي الله عنه إماما زاهدا صامتا فأكرهه السلطان على أن يوليه القضاء فأبى فوكل على بابه حراسا ، وختم على باب داره بضعة عشر يوما ثم أعفاه ، وقال لبعض تلامذته انظر يا بني حتى تحدث إن عشت بعدي أن إنسانا به مثل هذا ليلي القضاء فامتنع ، وكان يعيب على ابن سريج في ولايته الضاء ، ويقول : هذا الأمر لم يكن في أصحابنا ، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه . وكان أبو عبد الله الحاكم يقول : تبعت الشيخ حسينا النيسابوري حضرا وسفرا نحو ثلاثين سنة فما رأيته قط يترك قيام الليل يقرأ في كل ركعة سبعا رضي الله عنه . وكان الإمام البغوي رحمه الله زاهدا ورعا حتى كان يأكل الخبز وحده فعذلوه في ذلك فصار يأكله بالزيت إلى أن مات رضي الله عنه . وكان القفال المروزي يغلب عليه البكاء في الدرس حتى يغمي عليه ثم يفيق ، ويقول : ما أغفلنا عما يراد بنا رضي الله تعالى عنه . وكان أبو بكر النيسابوري رضي الله عنه يقوم الليل دائما حتى مكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ عبد الله الأصبهاني المعروف بابن اللبان رضي الله عنه يصلي بالناس التراويح ، ويصرفهم ثم ينتصب للصلاة حتى يطلع الفجر فإذا صلى جلس يدرس أصحابه ، وكان لا يضع جنبه للنوم في رمضان ليلا ، ولا نهارا . وكان ابن أبي حاتم رضي الله عنه زاهدا ورعا خاشعا لا يكاد يرفع طرفه إلى السماء ، وجاءه رجل ، وهو في الدرس فقال إن سور طرسوس قد انهدم منه جانب ، واحيتج في عمارته إلى ألف دينار فقال الشيخ للحاضرين من يعمره ، وأنا أضمن له على الله قصرا في الجنة فقام رجل أعجمي ، وجاء بألف دينار ، وقال اكتب لي ورقة بهذه الضمانة فكتب له الشيخ ثم إن العجمي مات ، ودفنت معه الورقة فحملها الريح حتى ألقاها في حجر الشيخ رضي الله عنه فإذا مكتوب في ظهرها قد وفينا ما ضمنته ، ولا تعد رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ عبد الرحمن الأنباري النحوي رضي الله عنه لا يوقد قط في بيته سراجا لعدم صفاء ثمن ما يشتري به الزيت ، وكان تحته حصير قصب وعليه ثوب خلق ، وعمامته من غليظ القطن فيصلي فيها الجمعة ما يفرق الناس بينه ، وبين الشحاتين في رثاثة الهيئة ، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة رضي الله عنه . وكان الشيخ عبد الرحمن الداودي البوشنجي رضي الله عنه عالما ورعا زاهدا لم يأكل اللحم منذ أربعين سنة من حين نهبت التركمان البهائم ، وكان لا يأكل السمك فحكى له شخص أن بعض الجند أكل على شاطئ النهر الذي يصاد له منه ، ونفض سفرته في النهر فأكله السمك فلم يأكل بعد ذلك منه سمكا ، وكان له أرض ورثها من آبانه يزرع فيها ما يقوته ، وله فيها بقرة ، وبئر ماء فمطرت يوما فأطلقت البقرة إلى أرض جاره ثم رجعت وفي حافرها ، وحل فاختلط في أرضه فترك الأرض للناس ، وخرج منها ، ولم يزرع بعد ذلك فيها شيئا إلى أن مات ، وكان له فرن يخبز فيه في داره فجاء فقراء يزورنه ، وكان غائبا فوجدوا باب فرنه قد انهدم منه جانب فعجنوا طينا ، وأصلحوه فامتنع من الخبز فيه ، وبني له خلافه لكون من ليس على قدمه في الورع بناه رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ عبد الله الرازي رضي الله عنه أحد طلبة أبي إسحاق الشيرازي مجاب الدعوة ، وحج مرة فعطش الحجاج فقالوا له : يا فقيه استسق بنا فتقدم ، وقال : اللهم إنك تعلم أن هذا بدن لم يعصك قط في لذة ثم استسقى فنزل المطر كأفواه القرب رضي الله تعالى عنه . وكان الشيخ أبو الحسن المقري رضي الله عنه من العلماء العاملين طول ليله في صلاة ، ونهاره في صيام وكان عارفا زاهدا حتى إنه كان بينه ، وبين أخيه عمامة ، وقميص فكان إذا خرج أحد لبسهما ، وجلس الآخر في البيت ، ودخل عليه زائر يوما فوجده عريانا فقال : نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيب الطبري رضي الله تعالى عنه : قوم إذا غسلوا جمال ثيابهم . . . لسوا الميوت إلى فراغ الغاسل أو كما قال غيره : قوم إذا غسلوا الثياب رأيتهم . . . لبسا البيوت ، وزرروا الأبوابا رضي الله عنه . وكان الشيخ أبو الحسن الاستراباذي مجتهدا في العبادة عمره ، وكان يكتب عامة النهار ، وهو يقرأ القرآن ظاهرا لا يمنعه أحد الأمرين عن الآخر رضي الله عنه ، وكان إذا دخل عليه أحد ، وأكثر اللغو يقول له أخرج ، ولو كان من أعز الناس ، وكان له الدرس ، والفتوى ، ومجلس النظر ، والتوسط ، ومع ذلك كان يختم كل يوم ختمة رضي الله عنه . وكان الشيخ أبو علي المرزباني رضي الله عنه إماما ورعا زاهدا ، وكان يقول ما أعلم لأحد قط على مظلمة في مال أو عرض ، مثله لا يخفي عليه تحريم الغيبة ، وسوء الظن بالمسلمين رضي الله عنه . وكان أبو الحسن الأشعري إماما زاهدا ورعا عالما مواظبا على السنة مقدما على أقرانه من المتكلمين رضي الله عنه ، ومكث عشرين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء ، وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهما رضي الله عنه . وكان الحافظ ابن عساكر رضي الله عنه إماما زاهدا ورعا مواظبا على صلاة الجمعة في المسجد كثير التلاوة للقرآن كثير النوافل ، والأذكار آناء الليل وأطراف النهار ، وكان يختم القرآن كل أسبوع في التهجد رضي الله عنه . وكان الشيخ أبو الحسن القزويني رضي الله عنه يكاشف ، ويتكلم على الخواطر ، وكان ملازما للصمت لا يخرج من بيته رضي الله عنه فكل هؤلاء كانوا علماء عاملين غير مشهورين بالعبادة والزهد ، والورع رضي الله تعالى عنهم فذكرناهم لننبه على فضلهم رجاء الخير ، والترحم عليهم رحمهم الله تعالى ، والاقتداء بهم . وأما من اشتهر بالعبادة والزهد ، والورع كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، والإمام الغزالي ، والإمام الرافعي ، والإمام النووي رضي الله تعالى عنهم ، ورحمهم ، ورحمنا بهم فاكتفينا بشهرتهم ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين . قال المؤلف الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الراسخ المحقق المدقق أحد ملوك العارفين بالله تعالى سيدي عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراوي الأنصاري رضي الله تعالى عنه : كان الفراغ من كتابتها ، وتأليفها خامس عشر رجب سنة اثنتين ، وخمسين ، وتسعمائة بمصر المحروسة ، والحمد لله رب العالمين . |
صفحہ 545