لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية
«شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية»
تأليف
الإمام العلامة محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي
(المتوفى سنة ١١٨٨ هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله بن محمد بن سليمان البصيري
[الجزء الأول]
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلمة شكر وتقدير
الحمد للَّه رب العالمين أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بمناسبة إنتهائي من إعداد رسالة "الدكتوراه" وهي دراسة وتحقيق كتاب "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية للعلامة السفاريني ﵀.
فإنى أتوجه بالشكر للَّه سبحانه الذي وفقني وأمدني بعون من عنده ثم أتقدم بالشكر والثناء لكل من قدم لي مساعدة وعونا في إعداد هذه الرسالة وأخص بالذكر استاذي فضيلة الدكتور أحمد مرعي العمري المشرف على رسالتي والذي لقيت منه كل مساعدة وتشجيع. والذي قدم لي الكثير من التوجيه والإرشاد والملاحظات القيمة التي كان لها أثر كبير في هذه الرسالة فجزاه اللَّه خيرًا وبارك فيه.
كما أشكر الزملاء في قسم العقيدة وعلى رأسهم الدكتور صالح العبود الذي نلقى منه كل عناية وتشجيع وجزى اللَّه القائمين على هذه الجامعة المباركة خير الجزاء ووفقهم وسدد خطاهم وبارك في أعمالهم.
كما أشكر الأخ القاضل الشيخ عمر بن سعود العيد الذي ساعدني في الحصول على إحدى مخطوطتي الكتاب وهي نسخة الظاهرية بدمشق فجزاه اللَّه خيرا.
كما أشكر الأخ محمد بن عبد اللَّه السمهري الذي صور لي مقدمته لتحقيق
1 / 3
كتاب البحور الزاخرة في علوم الآخرة، والذي استفدت منه في دراستي هذه. فجزاه اللَّه خيرًا.
كما أشكر الأخوين الفاضلين عبد الرحمن بن محمد البصيري وعبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف الذين قاما بمساعدتي أثناء المقابلة، فجزاهما اللَّه خير الجزاء.
وختامًا أسأل اللَّه ﷿ أن يجعل عملي هذا وكل أعمالي خالصة لوجهه الكريم وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
إنه سميع مجيب.
* * *
1 / 4
مقدمة
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (١).
أما بعد: فإن اللَّه تعالى بعث نبيه محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في اللَّه حق جهاده، وما توفي صلوات اللَّه وسلامه عليه حتى كمّل اللَّه به الدين وأتم به نعمته على المسلمين.
_________
(١) هذه الخطبة تسمى (خطبة الحاجة) وهي تشرع بين يدي كل حاجة مهمة، وقد أفرد فيها العلامة الألباني رسالة خاصة جمع فيها الأحاديث الواردة فيها وطرقها فلتراجع.
1 / 5
كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. [المائدة: ٣].
فكان مما جاء به وبينه ﷺ ما يتعلق بذات اللَّه من توحيد الأسماء والصفات.
وهذا النوع من التوحيد -أي توحيد الأسماء والصفات منزلته في الدين عالية وأهميته عظيمة ولا يمكن أحدًا أن يعبد اللَّه على الوجه الأكمل حتى يكون على علم بأسماء اللَّه تعالى وصفاته ليعبده على بصيرة قال اللَّه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٠].
ولما كانت حاجة العباد إلى معرفة هذا النوع ماسة بل إن حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم إلى الماء والغذاء فقد بينه اللَّه في كتابه بيانًا شافيًا واضحًا وهذا من رحمته تعالى أن ما كانت حاجة الناس إليه أشد كان بيانه واضح ووجوده أعم.
والرسول ﷺ قد وصف اللَّه بما وصف به نفسه في كتابه الذي أنزله ليكون هدى للعالمين ومنارًا للسالكين، فأخبر الناس بأنه تعالى يرحم ويغضب ويرضى ويسخط ويحب ويبغض وأنه مستو على عرشه عال على خلقه وأنه يسمع ويبصر ويعطى ويمنع ويخفض ويرفع وأنه ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، أخبرهم بذلك وغيره فآمن الصحابة به وتلقوه بالقبول من غير شك ولا ارتياب وعاش أصحاب رسول اللَّه ﷺ على هذه العقيدة الصحيحة الصافية الخالية من الشوائب والأكدار، ثم واصلوا مسيرة الخير والنور فانتشر الإِسلام انتشارًا لم يعهد له نظير في سالف الدهر ولاحقه لأي دعوة من الدعوات وبسرعة عجيبة فطبق المعمورة شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا فدخل في الإسلام شعوب مختلفة العادات والأفكار واللغات ولها حضارات وأديان فاعتاضوا عن ذلك كله بالإِسلام.
عند ذلك ثارت ثائرة المجوسية الحاقدة واليهودية الماكرة بغيًا وحسدًا وأخذوا
1 / 6
يخططون لكيد الإسلام وأهله فكان أول هذه المكائد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب ﵁، ثم عثمان ﵁، ثم خروج الخوارج على علي ﵁ وقتلهم إياه ثم ظهر في مقابلتهم التشيع البغيض ثم استفحل إلى الرفض والغلو المفرط ثم ظهرت القدرية المنقصة للَّه ثم كان الإرجاء والتجهم والإعتزال ثم جاءت الأشعرية بتأويلاتها وتحريفاتها وتناقضاتها (١).
وفي مقابل هذه الفرق الضالة والبدع الحادثة هيأ اللَّه لهذه العقيدة من ينصرها ويدافع عنها ويقوم ببيانها وتوضيحها على مر العصور أمثال الإمام أحمد والإمام البخاري وأبى سعيد الدارمي والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء ممن يطول ذكرههم ﵏.
ومن هؤلاء العلماء البارزين العلامة محمد بن أحمد بن سالم السفاريني من علماء القرن الثاني عشر الذي ألف عدة مؤلفات في بيان عقيدة السلف والدعوة إليها والرد على الفرق المخالفة.
ومن هذه المؤلفات كتابه: "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية" وهو هذا الكتاب الذي قمت بدراسته وتحقيقه.
هذا وقد بذلت جهدي وأفرغت وسعي في سبيل خدمة هذا الكتاب وأرجو أن أكون قد وصلت به إلى ما يفيد القارئ الكريم وأسأل اللَّه أن ينفع به وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا ولا أبرئ نفسى من الخطأ والتقصير فهذا من طبع البشر إلا من عصمه اللَّه من رسله وأنبيائه، لكن عذري أني قد بذلت جهدي فما كان فيه من صواب فمن
_________
(١) استفدت في هذه المقدمة من كتاب: ثبات العقيدة أمام التحديات للشيخ عبد اللَّه الغنيمان.
1 / 7
اللَّه وله الحمد والمنة وما كان فيه من نقص وتقصير فمنى واستغفر اللَّه.
وإلى القارئ الكريم بيان عملي ومنهجي في دراسة الكتاب وتحقيقه:
يتكون عملي هذا من قسمين:
القسم الأول: الدراسة.
القسم الثاني: التحقيق والتعليق.
أما الدراسة فستكون في فصلين:
الفصل الأول: دراسة عن المؤلف وفيه مباحث:
المبحث الأول: عصر المؤلف من الناحية السياسية والدينية والعلمية.
المبحث الثاني: حياته الشخصية وفيه الأمور الآتية:
اسمه ونسبه ونسبته.
مولده ونشأته.
أسرته وأصله.
صفاته وسيرته وأخلاقه.
وفاته.
المبحث الثالث: حياته العلمية وفيه:
طلبه العلم ورحلاته وتحصيله العلمي - شيوخه - تلاميذه - مكانته العلمية وثناء العلماء عليه - مؤلفاته - عقيدته ومذهبه.
1 / 8
الفصل الثاني: دراسة الكتاب وفيه مباحث:
المبحث الأول:
١ - اسم الكتاب.
٢ - موضوع الكتاب.
٣ - سبب تأليف الكتاب.
٤ - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف.
٥ - منهج المؤلف في الكتاب.
٦ - مصادر الكتاب.
٧ - موازنة بين الكتاب وبين كتاب "لوامع الأنوار" للمؤلف وبيان أهميتهما.
٨ - بعض المآخذ على الكتاب.
المبحث الثاني:
١ - وصف النسخة الخطية للكتاب.
٢ - تاريخ النسخ.
٣ - الناسخ.
أما منهج التحقيق والتعليق فقد سرت فيه على النحو الآتي:
١ - قراءة النص ومقابلة النسختين واثبات الفروق في الهامش مع المقابلة بكتاب لوامع الأنوار للمؤلف في كثير من المواضع وقد ساعدني كثيرًا في تقويم بعض النصوص التي يتفقان فيها.
وكذلك رجعت إلى المصادر التي ينقل عنها المؤلف وذلك لتوثيق النص وتصويبه
1 / 9
للوصول به إلى أقرب صورة إلى الصواب.
٢ - تحرير نسبة الأقوال والآراء التي يسندها المؤلف إلى أصحابها وعزوها إلى مصادرها من كتبهم ما أمكن ذلك.
٣ - التعليق على المواضع التي رأيت أنها تحتاج إلى بيان وتوضيح وخاصة ما يتعلق بالعقيدة.
٤ - نبهت على الأوهام التي وقعت للمؤلف.
٥ - ذكرت مواضع الآيات القرآنية من كتاب اللَّه.
٦ - خرجت الأحاديث والآثار الواقعة في الكتاب مع بيان ما قاله أهل العلم في الحكم على الحديث بإيجاز.
٧ - ترجمت للأعلام الواقع ذكرهم في الكتاب ولم أترجم للصحابة لشهرتهم.
٨ - شرحت المفردات الغريبة في الكتاب.
٩ - وقعت بعض الأخطاء في نصوص الكتاب فإذا كان النص للمؤلف فإني أبقي النص كما هو -في الغالب- مع الإشارة في الهامش إلى ما رأيت أنه الصواب.
أما إذا كان النص لغير المؤلف ووجدته في أصوله فإني أثبت ما في الأصول مع الإشارة في الهامش إلى ما في أصل النص.
١٠ - عرفت تعريفًا موجزًا بالفرق والبلدان والأماكن الوارد ذكرها في الكتاب.
١١ - جعلت نص القصيدة بين قوسين تمييزًا له عن شرح المؤلف.
١٢ - وضعت فهارس للكتاب وهي:
- فهرس الآيات.
1 / 10
- فهرس الأحاديث.
- فهرس الآثار.
- فهرس الأشعار.
- فهرس الفرق.
- فهرس الأعلام.
- فهرس الموضوعات.
وباللَّه التوفيق.
* * *
1 / 11
القسم الأول:
الدراسة
1 / 13
الفصل الأول دراسة حياة المؤلف وعصره
وفيه مباحث:
المبحث الأول: عصر المؤلف من الناحية السياسية، والعلمية، والدينية
المبحث الثاني حياته الشخصية
المبحث الثالث في حياته العلمية
1 / 14
المبحث الأول في عصر المؤلف
تمهيد:
من المعلوم أنه ينبغي لمن أراد أن يعطي فكرة عن علم من الأعلام وبيانًا لأثره في المجتمع أن يدرس الظروف المحيطة به والبيئة التي عاش فيها ذلك أن الشخص يتأثر بالبيئة وبمن حوله من أساتذته ومعلميه كما يؤثر هو في تلاميذه وبمن يحيطون به ويعاشرونه، فللأحوال السياسية والاجتماعية وغيرهما أثر في تكييف إتجاهه ومنهجه الذي يسلكه من أجل ذلك رأيت أن أعطي القارئ فكرة موجزة عن عصر السفاريني من النواحي الآتية:
١ - الناحية السياسية.
٢ - الناحية الدينية.
٣ - الناحية العلمية.
أولا: الحالة السياسية:
عاش السفاريني ﵀ في القرن الثاني عشر في بلاد الشام في الفترة ما بين (١١١٤ - ١١٨٨ هـ) وكانت بلاد الشام لا تزال تحت الحكم العثماني، وإذا نظرنا إلى الدولة العثمانية في هذا العصر نجدها قد ضعفت بعد قوتها (. . فقد تآلبت عليها دول أوروبا في هذا القرن حتى انتزعت منها كثيرًا من ممتلكاتها وكان سلاطينها من الضعف بمكان فلم يكن لهم شيء من الأمر في الدولة وإنما كان الأمر
1 / 15
لوزرائهم وكان أكثر هؤلاء الوزراء جُهلاء، لا يعرفون شيئًا من أحوال السياسة الدولية في هذا القرن ولا يعرفون ما يجري حولهم ولا يأخذون بشيء من الإصلاح والتجديد، بل يجمدون على ما ألفوه. . .) (١).
(وبهذا انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبده وضعيفة لا تستطيع اخضاع من في حكمها فكثر السلب والنهب وفقد الأمن) (٢).
ويصف محمد كرد علي حالة الشام في القرن الثاني عشر فيقول:
(. . . وسكان هذا القطر -أي بلاد الشام- كسائر الأقطار العثمانية لا عمل لهم إلا رضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة ليزيد الأخذ والعطاء معًا. . .) (٣).
وقد كان لهذه الأحوال السياسية أثر على الأمة الإِسلامية في كثير من نواحي الحياة، ولذا يقول بمعنى المؤرخين:
(إن الحكم العثماني للبلاد الإِسلامية ابتداء من القرن الثاني عشر قد اتسم
_________
(١) انظر كتاب "المجددون في الإسلام" للصعيدي (ص ٤١٦). وانظر "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للدكتور صالح العبود، (ص ٢٥).
(٢) "حاضر العالم الإسلامي" تأليف لوثروب ستودارد، تعليق شكيب ارسلان (١/ ٢٥٩) باختصار، وانظر "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للدكتور صالح العبود، (ص ٢٥ - ٢٦).
(٣) خطط الشام (٢/ ٢٦٧) باختصار.
1 / 16
بالتخلف والإستبداد وإرهاق الرعية بالضرائب والأتاوات الباهظة فعم الفقر والبؤس) (١).
وإذا ما أردنا أن نتعرف على موقف السفاريني من حكام عصره لا شك أن السفاريني ﵀ قد نشأ وتربى في هذا الجو السياسي والظروف القاسية وعانى منها وأحس بوطئتها على من حوله لذا فإنه عندما اكتملت رجولته ووصل إلى درجة التأثير. . (نراه محاربًا للظلم والطغيان صادعًا بكلمة الحق لا يماري فيه ولا يهاب أحدًا والجميع من أعيان بلده وأمرائه ليهابونه، يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر) (٢).
ومما يذكر من شجاعته أنه قال لأمير نابلس لما تولى بعد أبيه وجاء أهل العلم لتهنئته بالإمارة وطلبوا منه إلغاء الضرائب الزائدة عن الزكاة الشرعية فإن المزارعين جائعون لا يشبعون من غلة أراضيهم من الضرائب الفادحة، فقال الأمير: لا أغير شيئًا مما كان عليه والدي المرحوم، فقال له الشيخ السفاريني: وما أدراك أنه مرحوم؟ أزل الضرائب والناس يدعون لك وله فاستجاب الأمير للشيخ وأزال كثيرًا من الضرائب وأخذوا منه كتابه بإزالة الضرائب ودعوا له بالتوفيق (٣).
ثانيًا: الحالة الدينية:
كان العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر يعاني من الجمود والإنحطاط وقد تسربت الأداواء إلى الأخلاق والإجتماع وقبل المسلمون كثيرًا من العادات والشعائر
_________
(١) "مقدمة الدكتور محمد السمهري للبحور الزاخرة"، (ص ١٠) نقلًا عن مذكرة التاريخ لطلبة المعاهد العلمية (ص ٢٨)، وانظر "حاضر العالم الإسلامي" تأليف لوثروب (١/ ٢٥٩)
(٢) انظر "النعت الأكمل" (ص ٣٠٢).
(٣) انظر "التقريض على كتاب لوامع الأنوار البهية" للسفاريني (١/ ٤٧٨).
1 / 17
والتقاليد الأعجمية غير الإِسلامية (١) وانتشر فيه التصوف وظهر فيه كثير من البدع والخرافات فقد اشتدت غربة الإِسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم وانهدمت ملة الحنيفية وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن (٢).
ويصور الكاتب الأمريكى "لوثروب ستودارد" في كتابه: (حاضر العالم الإسلامي) الحالة الدينية المتردية فيقول: (وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة للناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية وخلت المساجد من أرباب الصلوات وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن. . .) (٣).
وينقل لنا السفاريني رحمه اللَّه تعالى في كتابه غذاء الألباب صورًا من مظاهر الحالة الدينية في عصره قال ﵀ -بعد أن ذكر شكوى ابن عقيل (٤) ومن بعده ابن مفلح (٥) من أهل زمانهم وما ظهر في زمنهم من البدع والمنكرات قال: "فما
_________
(١) "مقدمة الدكتور محمد السمهري لكتاب البحور الزاخرة" (ص ١١)، نقلًا عن مقال للشيخ أبى الحسن الندوي.
(٢) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (١/ ١٨٦) وانظر "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ صالح العبود (ص ٢٦).
(٣) "حاضر العالم الإسلامي" (١/ ٢٥٩ - ٢٦٠).
(٤) ابن عقيل: ستأتي ترجمته. انظر (ص ١/ ٢٤٨).
(٥) ابن مفلح: محمد بن مفلح شمس الدين المتوفى سنة ٦٧٣ هـ.
1 / 18
بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه -وهو في المائة الثانية عشرة- وقد انطمست معالم الدين وطفئت إلا من بقايا حفظة الدين فصارت السنة بدعة والبدعة شرعة والعبادة عادة والعادة عبادة، فعالمهم عاكف على شهواته، وحاكمهم متمادي في غفلاته، وأميرهم لا حلم لديه ولا دين، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة للمساكين، وفقيرهم متكبر، وغنيهم متجبر" ثم قال:
مطلب متصوفة زماننا وما يفعلونه من المنكرات
فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران واحضروا آلات المعازف بالدفوف المجلجلة والطبول والنايات والشّباب (١) وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري وهم على عبادة عجلهم يعكفون أو حضرت مجمعا وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار والفراء المثمنة والهيئات المستحسنة وقدموا نصاب الدخان التي هي لجامات الشيطان وقد ابتدر ذو نغمة ينشد من الأشعار المهيجة فوصف الخدود والنهود والقدود وقد أرخى القوم رؤوسهم ونكسوها واستمعوا للنغمة واستأنسوها لقلت وهم لذلك مطرقون ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون (٢).
وفي خضم هذا الفساد الإعتقادي والإبتعاد عن كتاب اللَّه وسنة النبي ﷺ الذي ساد العالم في القرن الثاني عشر قيض اللَّه من يصحح لهذه الأمة عقيدتها وسلوكها ومن بين هؤلاء الذين حملوا لواء الإصلاح الشيخ محمد السفاريني في بلاد الشام.
ومن أبرز مظاهر تغييره للأوضاع الإعتقادية السائدة تأليفه في العقيدة السلفية
_________
(١) الشّبَاب: جمع شبَّابه بتشديد الباء نوع من المزمار.
(٢) غذاء الألباب (٢/ ٣١٤ - ٣١٥).
1 / 19
ومنها كتابه هذا: "لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبى داود الحائية"، وهو الكتاب الذي أقوم بتحقيقه.
ومنها كتابه الآخر: "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثريه لشرح الدرة المرضية في عقد الفرقة المرضية" وكذلك كتابه "البحور الزاخرة في علوم الآخرة".
ثالثًا: الحالة العلمية:
كان هذا العصر من الناحية العلمية يغلب عليه الجمود وعدم الإبتكار ويعلل بعض المؤرخين سبب هذا الإنحطاط إلى الحكم الإستبدادي والضرائب الفادحة والتدهور الإقتصادي والإنهيار الاجتماعي وهذه الأمور لا تغري بالإبتكار الشخصي في العلوم في عصر الجمع والتعليق والإختصار والتقليد الذي بدأ قبل ذلك بقرون عديدة واستمر في هذه الأثناء لكن النتائج التي أعطاها كانت أقل وأضعف (١).
إلا أن الشيخ أبا الحسن الندوي في بحث له عن العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر يصور لنا الحالة العلمية بصورة تظهر أنها كانت في أوجها يقول: ". . . كان العلماء في مصر والشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والهند وغيرها من بلدان العالم الإِسلامي منصرفين إلى التدريس والإفادة وكان الباحثون والمحققون مقبلين على التألف والتصنيف والبحث والتحقيق". ثم ساق نخبة من أسماء العلماء في هذا العصر، أمثال الشيخ أبي الحسن السندي الكبير (المتوفى سنة ١١٣٨ هـ) والشيخ محمد حياة السندي (المتوفى سنة ١١٦٣ هـ) والشيخ إسماعيل العجلوني
_________
(١) "مقدمة الدكتور محمد السمهري لكتاب البحور الزاخرة" (ص ١٣)، نقلًا عن كتاب "تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين" لفليب حتى (٢/ ٣٢٠ - ٣٢١).
1 / 20
المشهور بالجراحي (المتوفى سنة ١١٦٢ هـ) صاحب كشف الخفاء ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، والشيخ أبي طاهر الكوراني الكردي، والشيخ حسن العجيمي في الحرمين الشريفين، والشيخ سليمان بن يحيى الأهدل في اليمن والشيخ محمد بن أحمد السفاريني (المتوفى سنة ١١٨٨ هـ) والأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (المتوفى سنة ١١٤٢ هـ) صاحب سبل السلام وغيرهم (١).
ولكن الذي يظهر: أن هؤلاء الذين ذكرهم -أو أغلبهم- لم يكونوا من أهل الإبتكار -غالبا- وإنما تآليفهم إما أن تجدها حواشي على مؤلف أو اختصار أو جمع أو غير ذلك مما كان يتطلبه هذا العصر وإن كان لهم في ثنايا ذلك بعض الترجيحات والتصويبات (٢).
ويصف الشيخ السفاريني الحالة العلمية التي عاشها في معرض حديثه عن عزمه على شرح (ثلاثيات مسند الإمام أحمد) بعد تردد طويل قال -بعد أن استقر رأيه على كتابة شرحه القيم: ". . . ولم يبق من آثار هذا البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان والعلم قد أفلت شموسه وتقوضت محافله ودروسه وربعه المأهول أمسى خاليًا وواديه المأنوس أضحى موحشًا داويا وغصنه الرطيب غدا داويًا وبرده القشيب صار باليًا فالعالم الآن قلت مضاربه وضاقت مطالبه وعالت معاطيه وسددت مذاهبه فليس له في هذا الزمان ومنذ أزمان إلا التجاء إلى عالِم السر والإعلان. . . " (٣).
_________
(١) مقدمة الدكتور محمد السمهري لكتاب "البحور الزاخرة" (ص ١٣) نقلًا عن مجلة البعث الإسلامي، العدد ٥ المجلد ٢٩ شهر صفر سنة ١٤٠٥ (ص ١١، ١٣).
(٢) مقدمة الدكتور محمد السمهري لكتاب "البحور الزاخرة" (ص ١٣).
(٣) انظر "شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد" (١/ ٤).
1 / 21
فالحاصل: أن السمة البارزة للحياة العلمية في هذا العصر من حيث التأليف قد كانت عبارة عن الإختصار والنقل والشرح والجمع وتكرار ما قاله السابقون مع بعض الإضافات العلمية من ترجيح وتصويب خطأ ونحو ذلك.
ونجد هذه السمة واضحة في مؤلفات الشيخ السفاريني مواكبة منه لروح العصر العلمية وتأثر بالسائد فيه (١).
* * *
_________
(١) مقدمة الدكتور محمد السمهري لكتاب "البحور الزاخرة" (ص ١٤).
1 / 22