ولم يملك أبي إلا أن يضحك وينصرف.
وقبل أن أبتعد عن القصيدة التي ألقيتها فور كتابتها أذكر أن أبي كان يجتمع في كل يوم بمكتبه بالمنزل بجماعة لا أعرف منهم أحدا، وفهمت أنهم كانوا يعدون لإقامة حفلة تأبين في ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم، وحدث أن فتحت الغرفة بمظنة أن أبي وحده، ولكني وجدت معه هذه الجماعة، فاستدرت لأخرج، ولكن أبي ناداني وطلب إلي أن ألقي بينهم شيئا من محفوظاتي، فألقيت الأبيات التي عنوانها الله سبحانه وتعالى والتي مطلعها:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
فإذا بواحد من الجالسين يصيح: رفع الله رأسك كما رفعت رأسي ... أنا صاحب هذه الأبيات.
وعرفت أن الشاعر هو محمد الهراوي ، وقد كان صاحب شهرة هائلة في هذا النوع من السهل الممتنع الذي كان يحفظه تلاميذ المدارس في ذلك الحين.
وما دمت قد ذكرت هذه الاجتماعات فلا بد أن أذكر ما نتج عن تجمعها فقد أقيمت حفلة تأبين ضخمة في دار الأوبرا المصرية، وقد شهدت هذا الحفل، ولا أنسى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الذي كان بين المتحدثين، وقد كان معروفا عنه وعن أستاذنا العملاق عباس العقاد أنهما كانا من أشد المهاجمين لأمير الشعراء شوقي ولشاعر النيل حافظ إبراهيم.
وأذكر أن الأستاذ المازني العظيم تقدم إلى مقدمة المسرح وقال ما معناه: «أشهد الله والحق أننا هاجمنا شوقي وحافظ لنهدمهما ونقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
وكنت في هذه السن الباكرة أصحب أبي في كل تنقلاته، وقد جعلني هذا التنقل أتعود مجالسة الكبار وأحترمهم دون أن أرهبهم، وأذكر أن محمد باشا محمود الزعيم النبيل كان يأتي أحيانا لزيارة أبي قبل أن يكمل أبي لبس ملابسه فيأمرني أبي أن أنزل إلى صاحب المقام الرفيع محمد باشا محمود، وأجلس إليه حتى يكمل هو ملبسه.
وكان الباشا يهش لي ويأنس إلي حتى ينزل أبي وأترك الكبيرين وأنصرف إلى ملعبي.
نامعلوم صفحہ