وفي يوم اضطررت أن أذهب إلى المجلس الأعلى للفنون والآداب لأستخلص بعض مستحقات لي، فقد كان السفر إلى البلد مستحيلا ونفد المال من بيتي تماما ، وبعد أن حصلت على هذه المستحقات هممت بمغادرة المجلس، وبينما أنا في ممشاه سمعت اسمي على ألسنة السعاة يلهثون خلفي، وقفت وأبلغني المنادون أن يوسف بك السباعي يريدني في حجرته، فصعدت إليه فإذا هو يقول لي: الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة يريدك. - يريدني أنا. - نعم. - خيرا. - والله لا أدري كلمني وقال إنه يريدني ويريدك معي. - متى؟ - الآن. - لا بأس، نذهب. - هل معك سيارة. - نعم. - إذن أذهب معك. - أهلا وسهلا.
وركبنا سيارتي هذه المسافة القصيرة بين المجلس الأعلى للثقافة وبين قصر عيشة فهمي حيث كان مقر وزير الثقافة، ولم نكد نتحدث أنا ويوسف بك، فقد كان واضحا أن الألم يعتصر نفوس المصريين كلهم، وكنت أضرب أخماسا في أسداس حائرا فيما يتخفى وراء هذا الطلب، أأكون قلت شيئا يدل على غضبي ولكنني لا أخرج من بيتي وأنا أعيش بين إذاعات العالم منذ باكر الصباح إلى أن يتوقف الإرسال، لم تطل حيرتي فسرعان ما وصلنا.
وحين دخلت مقر الوزير هدأ طائري لم أكن أنا ويوسف بك وحدنا المدعوين، بل كان هناك ما يقرب من عشرين كاتبا وصحفيا من بينهم عبد الرحمن الشرقاوي الذي صالحته طبعا، كنا جميعا تحت وطأة شعور بالسخط والتشوف والتوقع ويغلف هذا جميعا ألم يعتصر النفوس.
وجلسنا على كراسي كانت معدة وأمامها منضدة ووراء المنضدة باب يفتح من الجانبين، ولم يطل بنا الانتظار وفتح الباب المواجه لنا وخرج الوزير وراح ينظر إلى كل الحاضرين فردا فردا، فإن كان يعرفه ذكر اسمه وإن لم يكن استبان منه الاسم فيذكره صاحبه.
ثم بدأ الوزير الحديث وعرفنا رسميا أن الجيش المصري قد انسحب، وقال الوزير إن الانسحاب لا يعني الهزيمة، وإنما هو لون من ألوان القتال لا يدل على الهزيمة، وعرفنا من الوزير أيضا أن الطيران المصري كله قد دمر، ولكنه قال ولكنني أؤكد لكم تأكيد مثقف لمثقفين أن روسيا سترسل لنا طائرات أخرى إن لم تكن قد وصلت فعلا، فهي في طريقها إلى الوصول في أقرب وقت، وتحدث الحاضرون وأذكر أنني قلت إنني أطالب الإعلام المصري أن يذكر لنا الحقائق حتى نكون على بينة من أمورنا، فإن الذي تطالعنا به الإذاعات الأجنبية مروع وفظيع، ويبدو أنني تكلمت بلهجة حادة، فراح الوزير يهدئ من روعي بكلمات رقيقة.
خرجنا من الاجتماع وصحبني عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ لأذهب بهما إلى منزليهما، وفي الطريق كان أستاذنا نجيب مروعا حزينا، وكذلك كان عبد الرحمن الشرقاوي، ولو أنه كان يكتب مقالا يوميا في تحية الجيش، وقد أثارني منه قوله في إحدى مقالاته إنه لا يجوز أن يتكلم الشعب عن الخطط العسكرية لأنه لا يفهم شيئا في هذا المضمار، ولكني لم أشأ أن أحدثه في شأن هذه المقالة ونحن في السيارة فقد كان ثلاثتنا في حال لا تسمح بمزيد من الجدل، وأذكر مما قاله عبد الرحمن الشرقاوي في السيارة: أليس من المحتمل أننا نسحب الجيش الإسرائيلي لنطوقه في عملية كماشة.
فقلت له: وهل كنا ذاهبين إلى فلسطين لنحررها من اليهود أم لنطبق جيشها في كماشة.
فقال نجيب محفوظ: لك حق. - والله الواحد أصبح لا يعرف شيئا.
وفي المساء في نفس هذا اليوم أعلن مندوبنا في هيئة الأمم استسلام مصر الكامل، وكانت للإذاعة قناة متصلة بهيئة الأمم تعمل طوال فترة الاجتماع التي تعمل فيها الهيئة، ومع توقعي لهذا توقعا لا جدال فيه وجدت نفسي أنخرط في نشيج عال من البكاء، وراحت زوجتي أعزها الله تخفف عني غير واجدة من الكلمات ما تقوله؛ إلا أنه ربما كانوا مخطئين، ربما يقول شيئا آخر.
وأحسب أنني ما زلت أبكي حتى اليوم على الرغم من الانتصار الخالد الذي حققه الجيش بقيادة السادات ومعاونة حسني مبارك، وبعد أيام طلبت عبد الرحمن الشرقاوي في التليفون وقلت له: أنا لن أعاتبك على مقالاتك إلا عن مقالة واحدة نهيت فيها الشعب أن يتكلم في وقائع الحرب، أهذا معقول؟
نامعلوم صفحہ