مدت السيدة يدها تتعلق بأحد الأعمدة المعدنية، لكن العمود مال تحت ثقلها، وأوشكت أن تقع على وجهها، فتشبثت بي، بينما كنت مشغولا بإخراج الأجرة التي جعل المحصل يطالب بها في إلحاح، وقد باعدت بين ساقي، ملقيا بكل ثقلي على قدمي؛ لأتجنب السقوط.
استعادت السيدة توازنها فتقدمت إلى الأمام، وهي تتراقص برغمها بفعل حركة السيارة، واهتزاز أرضيتها التي تفككت ألواحها، وانفصل بعضها عن بعض في أكثر من موضع.
ولأنني في الفترة الأخيرة - بحكم انشغالي - لم أغادر منزلي كثيرا، ولم يتح لي أن أستخدم سيارات «طرطر » ولا مرة، فقد لحظت - على الفور - ما طرأ على مسلك ركابها من تغير.
ففي الأيام الأولى لتشغيلها كانت الحركة الراقصة التي تحدثها تبعث الابتسامة الخجلى على وجوه الركاب جميعا، من راقصين واقفين، ومتفرجين جالسين.
لكني تبينت اليوم أنه بينما تضاعفت حدة الرقصة بفعل تخلخل بناء السيارة وتفكك حوائطها وأرضيتها، إلا أن بهجة الركاب بالأمر تلاشت تماما.
وتراءى لي أنهم مشغولون بأشياء أخرى؛ إذ كانوا يتطلعون ساهمين إلى الإعلانات التي زينت الشوارع عن آخر المبتكرات العالمية في كل ميدان، وإلى السيارات الخاصة من أحدث الطرز، المزودة بأجهزة عديدة تحمي ركابها من الضجة والتلوث والحرارة والبرودة وعيون الآخرين، فتبدو أشبه بمدرعات صغيرة.
مضيت أنقل البصر بين الوجوه الشاحبة المنهكة، متوقفا عند كهل غارق في تأملات غير سارة انعكست على ملامحه، وجار له يدخن بعصبية، وشاب مكوي شعر الرأس تدلت من عنقه سلسلة ذهبية، وآخر قبضت يده في حرص على جواز سفر، وسيدة بنظارة واسعة الإطار بنفسجية اللون مثل فستانها، تحيط معصمها بساعة على شكل سفينة فضاء.
وكان يجلس إلى جوارها رجل مكتئب الوجه، يحمل في اعتزاز لفافة تصاعدت منها رائحة السمك، جلبه في الغالب بسعر أرخص من أحد أركان المدينة. وخلفه أوشك رجل أنيق الثياب على النوم، رغم أنه تسلح بكافة المعدات العصرية، بدءا من النظارة ذات العدستين المدرجتي الدكنة، والساعة المزودة بآلة حاسبة وتقويم سنوي ومنبه أوتوماتيكي، إلى الحقيبة «السامسونايت».
وتوقفت عيناي عند راكبتين متجاورتين تسربلتا - بغية الانسحاب التام من عالمنا التعس - بثياب فضفاضة داكنة اللون، غطت جسديهما من الرأس إلى القدم، فيما عدا ثقبين في موضع العينين، فبدتا أقرب إلى بومتين، أو اثنتين من الكائنات الفضائية المرعبة.
قدرت أنهم جميعا مستذلون مهانون، يتمتعون بقدرة فائقة على التحمل. واستغرقني التفكير في هذا الجانب من الظاهرة، فلم أنتبه إلى ما كان يجري بجانبي إلا عندما داست قدم على حذائي.
نامعلوم صفحہ