لكن رياح التغيير التي هبت في أوائل الستينيات أرغمتها على الاختيار بين المبدأين. وكي لا تضحي بالمبدأ الأول فضلت أن تقوم بتنويع منتجاتها؛ فبدأت بإنتاج أنواع من المياه الغازية، ثم مدت نشاطها إلى زراعة الموالح والبن والشاي، وأصبح لها مزارع واسعة في نفس الولاية التي ولدت بها، وهي ولاية جورجيا، تجاور مزارع الرئيس الأمريكي كارتر. وربما كان هذا الجوار هو المسئول عن تماديها في سياسة التنويع بالاشتراك في الأمور العامة، المحلية والدولية.
ولا شك في أن النجاح كان من نصيب هذه السياسة. ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى عودة الزجاجة العتيدة إلى كل من الصين ومصر بمبادرة وطنيين شجعان، ذوي مبادئ، في البلدين.
غير أن هذا النجاح تمخضت عنه ظاهرة غريبة؛ فمع استخدام الوسائل الحديثة وتقليل تكلفة الإنتاج بالاعتماد على عمال موسميين ذوي أجور منخفضة، أصبحت «الكوكاكولا» من أكبر منتجي الفواكه الطازجة في العالم الغربي، لكنها وجدت نفسها للأسف مرغمة على إلقاء جانب كبير من هذا الإنتاج في البحر كي لا ينهار السوق العالمي.
ولم يكن من حل لهذه المشكلة إلا بمزيد من التنويع؛ فاستغلت إمكانياتها الضخمة وخبرتها بميدان الزراعة في رعاية عدد كبير من مشروعات الأمن الغذائي في البلاد المختلفة؛ منها مشروع لزراعة البقول في «أبي ظبي» تقوم به شركة «أكواشيم» التابعة لها. كما قامت بأبحاث واسعة لإنتاج شراب غني بالبروتينات والعناصر المغذية الأخرى، تعوض به المستهلكين عن الفائض الذي تضطر لإلقائه في البحر.»
توقفت لحظة ريثما بلعت ريقي، ثم استطردت: «هكذا ترون أيها السادة كيف أن التنويع يصلح - في حالة «الكوكاكولا» - مفتاحا لفهم أغلب الظواهر المرتبطة بها. وقد وجدت بالبحث أن هذا المفتاح قادر على فك مغاليق أخرى كثيرة.
إن نظرة واحدة للواقع العربي تكفي للبرهنة على صحة قولي؛ فهي تكشف لنا من الوهلة الأولى عن ظاهرة «التنويع» في أشكال الأنظمة (وهو بالتأكيد مخطط له بالنظر إلى أن هذه الأنظمة لا تختلف عن بعضها في الجوهر)، وفي وسائل العمل السياسي، وشعاراته وأهدافه.
ففي وقت من الأوقات كانت هذه الأنظمة تتوجه إلى شعوبها بوسيلة إقناع واحدة لا تتغير؛ هي السجن والتعذيب، لكن التنويع أضاف إليها أساليب أخرى متنوعة من التصفية الجسدية إلى التليفزيون والمجالس النيابية.
وفي وقت من الأوقات كانت الأنظمة ترفع شعارات أساسية لا تتغير، لكنها أدركت أخيرا أهمية تغيير هذه الشعارات بين الحين والآخر، وتنويع الأهداف والتحالفات والعداوات.
وبفضل سياسة «التنويع» اتسعت الارتباطات الوحدوية لهذا البلد - والتي كانت قاصرة في الماضي على بقية الشعوب العربية - لتشمل الآن الشعوب الأسترالية الصديقة.
وبفضلها توفرت للمصريين الأسلحة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية التي حرموا منها طويلا. وبعد أن كان السوق المصري قاصرا في الستينيات على سيارة واحدة يتم تجميعها في المصانع المحلية هي سيارة نصر/فيات، امتلأ الآن بالماركات العالمية المختلفة، تأتيه سياراتها مباشرة من مصانعها الأصلية.
نامعلوم صفحہ