وأدركت أني خسرت الجولة الأولى.
كنت أعرف أن اللجنة ستوجه إلي بعض الأسئلة، لكن هدفها لم يكن قاصرا على تبين مدى معلوماتي، وإنما يمتد إلى استكناه مفاتيح شخصيتي وحجم قدرتي الذهنية؛ فمضمون الإجابة ليس هو كل شيء، رغم ما له أيضا من وزن، والأهم منه هو القدرة على المواجهة.
وكما سبق أن قلت، فقد قضيت العام الماضي في الاستعداد لهذا اليوم بشتى الوسائل؛ فعكفت على دراسة اللغة التي تستخدمها اللجنة في مقابلاتها، وراجعت معلوماتي في مختلف المجالات، فقرأت في الفلسفة والفن والكيمياء والاقتصاد، ووجهت إلى نفسي عشرات الأسئلة المتباينة، وأنفقت أياما وليالي في البحث عن إجاباتها، وتابعت برامج الذكاء والفوازير التي يذيعها التليفزيون، وراجعت الأبواب المماثلة في الصحف والمجلات. وأسعفني الحظ عندما اكتشفت أن أخي الذي يكبرني بعشرين عاما يحتفظ لديه في حزمة يضمها خيط من المطاط بمجموعة «صدق أو لا تصدق» الكاملة، منذ بدأ نشرها قبل ثلاثين عاما.
ولم أكتف بهذا؛ فحاولت أن أكون فكرة واضحة عن عمل اللجنة بالبحث عمن مثلوا أمامها من قبل. ورغم ثقتي من كثرتهم فإني لم أتوصل إلى غير قليلين منهم، نفى أغلبهم أنه تقدم إلى اللجنة في يوم من الأيام، بل أنكر معرفته بوجودها. وتذرع الآخرون بأنهم نسوا تفاصيل ما جرى معهم، فجاءت أقوالهم عائمة متضاربة. ولم تساعدني الشذرات الأخرى التي التقطتها من مصادر مختلفة على استخلاص شيء. الأمر الوحيد الذي خرجت به أنه ليس ثمة قاعدة محددة لعمل اللجنة.
وعندما سعيت لجمع المعلومات عن أعضائها؛ لعلي أستطيع تكوين فكرة عن اتجاهاتهم وميولهم؛ وجدت ستارا من السرية المحكمة قد أسدل على أسمائهم ومهنهم. وكان كل من سألته عنهم يتطلع إلي في وجود وإشفاق بالغين.
لكن الجميع اتفقوا على أن اللجنة تنصب شراكا ماهرة لكل من يمثل أمامها؛ ومعنى هذا أن حكاية الباب وإغلاقه لم تكن مصادفة؛ فهي قد كشفت لهم - والمقابلة لم تبدأ بعد - عن ارتباكي وقلة حيلتي.
ولكم أن تتصوروا حالتي بعد هذه التجربة الفاشلة وقد وقفت أمامهم غارقا في عرقي. لكن أغرب ما في الموضوع أني لمست في أعماقي شعورا بالارتياح لهذا الفشل، كأنما كان ثمة جزء من نفسي يخشى على نفسه من نجاحي. ولم يحل ذلك دون اضطرابي أو رغبتي الجارفة في كسب رضاء هؤلاء الذين اصطفوا أمامي إلى مائدة طويلة بعرض القاعة.
كان عددهم كبيرا حقا. ولأني كنت عاجزا عن التركيز لم أتمكن من إحصائه بالضبط. وكان بعضهم منهمكا في أحاديث هامسة، والبعض الآخر يتصفح أوراقا أمامه، وأغلبهم يضع عوينات سوداء كبيرة على عينيه. وخيل إلي أن بينهم وجوها مألوفة طالعتني من قبل على صفحات الجرائد والمجلات، واكتشفت أيضا أني أعرف صاحبة الصوت الرقيق؛ فهي عانس التقيت بها في إحدى المناسبات. ولمت نفسي على أني لم أولها - حينذاك - شيئا من الاهتمام. وكانت تتطلع إلي الآن بابتسامة خلت أنها ودية.
ولم أدهش عندما رأيت بينهم ثلاثة من العسكريين. وكانت الشرائط الحمراء الموشاة بالذهب فوق ياقات ستراتهم تنطق برفعة شأنهم.
وكان يتوسطهم عجوز متهالك، ذو عوينات طبية سميكة، قرب منها ورقة في يده حتى أوشكت أن تلامسها، واستغرق في محاولة القراءة. وقدرت أن الورقة تنتمي ولا شك إلى الملف الخاص بي.
نامعلوم صفحہ