قال القصير في حدة: «وهذا بالضبط ما حفزنا إلى الحضور لتوجيه النصح إليك.»
كان بقية أعضاء اللجنة قد أخذوا يتوافدون، فجلست السيدتان على حافة الفراش، وبجانبهما أحد العسكريين، واستقر عسكري آخر على مقعد بمسندين إلى جواره، وانضم الثالث وبعض الأعضاء إلى العضو الأشقر عند المائدة، واستند آخرون إلى مسندي المقعد وخزانة الملابس وباب الغرفة. وقدم إليهم القصير بعض البطاقات، لاحظت بينها تلك المستقاة من المجلة الأمريكية، فتناقلوها بينهم في صمت، ثم جعلوا يتطلعون إلي وقد أحاطوا بي في شبه حلقة.
توجهت إليه بالحديث مستعطفا: «لقد اخترت شخصية «الدكتور» بعد تفكير وتمحيص طويلين؛ فانتقاء ألمع الشخصيات في العالم العربي أمر بالغ الصعوبة بحكم تعدد البلاد وانتشار التعليم وتنوع وسائل الدعاية وكثرتها وبالتالي ...»
قاطعني القصير في غضب: «وبالتالي وجود كثير من الشخصيات اللامعة، ها أنت تعترف بالأمر.»
أجبته في حماس: «لكننا لن نجد من هو ألمع وأكثر حضورا في كل مكان بالعالم العربي. ويكفي أن فكرة الوحدة العربية ترتبط باسمه هو بالذات ارتباطا وثيقا؛ فهو من دعاتها الأولين، كما هو معروف، لكن ما يجهله كثيرون، وما أثبته بالوثائق، أنه أيضا من أبرز دعاتها والمؤمنين بها في هذا العقد الذي انحسرت فيه الدعوة. والمثير في الأمر أن الوحدة التي لم تتحقق في فترة صعود الدعوة إليها، قد تحققت الآن في فترة انحسارها، وهو ما لا يتبدى للرائي من الوهلة الأولى عندما يجابه بالاختلافات والمنازعات السائدة بين الأنظمة المختلفة. لكنه إذا ما تمعن الأمر، وجد تحت السطح الخداع وحدة متينة لم نعهد مثلها قبل الآن، يرجع إليه الفضل في تحقيقها، وهي وحدة السلع الأجنبية المستخدمة من الكافة.
وأؤكد مرة أخرى أن الوثائق التي جمعتها قد أثبتت علاقته الوثيقة بكافة الأحداث المصيرية التي تعرضت لها أمتنا طوال الأعوام الثلاثين الماضية. واليوم تتجمع في يده - أكثر من أي يوم سابق، أو أي شخص آخر - الخيوط الأساسية لمستقبلها.
ويكفي للتدليل على ذلك أنه هو الذي توسط لدى الشركات العالمية العملاقة من أجل إمداد أمتنا بأحدث الأجهزة والابتكارات التي وصلتنا بحضارة العصر، بدءا من حقائب «السامسونايت» والترانزستورات إلى الإلكترونات وطائرات الجامبو، ومن معاجين الأسنان والحلاقة إلى معطرات الفروج وعقاقير الفحولة. وفي هذا الإطار أوجد مجالا واسعا للكفاءات من العلماء وأساتذة الجامعات وخبراء التخطيط الذين عنت الأنظمة العربية بإعداد مئات منهم، ثم حالت بينهم وبين استثمار مواهبهم بصورة تعود عليهم وعلى أمتهم بالنفع.
على أن هناك جوانب أخرى للموضوع، أرجو أن يتسع صدركم لسماعها؛ فقد استهوتني شخصية «الدكتور» لأني وجدت في تناولها مجالات متعددة للبحث تكشف لكم عن مواهبي المتنوعة من ناحية، وتعطي للدراسة نفسها أبعادا مختلفة تغنيها وتضفي المزيد على أهميتها، من ناحية أخرى.
ولقد كنت أفكر في هذه النقطة بالذات عند تشريفكم لي، وقدرت أن المنهاج التقليدي في التناول، الذي يقوم على تتبع تطور السيرة الشخصية، يجب أن يستبدل بمنهاج آخر يتألف من عدة مباحث في فروع مختلفة من العلوم.
فهناك مبحث هام في علم الجمال عن العلاقة بين الوطنية المتطرفة وخلع الأشجار، يتصل به بحث آخر في الاقتصاد عن دور البيع والشراء في حياة الأمم والأفراد، وثالث في علم الأخلاق حول اندثار الأمانة والصدق والشرف ، ورابع في السيكولوجيا عن عوامل القلق التي تدفع العباقرة والرواد إلى التنقل بين ميادين النشاط، وهي دراسة قد تؤدي إلى اكتشافات هامة بالنسبة لطفولة «الدكتور» وظروف رضاعته.
نامعلوم صفحہ