سرت همهمة بين الأعضاء فتجاسرت ورفعت يدي قائلا: «مهلا أيها السادة. لم أقصد أني عاجز عن الإجابة على سؤال لجنتكم الموقرة، وإنما أردت أن أقول إن الإجابة ليست فيما ذكرت لكم من أسماء.»
توقفت لحظة، ثم استطردت: «سأذكر لكم أيها السادة، ردا على سؤالكم، كلمة واحدة وإن كانت منصفة، هي كوكا-كولا.»
انتظرت أن أسمع تعليقا ما أتبين منه أثر إجابتي، لكن الصمت ران عليهم. عندئذ مضيت في حديثي: «لن نجد، أيها السادة، بين كل ما ذكرت شيئا تتجسد فيه حضارة هذا القرن ومنجزاته، بل آفاقه، مثل هذه الزجاجة الصغيرة الرشيقة التي يتسع است كل إنسان لرأسها الرفيع.»
ابتسمت لهم منتظرا أن يشاركوني الابتسام لمحاولتي في الفكاهة، لكنهم ظلوا يتطلعون إلي في جمود، فاستطردت: «إنها موجودة في كل مكان تقريبا، من فنلندا وألاسكا في الشمال، إلى أستراليا وجنوب أفريقيا في الجنوب. ولقد كان نبأ عودتها إلى الصين - بعد غيبة استمرت ثلاثين عاما - من الأنباء المدوية التي سيصاغ منها تاريخ هذا القرن. وفي الوقت الذي تختلف فيه كلمات الله والحب والسعادة من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى غيرها، تعني الكوكا-كولا نفس الشيء في كل مكان، وبكافة اللغات. وإلى جانب هذا فإن المادة التي تصنع منها لا يهددها شيء بالنضوب؛ لأنها نبات يمكن زراعته بسهولة، والذوق الذي يستسيغها لن يتحول عنها بفضل ما تتميز به من قدرة على تكوين عادة تقرب من الإدمان.
ومنذ ظهورها، ارتبطت الكوكا-كولا بالمعالم الرئيسية للعصر، بل وساهمت أحيانا كثيرة في صياغتها؛ فقد توصل الصيدلي الأمريكي «بمبرتون» إلى تحضيرها بمدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، مسقط رأس الرئيس الأمريكي كارتر، وعصابات كلو-كلوس كلان الشهيرة في سنة 1886م، وهي نفس السنة التي تم فيها نحت تمثال الحرية الشهير، الذي أصبح رمزا للعالم الجديد.
أما الزجاجة نفسها فهي إحدى ثمار أول حرب تحريرية تخوضها الولايات المتحدة خارج حدودها، بعد انتصارها في الداخل على الهنود الحمر، وهي الحرب ضد إسبانيا في كوبا، والتي انتهت عام 1899م بإعلان «استقلال» كل من كوبا وبورتوريكو والفيليبين؛ ففي كوبا شهد جندي أمريكي - يحمل بالصدفة اسم المفكر الأمريكي العظيم للقرن السابق بنيامين فرانكلين - زجاجة مياه غازية من شراب الموز. وتمكن فور عودته إلى بلاده من الحصول على امتياز تعبئة الاختراع الجديد في زجاجات تعددت أشكالها حتى استقرت أخيرا على الشكل الشهير المعروف «بالمرأة ذات الثوب الضيق».
ربما كانت الكوكا-كولا هي أول من حطم المفهوم القديم للإعلان، الذي كان قاصرا على مجرد بيان بمواصفات السلعة، واضعة بذلك حجر الأساس في البناء الشامخ لأحد فنون العصر القائدة، وأعني بذلك فن الدعاية. لكن المؤكد أنها هي التي قضت على الوهم الذي ساد طويلا بشأن العلاقة بين العطش ودرجة الحرارة، عندما ابتدعت وروجت شعار «العطش لا يعرف فصلا». وكانت سباقة إلى استغلال الراديو، وإلى إضاءة المدن بالإعلانات الضوئية، وتبني البرامج التليفزيونية والأفلام السينمائية، واحتضان نجوم الدنيا الجديدة ومعبوديها الجدد من ممثلين وخنافس ورواد للروك والتويست والبوب.
وخاضت الكوكا-كولا غمار حربين عالميتين، خرجت منهما منتصرة؛ فقد باعت خمسة مليارات من الزجاجات خلال السنوات السبع للحرب الثانية. ثم إنها دخلت أوروبا على جناح مشروع مارشال الذي ساعد الأوروبيين بالمنتجات والقروض الأمريكية على تغطية ما سببته الحرب من عجز في الدولارات.
وإذ استقرت فوق قمة المجتمع الاستهلاكي إلى جوار سيارة فورد وقلم باركر وولاعة رونسون، لم تفتها التغيرات المتلاحقة في عالم اليوم؛ فعندما بدأ عصر الشراء العظيم والبيع بالتقسيط والتنافس على أكبر سيارة وأحدث طراز منها بأكبر مساحة في الخلف، تستوعب أكبر كمية من السلع لتملأ أكبر ثلاجة؛ تقدمت الكوكا-كولا بالزجاجة العائلية «الماكسي».
وعندما اشتركت الولايات المتحدة في حرب تحريرية جديدة في كوريا، ابتكرت الكوكا-كولا علبتها الصفيح؛ حتى يمكن إلقاؤها بالمظلات إلى الجنود. ولم تقتصر أهمية هذه العلبة على أن صورة الأمريكي الذي يفتحها بأسنانه أصبحت رمزا للبطولة والرجولة، أو على أنها أثبتت فاعليتها في الحرب التالية بفيتنام، وإنما تعدت كل ذلك إلى ما هو أخطر، فدشنت عصر الفوارغ، الذي يرمي فيه المستهلك بعبوة السلعة بعد أن ينتهي من استخدامها.
نامعلوم صفحہ