وانتفض أبو محمود كأنما يفيق من غيبوبة ولف رأسه بالمعطف واتجه إلى الباب السحري، وسار في الدهليز الضيق القصير بضع خطوات يعرف طولها وعرضها كما يعرف طول ذراعه وعرضه، وانحرف إلى اليمين، ودخل حجرة صغيرة، ورقد على السرير المعدني الرفيع، وأحس باليد القوية، نفس اليد التي ترفع كمه القذر، ورأى نظرة الامتعاض والتأفف هي نفس النظرة، وأشاح بوجهه عن الإبرة الطويلة السميكة وهي تدخل في جلد ذراعه الجاف بصعوبة كما تدخل مسلة الإسكافي في نعل الحذاء.
ولم يشعر هذه المرة بالألم الذي كان يعانيه حين تغرز الإبرة في ذراعه، ولم يفتح عينيه ليرى لون دمه الأحمر القاني وهو يرتفع في الزجاجة حتى يصل إلى علامة تشير إلى رقم 50 سنتيمترا. وكان في كل مرة يتابع بعينيه صعود الدم من ذراعه إلى الزجاجة حتى لا تنساب منه قطرة تزيد عن الكمية المحددة، وتنتقل عيناه من ذراعه إلى الزجاجة في يقظة شديدة كما تنتقل عينا البقال من الميزان إلى علبة الزيت، وقد حرص على ألا تزيد قطرة، أو لعله حرص على أن تنقص قطرة.
لكن «أبو محمود» هذه المرة كان تائها، ولم يشعر بالقوة أو الرغبة التي تعينه على أن يفتح عينيه ويتابع بهما شيئا، وكان كل ما يريده هو أن يتركوه راقدا على السرير؛ لكنه سرعان ما أحس بلكزة في كتفه تدعوه إلى النهوض والخروج، وقام متثاقلا ولف المعطف على رأسه، واتجهت قدماه المدربتان إلى حجرة أخرى على اليسار، ووقف أمام نضد طويل، ومد يده مبسوطة ثم سحبها تقبض على ورقتين، إحداهما كبيرة ناعمة قيمتها جنيه، والثانية أصغر حجما وأقل نعومة قيمتها نصف جنيه.
وضغط بأصابعه النحيلة الطويلة على الورقتين في سعادة، وقال لنفسه باسما: سأشتري خبزا ولحما ودخانا وشايا وكل شيء.
وسار بخطواته المهتزة إلى الباب، ورأى الطابور الهزيل الواقف يتضاعف فجأة إلى أربعة طوابير، ورأى عيني صديقه درويش تتضاعفان فجأة إلى ثماني عيون تشخص إليه في فزع ودهشة.
ولم يدر أبو محمود ما سر ذلك التضاعف أو تلك الدهشة، لكنه رأى وجها كبيرا يقترب من وجهه، استطاع أن يتعرف فيه على ملامح صديقه درويش، ورأى عيونا بارزة صفراء كثيرة تحملق فيه.
ولم يفهم أبو محمود شيئا مما يدور حوله، ولم يسمع صوتا، لكن شفتيه اليابستين انفرجتا عن ابتسامة ضيقة، وخرج صوته في مجهود كبير وهو يمد يده قابضة على الورقتين: درويش، درويش، خذ الجنيه والنص وديهم لمراتي ولمحمود وسنية، وديهم يا درويش أوع تنس، أوع ... درويش ... الجنيه والنص ... عشان يشتروا بها العيش واللحم ... درويش.
وترنح جسمه الهزيل وتداعى إلى الأرض وأغمض عينيه ومات.
حبي الوحيد
كل امرأة خائنة وراءها رجل خائن
نامعلوم صفحہ