لحن الحرية والصمت
لحن الحرية والصمت: الشعر الألماني في القرن العشرين
اصناف
ولا يمكننا أن نتحدث عن الشاعر الألماني بعد الحرب الثانية، بغير أن نلفت نظر القارئ إلى جوهر هذا الشعر نفسه وطبيعته في هذا القرن، وما بقي منه بعد الحرب أو بعد ساعة الصفر، إن الشعر الألماني - كما يقول الشاعر الكبير كارل كرولوف
4 - كان دائما من وحي الساعة، وعكس على طريقته الجانب الموقوت المحدود بالظروف السياسية والاجتماعية، فبدا بدوره موقوتا ومرهونا بظروفه - ولم يكن الاتصال من طابع القصيدة الألمانية فيما مضى من تاريخها، ولا أظن أنه كان طابعها في أي أدب من الآداب، لقد كان دائما شعرا يتسم بالجهد والعناء، ولا يطفر طفرة حتى تستهلك، ولا يتصل بالتراث حتى يعلن عليه القطيعة - أي إنه كان مرهونا بظروف بلده ومبدعه في أغلب الأحوال؛ لهذا فقد الهدوء والاستقرار اللازمين لتطوره في مرحلة معينة من تاريخه - ولهذا أيضا يتحتم علينا أن نرصد موقفه وردود فعله على الأزمات التي هزت وطنه في سنوات 1914 و1918 و1933م.
كانت القصيدة تهرب من مواجهة الأزمة، أو تنقل رد الفعل إلى عالم جمالي منعزل، ربما لأنها تعودت على أنماط معينة من ردود الفعل، لم تستطع أن تخرج عليها أو تتخلص منها، فلم تلبث في كل أزمة واجهتها أن عادت إلى نفسها ولاذت بوحدتها، يؤكد هذا أنها عندما حاولت أن تخرج من عزلتها التقليدية - كما حدث مثلا في بداية الحرب العالمية الأولى - تفجرت لفترة محدودة، فبدت محمومة، مسرفة في الشطط والجموح، وشوهت نفسها بنفسها، وشعر التعبيريين الذين أشرنا إليهم إشارة عابرة فيما سبق، مثل واضح على هذه الهزة المفاجئة التي استنفدت إمكانياتها، وكشفت عن عجزها، فانطفأت شعلتها المشبوبة في فترة قصيرة كعمر الزهور، لقد عبرت قصيدتهم عن صرخة نبيلة متأججة بالعاطفة الصادقة - ولكن لم يلبث الشلل أو الموت أن ران عليها وأخمد أنفاسها، وكأن نجاحها السريع كان السبب في إخفاقها السريع.
ولعل هنا سببا آخر لهذا التوقف المفاجئ الذي يعتري الشعر الألماني في معظم مراحل تطوره، ذلك أنه - شأن الشعر في كل الآداب - يصدر عن أناس متوحدين مع أنفسهم، عن طاقات متفرقة تميل إلى التصادم والتصارع أكثر مما تميل إلى الانضواء تحت لواء حركة أو مدرسة متجانسة (وما أكثر الحركات والمدارس في تاريخ الأدب الألماني بوجه عام، وما أكثر ما كانت تلتئم لتفترق، وتتحد لتنفصم!)؛ ولهذا فقد يكون من الأنسب أن نتحدث مثلا - في سياق الكلام عن تطور هذا الشعر حتى أواخر الثلاثينيات - عن شعراء تعبيريين مثل: تراكل وهايم وبن
5
وبرشت في المرحلة الأولى من تطورهم، بدلا من الحديث عن حركة تعبيرية عامة تنكر لها معظمهم أو فقد الصلة بها، أو لجأ إلى أحضان القصيدة السياسية مثل: يوهانيس بيشر (1891-1958م)
Johannes Becher ، أو مات أو لاذ بالصمت أو آثر الانتحار.
ولكن إصابة القصيدة بالشلل بعد انطفاء الحركة التعبيرية لا يعني أنها توقفت، لقد ظلت باقية، وإن كان البقاء لا يعني الحياة، أخذت تجتر أيامها أو تحملها على ظهرها، ولم تجد القدرة أو الشجاعة على التجربة والمغامرة، وسقط معظم أصحابها الذين لم يهاجروا من وطنهم ضحية الفاشية، والتيار الوحيد الذي نجا من هذا المصير وتشبث بالراية بعد احتضار التعبيرية هو شعر الطبيعة - (وقد كان التغني بالطبيعة الجليلة الغامضة من أبرز ملامح الشعر الألماني فتاريخه يرجع إلى أكثر من مائتي عام، منذ أيام البرشت فون هالر (1708-1777م)، بل منذ أيام بروكيس (1680-1747م)، حتى أيام جوته (1749-1832م) وهلدرلين (1778-1842م) وأيشندورف (1788-1857م)، والشاعرة العظيمة أنيته دروسته - هيلز هوف (1797-1848م))، هرب الشاعر إذن من جبروت السلطة أو تعاسة الواقع إلى معبد الطبيعة، وراح يداوي جراحه أو يلتمس النجاة من الرعب والوحشية، أو يتزود منها بالإيمان والعزاء، ولا شك أن شعر الطبيعة هو الشعر الوحيد الذي استطاع أن ينقذ نفسه من الكارثة الشاملة، فبقي وحده في الميدان، وتلقفه المحافظون العظام فنوعوا فيه ووسعوا آفاقه.
والمحافظون يتمتعون دائما بطول العمر، ويجيدون «المحافظة» على أنفسهم في أسوأ الأحوال، لقد لجئوا إلى عزلتهم أمام الضرورة القاسية، وعكفوا على شعر الطبيعة الذي لم تفكر يد الإرهاب في مصادرته أو إحراقه، وبذلوا جهدهم في الإبقاء على قصيدة الطبيعة فلم يطمحوا إلى تغييرها وتجديدها، واعتصموا بسطح الماء، بينما كان طوفان التجديدات الثورية يزحف على الأبواب !
والعجيب أن الذين بدءوا بعد سنة 1945م في إرساء القصيدة الألمانية على أساس جديد كانوا من الأسماء المعروفة التي تتمتع بالاحترام والتقدير، وقد حظيت مجموعاتهم التي صدرت بعد الحرب بنجاح كبير، وأقبل عليها القراء أيما إقبال، نذكر من بينها «يوم الغضب»
نامعلوم صفحہ