اعلم يا بني وفقك الله أنه لم يميز الآدمي بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك وأعمل فكرك، واخل بنفسك، تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف وأن عليك فرائض أنت مطالب بها، وأن الملكين عليهما السلام يحصيان ألفاظك ونظراتك، وأن أنفاس الحي خطوات إلى أجله، ومقدار اللبث في الدنيا قليل، والحبس في القبور طويل، والعذاب على موافقة الهوى وبيل، فأين لذة أمس؟ قد رحلت وأبقت ندما، وأين شهوة النفس؟ نكست رأسا وأزلت قدما.
وما سعد من سعد إلا بمخالفة هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه، فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد، أين لذة هؤلاء وأين تعب أولئك ؟ بقي الثواب الجزيل والذكر الجميل للصالحين، والمقالة القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما شبع من شبع، ولا جاع من جاع.
والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه وأتعب نفسك، واعلم أن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم، فمتى تعدى الإنسان فالنار النار.
ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين، ثم الفضائل تتفاوت، فمن الناس من يرى الفضائل الزهد في الدنيا، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد، وعلى الحقيقة فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية القصوى، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كل مريد مرادا، ولا كل طالب واجدا، ولكن على العبد الاجتهاد، وكل ميسر لما خلق له، والله المستعان.
فصل في أسس المعرفة وأركانها
وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة، خصوصا جسد نفسه، علم أن لا بد حينئذ للصنعة من صانع، وللمبني من بان.
صفحہ 2