ونحن لم نزل أمة بدائية في عقيدتنا بأن الإنسان ألعوبة في يد القدر، فتلك هي نظرة الشعوب الأولى التي لم تكن تدري كيف يسقط المطر، ولا كيف ينبت الزرع، ولا من أين تمتلئ الأنهار، ومن أين يجيء الأحياء، وإلى أين يذهب الموتى. إنها شعوب لم تكن تدري من ذلك كله شيئا، فالتمست علة التغير في خيوط مستورة أطرافها في كف مارد جبار لا تراه العيون، أخذ يشد هذا الخيط أو ذاك كيف شاء، ويعبث بالناس من حيث يشعرون ولا يشعرون، فاستضعفوا أنفسهم إزاء هذا «القدر» المتخفي؛ إذ لا حيلة لهم بين يديه، لكن العلم أخذ يكشف للناس عن ألاعيبه، فيظهرهم على خيوطه السحرية خيطا في إثر خيط، كما يفسر لنا الحاوي سر ما يبهرنا من فعله، والفرق كبير جدا في تكوين الشخصية وبناء الأخلاق بين رجل هتك ستر «القدر» ورجل لا يدري من أمره شيئا: الأول يشعر بالثقة والقوة، والثاني يخنع ويخضع. انظر إلى الناس من حولك، انظر إلى عيونهم وقسمات وجوههم، تجد الاستكانة والمذلة قد ارتسمت في نظراتهم وعلى شفاههم، ولأمر ما يسير المصري عادة مطأطئ الرأس يحف الأرض بقدمه حفا خفيفا، ويمشي الأوروبي مرفوع الرأس يضرب الأرض بقدميه ضربا قويا، إنك قل أن تجد أوروبيا قد أسدل جفنيه على عينيه، بل هو دائما ينظر وكأنما ستلفظ نظراته الشرر، بينما يندر أن تقع على مصري في مستطاعه أن ينظر إليك بعين مفتوحة: عند الأول جرأة على الحياة وعند الثاني جبن وخوف؛ لأن الأول قد علموه أنه سيد الكون، أما الثاني فقد لقنوه أنه ألعوبة في يد «القدر»؛ أفبعد هذا كله يترك الكتاب أقلامهم الجادة ليكتبوا «الطقاطيق» الخفيفة التي تطلب إليهم الشركات الصحفية أن يكتبوها؟
لا، إنه لا تكفينا إزاء ذلك كله أقلام تكتب الجد بمداد على ورق، بل نحن في أمس الحاجة إلى أقلام تنفث من أسنانها الحمم الذي يلسع الجلود ليستيقظ الرقود.
إعانة المجلات العلمية
لوزارة التربية والتعليم جهود مشكورة في تشجيع الحركة العلمية والفنية في كثير من صورها، تشجيعا لولاه لما استطاعت تلك الحركة - في أرجح الظن - أن تحقق هذا الذي حققته اليوم على قلته وضآلته.
فهي تعين المدارس والجامعات إعانة مبسوطة الكف لا تدخر في ذلك وسعا، حتى لتدفع كل نفقات الطالب في بعض المراحل التعليمية، وقسطا كبيرا من تلك النفقات في المراحل التعليمية الأخرى، وهي تدفع مكافآت مجزية في تشجيع حركة الترجمة حتى لقد يبلغ ما تدفعه أجرا على ترجمة الكتاب أحيانا مبلغا يزيد على ما يكسبه مؤلف الكتاب نفسه، وهي تبذل بذلا حميدا في تشجيع المؤلفين بشراء بضع مئات من كل كتاب تقريبا، مما يعوض على المؤلف شيئا مما أنفقه في تأليف كتابه من جهد ومال، وهي تعين الفرق التمثيلية الأجنبية والمصرية على السواء بألوف الجنيهات كل عام، وهي كذلك تسخو على كثير من الجمعيات العلمية والنوادي الأدبية والاجتماعية بمال كثير أو قليل، وهكذا وهكذا إلى آخر ما تنفقه الحكومة في هذا السبيل، وإذا فهي جهود للحكومة مذكورة مشكورة مهما يكن بها من نقص هنا أو عيب هناك، إن لم تصلحه اليوم، فهي لا بد فاعلة غدا، فحسبك من أصحاب الحكم في هذا الصدد أن تراهم قد ولوا وجوههم نحو الخير الصحيح، فإن كان في خطاهم تعثر في أول الطريق، فالأرجح أن يعتدل بهم السير بعد حين.
لكننا نرى أن وزارة التربية والتعليم قد غفلت عن إعانة المجلات العلمية إعانة تمكنها من القيام بواجبها على نحو كامل، وهي بإغضائها عن هذا الجانب من البناء الثقافي بمثابة من يصلح الأدوار العليا من البناء ويترك الأساس متداعيا منهارا، ولست أطلق الكلام هنا إطلاقا عن غير وعي بمعناه، وإنما أعني هذا الذي أقوله بأدق ما يؤديه من معنى.
فالمجلات العلمية والأدبية هي حقل التجارب الذي يخرج لنا الكتاب والمؤلفين فيما بعد، فإذا أنت محوته فقد محوت تسعة أعشار الفرصة التي تتهيأ للأقلام الناشئة، وبالتالي فقد محوت تسعة أعشار المؤلفين في الجيل المقبل، ولست بذلك أعني أن المجلات العلمية مقصورة على أقلام الناشئين، لكنها توشك أن تكون هي المجال الوحيد أمام هؤلاء، أما الكاتب الذي استقام واعتدل وقويت ساقاه فيستطيع أن يتنفس في الكتب إن ضاقت أمامه المجلات التي تتناسب مع مكانته العلمية والأدبية، وأنا أقول ذلك تفاؤلا مني بكبار كتابنا، وإلا فلو قلت ما أعتقده حقا لقلت مرة أخرى ما أعلنته في مواضع عدة، وهو أن الكاتب عندنا في معظم الأحيان تستنفد مجهوده المقالة الواحدة، وليس هو كالكاتب الأوروبي بمستطيع أن يستطرد مع فكرته حتى يملأ بها كتابا، وإذا فإضعاف المجلات العلمية والأدبية عندنا معناه المباشر هو سد الطريق في وجوه أصحاب القلم جميعا، صغارهم وكبارهم على السواء.
كانت المجلات والصحف عندنا هي المعمل الذي أخرج لنا قادة الفكر الذين نفخر بهم ونعتز، والذين نخشى مخلصين أن يتركوا وراءهم فراغا يستحيل على الجيل التالي لهم أن يملأه، فلولا الكتابة الصحفية لما كان لدينا العقاد والمازني وطه حسين وأحمد أمين وهيكل وغيرهم، وقد كدت أقول توفيق الحكيم، وأنا أتحفظ بالنسبة إلى الأستاذ الحكيم لأنه على خلاف هؤلاء جميعا قد بدأ أدبه الممتاز بالكتاب الكامل، ثم جرفه التيار العام، فعقب على الكتاب بالمقالة، وأتبع مرحلة التمثيلية الكاملة ذات الفصول، بمرحلة التمثيلية ذات الفصل الواحد، التي تتناسب مع الإخراج الصحفي، وهو لا شك سير في الطريق من آخره إلى أوله، لكنه يدل دلالة قوية على سيطرة المجلة أو الصحيفة على أدبائنا، فكيف إذا تكون الحال لو عشنا في خلاء من مجلات وصحف أدبية ممتازة؟
فكر في قادة الأدب عندنا واحدا بعد واحد، واسأل: ماذا يستطيع فلان أن يكتب إذا امتنعت دونه كتابة المقالة ؟ تجد جواب السؤال حاضرا في أغلب الحالات، وهو: لا يستطيع أن يكتب شيئا؛ لأنه أضحل فكرا من أن يخرج فكره في كتاب متصل، وكم مر علينا من تجارب، سدت فيها أبواب الصحف على كبار كتابنا، فسكتوا وطووا أقلامهم لأن الواحد منهم إما أن يكتب مقالة أو لا يكتب شيئا، والكثرة الغالبة من نتاجنا الأدبي الذي يتخذ في النهاية صورة الكتب، إن هي إلا مقالات جمعت في كتب، وليست هي بالكتب الأصيلة التي أنشأها منشئوها على أساس الكتاب لا على أساس المقالة.
لست ها هنا ناقدا يشير إلى وجه من أوجه النقص في إنتاجنا الأدبي والعلمي، ولكني أصف هذه الحالة لأنتهي إلى النتيجة التي تتفرع عنها، وهي أنه إذا انعدمت المجلات الأدبية والعلمية فقد انعدمت بالتالي الفرصة الوحيدة التي يتنفس فيها كبار كتابنا، والتي تهيئ مجال المران لصغارهم الناشئين.
نامعلوم صفحہ