ولا نحسبه من فعل المصادفات العابرة أن ينطق أديب فرنسي بهذه الأسطر في نفس الوقت الذي يتحدث فيه فيلسوف فرنسي بمثلها، وذلك هو ديكارت، الذي لم يتردد في هدم كل شيء بشكه، وكأنما ألقى على نفسه مثل السؤال الذي ألقته «ميديا» على نفسها: ها أنت ذا واقف بين ركام وأنقاض فماذا بقي لك؟ فأجاب أيضا بمثل ما أجابت به «ميديا»: بقيت ليس نفسي، «فأنا موجود».
وتلك بعينها هي وقفات الأبطال في التاريخ الإنساني كله: الأنبياء والمصلحون وزعماء الثورات وقادة الحروب الكبرى. فكل من هؤلاء كان ينطق بلسان حاله ولسان أفعاله، وينطق في وجه الظروف القائمة قائلا: هذا هو كل شيء قد فسد من حولك، فماذا بقي لك؟ وقد كان كل من هؤلاء يجيب لنفسه: بقيت نفسي، وما هو إلا أن يأخذ في التنفيذ والعمل، البطل الحقيقي لا يملى عليه بل يملي، ومهما صغرت الدائرة التي يفرض فيها الإنسان إملاءه وإرادته، فهو على كل حال أوفر حياة ممن يتلقى عن غيره، فلو كانت «جان دارك» رأت رؤاها وسمعت أصوات قلبها ثم وقفت عند هذا الحد، لما كان منها بطلة ولا شبهها؛ لأن الزاعمين والزاعمات بأمثال تلك الرؤى والأصوات لا يكاد يحصرهم العد في كل جيل من كل أمة، والناس يسلكونهم - بحق - في عداد المخرفين، لكن الذي نقل «جان دارك» من هذه الدائرة الدنيا - دائرة التخريف - إلى دائرة البطولة والعظمة النادرة، هو أنها راحت تعمل وفق أحلامها ورؤاها! قالت لها الكنيسة: تعالي نحقق صدق دعواك، فأبت أن تذعن لقضاء الكنيسة؛ لأن جانب البطولة منها قد أبى عليها أن تنصت لما يقوله الآخرون.
أول خطوات الرجاء - إذا - أن نطمئن إلى سلامة بناء الأفراد في قوة إرادتهم وقدرتهم على العمل والإنجاز، أول خطوات الرجاء أن نبث في كل فرد عقيدة قوية بأن الإنسان أقوى ما في الوجود، إنه أقوى من الوجود كله، هذا الإنسان الذي يبدو كأنه القصبة النحيلة تهزها الريح، في يده العصا السحرية التي تتحكم في الطبيعة من أولها إلى آخرها، وما عصاه السحرية هذه سوى عزيمة ماضية إلى هدفها بالعمل الدءوب.
هاروت وماروت
كان من أساطير العرب أن كوكب الزهرة هو امرأة بغي تحولت نجما، وخلاصة الأسطورة كما ذكرها «البلخي» هي ما يأتي: «روي أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم، قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فلما خلق آدم وأظهرت ذريته في الأرض الفساد، قالت الملائكة: يا رب، أهؤلاء الذين استخلفتهم في الأرض ؟ فأمرهم الله أن يختاروا من أفاضلهم ثلاثة ينزلهم إلى الأرض ليحملوا الناس على الحق، ففعلوا. قيل وجاءتهم امرأة فافتتنوا بها حتى شربوا الخمر وقتلوا النفس وسجدوا لغير الله سبحانه وتعالى، وعلموا المرأة الاسم الذي كانوا يصعدون به إلى السماء، فصعدت، حتى إذا كانت في السماء مسخت كوكبا، وهي الزهرة. قالوا وخير الملكان بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا، فهما معلقان بشعورهما في بئر بأرض بابل، يأتيهما السحرة فيتعلمون منهما السحر.» (الأساطير العربية قبل الإسلام، نقلا عن كتاب «عبقر» لصاحبه شفيق معلوف من أدباء المهجر).
تلك هي أسطورة هاروت وماروت كما قرأتها، ولا بد لنا بادئ ذي بدء أن نغضي عما فيها من خلط بين المثنى والجمع، إذ هي تبدأ بالحديث عن ثلاثة من الملائكة أرسلوا إلى الأرض، فتتحدث عن هاروت وماروت وحدهما بصيغة المثنى، دون أن تذكر خبرا عن زميلهما الثالث.
قرأت هذه الأسطورة فوجدتها تصور حياتنا السياسية منذ ربع قرن أو يزيد، بل وجدتها تصور كثيرا جدا من جوانب الحياة إلى جانب تصويرها للحياة السياسية.
فعناصر الأسطورة كما يرى القارئ هي أن تعيث ذرية آدم في الأرض فسادا، فيرفع الملائكة شكاتهم إلى الله، فيختارهم الله لحكومة الأرض لعلهم يصلحون. فما يكادون يضطربون في الشئون الأرضية حتى يتعرضوا لعوامل الإغراء، فيفسدون ويفسدون، ولا يكونون خيرا حالا من آدم وذريته.
وهكذا الحال في حياتنا السياسية، فكلما أرادت الظروف لحزب سياسي أن يتولى أمورنا، قالت الأحزاب الأخرى بلسان حالها متوجهة بشكاتها إلى ربها: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... إلخ؟
ويكون الحق إلى جانب هذه الأحزاب فيما قالت؛ لأن الحزب القائم على الأمر وذريته، تظهر فيه عوامل الفساد حقا، وتنتشر في الأرض ألوان العبث على أيديهم ألوانا وأشكالا، فلا غرابة أن تشمت الأحزاب المعارضة وأن تتوجه بسؤالها إلى الله: يا رب أهؤلاء الذين استخلفتهم في الأرض؟!
نامعلوم صفحہ