تحذير النبي ﷺ لأصحابه من الدنيا
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: (جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فلم يكن يخاف عليهم من فارس أو الروم، ولم يكن يخاف عليهم من المشركين أو اليهود؛ لأن هذه الأشياء يستطيعون أن يتصرفوا معها، وإنما الخوف عليهم هو من الدنيا.
فانظر إلى نفسك في حياتك، فمن المؤكد أنها قد مرت بك ظروف أو مرت بك أمثلة في الدنيا، فرأيت شخصًا كان مريضًا وكان طائعًا لربنا ﷾، وعندما أغناه ﷾ ما الذي وقع؟ كثير منهم ابتعدوا عن طريق الله ﷿، ونحن نرى هذا كثيرًا جدًا، وربما يكون قد حصل معنا شخصيًا، نسأل الله السلامة.
وروى مسلم أيضًا عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الدنيا حلوة خضرة)، أي: أن الدنيا حلوة، وشكلها أخضر كالنبات الجميل الزاهي، لكن هل هناك نبات مهما كان جماله يبقى على الدوام؟ مستحيل، فكل نبات مصيره إلى الفناء ومصيره إلى أن ييبس؛ وهكذا الدنيا حلوة خضرة وسوف تنتهي، ثم يقول: (وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون)، وانظر إلى هذا الفهم العميق، فالله ﷿ قد استخلفنا في هذه الدنيا وهو مراقب لنا في كل خطوة، وما الدنيا إلا اختبار وابتلاء وامتحان، وهذا هو الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبدًا، فنحن في اختبار دائم، ونحن في اختبار مستمر، والدنيا عبارة عن استخلاف للابتلاء والاختبار، فكل حركة لك في الدنيا ينظر إليها الله، فهل أنت مشيت يمينًا أم شمالًا، فلو قال لك: امش يمينًا فمشيت فلك حسنة، ولو مشيت شمالًا عليك سيئة، وعُدَّ على هذا جميع خطوات حياتك، فالدنيا اختبار، ولهذا سيأتي في نفس الحديث القليل في كلماته والعميق جدًا في معانيه، يقول: (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) قد يُفتن الإنسان أولًا بالمال أو بالمنصب أو بالسلطة أو بالصحة أو بالقوة أو بأي فتنة أخرى، ثم تأتي جميع الفتن عندما يقع في فتنة من هذه الفتن، نسأل الله السلامة.
إذًا: مع أن الحديث قليل جدًا في كلماته لكنه عميق جدًا في المعنى الذي يوضحه، فالدنيا شكلها جميل ومبهر لكنها إلى زوال، والله ﷾ جعلها هكذا جميلة في مظهرها الخارجي؛ لتكون اختبارًا حقيقيًا للناس، فاحذر يا مؤمن أن تنشغل بجمال الدنيا عن امتحانها، الغاية أنك تدخل الامتحان، وليست الغاية أن تنبهر بالجمال الموجود في الدنيا، والمثال يوضح ذلك: فلو أن طالبًا دخل قاعة الامتحان، ثم وزعت بعد ذلك ورق الامتحان، فجلس مبهورًا بحلاوة شكل الورقة وطريقة طباعتها، ونوع المادة التي صنعت منها الورقة، ولون الطباعة والتخطيط الذي في الورقة، وبقي على هذه الحال ساعة وساعتين وثلاثًا حتى انتهى الوقت، ثم قال له شخص: انتهى الوقت ولا يوجد وقت إضافي، عند ذلك لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، فما هو رأيكم في هذا الطالب؟ أنا لا أريد منكم استغرابكم من هذا الطالب؛ لأن كثيرًا منا مثل هذا الطالب، وكثيرًا منا من ينبهر بشكل الورقة وينسى الامتحان، وكثيرًا منا من ينبهر بشكل الدنيا وينسى الامتحان، ثم يأتي في وقت ينتهي فيه الامتحان ولا يوجد هناك رجوع ولا يوجد وقت إضافي، وكذلك عندما تنتهي الدنيا تنتهي، سواء كانت هذه النهاية بنهايتك شخصيًا أو بنهاية الأرض كلها، ولا يوجد أحد في هذه الأرض سيخلّف: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:٣٠].
وقال تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:٣٤] لا يمكن ذلك، فهذه الحقائق لا بد أن نعيها جيدًا، والرسول ﷺ قد اجتهد مرة ومرتين وثلاثًا وعشرًا وعشرين على أن يعلمها الصحابة ويعلمنا بعد هذا، فانتبه يا مسلم! أن تنسى هذه الحقائق.
وتأملوا إلى الرسول ﷺ وهو يمشي خارج المدينة مع أبي ذر ﵁ وأرضاه، فأخذا يمشيان حتى وصلوا إلى جبل أحد خارج المدينة، روى البخاري ومسلم عن أبي ذر ﵁ قال: (كنت أمشي مع النبي ﷺ في حرة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قلت: أحد، فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئًا أرصده لدين)، يعني: امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة والسرور، لكن أنا أحتاجه فقط في حالتين: الحالة الأولى: (إلا شيئًا أرصده لدين)، والحالة الثانية: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه)، أي: أنه يوزع هذا الجبل
7 / 5