فهم معاذ وسلمان لحقيقة الأخوة وتطبيقهما لها
لم تكن مسئوليتهم تنحصر في المسئولية المادية فقط، بل كان الصحابي يعين أخاه على طاعة الله ﷿.
ففي البخاري أن معاذ بن جبل ﵁ وأرضاه كان يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة.
فليس كله عمل، وليس كله شغل، وليس كله مادة، وليس كله انغماس في الدنيا، وإنما مساعدة على طاعة الله ﷿، وهذا هو المعنى الذي ذكره الله ﷿ على لسان موسى ﵊ في سورة طه فقال: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طه:٢٩ - ٣٢]، لماذا كل هذا؟ ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ [طه:٣٣ - ٣٤]، فالمؤمن يتعاون مع أخيه، وأخوه يعينه في يوم من الأيام، وكل واحد يتبادل مع أخيه منفعة المعاونة على الطاعة، وهذا هو العون الحقيقي، ولذا لم يقل الصحابي سلبيًا أبدًا في تعليم إخوانه الخير الذي عرفه.
ففي البخاري عن وهب بن عبد الله ﵁ وأرضاه أنه قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، وهي المؤاخاة التي حصلت في المدينة المنورة بعد الهجرة فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة أي: رثة الهيئة، وهذا كان قبل فرض الحجاب فقال لها: ما شأنك؟ أي لماذا تعملين بنفسك هكذا؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، يعني: أن أخاه أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة في أهل بيته، فلا حاجة لأن تتزين، فهي تعيش حياتها بهذا التبذل أو بهذه الهيئة الرثة، وعندما سمع سلمان الفارسي ﵁ وأرضاه هذا الكلام عرف أن هذا البيت على شفى حفرة، فقرر أن يكون إيجابيًا فينصح أخاه.
يقول الراوي وهب بن عبد الله ﵁ يقول: فجاء أبو الدرداء، يعني: أن سلمان دخل البيت وأتاه أبو الدرداء فصنع له طعامًا، أي أن أبا الدرداء صنع لـ سلمان طعامًا، فقال له سلمان: كل، أي: كل معي، قال: فإني صائم، وأبو الدرداء كان يسرد الصوم قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل استحياء من ضيفه، ولأنه صيام تطوع، قال: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم أي: يصلي صلاة الليل، قال له سلمان: نم، فنام قليلًا، ولم يستطع أن ينام، لأنه متعود على القيام، ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة:١٦]، فقام مرة أخرى لكي يصلي فقال له سلمان: نم، ومرة أخرى أمره بالنوم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن أي: لما كان آخر جزء من الليل قال له سلمان: تعال نصلي القيام، فصليا، فقال له سلمان بعد أن أكملوا الصلاة - فـ سلمان يعلمه درسًا في منتهى الرقي- إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، وفي رواية الترمذي قال: وإن لضيفك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه.
فكل واحد لابد أن يأخذ حقه، ولا ينفع أن تعطي الوقت كله لطاعة ربنا ﷾ -على عظم هذا الأمر- ثم تترك أهلك من غير رعاية، أو تترك نفسك من غير رعاية، أو تترك ضيفك من غير رعاية، وكأن هذا الكلام لم يعجب أبا الدرداء، ولم يكن مقتنعًا، فهو يريد أن يعتكف طول حياته ليعبد ربه ﷿، فذهب إلى الرسول ﷺ يشكو سلمان، وذكر له كل هذه القصة، فقال النبي ﷺ: صدق سلمان صدق سلمان، فأقر النبي ﷺ سلمان على هذا التعليم اللطيف الذي عمله مع أبي الدرداء ﵃ أجمعين.
والشاهد أن سلمان الفارسي ﵁ أعطى من وقته يومًا وليلة ليعلم أخاه درسًا ينفعه، ولكي يحافظ له على بيته، وهذا من سلمان شيء في منتهى الروعة، وذلك أن الإنسان يوقف شغله ويوقف حياته ويوقف نظامه كله من أجل أنه يحافظ على بيت أخيه، أما أن يرى الأخ أو يسمع بمشاكل طاحنة في بيت أخيه وحياته لا تسير بصورة طبيعية، ثم لا يتدخل لحلها فليست بأخوة، فالأخوة مسئولية، ولذلك لو اضطررت لأن تقطع حياتك يومًا وليلة من أجل أن تسافر إلى أخيك، أو تدخل مع أخيك في قضية من القضايا تحلها له فافعل.
10 / 12