الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم
قال أبو عبيد الله محمد بن يحيى: قرأت على ابن وَلاَّد، وهو ينظر
1 / 3
في كتاب أبيه. وسمعته يُقرأ على أبي جعفر أحمدَ بن محمدٍ، المعروف بابن النَّحَّاس.
وأخذَه أبو القاسم بن ولاد عن أبيه عن المبرد.
وأخذه المبرد عن المازني عن الأخفش عن سيبويه.
1 / 4
الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتابه، وجعله آخر دعاء أهل الجنة فقال جلّ ثناؤه: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطَّيبين.
قال لنا أبو جعفر أحمد بن محمد: لم يزل أهل العربّية يفضَلون كتابَ أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر؛ المعروف بسيبوية، حتّى لقد قال محمد بن يزيد: " لم يُعْمَل كتابٌ في علم من العلوم مثلُ كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنَّفة في العلوم مُضْطَّرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره ".
وقال: سمعت أبا بكر بن شُقَير يقول: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعتُ الجَرْمىَّ يقول: أنا مُذْ
1 / 5
ثلاثون أُفتِى الناس في الفقه من كتاب سيبويه.
قال: فحدَّثت به محمد يزيدَ على وجه التعجُّب والإِنكار فقال: " أنا سمعت الجرمىَّ يقول هذا - وأومأ بيديه إلى أذنيه. وذلك أن أبا بكر عُمر الجرمى كان صاحبَ حديث، فلما علِم كتاب سيبويه تفقّه في الحديث؛ إذ كان كتاب سيبويه يتعلَّم منه النظر والتَّفتيش ". انتهى.
قال أبو جعفر: وقد حكى بعضُ النحويين أن الكسائي قرأ الأخفش كتاب سيبويه ودفع له مائتي دينار.
وحكى أحمد بن جعفر أن كتاب سيبويه وجد بعضه تحت وسادة الفرَّاء التي كان يجلس عليها.
وأصل ما جاء به سيبويه عن الخليل.
قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول
1 / 6
الخليل: " وقال غيره " فإنّما يعنى نفسه، لأنه أجلَّ الخليل عن أن يذكر نفسه معه. وإذا قال: " وسألته " فإنما يعنى الخليل.
وقال أبو إسحاق: إذا تأمّلتَ الأمثلةَ من كتاب سيبويه تبينتَ أنه أعلمُ الناس باللغة.
قال أبو جعفر: وحدثني علي بن سليمان قال حدثنى محمد بن يزيد أن المفتَّشين من أهل العربية ومَن له المعرفُة باللُّغة، تتبعوا على سيبويه الأمثلةَ فلم يَجدوه ترك من كلام العرب إلاَّ ثلاثة أَمثلة: منها الهُنْدَلعِ، وهي بقلة. والدراقس، وهو عظمٌ في القفا. وشَمَنْصِير، وهو اسمُ أرض.
وقال أبو إسحاق: حدثني القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثني
1 / 7
نصر بن علي قال: سمعت الأخفش يقول: يُعدُّ من أصحاب الخليل في النحو أربعة: سيبويه، والنضر بن شميل، وعلى بن نصر - وهو أبو نصر ابن على - ومؤرَّج السَّدوسى.
قال: وسمعت نصرًا يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاونَ على إحياء علم الخليل.
قال أبو جعفر: وقد رأيت أبا جعفر بن رستم يروي كتاب سيبويه عن المازِنّى غير أن الذي اعتمد عليه أبو جعفر في كتاب سيبويه إبراهيم ابن السرىّ؛ لمعرفته به وضبطه إياه.
1 / 8
وذكر أن علي بن سليمان حكى أنَّ أبا العباس كان لا يكاد يقرئ أحدًا كتابَ سَيبويه حتى يقرأه على أبي إسحاق، لصحة نسخته، ولذكر أسماء الشعراء فيها.
قال الجَرمىّ: نظرتُ في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا. فأمّا ألفّ فَعَرَفت أسماء قائليها فأثبتُّ أسماءهم، وأما خمسون فلم أعرف قائليها.
قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: نظرت في نسخة كتاب سيبويه التي أُمِليتْ بمصر فإذا فيها مائتا حرف خطأ. قال: ورأيت أبا إسحاق قد أنكر الإسناد الذي في أولها إنكارًا شديدًا. وقال: لم يقرأ أبو العباس محمد بن يزيد كتابَ سيبويه كلَّه على الجرمّى، ولكن قال أبو إسحاق: قرأته أَنا على أبي العباس محمد بن يزيد وقال لنا أبو العباس: قرأت نحو ثلثه على أبي عُمَر الجرمىّ، فتوفَي أبو عمر فابتدأت قراءته على أبي الحسن سَعيد بن مَسعدة الأخفش، وقال الأخفش: كنت أسأل سيبويه عمّا أشكلَ عليَّ منه، فإن تعصّب علّى الشيءُ منه قرأته عليه.
1 / 9
وأما أبو القاسم بن ولاّد فإنه حدّثنا عن أبيه أبي الحُسَين قال: حدَّثني أبو العباس المبرد قال: قرأ المازنيّ كتاب سيبويه على الجَرمى وساءلَ الأخفشَ عنه، وقرأه الجرمىّ على الأخفش.
قال: وحدثني المبرد قال: قرأت بعض هذا الكتاب على الجرمى، وبعضه على المازنيّ، ومنه ما قرأته عليهما جميعًا.
قال: وسمعت المبرد يقول: قد أدرك أبو عُمَر من أخذ عنه سيبويه، واختلف إلى حَلْقة يونس.
وحدثنا أبو القاسم بن ولاد عن أبيه قال: حدثنا أبو العباس قال: حدثني الزيادىُّ أبو إسحاق قال: عَمَدت إلى أبي عُمَر الجرمىَّ أقرأ عليه كتاب سيبويه، ووافيت المازنَّى يقرأ عليه في أثناء " هذا باب ما يرتفع بين الجزأين " فكنَّا نَعجب من حِذقه وجودة ذهنه. وكان قد بلغ من أوّل الكتاب إلى هذا الموضع.
قال أبو الحُسين بن ولاّد: يعنى أن المازنىّ كان قد بلغ على الأخفش إلى هذا الموضع.
وسمعت أبا القاسم بن ولاّد يقول: كان أبي قد قِدم على أبي العباس المبَرد
1 / 10
ليأخذ منه كتاب سيبويه، فكان المبّرد لا يمكَّن أحدًا من أصله، وكان يضنّ به ضنّة شديدة، فكلّمَ ابنه عَلَى أن يَجْعلَ له في كل كتابٍ منها جُعلًا قد سمَّاه. فأكملَ نَسْخَه. ثم إنّ أبا العباس ظَهَر على ذلك بعدُ، فكان قد سعى بأبي الحُسَين إلى بعض خَدَمة السلطان ليحبسَه له ويعاقبه في ذلك، فامتنع أبو الحسين منه بصاحب خراج بغداد يومئذ - وكان أبو الحسين يؤدّب ولده - فأجاره منه. ثم إن صاحب الخراج ألظَّ بأبي العباس يطلب إليه أن يقرأ عليه الكتابَ حتّى فعل.
قال أبو عبد الله: فقرأته أنا على أبي القاسم وهو ينظر في ذلك الكتاب بعينه، وقال لي: قرأته على أبي مرارًا.
1 / 11
هذا باب علم الكَلِمُ من العربية
فالكَلِم: اسمٌ، وفِعْلٌ، وحَرْفٌ جاء لمعنّى ليس باسم ولا فعل.
فالاسمُ: رجلٌ، وفرسٌ، وحائط.
وأما الفعل فأمثلة أُخذتْ من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيتْ لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينَقطع.
فأما بناء ما مضى فذَهَبَ وسَمِعِ ومِكُث وحُمِدَ. وأما بناء ما لم يقع فإنّه قولك آمِرًا: اذهَب واقتُلْ واضرِبْ، ومخبرًا: يَقْتُلُ ويَذهَبُ ويَضرِبُ ويُقْتَلُ ويُضرَبُ. وكذلك بناء ما لم يَنقطع وهو كائن إذا أخبرتَ.
فهذه الأمثلة التي أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة ستبيَّن إن شاء الله.
والأحداث نحو الضَّرْبِ والحمد والقتل.
وأما ما جاء لمعنّى وليس باسم ولا فعلٍ فنحو: ثُمَّ، وسَوْف، وواو القسم ولام الإضافة، ونحوها.
1 / 12
هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية
وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجرَّ والرفع والجزم، والفتح والضمّ والكسر والوقف.
وهذه المجارى الثمانيةُ يَجمعهنّ في اللفظ أربعةُ أضرب: فالنصبُ والفتح في اللفظ ضربٌ واحد، والجرّ والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضمّ، والجزم والوقف.
وإنّما ذكرتُ لك ثمانية مجار لأفُرقَ بين ما يدخله ضربٌ من هذه الأربعة لما يُحِدثُ فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يُبْنَى عليه الحرفُ بناءً لا يزول عنه لغير شيء أحدثَ ذلك فيه من العوامل، التي لكلّ منها ضربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرفُ حرف الإعراب.
فالرفع والجر والنصب والجزم لحروفِ الإعراب. وحروفُ الإعراب للأسماء المتمكّنة، وللأفعال المضارِعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائدُ الأربع: الهمزة، والتاء، والياء، والنون. وذلك قولك: أفْعَلُ أنا، وتَفعل أنتَ أو هي، ويَفعل هو، ونَفعل نحن.
1 / 13
والنصب في الأسماء: رأيت زيدًا، والجرّ: مررت بزيد، والرفع: هذا زيدٌ. وليس في الأسماء جزم، لتمكنها وللحاق التنوين، فإذا ذهب التنوين لم يَجمعوا على الاسم ذهابَه وذهاب الحركة.
والنصب في المضارع من الأفعال: لن يَفعلَ، والرفع: سيَفعل، والجزم: لم يفعلْ. وليس في الأفعال المضارعة جرٌّ كما أنّه ليس في الأسماء جزم؛ لأن لمجرور داخلٌ في المضاف إليه معاقبٌ للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال. وإنما ضارعتْ أسماء الفاعلينَ أنَّك تقول: إن عبد الله لَيَفعلُ، فيوافِقُ قولَك: لفاعل، حتَّى كأنّك قلت: إن زيدًا لفاعلٌ فيما تُريد من المعنى. وتلحقه هذه اللام كما لحقت الاسمَ، ولا تلحق فَعَل اللامُ. وتقول سيفعلُ ذلك وسوفَ يفعل ذلك فُتلحِقهُا هذين الحرفين لمعنى كما تَلحق الألف واللام الأسماء للمعرفة.
ويبّن لك أنَّها ليست بأسماءٍ أنّك لو وضعتَها مواضعَ الأسماء لم يجزْ ذلك. ألاَ ترى أنّك لو قلت إنَّ يَضْرِبَ يأتينا وأشباه هذا لم يكن كلامًا؟! إلاّ أنّها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى. وسترى ذلك أيضًا في موضعه.
1 / 14
ولدخول اللام قال الله جلّ ثناؤه: " وإن ربك ليحكم بينهم " أي لحاكمٌ.
ولِمَا لحقها من السين وسوف كما لحقت الاسم والألف واللام للمعرفة. وأمْا الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكَّنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنًى ليس غيُر، نحو سَوْفَ وقَدْ، وللأفعال التي لم تَجر مجرى المضارِعة، وللحروف التي ليست بأسماءٍ ولا أفعال ولم تجئْ إلاّ لمعنى.
فالفتح في الأسماء قولهم: حيثَ وأينَ وكيفَ. والكسر فيها نحو: أولاد وحذار وبداد. والضم نحو: حيثُ وقبلُ وبعدُ. والوقف نحو: مَنْ وكمْ وقطْ وإذْ.
1 / 15
والفتح في الأفعال التي لم تَجْرِ مجرى المضارعة قولهم: ضرب، وكذلك كلُّ بناء من الفعل كان معناه فعل. ولم يسكنو آخِر فَعَلَ لأنّ فيها بعض ما في المضارعَة، تقول: هذا رجلٌ ضَربَنَا، فتَصف بها النكرة، وتكون في موضع ضاربٍ إذا قلت هذا رجلٌ ضارب. وتقول: إن فَعَل فعلتُ، فيكون في معنى إن يَفْعَلْ أفعلْ، فهي فعْلٌ كما أنَّ المضارع فِعْلٌ وقد وقعتْ موقعها في إنْ، ووقعت موقعَ الأسماء في الوصف كما تقع المضارعَة في الوصف، فلم يسكّنوها كما لم يسكنو من الأسماء ما ضارع المتمكَّن ولا ما صيُرِّ من المتمكَّن في موضعٍ بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع: مِنْ عَلُ، حرَّكوه لأنّهم قد يقولون من عَلٍ فُيجْروُنه. وأمَّا المتمكن الذي جُعل بمنزلة غير المتمكَّن في موضع فقولك ابدأ بهذا أول، ويا حكم.
1 / 16
والوقف قولهم: اضرب في الأمر، ولم يحرِّكوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة، فبعدت من المضارعة بعدكم وإذ من المتمكنة.
وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه افْعَلْ.
والفتح في الحروف التي ليست إلا لمعنى وليست بأسماء ولا أفعال، قولهم: سوف، وثم.
والكسر فيها قولهم في باء الإضافة ولامها: بزيدٍ ولزيد.
والضم فيها: منذ، فيمن جرّبها، لأنها بمنزلة مِنْ في الأيام.
والوقف فيها قولهم: مِنْ، وهَلْ، وبل، وقد.
ولا ضَمَّ في الفعل؛ لأنه لم يجيء ثالثٌ سوى المضارع. وعلى هذين المعنيين بناءُ كل فعل بعد المضارع.
واعلم أنك إذا ثنَّيت الواحدَ لحقتْه زيادتان: الأولى منهما حرف المد والين وهو حرف الإعراب غير متحرِّك ولا منوَّن، يكون في الرفع ألفًا، ولم يكن واوًا ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية، ويكون في الجرّ ياء مفتوحا ما قبلها، ولم يكسَرْ ليُفْصَل بين التثنية والجمع الذي على حدّ التثنية. ويكون في النصب كذلك، ولم يجعلوا النصب ألفًا ليكون مثله في الجمع، وكان مع ذا أنْ يكون تابعًا لما الجَرُّ منه أولى، لأنَّ الجرَّ للاسم لا يجاوِزه، والرفُع قد ينتقل إلى الفعل، فكان هذا أغلبَ وأقوى. وتكون الزيادة الثانية نونًا
1 / 17
كأنها عوضٌ لما منع من الحركة والتنوين، وهي النون وحركتها الكسر، وذلك قولك: هما الرجلانِ، ورأيت الرجلَينِ، ومررت بالرجلَيْنِ.
وإذا جمعتَ على حدَّ التثنية لحقتْها زائدتان: الأولى منهما حرف المد والين، والثانية نون. وحال الأولى في السكون وتركِ التنوين وأنّها حرف الإعراب، حال الأولى في التثنية، إلا أنها واو ومضموم ما قبلها في الرفع، وفي الجر والنصب ياءٌ مكسورٌ ما قبلها ونونها مفتوحة، فرقوا بينها وبين نون الاثنين كما أنَّ حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلِفٌ فيهما. وذلك قولك: المسلمُوَن، ورأيت المسلِمينَ ومررت بالمسلمين. ومن ثَمّ جعَلوا تاء الجمْع في الجرَّ والنصب مكسورة، لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب كالواو والياء، والتنوينَ بمنزلة النُّون لأنها في التأنيث نظيرة الواو والياء في التذكير فأجروها مجراها.
1 / 18
واعلم أنّ التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامةً للفاعلين لحقتها ألف ونون، ولم تكن الألف حرفَ الإعراب لأنك لم ترد أن تثنِّى يَفْعَلُ هذا البناءَ فتَضمَّ إليه يفعل آخَرَ، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفاعلين، ولم تكن منونة، ولا يَلزمها الحركةُ لأنّه يدُرِكُها الجزمُ والسكونُ فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كالتنوين، فكلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلته، فجعلوا إعرابه في الرَّفع ثباتَ النون لتكون له في التثنية علامةً للرَّفع كما كان في الواحد إذْ مُنع حرفَ الإعراب.
وجعلوا النون مكسورةً كحالها في الاسم، ولم يجعلوها حرف الإعراب إذْ كانت متحَرّكة لا تثُبتُ في الجزم ولم يكونوا ليحذفوا الألفَ لأنّها علامةُ الإضمار والتثنية في قول من قال: أكلوني البراغيثُ، وبمنزلة التاء في قلتُ وقالتْ، فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم كما حذفوا الحركة في الواحد.
ووافَق النصبُ الجزمَ في الحذف كما وافَق النصبُ الجرَّ في الأسماء؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، والأسماء ليس لها في الجزم نصيبٌ كما أنه ليس للفعل في الجر نصيب. وذلك قولك: هما يَفعَلاَنِ، ولم يَفعَلاَ، ولن يَفعَلاَ.
وكذلك إذا لحقت الأفعالَ علامةُ للجمع لحقتها زائدتان، إلا أنّ الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية، ونونُها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلتَ ذلك في التثنية، لأنّهما وقعتا في التثنية والجمع ههنا كما أنّهما في الأسماء كذلك، وهو قولك: هم يَفْعَلُونَ ولم يَفعلوا ولن يفعلوا.
1 / 19
وكذلك إذا ألحقتَ التأنيثَ في المخاطبة، إلاّ أنّ الأولى ياء وتَفتَحُ النونَ لأنّ الزيادة التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في الجمع، وهي تكون في الأسماء في الجرّ والنصب، وذلك قولك: أنت تَفْعَلين ولم تفعِلى ولن تفعَلى.
وإذا أردتَ جمعَ المؤنَّث في الفعل المضارع ألحقتَ للعلامة نونَّا، وكانت علامةَ الإضمار والجمع فيمن قال أكلوني البراغيث، وأسكنتَ ما كان في الواحد حرفَ الأعراب، كما فعلت ذلك في فَعَلَ حين قلت فَعَلْت وفَعَلْنَ، فأُسكنَ هذا ههنا وبنى على هذه العلامة، كما أُسكن فَعَلَ، لأنّه فِعلٌ كما إنه فَعْلٌ، وهو متحرَّك كما أنّه متحرك، فليس هذا بأبعد فيها - إذا كانت هي وفعَلَ شيئًا واحدًا - مِن يَفعَلُ، إذ جاز لهم فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء وليست باسم، وذلك قولك: هن يَفْعَلْنَ ولن يفعلن ولم يفعَلْنَ. وتفتحها لأنّها نون جمع، ولا تُحذَف لأنها علامةُ إضمار وجمع في قول من قال أكلوني البراغيث. فالنون ههنا في يَفعَلْنَ بمنزلتها في فَعَلْنَ. وفُعل بلام يَفْعَلُ ما فُعل بلام فَعَلَ لما ذكرتُ لك، ولأنّها قد تُبنَى مع ذلك على الفتحة في قولك هل تفعلن. وألزموا لام فعل السكون وبنوها على العلامة وحذفوا الحركة لمّا زادوا، لأنها في الواحد ليست في آخرها حرفَ إعراب لما ذكرت لك.
وأعلم أنَّ بعض الكلام أثقلُ من بعض، فالأفعالُ أثقلُ من الأسماء لأنّ الأسماء هي الأُولَى، وهي أشدُّ تمكّنا، فِمن ثم لم يَلحقها تنوينٌ ولحقها الجزْم
1 / 20
والسكون، وإنَّما هي من الأسماء. ألا تَرى أنّ الفعل لا بدّ له من الاسم وإلاّ لم يكن كلامًا، والاسمُ قد يَستغنى عن الفعل، تقول: اللهُ إلهُنا، وعبدُ الله أخونا.
واعلم أن ما ضارع الفعلَ المضارِعَ من الأسماء في الكلام ووافقه في البناء أُجرَى لفظُه مُجرى ما يَستثقِلون ومنعوه ما يكون لَما يَستخفُّونَ وذلك نحو أَبْيَضَ وأَسْوَدَ وأَحْمَرَ وأَصفرَ، فهذا بناء أذْهَبُ وأَعْلَم فيكون في موضع الجرَّ مفتوحا، استثقلوه حين قارب في الكلام ووافق في البناء.
وأما مضارعته في الصفة فإنك لو قلت: أتأتني اليومَ قويٌّ، وأَلاَ باردًا ومررت بجميل، كان ضعيفًا، ولم يكن في حُسنِ أتاني رجلٌ قويّ وألاّ ماءَ باردًا، ومررت برجل جميل. أفلا ترى أنّ هذا يقبح ههنا كما أن الفعل المضارع لا يُتكلَّم به إلاّ ومعه الاسم؛ لأنّ الاسم قبل الصفة، كما أنّه قبل الفعل. ومع هذا أنّك ترى الصفة تَجرى في معنى يَفْعَلُ، يعني هذا رَجلٌ ضاربٌ زيدًا، وتَنْصِب كما ينصِب الفعلُ. وسترى ذلك إن شاء الله.
فإن كان اسمًا كان أخفَّ عليهم، وذلك نحو أفْكَلٍ وأَكْلبٍ، ينَصرفانِ في النكرة.
ومضارعةُ أفعلَ الذي يكون صفةً للاسم أنّه يكون وهو اسمٌ صفة
1 / 21
كما يكون الفعل صفة، وأمَّا يشكر فإنّه لا يكون صفة وهو اسم، وإنما يكون صفة وهو فعل.
وأعلم أن النكرة أخفُّ عليهم من المعرفة، وهي أشدُّ تمكُّنا؛ لأنّ النكرة أولّ، ثم يَدْخلُ عليها ما تُعَرَّف به. فمن ثَمّ أكثرُ الكلام ينصرف في النكرة.
وأعلم أن الواحد أشدُّ تمكنا من الجميع، لأنّ الواحد الأوّل، ومن ثم لم يَصْرِفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد، نحو مَساجِدَ ومَفاتيحَ.
واعلم أن المذكَّر أخفّ عليهم من المؤنّث لأنّ المذكر أوّل، وهو أشدُّ تمكنا، وإنّما يخرج التأنيثُ من التذكير. ألا ترى أنّ " الشيء " يقع على كلَّ ما أخبر عنه من قبل أن يُعْلَم أذكرٌ هو أو أُنثى، والشيء ذكر، فالتنوين علامة للأمكن عندهم والأخفَّ عليهم، وتركُه علامةٌ لما يستثقلون. وسوف يُبَيَّن ما ينصرف وما لا ينصرف إن شاء الله.
وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلتَ عليه الألفَ واللام أو أضيف انجرَّ؛ لأنها
1 / 22