10
وتكاد تميز من الغيظ، وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش!
فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء؛
11
إذ ليس بعد الفقر خوف، ودلفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها، حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: سيدتي، أدام الله نعمته عليك، وهنأك هذه النعمة بدوامها. - هي دائمة، وما أنت والنعمة؟ - سيدتي، وقاك الله ما أنا فيه من بأساء الحياة، ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي! - فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذن أيتها الحمقاء؟ وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ - سيدتي، ألا مهلا مهلا، وانظري إلي ينظر الله إليك. - قد نظر الله إليك من قبلي. - سيدتي، هبيني خادما أحسنت إليها. - فلتكوني خادما طردتها إن بلغت أن تكوني خادما لمثلنا. - يا ويلتنا! ألا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ - ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعا إذا أنا جدت عليك، ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي! - سيدتي، ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان، وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء ، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره! - إذن فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي. - سيدتي، ليس فقري عن خطأ مني، وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة! - وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ؟ - رحماك واتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالا مني! - حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا، ويومئذ تعرفين كيف تطرد الكلاب!
قال «الشيخ علي»: فكبر ذلك على الفتاة، وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر وحكمته، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية؛ مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخا؛ هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها، ولم تجد لها عزما.
أما السيدة الكريمة - كما يقال - فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافتر ثغرها قليلا عن ابتسامة السخرية، وسرها أن يكون في لسانها كل هذا المنطق، ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: «مسكينة! مسكينة!» ومرت بعد ذلك لا تلوي، وما يخطر لها إلا أنها نفضت نعلها!
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة، وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج، فأطلق عليها دموع البائسة، وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل، فانزوت إلى جانب من الطريق وجعلت تبكي، ثم تبكي، ثم تبكي؛ حتى لو جمعت دموعها لغمرت منها، وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة، وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعا.
12 •••
كانت للسيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعة في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيما ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله، فولدت لها الفتاة وكأنما انشق لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة، بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى، ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوع من الفقر إلى الله؛ وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر، كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها؛ فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟
نامعلوم صفحہ