وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملا من شبع وري؛ فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تقتل من جهتين!
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقا؛ لتموت نظيفة، وتكون لنفسها غاسلة، وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء!
ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركنا، أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها، كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتد بها المسير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وإنها لكذلك؛ إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع، وهو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوما كاملا، على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إداما ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة، وأدرك أن روحها تخطو في أنفاسها، وأنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه، طالما شد عليه حتى انطوى، ولان لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، أكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه؛ فابتدر
6
إلى المسكينة، وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه، ثم ذهب لا يعرف ما صنع؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء؛ أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه؛ لأنها لا محالة متوعرة به،
7
ستحسبه اقترف إثما فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله، وإلى أن يأتي الله بالصباح الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل قد صب عليه الويل؛ وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير، بدلا من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
نامعلوم صفحہ