في كفه معنى الحياة وفي جوفه معنى الموت، وقد ابتاع مما تشتهيه معدة خياله التي لا تشبع؛ لأنها لا تنال شيئا، وأسرف بالمال في ذلك حتى استجمع الكثير الطيب، ثم انقلب إلى داره بعين من ذلك الذئب تكاد أشعتها تنضج الغذاء من حر نظراتها إليه.
سلوا صاحبنا الفقير يقل لكم أي لذة يا قوم تكون في غير هذا الطعام الذي يقتل به داء البطن،
19
وتتفتق عليه الخواصر شبعا وسمنة ، وهل هذه إلا روح مائدة من موائد الجنة فيها مما تشتهي الأنفس وتقر الأعين؟ ثم سلوا الممعود المسكين يقل لكم وهو صادق صدقا يتمنى بما ملكت يداه من الدنيا لو أنه كذب، يقل لكم: تالله ما أجد في هذا كله ولا في بعضه من لذة ولا سعادة، ولو أبحته جوفي لكان الموت بعينه!
إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كل ذي حق حقه بالنصفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم. ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغنى، لرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فطر أكثر الخلق - لطبيعة الخوف المتمكنة منهم - على أن يتسعوا في فهم الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية؛ فالفقير الذي لا يفهم حقيقة الفقر يتألم بإدراك ووهم وفلسفة؛ إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبله على حاضر الأغنياء ومن في حكمهم فقط؛ وبهذا يكون ألمه عملا عقليا في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثر مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب. فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لوجد الحكماء في الأرض شيئا حقيقيا يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورب غنى يزيد أهله بالحرص والدناءة فقرا؛ فانظروا فيهما بأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنا لها، انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كل موعظة إنسانية أو إلهية، فلا تثمر شيئا حتى إذا ماتوا نبتت كلها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاء وسلوة وموعظة من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظر فتعطيها محاسن الطبيعة الفكر.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هي من نور الطبيعة؛ فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبر واحد؛ هو ملء هذه المعدة!
هوامش
الفصل الرابع
نامعلوم صفحہ