أراه كما كنت أعرفه، ضاحكا غير الضحك الذي يلبس وجوه الناس، فلا يضحك لشيء إنساني، بل ما هو إلا أن تراه قد تهلل فرفع وجهه إلى السماء، وأرسل من فمه مثل نور التسبيح في إشراق جميل، حتى لقد كان يخيل حين أبصره على تلك الهيئة أنه لا يضحك، ولكن قلبه يرتعش بعضلات وجهه.
لو أراد الله بالناس خيرا لوضع في أبصارهم أشعة تنبث في أطواء القلوب، فتعرف ألوان العواطف وتميزها لونا من لون، ولكنه جعل الوجه غطاء على معاني القلب، ثم سلط الفكر على معاني الوجه ومعارفه يصور فيها ما شاء مما له أصل في الحس وما لا أصل له، حتى ليختبئ الإنسان عن الإنسان وهو مكشوف لعينيه! وإذا كان الله سبحانه قد أوجد الخير والشر صريحين، فقد أوجد الإنسان ثالثا لهما وهو تلبيس أحدهما بالآخر، وأراد الخالق ذلك ويسره للإنسان فجعل فيه آلة واحدة للصدق وهي القلب، وآلتين للكذب: وجهه ولسانه. •••
كان «الشيخ علي» يشبه إنسانية قائمة بغير إنسانها، على حين ترى أكثر الناس كأنه إنسان قائم بغير إنسانيته،
2
وكانت الدنيا كأنما نسيت أنه فيها، فتركت له روحه صافية منطلقة تتطعم الحياة غير مستقرة في شيء، كما يتطعم النسيم رائحته من ورق الزهر، فهو يتسحب عليه ولا يستقر فيه ولو أنه ورق الزهر.
وما زلت روح هذا الرجل مني منذ عرفته كأنها نضاحة عطر
3
تمج رشاشها على حياتي روحا وعبيرا وندى، وكأن الرجل طفل عزيز من أطفال قلبي يملأ ما حوله ابتساما وطفولة ورقة، ولو أن أحدا خلق من عيني الطفل الضاحكتين لكان هو «الشيخ علي» رحمه الله، على أنه كان رجلا من سوسه القوة معصوبا متكدسا،
4
يملأ جلده كأنه جذل من أجذال الشجر.
نامعلوم صفحہ