فاتحة1
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
صفحة من الغيب
صفحة من الحكمة
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
غرض الكتاب
1 - الشيخ علي1
2 - في وحي الروح1
3 - الفقر والفقير
4 - مسكينة! مسكينة!
5 - لؤم المال ووهم التعاسة
6 - وهم الحياة والسعادة
7 - سحق اللؤلؤة
8 - الحظ
9 - الحرب1
10 - الجمال والحب1
11 - الدين ولادة ثانية1
فاتحة1
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
صفحة من الغيب
صفحة من الحكمة
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
غرض الكتاب
1 - الشيخ علي1
2 - في وحي الروح1
3 - الفقر والفقير
4 - مسكينة! مسكينة!
5 - لؤم المال ووهم التعاسة
6 - وهم الحياة والسعادة
7 - سحق اللؤلؤة
8 - الحظ
9 - الحرب1
10 - الجمال والحب1
11 - الدين ولادة ثانية1
كتاب المساكين
كتاب المساكين
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
فاتحة1
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة، يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه، وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيرا من المآسي الفاجعة، يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فيما يقرؤها إذ يقرؤها كلاما مكتوبا، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها، فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب العالمية الأولى واستعرت نارها في الميادين البعيدة، لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديدا من ضحاياها هناك في الميادين.
كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعي النجار لعمل عندنا، فوجدته جالسا في أهله ياكلون؛ كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز إدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم، كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود، مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتا ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رمادا في الهواء!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيرا مما يرى ويسمع، فاحتبس الدمع في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه.
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحتشد آثاره، والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه الكبير، حتى امتلأ الإناء يوما ففاض. •••
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له في نظام الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: رب، لم كتبت علي هذا ...؟ لماذا حكمت بذلك ...؟ لماذا قدرت وقضيت ...؟ ما حكمتك فيما كان ...؟ ألم يكن خيرا لو كان ما لم يكن ...؟ ثم يتوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذرا يقول: رب، لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك، فمغفرة وعفوا ...!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبدا في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات، أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض، ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: رب، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك! وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء.
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: «حكيم أنت يا رب! ليتهم وليلتي ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس! كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدر منك وتدبير حكيم!»
ثم شرع يؤلف كتابه «المساكين». •••
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألف في المنثور، وثاني ما ألف في أدب الإنشاء، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب «أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس ...» وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها: «هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة ... فقد والله بليت أثواب هذا الفقر، وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها بخيوط من الدمع، ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسيا، أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية، أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين ...»
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه إلا أنه صور من آلام الإنسانية كثيرة الألوان، متعددة الظلال، تلتقي عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة «الشيخ علي» الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس؛ لأنه يعيش في نعمة الرضا، وإلى جانبه قصة الغني الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع، فوهب لها المال ولكنه سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذا ... وهذه ... من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع!
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين أنه كان في زيارة أصهاره في «منية جناج»، فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي رجل يعيش وحده، ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تئويه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق. رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي واستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول: ... هو حليم لنفسه، غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به.
وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع، ومن فوته على خوف ...
فهو من أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا ... وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج، حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع ...
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين، ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح.
وقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917، وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى آخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة. والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لا طاقة له به، إيمانا كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسما أبدا، أو ضاحكا ضحكة السخرية والاستسلام. •••
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي باشا:
لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته.
هو كتاب اجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء، والشيخ علي الجناجي.
محمد سعيد العريان
إلى صاحب «المساكين»
لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وغوته كما للألمان غوته.
أحمد ذكي باشا
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول في بعض دعائه: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين.» فقال له أنس بن مالك رضي الله عنه: يا رسول الله، إنك لتكثر من هذا الدعاء! قال: «يا أنس، إن رحمة الله لا تفارقهم طرفة عين.»
1
وخير - عليه الصلاة والسلام - أن يكون له مثل أحد
2
ذهبا، فقال: «لا يا رب، أجوع يوما فأدعوك، وأشبع يوما فأحمدك.»
هوامش
صفحة من الغيب
لما أجمعت النية على طبع هذا الكتاب طبعته الأولى، رأيت فيما يرى النائم أني في دار الطبع التي اخترتها له، وقد سألني جامع الحروف أن أكتب المقدمة ليبدأ منها، فكتبتها ثمة ودفعتها إليه، ثم استيقظت وما برحت تدور على لساني، وتالله إن خرمت
1
منها حرفا؛ وهذه هي بنصها وكأنها فاتحة الكتاب من قلم الغيب:
هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكينا لا يقرؤه؛ لأنه لا يفهمه،
2
ومن كان مسكينا فحسبي به قارئا والسلام.
الرافعي
هوامش
صفحة من الحكمة
قال الفيلسوف ديوجينيس الكلبي - وهو ذاك الذي رآه الإسكندر الأكبر فقال فيه: «لو لم أكن الإسكندر، لوددت أن أكون ديوجينيس.»:
ينبغي أن تقدر ثروة الإنسان لا بأمواله ومستغلاته؛ بل بعدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش غير محتاج إليها.
1
هوامش
مقدمة الطبعة الثانية
وضعت هذا الكتاب من إحدى عشرة سنة،
1
ولو استوى له أحد عشر قرنا، ثم كتبت له يومئذ مقدمة، لكان هو هو كما أصفه اليوم، كتاب ليس له قبل وليس له بعد؛ فهو دائر مع النهار والليل على معنى آخره في الإنسانية أوله، معنى إذا قلت فيه إنه يجيء مع كل مولود، فقد قلت إنه لا يموت مع أحد من الموتى.
ستقرأ في الكتاب وصف «الشيخ علي» الذي أسندت إليه الكلام، وجعلته فيما أستوحيه كالخيط من شعاع السماء تهبط عليه تلك المعاني التي خلد عليها جمال الخلد؛ «فالشيخ علي» هذا هو رمز في كل دهر لثبات الجوهر الإنساني على تحول الأزمنة في أشكالها المختلفة؛ ومن ثم تعيش مع الإنسانية معاني هذا الكتاب، فهو من روحها صورة وحلية وجاذبية. ومن عجيب الحكمة أنه ما من نبي أو حكيم أو شاعر يترجم إلى لسان الحياة ما هو أسمى من الحياة، إلا استمد ذلك من مساكين الحياة خاصة؛ هم أبدا السحابة المستوية المخيلة لمطر العواطف
2
على جدب الروح الإنسانية في الأرض، ولعلهم لذلك يتراكمون في الحياة من سواد كالغمائم، ويتشققون من نار كالبروق، ويجلجلون برعود يئنون فيها، ويتبجسون بمطر يبكون به.
3
وأعجب من ذلك أنك لا تجد من شيء يحدث من ذي نفسه مثل هذا الأثر،
4
إلا أجمل الجمال في أقوى الحب، فكأن أعظم البؤس وأعظم الجمال صورتان لحكمة إلهية واحدة وإن اختلف منظر ومنظر، والسماء تغبر بلون التراب في رأي العين حين لا تحمل إلا ماء المزن الصافي. •••
يزعمون أننا في عصر العلم وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية، مع أنه لا حل لمشكلتها إلا به. إن مسألة الغنى والفقر وما كان من بابهما لا يحلها العلم ولا القانون؛ إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما دام فوق الإنسانية من السماء قوة لا تحد، وتحت الإنسانية من القبر هوة لا تسد، فلا نظام إلا على تصريف النفس أمرا ونهيا، وتأويل الحياة معنى وغاية، فإن لم يكن الشأن في ذلك مقررا في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورة بما في باطنها، ولن يبرح الناس على ذلك بعضهم من بعض كالهارب منه وهو مضطر إليه، أو كالمضطر إليه وهو هارب منه، وكل من كل في معنى من معاني النفس لا إنسانية فيه.
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدي الحياة هذه العضلة البخارية، وذلك العصب الكهربائي، فمن لم يستطع أن يتوقى ضربة الحياة المدنية بعدة من قوة وعتاد من المال، طاحت به فدكته دك الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبة من الرحى الدائرة، فما بينه وبين أن ينهار موضع يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن؛ إذ يعطف على الضعفاء، أو يسعد أو يبر بما كتب عليه أن يرق لهم من ذات نفسه ويتحنى ويتوجع.
ومتى كان العلم والدين يقومان جميعا على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها، لم تجر الإنسانية إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلى بها العلم وحده، فلن تجري أبدا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
لن يفلح الإنسان للحياة الطيبة - ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير - إلا إذا وازن بين بيئته التي هو يوجهها وبين طباعه التي هي توجهه؛ فقيد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من قيودها، وجمع في متبوأ نفسه حدا بحرية ودينا بعلم. بيد أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مرد على طباع
5
الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين، فإذا هو يزين الشهوات، وإذا الشهوات تطوع المغامرة، وإذا المغامرة تجلب المنازعة، وإذا المنازعة تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرف بالحيلة، وإذا الحيلة تهلك التقوى؛ وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثير الإنساني الذي تعيش فيه الروح؛ وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدر إلى السقوط، مقبل على المحق، راجع إلى الحيوانية بأكثر مما يحتمل تركيبه منها؛ أولا يرى الناس أن تفوق أمة على أمة لم يعد في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكلها!
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسان آلة من آلاته التي غمر بها الدنيا، فأصبح من لا إيمان له يتعسف خسائسه
6
لا يدري أين يؤم منها؟ وأين يقف؟ فلا يتسفل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكن بقوة آلة من الآلات الكبرى ودقتها وسرعتها وإتقانها ... حتى لا رذيلة من رذائل هذه المدنية إلا هي مفننة في تركيب على نسق الأمور المخترعة، وكأن الآلات العمياء ما زادت إنسانها شيئا إلا أن قالت له كن أعمى! وكأن المدنية الملحدة ما عدت أن جعلت الوحشية تعمل أعمالها الفظيعة بتأنق وتمدن!
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تموج بأسباب الفضائل
7
لا تحكمها ولا تضبطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى،
8
ولا كانت هذه التقوى إلا عملا من أعمال الإرادة، غايته إيجاد الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزة العملية في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه.
أظهر آثار الإيمان
9
تحديد الغايات الإنسانية وتنسيقها والملاءمة بينها، فإن إطلاق الغاية لكل إنسان على شأنه وسبيله كيف درت معيشته
10
وكيف دارت أهواؤه؛ يجعل طرق الناس متداخلة متعادية فيقطع بعضها على بعض، ويقوم سبيل في وجه سبيل، فلا تحل عقدة إلا من حيث تقرض أختها، ولا يتخلص خيط من خيوط اللذات الملتبسة المتشابكة إلا قاطعا متقطعا معا، وأنت إذا بحثت عن الوحدة التي تحاول ضم الإنسانية المتنافرة وردها إلى مرجع واحد، لم تجدها في غير إيمان المؤمنين؛ فهو أبدا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارة بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائل في كل مجتمع بين أن تنقلب أسباب السمو العقلي فتعود من أسباب الدناءة والخسة.
وإنما محل الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممن تحكمهم! فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات، كأمن الناس ونظامهم وحريتهم وسعادتهم، هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع؛ رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغني كبير غناء في الخير والشر؛ إذ يحتاج الخير أبدا إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبدا على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتياله عليها شر مثله؛ فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الرأسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه؛ لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيدا أشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائما في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائما عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضا معنى بلا معنى؛ وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبني بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جدارا يعطف نفسا على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة؛ ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه.
فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة سلبية من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخا فيه، كما تقول للص : إنك لتسرق وستصبح غنيا تمر يدك في الذهب، تنفق وتستمتع على ما تشتهي ... فما يراك قلت له: لا تكن لصا وتعفف. بل قلت له: كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما نرى لعهدنا في الأمم التي فشا الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه، والله لكأن المسكين في هذه المدنية هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له: ما أنا إلا لؤمك أنت!
إن من الشجر شجرة تنبت في القفر تعتصر ماءها من بين رمل وحجر، وتمتص غذاءها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره
11
إلا شوك شوك؛ فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء
12
وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض
13
فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحد، وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن!
ترى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدر من عصر عقله إلى عصر معدته، ثم إلى
14 ...؟
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شبه الفقر، ومساكين مؤمنون لهم من كرم الصبر شبه الغنى، فهل تنقلب المدنية من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحم الحي، وأخرى لا تخلق له إلا الظفر الحي ...؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة؛ أفتراه يجيء يوم على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يعيد إلى الأرض إنسانها الأول الكريم؟
مصطفى صادق الرافعي
هوامش
مقدمة الطبعة الأولى
هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة؛ فقد والله بليت أثواب هذا الفقر، وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة
1
يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها
2
بخيوط من الدمع ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم، وأقبح من الفقر أن لا يظهر الفقر كاسيا أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى
3
الأولين.
وأنت فربما رأيت الرجل من الناس وبه من جمال الدنيا مسحة الدينار، وعليه من نضرة هذه الحياة ألوان الجنة والنار،
4
وما تشك في أنه واسع البسطة، عريض النعمة، طيب المكسبة، وهو على ذلك رقعة خلق
5
في أذيال الفقر يجررها على أقذار الحياة وأدناسها، ولو نطق له الغنى لقال: دعني، فما كل ذي متربة فقير، ولا كل ذي مثراة غني.
6
والفضائل قائمة في الدنيا بالصغار والفقراء، ولكن من نكد الدنيا أن عنوانها هم الكبراء وحدهم؛ على أن أكثر هؤلاء لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقة المنحطة انحطاطا عاليا. فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر؛ إذ حاصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت، وضيقوا من حدوده السماوية وقد تراحبت،
7
وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون، ولا سبيل إلى التنقيح والتحرير في أساليب الله نصرفها عن معانيها، أو نتكذب في تأويلها، أو نرد عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نحسن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار ما نستبين فيها من الحكمة؛ فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة إلا من أفهامنا، حتى إن الأدمغة لتعد من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت العلة الكبرى في طائفة من الطوائف صورة أثرية لأكبر رأس فيها.
فإن نحن أسأنا الفهم، أو ذهبنا به المذاهب، أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيرنا أو بدلنا؛ فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطراب، ولا تلحق به آفة في وضع من أوضاعه، وإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وما دام في هذه الدنيا شيء من المادة أو المعاني يحتاج إليه، أو يتوهم أحد أنه محتاج إليه؛ ففي الدنيا الفقر.
وما دام للناس رغبة يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة؛ فثم الحسد.
وما دام في الغيب أيام وآمال، وفي الدنيا فقر وحسد؛ فهناك الطمع.
وما دام لهؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الضن به، أو يكون سبيله من الطبيعة أن يضن به؛ وفيهم الفقر والحسد والطمع؛ فثم خبء السوء والرذيلة الماحقة، وثم البخل، وإن البخل وحده لفي حاجة إلى نبي يصلحه!
هذه أخلاق أعرقت فيها الإنسانية، ولا بد منها ومن فروعها حتى يظل الناس ناسا لا ملائكة ولا شياطين؛ فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاح للعالم إلا بالفساد الذي فيه.
بيد أن في كل شر جهة من الخير أو جهة تتصل بالخير، فإذا صلح فهمه صلح هو أيضا، أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حد الشر الطبيعي، وهو الشر الذي لا بد منه.
فليكن الفقر والحسد والطمع والبخل، ولكن برضا يمنع السخط، وسكون يكسر شرة النفس، ورفق لا يعنف على الحق، واعتدال يقر كل شيء على حده؛
8
يومئذ يجد الإنسان في كل نزوة من نزوات جنونه شيئا من الحكمة، أو على الأقل شيئا يمكن من بعض الوجوه أن يسمى في باب المنفعة الإنسانية حكمة. •••
ولقد كان الفقر عريانا يوم كان آدم في الأرض وليس عليه إلا ما خصف من ورق الجنة،
9
وعاش دهرا تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب، ويمرح في ثياب بيضاء من أشعة القمرين؛ إذ لم يكن يعرفه أحد بعد، ولا استطار به سماع السوء
10
في الأحياء، بل كان عنصرا مجهولا في غيث الطبيعة، ولم يكن لهذا الإنسان يومئذ من المعاني الفقرية ... غير شعور طبيعي لا زيغ في تأويله عن الطبيعة، وهو شعور المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعر والخيال وفنون الكذب العقلي، ولا تشعر إلا لتطلب، ولا تطلب إلا ما تجد، ومتى وجدت وانطفأ نهمها
11
فليس إلا قوة الجسم وانبساط النفس وحمد الله في كل ضرب من ضروب الجمال في الخليقة.
ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض؛ فكان البغض أول سطورها، وجاء من بعده الفقر، وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين؛ يومئذ عرف هذا الفقر، وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه؛ إذ لم تعد الحياة هي الحياة، بل الوسائل التي يدفع بها الموت، ومنها الموت نفسه؛ فصار البغض وسيلة، والحسد وسيلة، والطمع وسيلة، والقتل وسيلة، وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر، وما البغض إلا فقر من المحبة، ولا الحسد إلا فقر من الثقة، ولا الطمع إلا فقر من العقل.
وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطباع الإنسانية؛ إذ يحاول كل امرئ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة، حتى لا يكون هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته، وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها؛ فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيا الناس وعليها يموتون، ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال، ثم وجد المال فما منع أن يلقى أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأساء الحياة ما لو استطاعوا لافتدوا من عذابه بكل ما في أيديهم، ولو أن لهم طلاع الأرض
12
ذهبا، ووجد المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها.
13
دخل بعض الفقراء
14
على الرشيد العباسي وتاجه يومئذ سبيكة العصر الذهبي في تاريخ الإسلام، والإسلام يومئذ ترتجف به دفتا الشرق والغرب، وكأن الشمس والقمر يتلألآن على أرجاء ملكه ذهبا وفضة،
15
وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه، فلما أبصر ذلك الملك الذي لا يملكه شيء، أمسك ثم قال له: عظني. قال: أرأيت يا أمير المؤمنين، لو منعت عنك هذه الشربة التي في يدك، أفكنت تطلبها بكل ملكك؟ قال: نعم. قال : أفرأيت لو شربتها ثم امتنع خروجها منك، أكنت تفتدي من عاقبة ذلك بكل ملكك؟ قال: نعم. قال الرجل الصالح: فانظر يا أمير المؤمنين، ما قيمة ملك لا يساوي عند قدر الله شربة ولا ... ولا بولة ...!
كذلك يحاول الناس أن لا يخطئوا الرأي فيما يستحبونه أو يطمئنون به، وكأنهم لذلك يحاولون أن لا يصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه؛ فكلهم سواء في ابتغاء السعادة المتوهمة التي لا يستحيل أن تتفق، ولكنها مع ذلك لا تتفق؛ إذ يريدها كل امرئ على غير ما يناسب تكوينه الإنساني ... وهم بعد على سواء من خشية الفقر، كأن فقرهم بين أعينهم، فلا تبرح أوهامهم تنتجي
16
بمعانيه وهمومه، ثم لا تبرح تنمى بها حتى صار الفقر في أنفسهم غير الفقر في نفسه، وقد علم الله أنه ما من إنسان إلا وفي تكوينه معان كثيرة منه. على أن السعادة الممكنة أو التي يمكن أن تسمى سعادة، إنما يكون زمامها الحس؛ إذ هو الوسيلة لإدراك الجمال وتعرف المواضع المعنوية في المادة، والاهتداء في صنع الله إلى أسرار الحكمة، وليس من لذة يصيبها الإنسان فيسميها لذة ألا وهي شيء معنوي يجيء من طريق الحس، فيشعر هذا الإنسان أن فيه معنى لم يكن فيه، وكأن اتصال شيء من سر النفس أو قدرتها، بشيء من سر الطبيعة أو قدرتها، هو السعادة.
غير أن العجيب الذي ما يقضى منه عجبا أن ذلك الحس كلما نضج واستمر
17
كان أشد إدراكا للآلام منه للذات؛ حتى إن الرجل الرقيق ليتألم للناس أكثر مما يتألم لنفسه؛ فهل ذلك ألا أن حكمة الله قد أقرت في تركيب الإنسان من عناصر الفقر أكثر مما وضعت فيه من عناصر الغنى؟
وما أشبه نفوس الناس في هذه الحياة بالزجاج سلط عليه نور الشمس؛ فما كان من طبعه رديئا غير مصقول، أو مهملا قد شاع فيه الصدأ، فذلك متى ألحت عليه وقدة الجو حمي وتضرم في ذات نفسه ؛ وما كان من طبعه صافي الماء بادي الرونق نقي الصفحة، رأيته في توقده واضطرامه كأنما يمج من شعاع الشمس لهبا يتطاير؛ فإن كانت الزجاجة قد أخلصت في سبكها، وصنعت على الوجه الذي يجمع الضوء ويعكس منه، وأحكمت من هذه الناحية؛ فهناك تبلغ من دقة الحس مبلغ الأنفس الرقيقة المهذبة، فلا تكاد ترسل عليها الشمس من نورها حتى يرجع فيها نارا تلظى.
ومتي اعتبرنا الشقاء الإنساني وما يعترض الإنسان في طريق الحياة، رأينا الحق الذي لا مرية فيه أن هذا الإنسان حين تمشي راحلته إلى القبر
18
لا يكون قد انتهى من الحياة كما يقال، ولكنه ينتهى حينئذ من الموت.
فهذا التركيب الإنساني المعجز بقليله وكثيره وجملته على السوية، والذي استشرف منه العقل لأسرار هذا العالم كما توجه مرآة المرصد إلى السماء؛ لم يشهده عصر من عصور الدنيا قط إلا ذاهبا إلى الفناء بما كسب وما اكتسب، حتى ليمكن أن يقال: إن حياة الحي مصيبة تكبر كلما كبر. فكيف لعمري يحتمل هذا التركيب الهالك أن يسعد إلا بمقدار ما يدني إلى الفهم معنى السعادة الأبدية التي ليست من هذا العالم، كما تريد أن تفهم الطفل شيئا في نفسك فيراه معنى متمردا عاتيا، فلا تزال أنت تصغر منه وتمسخه وتحيله عن وضعه وتقلبه على وجوه مختلفة، إلى أن توافق صورة من هذه الصور فهمه الصغير الضعيف المتحامل على نفسه، فيدرك الوجه الذي أردت على الوجه الذي يريد هو، ويعلم ما ترمي اليه على الطريقة التي لا تعلمها أنت.
ولعل هذا هو السبب في أن الفطرة الإنسانية لا تزال من أول الدهر ضالة في طلب السعادة، تسترحل
19
إليها كل معنى، ثم لا تصل إليها بمعنى؛ فإن السعادة الدنيوية في التركيب الإنساني إنما هي بمقدار لغوي أو ما يشبه المقدار اللغوي لا غير.
20
وإذا نحن اعتبرنا هذا الوجود الفاني بما وراءه من عالم الغيب، رأينا كل صنف من الموجودات كأنه لغة متميزة بخصائصها، أوجدها الله في هذه الحياة لتدل عليه سبحانه بنوع من الدلالة أو ضرب من المجاز، فأينما مد الإنسان عينيه رأى لفظا كالإشارة أو إشارة كاللفظ .
ولكن قتل الإنسان ما أكفره! فإن ما لا يريد أن يفهمه ليذكره ويتذكر به أكثر مما فهمه لينساه، ولقد رأى أن ما فوق الأرض وما تحت السماء لا يدله بإشارة واحدة على أنه خالد في هذه الحياة الدنيا.
بيد أن الإنسان كما يكذب في الكلام يكذب في الفهم، فهو أبدا يحتاج - لشقوته - من هذه الطبيعة إلى أشياء تضل عواطفه، كما يحتاج إلى أشياء تهديها، ومن ههنا اقتحمت أهواؤه ونزغاته على الطبيعة وعلى الشرائع والأديان، والتبست في رأيه معاني الأشياء التي تتصل بنفسه؛ فظهر من الغنى ما يشبه الفقر، ومن الفقر ما يشبه الغنى، وصارت الحياة كلها جهادا وشقاء ونصبا؛ لأن المشكل فيها أكثر من الواضح، ولأن الطريقة التي يتبعها الإنسان الراقي في حل هذه المشكلات التي تعترض مطامعه وأغراضه، هي أن يحل مسألة بوضع مسألة مثلها؛ ذلك لأنه لا يهتدي إلى الكمال في شيء، وهو ناقص ولا يذعن أنه ناقص؛ وإلا فما باله يرى الحكمة الأزلية قد جعلت قوام صحته على القليل من الطعام دون الكثير، وعلى الخفيف دون الثقيل، وعلى الرخيص دون الغالي، وعلى الطعام كما يفيد دون الطعام كما يريد، ثم هو يأبى إلا أن يعد هذه الصفات وأشباهها في باب القلة من الفقر، ويعتبر نقائضها وما جرى مجراها في باب الكثرة من الغنى، ثم يضرب الله على بصره ويطبع على قلبه، فلا يرى لحاجته في الغنى من بلاغ وسبب إلا أن يكون المبالغة في الادخار، والإغراق في الجمع، والطماح كل مطمح، وأن يستأكل الناس فيكون عليهم أكلب
21
من الجوع، ويستصفيهم فيكون فيهم أسرع من المرض، ويستزلهم فيكون معهم أشبه بالرذيلة؛ ونحن نعرف الكد والحرص والبخل والشره والضراوة وكل الرذائل الاجتماعية، ونصفها ونحدها بآثارها وحقائقها، وكأننا لا نعرف أن كل رذيلة هي إنسان من الناس.
وقد رأينا الحكومات تجمع الأنواع من الجماد والنبات والحيوان تؤلف منها الكتب الحية على نسق الطبيعة نفسها، وهي تلك التي يسمونها «المعارض» و«المتاحف»، ولم نر حكومة واحدة أقامت معرضا حيوانيا لأشخاص الرذائل يدرس فيه علم المقابلة بين الطباع في الإنسان وبين الغرائز في الحيوان، وعلم الانحطاط الاجتماعي وفن الطبقات السفلى من الحياة، وتؤخذ منه أمثلة الاعتبار والموعظة والنصيحة في أبواب مختلفة، ولو قد فعلت ذلك أمة من الأمم، لرأى الناس فيما يرون هناك من كبار اللصوص وأهل الإثم والشر والفساد عددا كبيرا من كبار ... من كبار الأغنياء، ثم لرأوا كيف يتصل تاريخ الطمع بتاريخ البخل، وكيف يتصل هذا بتاريخ الغنى، ولظهر لهم بطلان معان كثيرة مما يعده الناس في باب الحقائق؛ إذ لا تجد الرذيلة هناك من يكابر فيها أو يغر بها أو يناضل عنها، ولا صاحبها نفسه؛ لأنه في قفص من أقفاص المعرض، وكأنه ثمة معنى من الباطل محبوس في شكل من البرهان على فساده!
وليت شعري - وذلك معنى الغنى - هل يظن من اجتمعت له نفقة ألف سنة أنه سينال فيما بقي من عمره القصير لذة كلذة عيشه ألف سنة، وأنه إذا ادخر ما يقوم بمائة ألف إنسان فقد صار هو في الأرض مائة ألف بطن؟ إن حياة الغني على هذا الوجه لا تكون إلا موتا على طريقة الحياة؛ فليس الإسراف في جمع المال والكلب عليه إلا طريقة دنيئة لإنفاق العمر، وليس حب المال والبخل به إلا وجها من بغض الناس وازدرائهم، وإنما البخل في رأي أهله وسيلة الغنى وسننه القريب، وهو مهما احتجوا له وتمحلوا فيه وناضلوا عليه، ليس أكثر من كونه شعورا ذا جهتين: فأما من جهة البخيل فهو الحب للنفس لا غير، وأما من جهة النفس فهو البغض للناس لا أكثر ولا أقل!
ولأيسر على الناس أن يرتووا من رشح الحجر، ويغتذوا بلبن الطير،
22
من أن يجدوا في الرجل البخيل بغضا لشيء من المال يرضخ به محبة لهم وشفقة عليهم وحنانا من لدنه. قديما كان البخيل أبغض الناس لهم وأبغضهم إليهم وأبغضهم فيهم، وما أقبح هذا البخل - أخزاه الله - أن يكون بغضا ثلاث مرات.
ولو أن رجلا من هؤلاء الذين بسط الله لهم فقبضوا، وجاد عليهم فبخلوا، وأعطاهم فأمسكوا، قد أراد الله به خيرا فوقاه شح نفسه، ويسر له في أخلاقه ومكن له في باب البذل والجود، وآتاه من حب الخير بعض ما ابتلاه من حب المال؛ لرأيت حياته توسعة على قوم في معاشهم، وإحياء لقوم في آمالهم، وعتادا لقوم في أعمالهم، ومنفعة لآخرين من وجوه كثيرة، ولرأيت في غناه بركة العدل ورحمة الأمن وعصمة الخلود، فكأنه استجمع في حياته الطيبة خيرات الأعمار الكثيرة، وكأنه أمة في نفسه، ثم لا يكون رجل أحب إلى الناس ولا أجدر بطبيعة الحب الإنساني منه، ثم لا تجد اسمه إلا في واحدة من ثلاث: إما صفحة تكتبها الأعمال للتاريخ، أو صفحة يفردها الناس للأخلاق، أو صفحة ترفعها الملائكة إلى الله.
بل أحر بهذا الإسم الكريم أن يكون يومئذ بأعماله وآثاره وحسناته اسما لكتاب ضخم في أيدي ملائكة الرحمة. •••
فهذه آثار كرم النفس الطيبة لا تنشأ إلا بين نوعين من الحب: حب الرجل الكريم للناس، وحب الناس لهذا الرجل الكريم؛ لا هو يمطلهم حقا عليه، ولا هم يظلمونه حقا له، ولعمري كيف يستطيع المطل أو يستطيعون والدين الذي وجب على الفريقين هو دين القلب؟
وقد تكلمت السماء في أزمان مختلفة، وهبط الخطاب من عرش الله على لسان الأنبياء صلوات الله عليهم، وما من نبي مرسل إلا وأنت واجد في كلامه وشريعته: أن تحب للناس ما تحب لنفسك.
فهذا الحب الإنساني محض من نصيحة السماء، ولا بدع أن يكون فيه بعض الدواء لآلام الإنسانية الضعيفة إن لم يكن هو الدواء كله.
انظر بعيشك ما عسى أن تكون آلام الفقر إلا صورا من اضطراب النفوس؛ إذ ينصرف بعضها عن بعض وذلك أيسر البغض، أو ينازع بعضها بعضا وذلك سبب البغض، أو يكيد بعضها لبعض وذلك عين البغض.
من أجل هذا كان البخيل مادة من مواد الفقر، وإن كان هو في ذات نفسه معنى من معاني الغنى.
ولقد يصاب الناس بألوان من العذاب ، ويمتحنون بضروب من المكروه، وترسل عليهم الآفات تختلجهم من ههنا وههنا؛ غير أنهم يجدون لكل مصيبة محلا من الصبر يمسكونها فيه، فتجيء وحدها وتذهب وحدها، وإنما هي الغمرات ثم ينجلين؛ فإن من رحمة الله أن لا يزال الليل والنهار يتراكضان بيننا وبين النسيان كما يتراكض البريد، فيذهبان بشكوى المصيبة ويرجعان من النسيان بالسلوى أو العزاء أو نحو ذلك. ولكن الطائفة من الناس إذا ابتليت بالغني البخيل ابتليت منه بالمصيبة التي تأكل المصائب؛ إذ يرون فيه أشياء من معاني القحط والجدب والوباء والفقر والعداوة والبغضاء، وطرفا من كل جائحة، ومعنى من كل آفة، بحيث تضيق به جوانب الصبر على سعتها وانفساحها، وتنزوي دونه فتختلط كل مصيبة بكل مصيبة، وليس يأتي على هذا الإنسان شيء
23
كتداخل مصائبه بعضها في بعض، فإن ذلك يمحق الصبر، ويذهب بالسكينة، ويفسد الرأي، ويفتق على العزم من كل ناحية فتقا، ويترك المرء كأنه مجنون بشيء أكبر من الجنون.
فالغني البخيل من ذلك كله، بل هو ذلك كله!
هوامش
غرض الكتاب
وأما بعد، فإني قد وضعت هذه الأوراق وكتبت فيها عن الفقر وما هو من باب الفقر، لا لمحوه ولكن للصبر عليه، ولا من أجل البحث فيه ولكن للعزاء عنه. ثم كتبت عن الغنى وما إليه، لا رغبة في إفساده على أهله، ولكن لإصلاح ما يفهم منه غير أهله، وأدرت الكلام في كل ذلك على الوجه الذي يراه الشاعر في ضحك الطبيعة ورقتها، دون الوجه الذي يعرفه الفيلسوف في عبوس المادة وجفائها، ونحوت به نسق العقل في بث خواطره للنفس؛ لأني أريد به النفس في مستقرها، وجئت به من مبرق الصبح لا من غياهب الليل، وأطلعته من أفق الإيمان لا من قرارة الشك، وأردت به تفسير شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس، فإن من ضرائب اللؤم وغرائز السوء في هذا الإنسان أنه ما ينفك يحمل نعم الله ورحمته، وما لا حد له من العناية الإلهية، ولكن كما يحمل الطاووس ألوانه وتحاسينه وزينته البديعة على ساقين مجرودتين في الغاية من القبح كأنهما من غراب!
ولست أدعي أن كتابي هذا يسمن من شبع أو يغني من جوع؛ فإن هذه العلوم كلها ومجموعة العقول البشرية وتاريخ ما شاء الله من عمران الأرض، لا يتهيأ للإنسان أن يعجنها ولو أفرغت عليها السماء كل ما في سحائبها، ولا يأتي له أن يخبز منها رغيفا واحدا ولو حملته الملائكة ليضعه بيده في عين الشمس، ولا يخرج منها غذاء المعدة إلا إذا خرج الحبر الأسود من عرق الزنخ؛ ولكني أرمي بالكتاب إلى عزة النفس، وإلى الثقة بالله، وإلى الصبر على الفضيلة؛ فإن الناس من الشر بحيث لا يعان على الفضائل إلا من صبر لها صبر المبتلى، ثم إلى مغالبة الوهم التاريخي القديم الذي نشأ منه معنى الغنى كما نشأ منه معنى الفقر، وأنت لو انتزعت الأنبياء والحكماء وأهل العزائم من مجموع هذا الخلق، لرأيت التاريخ الإنساني كله في ذينك المعنيين بابا واحدا من الخطأ.
فلقد والله بالغ الناس في اعتبار هذين الحجرين،
1
وأسرفوا على أنفسهم في محبتهما والكد في طلبهما بأخلاق وشيم ليس لأكثرها موضع في الإنسان، ولا يتسع لها عمره القصير، وإن هي إلا من كلب الحيوانية فيه، بل هي تطور فاسد في أخلاقه التاريخية؛ فقد كانت الجماعة الأولى تنازع الحيوان وتتعاون عليه، وكانت الحيوانية قبيلا والإنسان قبيلا آخر، وغبرت الإنسانية على ذلك دهرا، ثم انفرعت وانشقت وترامت على أقطار الدنيا؛ فصار لكل أرض إنسانها، وبقي الحيوان كله قبيلا واحدا؛ ومن ثم ظهر أثر الإنسان على الإنسان، وأخذت تلك الحيوانات العاقلة تملي تاريخ الأرض في الأرض غير مهذب ولا منقح، بل أصواتا تتعاوى،
2
ويومئذ كان عمل الفرد الواحد للقبيلة كلها؛ لأنه في الاجتماع بقبيلته لا بنفسه، وكان الفرد في عهد الجماعة إنما يقاتل على الرزق، فأصبح في عهد القبيلة يقاتل على الطماح إليه والاستكثار منه، ولم يكن في تاريخه ما يقذع هذا الطماح أو يكفه أو يرد فيه ردا، فاسترسل إليه، ونشأ من ذلك في نفسه معنى الجمع والادخار، وأن يمهد
3
لغيره من بعده.
ثم استفاض الدهر بحوادثه وعصوره، وقامت الممالك واستجمعت الأمم واستبحر العمران، وما برح ذلك المعنى يتسع ويتتابع ويتلون في تاريخ طويل ليس كتابنا بصدده؛
4
حتى عاد ذلك القتال الأول، فرق ثم رق إلى أن صار قتالا في الأسواق بين جماعات الدراهم والدنانير، وكان النزاع بين فرد وفرد وبين قوة وقوة، فارتقى وتهذب حتى رجع إلى أن صار نزاعا بين خلق وخلق وبين حيلة وحيلة، وبعد أن كان الميدان في رقعة هذه الأرض، صغر شيئا فشيئا أو كبر شيئا فشيئا حتى أصبح في رقعة الضمير.
فالإنسان المتمدن هو هو ذلك الإنسان المتوحش في عمله للقبيلة؛ إذ يكنز الكنوز ويعقد العقد
5
ويرتبط الأموال، غير أنه قد حصر معنى القبيلة في نفسه هو ومن تلزمه نفقته من أهله وولده، فلم تتكافأ وسيلة العمل وغايته، وجمع كثيرا وأنفق ثم فضل عنه كثير، فإن هو لم ينفق من هذا الفضل على قبيلته الإنسانية وأبناء أبيه الأول من الفقراء والمساكين، فذلك الجمع فساد طبيعي، وتزيد في أخلاق الحياة لا تبعث عليه الحاجة أو لا تحمله الحاجة التي بعثت عليه؛ ومن هنا خرج ما في لغات الناس من الذم الأخلاقي
6
الذي هو في الحقيقة هجاء الطبيعة بعقولها وشرائعها وأديانها لأكثر الناس.
فالرجل يزعم أنه يجد ويدخر ويحزم ويترقى، والحقيقة تصيح من أفواه الأنبياء والحكماء والفقراء أن ذلك جهل وبخل وطمع وتسفل، ومن أجل هذا صارت الإنسانية لا تتقدم خطوة إلا وقفت زمنا تلهث وتستروح مما بها، لكثرة ما تحمل من الصناديق والخزائن الثقيلة.
فحسبكم أيها الناس، انظروا إلى تركيب الكون واعتبروا سنن الأقدار في إدارته من أحقر ما فيه إلى أعظم ما فيه، فإنكم لا تجدون معاني الغنى الصحيح الذي لا فقر له إلا في الأجسام والعقول والأنفس، ولن تجدوا معنى واحدا خلق في صندوق أو خزانة. •••
وقد وضعت كتابي للمساكين، وأسندت الكلام فيه إلى «الشيخ علي»، وهو رجل ستعرف من خبره الذي أقص عليك أنه الجبل المتمرد الباذخ الأشم في هذه الإنسانية المسكينة التي يتخبطها الفقر من أذاه وجنونه ومسه.
وأنا أرجو أن ينزل هذا الكتاب من قلوب المساكين منزلا حسنا، وأن يتصل بأنفسهم الضعيفة، ويفضي إليهم ببثه ويفضوا إليه، فقد تكون مصاحبة البائس للبائس ثروة نافعة لاثنيهما في معاملة الزمن.
مصطفى صادق الرافعي
هوامش
الفصل الأول
الشيخ علي1
هو رجل تراه في ظاهره من الدنيا ولكن باطنه يلتحق بما وراء الطبيعة، وكان ينبغي أن لا يقوم مثله على مسرح الخلق إلا ممثلا، وأن لا يمثل إلا الوجه المطلق من الحياة، بعد أن استقصى الفلاسفة إلى تمثيله كل ذريعة، فلم يستو لهم أن يمروا فيه، وقصر بهم التكلف، وقطعتهم دونه تلك الفلسفة التي حملتهم عليه؛ فخلق الرجل نشيطا مهزوزا راميا بصدره ونحره، معترضا في زمام القدر كأنه صورة الفكر الذي يمثله، وكأنه أسلوب قائم بنفسه في بلاغة الطبيعة.
وأحسبه في نظره إلى الخلق يتوهم أنه رحالة خرج من بعض الأفلاك التي تعرف «بالعقول العشرة»،
2
فهبط من أشعته على الدنيا؛ فهذا العالم شيء جديد في نفسه، وهو شيء جديد في العالم.
ينظر إليك كما تنظر إليه، فأنت تتبين في سحنته
3
الواضحة أوصاف الجنون الهادئ، وتعجب من منظر تلك العاصفة النائمة في عينيه، وهو يستجلي منك معنى الغرابة في قدرة الله إذ أنشأك مثالا غير مفهوم، ويطيل عجبه منك أنك على ما فيك تتعجب منه؛ فكل رجل في رأيه إنما هو صورة من الرجل الصحيح الذي لم تزور فيه حرفة العيش ومطالب الحياة شيئا على الله.
ولكل امرئ سؤال يتردد بين نفسه وبين السماء؛ فرجل يقول: اللهم هذه القوة فأين الرزق؟ وآخر يقول: وهذا الرزق فأين القوة؟ وثالث يصيح: هذه هي العافية وهذا الرزق فأين السعادة؟ والشيخ علي كأنه يقول: اللهم إنه لم يبق من الإنسانية إلا حشاشة تسوق بنفسها.
4
وكل رجل من هؤلاء صورة مقلدة، فأين الأصل؟
لما ولد هذا الرجل، ولعل الطبيعة يومئذ كانت في صميم الخريف ثائرة مجرودة غبراء،
5
قامت أمه عن نجم منطفئ لا تعرفه الأرض وقد زهدت فيه السماء، فكان رضيعا، ثم فطيما، ثم جحش، ثم ترعرع، ثم صار يافعا، وعاد فتى، وانقلب كهلا ، وهو اليوم يحطم الخمسين
6
وكأنه لم يكن في كل ذلك شيئا، ومتى سويت عليه الأرض لم يترك وراءه إلا سطرا ضئيلا في سجل الموتى،
7
فكأن الخير والشر لم يدركا هذا الرجل، وكأنه روح كتب عليها الحبس في جسمها، فلا تشهد أمرا من ورائه حتى تنطلق، وكأنه حي على رغم الحياة!
وترى أي عقل يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر من تنجبه الفلسفة ويخرجه الأدب؛ ليطوي عمره طيا وراء هذه الغاية البعيدة، وما حياة الفلاسفة إلا اختيار للموت، فهم يميتون في أنفسهم كل سبب إلى الشهوة، وكل داعية إلى اللذة، يحيون بالقسم الأعلى، وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بور عارية المحاسر لا تخصب ولا تنبت. وهذا «الشيخ علي» كله أرض بور؛ فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرته رأيته كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا، يعيش في الناس بعقل غير العقل.
ولو تنفس به العمر فبلغ المائة وجاوز العصرين،
8
ما زاد كل عمله على أن يشبه نفسه؛ فهو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم، وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط، أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي يعتريه، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ...!
وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا؛ فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به!
وإني لأرى في اللغة كلمات لم تقع على معانيها، ولم تجتمع اللفظة منها بمدلولها؛ فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته ملقى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئا ظل شجرة من شجر الجميز، أو نائما تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسا يضحك في ندوة الحي، أو قائما يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعا يقلب وجهه في السماء، أو هو الذي يسمى «الشيخ علي»!
وماذا في السعادة أهنأ من أن توقى شر هذه السعادة فلا تتطلع نفسك إليها، ولا ينالك إلا ما تحب أن ينالك، فأنت بعد وادع قار آمن في سربك، معافى في بدنك، خارج من سلطان ما بينك وبين الناس من خلق مستبد، أو رغبة ظالمة، أو صلة عاتية، ولا حكم عليك إلا لمالك الملك ... ولم يفتق الله لك من فنون اللذات ما ينغصه عليك، ولا ضرب منك مثلا، ولا نص لك عقابا، ولا جعلك مرآة عدو يصلح فيها نفسه،
9
ولا نصبك لمجاراة أو مباراة، وقد جنبك فضوح هذه الدنيا، والدنيا من السوء بحيث يفضح فيها بعض الخير ما لا يفضح بعض الشر.
ثم ماذا أنت طالب من السعادة إذا هانت الحياة فلم تضعف عن احتمالها، ولم ترمك بداء في مرض العيش إلا قمت له، ولم تحملك على أمر إلا تحملت عليه، وقويت على نفسك فلم تكذبك أملا، ولم تخدعك في باطل، ولم تجاذبك إلى مورد لا تصدر عنه إلا آثما أو نادما، وكنت من نعمة الله مخفا لا تحمل إلا رأسك، ولا تجوع إلا ببطنك،
10
وقد كفيت أن تصرعك نزغات هذا الرأس، وأمنت أن يقتلك داء هذا البطن، ولم يضربك الله بشيء من هذه النعم المنافقة التي يأتي بها المال حين يأتيك بالجاه وأصحاب الجاه ومن يريدك لمالك وجاهك؛ وأعوذ بالله من النفاق
11
ومن نفاق النعمة خاصة، فبينا هي لك إذا هي عليك، وبينا هي متاع إذا هي التياع، وبينا هي في طعامك شيء إذا هي من طعامك قيء .
وهل في النعمة خير من الكفاف حاضرا، ومن الصحة فارهة، ومن قرة العين وضحك السن واستطلاق الوجه، وأن يكون القلب في حجاب من نور السماء لا تهتك عنه رذائل النفس، ولا يعلق به غبار الأرض، ولا يتغشاه ظلام الحياة، ولا يزال هذا القلب في نضرته وصفائه كأنه سعادة مخبوءة في غيب الله لم يخلق بعد من خبئت له؟
كذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم، أو سعة في المال، أو فضل في المنزلة؛ وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف؛ تلك الحقيقة الطاهرة التي تكون أعظم ما أنت واجدها في سير الأنبياء والصديقين والشهداء، أو حيث يكون ذلك العقل الجبار الذي لا يشبه عقول الناس من نبوغ يخرق العادة أو جنون تخرقه العادة، وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، ولا النبوغ إلا جنون رقيق!
وكذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو أجهل الناس في الدنيا، وأجهل الناس بالدنيا؛ كأنه من هذه الجهة ممتلخ العقل،
12
وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع، وكأني بك لو وصفت له الذهب وما أضرمت ناره في الأرض وهي برد وسلام، وما أيقظ جماله من الفتنة التي استحال عليها أن تنام، ثم أريته شعلة من هذه النار في غرة الدينار؛ لتضاحك منك إذ تريد أن توهمه - بما أعظمت من ذلك الشأن - أنك سلبت ملك الله قطعة من الشمس، التي غربت أمس؛ ولرأيت من زرايته عليك ما يعلمك أنه ما أكبر هذا الدينار في عينك إلا صغر في نفسك، ولا ملأ يدك بالحرص عليه إلا فراغ ما بينك وبين الله، ولا كدك في طلبه إلا أنك مسخر، ولا أذلك للمال إلا خضوعك للآمال، وما أنت إلا في قيد من الهم حببه إليك أن قفله هذه القطعة من الذهب!
وإذا أحضرته ألوان الطعام وجلوت عليه أبهة الخوان، وقلت له: هلم فارتع وأصب حتى تنتأ رمانتك.
13
رأيت من نفوره واحتجازه كأنه يقول لك: ويحك! وهل للبطن كبرياء وهو ستار على أقذار! وهل يسع كل هذا وما هو بالعريض الطويل، ولا سلامة له إلا بالقليل لأنه قليل! وهل تحتمل ما في العنقود حبة واحدة، ويحتمل الغني أن يكون في صندوقه الإلهي
14
حاجة زائدة! ويبلغ الحمق من هذا الإنسان أن يميت قلبه لأنه وجد النعش من المائدة!
وكذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو لا يرى في الأشياء غير ما خصتها به الطبيعة؛ ولا يرسل عليها إلا أشعة صافية من عينيه الضاحكتين لم تخالطها ألوان النفس، ولا زفرت عليها أنفاس القلب؛ وما ثم غير الانقباض والنفور أو الاستئناس والانبساط؛ فإما رآها قبيحة وإما رآها جميلة، ومتى قسمت الأشياء عنده إلى قبيح وجميل، فليس وراء هذين ثالث في التقسيم، وليس إلا جميل جميل وقبيح قبيح؛ فأما المأمول والمرغوب والمتنافس فيه، والمتبرم به والمسخوط عليه، وما جاء بالشقوة وما جاءت به السعادة، وما كان من ورائه حبذا وليت، وما أعانت عليه لعل وعسى، ثم كان وأخواتها، وإن وبناتها، ثم أنا وأنت وهو، ثم ما انعطف على هذا النحو أو انفرع منه؛ فكل ذلك تقسيم لا يفهمه شيخنا، وما هو من جده ولا لعبه؛ لأن صفحة نفسه ليست كألواح الأطفال يثبتون فيها ما لا بد من محوه، ويمحون ما يعودون إلى إثباته، ليتعرفوا ما أصابوا مما أخطئوا، وليتعلموا كيف ينبغي أن يتعلموا.
وهل تجد - أعزك الله - في هذا الناس من يحسن أن يوقرك، إلا وهو يحسن أن يحقرك، ومن يعرف كيف يشكرك، إلا وهو يعرف كيف يكفرك، ومن يقول لك حفظك الله، إلا وهو قادر أن يقول أخزاك الله؟ فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليق بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله أو ما يريدون أن تكون أهله؛ وليس في الناس شيء يزيدك كمالا من غير أن يزيدك نقصا، حتى إيمانك فإنه كفر عند قوم، وحتى عقلك فإنه سفه لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسد من جماعة؛ وحتى أدبك فإنه غيظ لفئة.
أما شيخنا فقد مسح الله نفسه ومسح ما به من الناس؛ فليس في صدره ولا في صدر أحد حسيكة
15
عليه، وهو أبدا في صمت بليغ كصمت الطبيعة، وكأن فهمه شيء من هذا الصمت، فلا يتصل بفهمه ولا يداخل فكره إلا الجمال والقبح. والطبيعة نفسها تخرج الجميل تفسيرا للقبيح، وتظهر القبيح تعليقا على الجميل، وكذلك الشيخ في إدراكه.
وأجمل ما يرى من وجوه الحياة وجه السماء الصافية، ووجه النهر الجاري، ووجه الأرض المخضرة، ووجه الرجل الطيب، ووجه المرأة الجميلة؛ كل أولئك عنده سواء، فليس وجه خيرا من وجه؛ لأنه لا يحسن أن يئول لغة الطبيعة فلا ريبة فيه، ولا يتزيد في معانيها فلا كذب في حواسه، ولا تخاطبه الطبيعة فيما توحي إليه إلا بأسهل ألفاظها وأطهرها وبمقدار ما خلق له؛ إذ لا ترى فيه غير تلك الحيوانية الضعيفة التي هي ضرورية لحي منقطع مثله، وما كانت لوثة عقله إلا فصلا بينه وبين الإنسان في حيوانيته؛ وإن شر ما تكون هذه الحيوانية حين تكون عقلية محضة وراءها عقل العالم واختراع المخترع وفن المتفنن.
وقد يكون «الشيخ علي» رجلا تعسا في رأي الناس؛ لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة؛ فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتخرج منها ذلك النوع الشديد الحاد الذي يسمونه اللذة، وربما كانت التعاسة السامية خيرا من سعادة سافلة!
إن المجنون لم يزل عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يتبع سنة هذه الحياة على طريقة خاصة غير ما ألفه الناس أو تواضعوا عليه؛ ليرى في كل شيء أثر جنونه، فهو حي مع الأحياء ، بيد أنه يشبه أن يكون تفسيرا للحياة الغامضة التي تلوذ بكل جانب مهجور على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانبا مهجورا؛ لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.
وهذا «الشيخ علي» رجل غامض متلفف بحقيقته العجيبة، كدهاة السياسة في شباكهم التي يأخذون بها الأمم والشعوب، فلا تبرح ترتبك فيها ارتباك الصيد في الحبالة؛ وأولئك الفلاسفة الذين يعيشون في السحب العالية من فضائلهم، فيمطرون الكون مرة ويرجمونه مرة ... إلى غيرهم من روابي الخلق،
16
ومن كل رجل عظيم أظله أحد الجناحين المنبسطين على الأرض والسماء: جناح الوحي أو جناح التاريخ، ولكن «الشيخ» على غموضه من كل جهاته واضح من جهة واحدة، هي جهة الجنون في اصطلاحنا، وتلك هي جهة الفضيلة الخالصة فيه؛ إذ قطعت ما بينه وبين الرذيلة، وجعلت له في الناس رذيلة مجنونة مثله، فكانت سبته أنه رجل مطلق لا ينزل على حكم، ولا يتحمل على أمر، ولا ينازع إلى عادة معروفة، بل هو قد نجا بنفسه من هموم الناس، وأصبح كالروح الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا يخضعها زمام، والتي هي فيه كما هي في موجة البحر وعاصفة الريح؛ فكل مخلوق يحجل في الحياة لمكان القيود منه، وهذا يجمع الوثبة العالية ثم يثب مقبلا ومدبرا، ويتخطى مد بصره في الحياة كأنه براق الأنبياء!
وليت شعري هل يأمل الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبة على أمرها، وما كانت الحقيقة أحد الخصمين قط إلا كانت الهزيمة على الآخر، ولو أن هذا الآخر عصر من تاريخ الأرض. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلا مطلقا لا زيغ فيه، أو حقا مطلقا لا كذب فيه، أو يقينا مطلقا لا شك فيه؟
وهذا «الشيخ علي»، أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله؛ فكيف يرى مغلوبا لاصطلاح أو عادة وأكثره راسخ في السماء؟
إنه ليجوع ويظمأ ويعرى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر، ليس من حلة إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تخلت عنه السماء مرة ، وقطعت مقاوده من الغيب، وخذلته الوسيلة؛ فما تغمز منه الحاجة إلا حجرا صلدا يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجرا؛ لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا ينبت فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهم من الحياة، ولا مجرى فيه للدمع، ولا ظل للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى إليه برجل لا يعرف الموت ما هو، وإن أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياة من هو.
رجل حط الله أوزاره، وكتب عليه أن يكون فقيرا من المال وحب المال وذل المال؛ فخرج وليس له في أفئدة الناس إلا الرأفة والحنان، وجاء وليس له من الناس حاسد أو عدو، وخلق ذا حدين من نفسه الماضية لا يكتنفه ذل أو هم إلا قطعهما وانطلق كالفرس العتيق في ميعة حضره،
17
وماذا يبغض الناس منه وماذا يعادون وهو في ذلك البحر زورق قد سقط مجذافه فليس له ما يضرب به وما يسخر به، وإنما تدافعه رحمة الله حيث اندفع، والبحر لا يعادي الزورق الذي يجري فوقه، ولكن يعادي المجذاف الذي يديره ههنا وههنا.
رجل كأنه قطعة من الأبد، لا أمس له يتعقبه، ولا غد له يترقبه، بل الحياة عنده يقظة طويلة، والموت نوم أطول. «والشيخ علي» متى أحس الجوع ولج الباب الذي يصيبه مفتوحا، فلا يقع على الناس إلا متطرئا، وهو مع ذلك لا يحط في الطعام ولكن يخط فيه خطا،
18
وما هو إلا أن يستقر شيء في جوفه مما يقيم صلبه حتى ينفر نفور الطائر، لا يرى إلا أنه قد استوفى حق طبيعته من خادم طبيعي، فلا جزاء ولا شكورا؛ ولهذا لا يبرح أبدا على الحد الذي يصلحه لنفسه فلا يتجاوزه، وأعجب ما يروعني من فضيلته أن هذا الحد عينه هو الذي لا يفسد ما بينه وبين الناس.
وهو إذا تكلم فإنما يترمرم
19
من طول السكوت؛ فإما أن يغمغم حروفا وأصواتا، وإما أن يلوث بعض كلمات غير مفهومة كأنه يسرها في أذن الدهر الذي لم يفهمه، ولكن لهذا الرجل كلمة في الشتاء وكلمة في الصيف؛ فأما الأولى: فأن يسأل دثارا يستدفع به أذى البرد، ولا معنى لكلمة «هات» عنده غير هذه الضرورة، وأما الثانية: فإن يهب الدثار لغيره، ولا معنى لكلمة «خذ» عنده غير هذا الاستغناء، على أنك واجد أكثر ما في هذا العالم من شر وفساد إنما يرتطم في هذين الحرفين: «هات، وخذ».
هذا هو «الشيخ علي»: رأيته فرأيت في برده ثورة على العالم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعة مجهولة من هذه المسكونة، واستجليت نفسه فإذا هو أفق فوق الأرض، وطالعته فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلوته فإذا هو حصاة تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يمضغون؛ فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقته ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات؛ ولذا كان القول في «المساكين» ما قال «الشيخ علي».
على أني إن كنت لم أحسن وصف الرجل أو كنت لم أبلغ في وصفه؛ فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المر، والرجل مما أنضجه القدر وحده، وليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفات التي تثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشد غموضا من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبة لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرف كيف يتركها مطمئنا وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موته عن حياته، وصرحت هذه الحياة عن ضميره، وخلصت من هذا الضمير كلمة هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي «الحمد لله»!
هوامش
الفصل الثاني
في وحي الروح1
التراب المتكلم أمام التراب الصامت
ترى أيهما هو الصدق في حقيقته: ما نفرح به أو ما نحزن له؟ أما إن في الحياة ملحا وإن في الحياة حلوا وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو رد للآخر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين وهما واحد في اثنين.
فأنت تؤتى الحلو تسيغه وتستعذبه، فإذا هو بك في الملح تمجه وتغض به، ثم لا تضع من أمر على أحسنه في صورة إلا رأيته على أقبحه في صورة أخرى.
والإنسان من الهم في عمر دهر لا يموت، ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات، والحي كأنه من هذه الدنيا فرخ في بيضة ملئت له وختمت عليه، فلن يزيد فيها غير خالقها، وخالقها لن يزيد فيها!
ومن الصحة والمرض، ومما سر وساء، وما شد وهد، ومن العقل العجيب الذي يحكم من الإنسان تركيبا عصبيا مجنونا ثائرا قد استبانت فيه الحيوانية؛ من كل ذلك وما إليه مزيج هو بقدرة الله أشبه، ولكنه فوق ضعفنا وحيلتنا، فلن نرى منه في الكون إلا شكل الحيرة ومعناها والعذاب بها، والفرح بالغفلة عنها والسرور بإنكارها أو المكابرة فيها، والحيرة لا نفي ولا إثبات، ومتى يطلب الإنسان الحقيقة وهو جزء منها لم يقف إلا على جزء منها؛ فالمشكلة متحركة إلى كل جهة حتى لا تذهب عنها لتنشاها إلا وأنت ذاهب بها لكيلا تنساها.
أما إن في الحياة ملحا وإن في الحياة حلوا وكلاهما نقيض؛ فالصريح أن يخلق منهما المستحيل وهو الملح الحلو، فإن لم يمكن؛ فالممكن من الحقيقة للإنسان أن يستحيل الإنسان فيموت! •••
ترى أيهما الذي هو الكذب في نفسه: الموت أم الحياة؟ إنه الجنين فالوليد ثم الميت لا محالة بعد أن يسرع الأجل أو يتراخى، لا يتقار جنين في ذاته الدموية من الأحشاء، ولا يثبت وليد في ذاته اللحمية من المهد، ولا يترك شاب في ذاته العظمية للحياة، ولا يقف شيخ في ذاته الجلدية دون القبر!
من عقدة الثمر إلى لبتها إلى شحمتها إلى قشرتها، على ناموس القضاء والقدر في باب الحتم المقضي من كتاب السماء، وعلى ناموس النشوء والارتقاء في باب الهذيان العلمي من كتاب الأرض.
وكما تكون تحت الوسائد كنوز أحلام الليل، تكون في هذه الحياة أحلام الكنوز الخالدة التي يملأ الأرض كلها ضوء لؤلؤة واحدة منها.
تطلع الشمس تلمع على الناس كأنها فص خاتم السماء تشير به أن تعالوا إلى الكنز في ضوء هذه الياقوتة الصغيرة! •••
الحواس زائغة متراجعة مقلوبة، وهذا هو نظامها ونسقها واستواؤها؛ فليس من أحد في هذا الكون الموجود إلا وهو ناظر إلى كون غير موجود.
السماء سموات، والأرض أرضون، والأكوان عداد العقول، وكل أمل في رأس مخلوق يزيد عنده الدنيا أو ينقصها ويغير من الخليقة ويبدل، وكل إنسان في كل يوم هو إنسان يومه ذلك، فكأن كل حي من كل حي غلطة، وآمالنا كأرقام الساعة، هي اثنا عشر رقما محدودة، ولكنها في كل دقيقة هي اثنا عشر رقما، فلن تنتهي!
والحياة خداع وغرور، وزيغ وخطأ، وعمل وعبث، ولهو ولعب، ومهزلة وسخرية، والناس كالأرقام تخط على هذا التراب ثم يقال للعاصفة: اجمعي واطرحي وحلي المسألة! •••
وأين كل ما صبته الشمس والكواكب من نيرانها، وما أخرجته فصول الأرض من وشيها وألوانها، وما هتفت به الطير من أغاريدها وألحانها، وما تلاطمت به الدنيا من أمواج إنسانها؟ وأين ما صح وما فسد، وما صدق أو كذب، وما ضر أو نفع، وما علا أو نزل؟ في كل لحظة تمتلئ هذه الدنيا لتفرغ، ثم تفرغ لتمتلئ، وماضيها ومستقبلها مطرقتان يمر بينهما كل موجود لتحطيمه!
وكأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياة زمنا يقصر أو يطول، وما العجيب أن لا تفلح التجربة في أحد، ولكن العجيب أن لا تنقطع وهي لا تفلح!
والعالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت، ثم لا تملأ أمواجه ملعقة، والحقيقة في كل شيء لا تزال تفر من تحليل إلى تركيب، ومن تركيب إلى تحليل؛ لأن شعور أهل الزمن بالزمن لا يحتمل المعنى الخالد.
ولعل سبب الموت أنك لا تجد إنسانا يعيش في حقيقته الإنسانية، فلا هذه الحقيقة يسرت له كاملة ولا هو خلق لها كاملا. وفي الإنسان كالطبيعة أرض وسماء، فترابه لا يتغشاه مما فوقه غير الظل، وقد خلق مقسوما، فشقة منه في أرضه وشقة في سمائه، فإذا حضره الموت ضرب الضربة بين هاتين فأخذت السماء السماء وجذبت الأرض الأرض.
هناك البرق الإلهي ملء الكون يلتمع ويخطف، ولكنه من الإنسان كشعلة تتوهج في غرفة أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا، وليس في هذه الغرفة إلا هذا الضوء ورجل أعمى!
فلا سخرية ولا ضلالة ولا عبث ولا خداع إلا في أسلوبنا الإنساني المبني على حواسنا الزائغة، كما تنود
2
السفينة خفت على موج البحر، وما عبث البحر بها ولكن يعبث بها وزنها. •••
يريد الله أن نخلق لأنفسنا معنى من السمع والبصر ليس في أذن ولا عين، وأن نزيد في مجموعة أعصابنا الواهنة عصبا عقليا يراه ويسمعه ويدركه ويؤمن به،
3
فالإيمان قوة جبارة لا تجمع إلا من رد كل أطراف النفس
4
المنتشرة إلى عقدتها الروحية، وحبسها أكثر حواسها في حس واحد عنيف مؤلم، ووضع المناعم المضنون بها في ذلك المعنى المفتوح المتهدم الذي لا يمسك شيئا وهو الزهد، وحصر الآلام الطاحنة في ذلك المعنى المطبق المتحجر الذي لا يفلت شيئا وهو الصبر، ورد الأخلاق كلها إلى ذلك العنصر الذي يضيف معنى الحديد إلى معنى اللحم والدم وهو الإرادة، وبعد ذلك كله وضع كل شيء إنساني في ضوء من أضواء الكلمة المتألهة المسماة بالفضيلة.
يا إلهي! ما أقواك وما أضعفنا! كأنك تقذفنا من السماء فنجهد من بعد أن نرتفع إليها بأنفسنا على أجنحة الأعمال التي تطير بجاذبية مما تحب!
لما خلقت الإنسان عبدا على قدرك صار إلها على قدره، فيجب في الحق أن تعذبه السماء إذا وغل عليها طفيليا بلا عمل ولا ثمن!
النخلة السحوق نواة مخزونة في بلحة، والعالم العظيم تركيب مخبوء في إنسان؛ فالإنسان لنكده الطبيعي محيط بنواميس قاهرة تحركه، وتحيط به نواميس أخرى قاهرة تتحرك معه؛ فمن ثم لا يبرح يصطدم، ولن يكون متجها أبدا إلا إلى التحطيم، فإذا هو تورع وتحرج واستعلى أمات من شهواته فأبطل مثل ذلك فيما حوله، فكان خروجه من بعض الدنيا هو حقيقة في بعض الدنيا، ومثل هذا حقيق أن يقول: إني أحكم العالم من داخلي! •••
تباركت ربنا وتعاليت، إن الشك فيك لهو اليقين على طريقة، والإيمان بك هو اليقين على طريقة أخرى، المقعد لا يمشي، والأعرج لا يعدو، والضعيف لا يسبق العداء، فإذا أنكر المقعد على من يراه يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد سبق؛ فما ذلك من إنكار العين ولا من مكابرة النفس، وإنما ذاك رأي منظور فيه إلى حظ رجل مهملة أو قدم مكسورة أو عظم واهن، ومن ثم لن يكون في الناس ملحد إلا وفي طباعه أو أخلاقه أو حوادث دنياه جهة مريضة ينكسر عندها الرأي ويبتلى بها الحس، فهي توجهه وتصرفه منظورا فيه إلى شعور بعينه، وقد ينتحر الرجل من إعراض امرأة، فمن ذا يقول إن النفس الإنسانية في وزن قبلة؟!
فأما الملحد بغير علة فهذا لا يوجده أب ولا تضعه أم؛ إذ يجب أن تكون طباعه له وحده وميراثه منه وحده حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده، فما يجحد الجاحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر والنهي، ويخرج بها من حكم الضرورة، والإيمان كله ضرورات مسلطة الحكم على ما بين المؤمن ونفسه، وما بين المؤمن والناس، وما بين المؤمن وربه؛ حتى كأن فيه شيئا يلذعه بالجمر، فما يستريح من لذعة إلا قدر ما يجم ليحتمل اللذعة بعدها.
يا إلهي! إنما يحبك المؤمنون ويكابدون في رضاك على مقدار منك لا منهم؛ فأنت تقذف قلب المؤمن بضرورات كشعل البراكين، وتضرب روحه من مصائبه بسلسلة جبال مفتولة، وتتركه في الأرض يشعر كأنما خر عليه سقف العالم!
شبه خلفها بصائرها، وظلمات تنتهي بعد حين إلى مد النهار الأكبر،
5
ومن الضرورات والمصائب والآلام يتخلق الجو الحساس الذي يبسط فيه الإنسان جناحي روحه، ويسمو بها على التراب والمادة.
الجو الجو: هذه تغريدة البلبل في قفصه.
الغذاء الغذاء: وهذه قوقأة الدجاجة في قفصها. •••
أيقيس الإنسان نفسه على قياس من الطبيعة في قوتها المتراكبة، ومظهرها المسخر لكل ما يتفق، وتركيبها المبني على سهولة الاحتمال، ونظامها الميسر لعدم المبالاة؟ ألا ما أحمق الزهرة التي علمت أن الدوحة لا تقتلعها إلا العاصفة العاتية، فقالت: الآن أهزأ بالنسيم! ثم لمسها النسيم فرمى بها ورقة ورقة!
كأن الشكل الإنساني نقص إنساني، وكأن الإنساني لم يجئ إلى الدنيا بأكمله، وكأنه ما خلق منه إلا قدر ما لغرض ما، كأنه تركيب في يد الصانع الأعظم ألقى منه جزءا في مرجل الفلك الأرضي ليغلي قليلا، ثم يتطاير ويجتمع فيتلقاه من بعد.
كأن هذا الإنسان تحت هذه الضغطة في هذه الفورة في هذا الفلك، مادة تطعم جوا لتتحول ولتتحول ليس غير. ألا ما أحمقه وهو في المرجل على الوقدة الحامية إذا أبى أن يغلي! وما أسخفه وهو في المصفاة تحت الضغطة الثقيلة إذا أبى أن يعصر! وما أجهله وهو في الحياة الفانية إذا نسي أنه سيموت!
لا تغتري أيتها الحبة الصغيرة المختبئة في كدسة من القمح تتحدر في ثقب الرحى، ولا تحسبي أنك من لهو ولعب تنبعثين هناك وهنا بين الحب، إنك في رفق ولكنه رفق الحجرين الآكلين اللذين لا يدعان شيئا ولا يفلتان شيئا، وإنما يرفقان بك قليلا قليلا ليجيدا طحنك كثيرا كثيرا! •••
فتحنا القبر وضرحنا للميت العزيز، لم أقل إنه مات، بل قلت: إن موته قد مات! كأن الحي على هذه الأرض هو القبر الإنساني لا الجسم الإنساني، فإنك لتجد قبورا من ألف سنة ولا تجد إنسانا في بعض عمرها، أما ترى هموم الدنيا وأحزانها كيف لا يخلو منها أحد، وكيف تخرج من النعيم كما تخرج من البؤس؟ ما أحسبها إلا صورا من ظلمة القبر يجيء القبر فيها حينا بعد حين إلى ميته الذي لم يمت!
من يهرب من شيء تركه وراءه، إلا القبر، فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه؛ هو أبدا ينتظر غير متململ، وأنت أبدا متقدم إليه غير متراجع، وليس في السماء عنوان لما لا يتغير إلا اسم الله، وليس في الأرض عنوان لما لا يتغير إلا اسم القبر.
وأينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة: ما اسمك؟ ما صناعتك؟ كم عمرك؟ كيف حالك؟ ماذا تملك؟ ما مذهبك؟ ما دينك؟ ما رأيك؟ ... ثم يبطل هذا كله عند القبر كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال واحد للإنسان: ما أعمالك؟
أيها المتقاتلون على الدنيا والإنسان إلى حين! إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بقري لا إنساني؛ فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنتطح في المجزرة، وتنسى لم هي في المجزرة!
فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفي من مرض الحياة، ووقفت هناك، بل وقف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت، ويعرف منه أن العمر على ما يمتد محدود بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارات الخمس محدودة بقبر!
يا عجبا! القبور مأهولة بملء الدنيا وليس فيها أحد! أية ذرة من التراب هي التي كانت نعمة ورغدا، وأيتها كانت بؤسا وشقاء، وأيتها التي كانت حبا ورحمة، وأيتها كانت بغضا وموجدة؟
سألت القبر: أين المال والمتاع؟ وأين الجمال والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع والذلة؟ ... قال: كل هذه صور فكرية لا تجيء إلى هنا؛ لأنها لا تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم، وسلامه لنزاعهم، وسكونه لتعبهم، لسخروا الموت فيما سخروه من نواميس الكون!
إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة، وكان يجب أن تدفن وتطهر أنفسهم منها؛ فمعنى ما في الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفن الطباع والأخلاق.
يكذب أحدهم على أخيه فيعطيه جيفة حقيقة ميتة؛ ويكيد بعضهم لبعض فيتطاعمون من جيف الحوادث المسمومة، ويمكر الخائن فإذا جيفة عمل صالح قد مات؛ فكل مضغة تبتلعها من حق أخيك الحي هي كمضغة تفتلذها من لحمه وهو ميت، لا تعطيك إلا جيفة، ثم أنت من بعد لست بها إنسانا ولكنك وحش، بل وحش دنيء ليست له فضيلة الوحشية التي من قوة تأبى أن تمس لحوم الموتى! •••
واها لك أيها القبر! لا تزال تقول لكل إنسان تعال، ولا تبرح كل الطرق تفضي إليك فلا يقطع بأحد دونك، ولا يرجع من طريق راجع، وعندك وحدك المساواة، فما أنزلوا قط فيك ملكا عظامه من ذهب، ولا بطلا عضلاته من حديد، ولا أميرا جلده من ديباج، ولا وزيرا وجهه من حجر، ولا غنيا جوفه خزانة، ولا فقيرا علقت في أحشائه مخلاة!
ألا ويحك أيها القبر! لم لا تأتي إلا في الآخر؟ ولم لا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض، حتى يقوم بين الضعف والقوة حد المساواة، وبين النفوس والشهوات حد التقوى، وبين الحرام والحلال حد الله!
يا شقاء أهل الأرض! أما إنهم لو وضعوا فيها موضعا من العناية لما كان الإبهام في السريرة، ولا كانت الغفلة في النفس، ولا كان النسيان في الطبع، ولولا هذه الثلاث في هذه الثلاثة لما كان المجهول البشري كله في شيء واحد وهو القبر. •••
إن أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل المحالة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها أن نكون في ساعة من الساعات مع أمواتنا الأعزاء؟ هم يأخذوننا إليهم اختلاجا وانتزاعا في هذه الأحزان والهموم والدموع؛ فكأنها أمكنة تخلق من الأثير الروحي وتتجسم من معانيها كي تصلح أن يلتقي فيها روح الحي، وهو حي بروح الميت وهو ميت، كما يتلاقى روحا الحبيبين في قبلتهما أول مرة؛ إذ يخلق قلباهما لهذا اللقاء جوا أثيريا من الزفرات واللوعات بين الشفاه المتلامسة.
أو لعل الموت كما يجرد الحي من روحه ينتزع من أهله شهوات أرواحهم، فيميتهم مدة من الزمن في القلب وفي العين وفي الفكر؛ وبذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة، فأهل كل ميت وإن علا كأهل كل ميت وإن نزل، وتموت بالموت الفروق الإنسانية في المال والجاه والقوة والجمال، حتى لا يبقى إلا الدمعة واللوعة والحسرة والزفرة، وهذه هي أملاك الإنسانية المسكينة!
يا هم من يحس ويعرف ويرى كيف يموت العزيز عليه، وكيف يتحول من يحبه إلى ذكرى ! أن ما يعمل في القبر يعمل قريب منه في القلب! •••
وما يعرف الحي أن الذاكرة فيه هي حاسة اللانهاية
6
ألا حين يموت له الميت العزيز، فلا يكون في الدنيا وهو في ذاكرته بمعانيه وصورته لا يبرحها.
وليس ينزل الحي من أمواته في القبر إلا من يقول له: إنني منتظرك إلى ميعاد! أما لو عقلها الأحياء لعرفوا أن الموت هو وحده ناموس ارتقاء الروح ما بقيت في الدنيا، ولكن ضجيج الشهوات - على أنه لا يعلو رنة كأس، ولا يغطي همسة دينار، ولا يخفي ضحكة امرأة - يطمس على الكلمة الأزلية التي فيها كل قوة الصدق وكل صراحة الحقيقة، فإذا هي خافتة لا تكاد تثبت، غامضة لا تكاد تبين!
أذلك سحر الحياة فينا، أم سوء استعدادنا لها، أم شراهة الجسم من لذة الحياة لابتلاع كل ما في الكون منها، أم حماقة الكأس التي تريد أن تغترف البحر لتكون له شاطئين من الزجاج، أم بلاهة الإنسان الذي يريد أن يطوي فيه معنى الخالق ليكون إله نفسه!
ويحه من غريق أحمق يرى الشاطئ على بعد منه، فيتمكث في اللجة مرتقبا أن يسبح الشاطئ إليه! ويثبت الشاطئ ويدع الأحمق تذوب ملحة روحه في الماء!
اسبح ويحك وانج، فإن روح الأرض في ذراعيك، وكل ضربة منهما ثمن ذرة من هذا الشاطئ، كذلك ساحل الخلد؛ يريد من الإنسان الذي هو إنسان أن يبلغ إليه مجاهدا لا مستريحا، عاملا لا وادعا، يلهث تعبا لا ضحكا، ويشرق بأنفاسه لا بكأسه، وينضح من عرق جهاده لا من عطر لذاته.
إن روح النعيم الأرضي في ذراعي الغريق الذي يجاهد لينجو، وروح النعيم الأزلي في ذراعي الحي الذي يجاهد ليفوز!
هوامش
الفصل الثالث
الفقر والفقير
قال «الشيخ علي»: يا بني، إن في تاريخ الحياة سؤالا لم تزل تلقيه أطماع الناس في كل عصر من عصورها، وما إن تصيب له جوابا مقنعا لأن الطمع ليست له طبيعة محدودة، فهو يرمي بسؤال غير محدود، ويريد بطبيعته جوابا عليه غير محدود.
هذا السؤال واحد من ثلاثة هي حقائق الإنسانية الضالة عن الإنسان نفسه في غيب الله.
يقول الإنسان: ما هي الروح التي تعطي الحياة؟ وتقول آماله: ما هو الموت الذي يستلب هذه الحياة؟ وتقول أطماعه: وما هو الفقر الذي يجمع على الروح بين الموت والحياة؟
كذلك نتساءل: ما هو الفقر؟ على أنه ما غير الفقر ذلك السؤال الذي تجد في كل نفس إنسانية معنى من جوابه؛ ولا غير الفقر ذلك القبر المعنوي الذي لم يخلق الله نفسا من النفوس إلا ولها ميت من الأمل في ترابه؛ بلى، وإذا كان في لغات الأفواه لفظ خالد فإنما هو الفقر، وإذا كان في هواجس القلوب معنى خالد فإنما هو خوف الفقر، وإذا كان للدموع الإنسانية مصب واحد تلتقي إليه من جهات الأرض، فإنما هو بين شاطئين إن جاز أن يكون أحدهما الحب، فإن من المحقق أن أحدهما الفقر!
إن هذه الأرض لتصبح في كل يوم ولا يمكن أن يقال بحق إن فيها عملا إنسانيا عاما غير طلب المال، فأحر بها أن تمسي في كل يوم، ولا يمكن أن يقال إن فيها معنى إنسانيا عاما غير راجع إلى الفقر.
ويقولون إنها تدور حول قرص الشمس، وهو قول فلكي أو سماوي يصح إطلاقه على الأرض كهيئتها يوم خلقها الله، أو على الأقل كما خلقها، أما الحقيقة الأرضية فإنها تدور حول قرصين: قرص اللهب، وقرص الذهب، ويا لله وللفقير! إنه دائما في الجهة المظلمة!
الفقر متى ألقيته سؤالا عاد إليك بجواب نفسه؛ لأنه فصل من كل عمل، كالشتاء فصل من كل سنة، وليس في الناس جميعا من يصدق إذا ادعى أنه لا يعرف الفقر، غير اثنين لا خير فيهما: غني جن من فرط الغنى، وفقير جن من فرط الفقر؛ فالأول لا يعرف هذا الفقر في جنونه لأنه جن بغيره، والثاني لا يعرفه لأنه جن به. ولكن من هو الفقير؟
من هو هذا الكائن الضعيف الذي أحاط به الجهل حتى إنه ليجهل نفسه، وأينما يول وجهه أشاح عنه الناس بوجوههم فلووا رءوسهم، وصعروا خدودهم، وأمالوا أعناقهم، حتى كأن كل رأس في التواء عنقه من الأنفة والاستكبار، يمثل علامة استفهام أقامتها الحياة في وجه هذا المسكين، أو يقيم علامة إنكار ...؟!
من هو هذا الحي الذي تنكرت له الدنيا حتى أصبح فيها كأنه نوع شاذ من الخلق يقوى على كل شيء حتى الطبيعة، ولكنه يضعف عن شيء واحد وهو الغنى؛ فقضت عليه شرائع الاجتماع أن ينفق من حياته أضعاف ما يكسب لحياته، فهو إذا كدح في العمل طوال يومه، فقوت هذا اليوم عليه كثير، وإذا لم يجد ما يطعمه الجوع فأطعمه من جسمه، فذلك عليه يسير، وإذا سال في الشمس وجمد في البرد، فهو عند الأغنياء ذو طبيعتين؛ لأنه ليس مثلهم، ولأنه فقير ...؟
ومن عسى أن يكون هذا القوي الذي يختصمه الاجتماع كله، ويخشى أن يرتفع فيكون «قاضيا» عليه، ويأخذه اليوم بالجناية وهو الذي أوحاها بالأمس إليه؟ ومن هذا الذي يرى المجتمع أنه إذا قدر للشريعة أن تلحد في قبر، فلن تدفن إلا في هاوية من مطامعه، وإذا حكم الله على عصر من عصور الجبابرة بالشنق، فلا تكون المشنقة بجذعيها وحبالها إلا من ذراعيه وأصابعه
1 ...؟
من هو الذي يجف ريق الأرض لو جف عرقه من ترك العمل، ويخيب أمله مع ذلك في كل غني وهو نفسه للأغنياء أكبر أسباب الأمل، يدلون عليه بالغنى ولولا أن في فضتهم عنصرا من دمعه القيم لما وجدوا لها قيمة، ولو لم يكن في ذهبهم روح من دمه الكريم لما عد أفضل المعادن الكريمة؟
قال «الشيخ علي»: ذلك يا بني هو المدرج في أكفان النسيان، الذي ليس له في الناس إلا «منكر ونكير»، ذلك هو البائس في بني الإنسان، الذي يكثر عليه القليل ويقل منه الكثير، ذلك هو المتناقض في نفسه حتى لا يصغر أن يقال فيه صغير، ولا يكبر أن يقال فيه كبير، ذلك هو الذي يشبه أن يكون عمله حركة فلكية في الأرض لآلة الغنى؛ ذلك كله هو الفقير!
ويا لله! ما تحمل الأرض إنسانا واحدا لا يخشى عادية الفقر، ولا يتعوذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير بين حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تئويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل من يمر به فلا يسمع إلا قائلا يقول: نفسي نفسي ... فينظر فإذا هو في الناس ضائع حتى لا يعرف له محلا، ومنفرد حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزلة تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزع الرعد القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا من يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير - ويا لهف أرضي وسمائي عليه! - كأنه مسألة في حساب الناس لا هم لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب، ثم الغلط في النتيجة. وتنحاز طبائع الناس كلها في جهة والفقر وحده في جهة، حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو، واستبداد الغني.
ترى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيا بحتا: لي عليك ولك علي وليس لله علينا شيء؛ وفصلنا أنفسنا من السماء، وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها، فرثت ثم رثت، فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمال البالية؟
إن هذه الحقوق متى أصبحت إنسانية محضة ليس فيها لله شيء، فكل درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيها عقلا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقر في معدته يخلق فيها ضميرا يستبد بضميره؛ فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغنى، وحسبه يومئذ في اعتباره بعيدا جدا عن الله ورحمته أن يقال: إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار ؛ ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قسمه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
والأدلة على هذه القضية - قضية الحقوق الإنسانية - كثيرة تفوت الحصر؛ لأن كل صاحب ربا قد جمع ماله من السحت ومن استئكل الناس، إنما هو في نفسه دليل عليها، ولعمري إنه ليس أحد أخيب رجاء ولا أحق بأن يخيب ممن يسأل المتهالك على الربا - الذي يستنبت دراهمه بين الأحزان والدموع - إحسانا لوجه الله؛ فإن هذا الذي لا يعرف الله فيما يأخذ، كيف يعرف الله فيما يعطي؟
2
قال «الشيخ علي»: ولماذا نرى يا بني جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط، ولا يخشون منه على الفقير؟
أظنهم يقولون: إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبور الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان؛ لأنه يشملهما جميعا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي! نعم، صدقوا وبروا وقالوا حقا؛ أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موت منسي كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهر حي وضمير ميت؟
وأحسب أولئك الطغاة يقولون: إننا نرى الفقير لا يملك من الأرض شيئا محدودا، بل هو يملك أرض الله كلها بحدودها الأربعة؛ ففقر فلان التاجر الغني مثلا ليس هو في الحقيقة أن لا يصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال بعد الأموال، وقبض الريح بعد قبض الربح، واستقبال الأبواب والجدران بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهلم من هذا الباب الذي يفتح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر والمذلة والألم! وإنما هو رجل ككل رجال المال، متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس، وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضا من الدنيا!
قتل الإنسان ما أكفره! لو أن غنيا فقد جبلا من الذهب وأصاب رغيفا يتبلغ به، لكان ذلك أيسر في مذهب الإنسانية من أن يذهب البائس المعدم، فيتكفف الأبواب ويستكف الناس،
3
ثم لا يتخلص منهم رغيفا يمسك به الرمق على نفسه، ويقيم منه بابا حاجزا يمنع الجوع أن يدخل إليه الموت وأن يخرج منه الروح، ولكن مصيبة الإنسانية في أهلها أن الله لم يخلق إلا صنفا واحدا من الناس، على أن كل إنسان يظن أنه ذلك الصنف الواحد؛ فالغني إذا تصور الفقر وهو لا يزال في غناه، لا يتوهم إلا اختلال نظام الأقدار، واضطراب حركتي الليل والنهار، بعد أن يهوي كوكب سعده الذي يسك من كل ذرة في أشعته دينار، وهو لا يرى بهذا الفقر إلا أن نقمة هابطة من السماء، ولعنة صاعدة من الأرض، قد التقتا عند رأسه الشامخ في جو كبريائه فاصطدمتا به، فإذا هو مكب لليدين وللفم عند أقدام الناس، وإذا هو فقير!
هذا هو الفقر في أوهامهم، ولكن لا تنس أنه فقرهم فقط؛ فقر المال المترابط في مكانه أو الذاهب في حلوق الأرض
4
وبين أضلاعها، أما سائر الناس فهم عند هؤلاء أهل باطل ودعوى؛ يزنون بكل ريبة، ويقرفون بكل تهمة؛
5
إذ ينتحلون الفقر ويدعونه ليعادوا نعمة الغنى بالحسد؛ فالجوع فقر، والمرض فقر، والتعب فقر، والضجر فقر، واشتهاء ما ليس لهم فقر، وقلة الأصحاب فقر، وحتى لو أن أحدهم سخطته زوجه لنسب ذلك إلى الفقر، وبالجملة فكونهم ليسوا كالأغنياء هو الفقر.
فإذا كان الفقر كل شيء عند هؤلاء الحمقى، فما هو الشيء الذي يسمى الفقر؟
من أجل ذلك يا بني ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم، وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير؛ لأن هذا الفقير في رأيهم قد أصبح شخصا آخر لا صلة لهم به ولا عهد، فهو يكذب على الحوادث والحوادث تكذب عليه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فإذا انخدعوا له فبمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاء سخيفا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه، ولكن لأثره على نفسه؛ إذ الحقوق عندهم حقوق إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أن لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير، ولوضع الفقير في ثيابه.
أترد مثل هذا الغني الجلف المتسكع إلى الدين؟ إنه هو في نفسه دين وشريعة أيضا! أتبصره بالإنسانية؟ فمن هو إذن - ويلك - إن لم يكن من صميم هذه الإنسانية وعين أهلها، بل إنسان هذه العين؟! أما الحق فاذكر بربك أمواله تعلم أن «الحق في يده» ... هكذا هكذا يعطى المال أهله حتى فضائل غيرهم، ويسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم، وهكذا لا تجد المال أبدا إلا نعمة ناقصة، ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رزق الإنسان مع الغنى أخلاقا تكفيه شر الغنى؛ ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشد ارتباكا منه في جمع المال.
6
قال «الشيخ علي»: ولا بد من صلة معنوية بين جميع الناس على ما يكون بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها، فإنهما لا بد مفترقان افتراق الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة؛ فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع: إن الصلة التي تجمع الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم: إنها العقل! وتقول الآداب: إنها شيء من العدل والعقل يكون الإنسانية في الضمير! وتقول الحياة: إنها سبب الإنسانية وهو الرحمة! ثم يرعد صوت إلهي يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة، فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة، ويقول: كلا، بل هو سبب الرحمة، ومظهر الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!
من الذي ولد وفي يده قطعة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده «تحويل» على الآخرة؟
7
لقد وسعت الخرافات كل شيء إلا هذا؛ فما لنا نتحد في البدء والنهاية ثم نختلف في الوسط؟ ذلك لأن بدءنا من طريق الله ونهايتنا في طريق الله، ولكن الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة واحدة هو طريق بعضنا إلى بعض ... وحيثما التقى الإنسان بالإنسان، فإما أن تلتقي المنفعة بالمنفعة وإلا فالمنفعة بالمضرة، فلا بد من انتفاع أحدهما أو كليهما؛ ومن ثم يقول البخلاء: ما الذي ننتفع به من رحمة الفقير؟ وما له يريد أن يتحيفنا كأنه روح الجدب، وأن يتعرقنا كأنه روح المرض؟
8
وما له يريدنا على أن نسيء من أجله المس في أموالنا كأنه روح الإفلاس؟ أولا يكفيه أننا لا نرزؤه شيئا، وأننا نفضل عليه فنعتد الدرهم الذي نمسكه عنه كأنه درهم أخذناه منه، وبذلك لا يضرنا ولا ننفعه بشيء، ومن الجهة الأخرى لهذا القياس يكون قد نفعنا ونفعناه بلا شيء؟
قاتل الله البخل وقبحه، فما هو إلا حرص على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوع من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيم إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله «الإمساك» من يده إلى جوفه! على أن البخل إذا لم يكن بقية من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقص من الإيمان؛ لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكافأة على فضيلة الإحسان التي هي في الحقيقة فضيلة الإحساس، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوه أضعافا مضاعفة؛ إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله، ولكنه يقرضه إياها قرضا حسنا، متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمن أمسك عن الإحسان بخلا فإنما يشك في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه؛ فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره! ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم، فيموتون بالجوع وبالعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لا كفرا في اللسان.
ومن هنا يا بني لا تجد الفقير في أي عصر من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهة من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خلق اجتماعيا، وهو بشخصه لا قيمة له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءا من مجموع؛ لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يد ملك، وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيب أختها المقطوعة.
وكل خلل في النظام الإجتماعي فإنما مرده إلى طغيان بعض الأفراد، وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحد منهم من الكبر والعظمة بحيث توازن المجموع كله أو أكثر المجموع؛ بيد أن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالا بالموازنة الاجتماعية؛ لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفتي الميزان، إن خف سقطت الكفة الأخرى، وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق!
والموازنة الاجتماعية لا تتهيأ إلا إذا تطبعت قوى المجموع
9
فاندفقت في تيار واحد إلى جهة معينة، ولكن الموازنة الفردية لا تستقيم إلا إذا جاءت من عكس هذه الجهة، فتصد قوة المجموع وتبقى دائما ذات قوة على صدها، ومن الغلبة فإن ضعف خصمه يعطيه منها أكثر مما تعطيه قوة نفسه، ولا يكون ضعف المجموع إلا من حصر الشخص العظيم قوة عقله ونفسه وضميره في هذا السبيل الفردي؛ لتكون منه الشخصية الهائلة التي تشبه ما كان في تاريخ الوثنية من شخصيات الآلهة وأنصاف الآلهة.
وقد اضطر الناس لذلك من عهد اجتماعهم في نظام أو شريعة إلى ابتداع الوسائل للتوفيق بين قوة الفرد وقوة المجموع، حتى لا يستشري الداء
10
في الموازنة الاجتماعية فيفسدها ويوقع الخلل في نظامها، ولكيلا تكون خيرات المجموع كلها في معدة واحدة، وحتى لا يبقى الناس أرقاما يعدهم الغني المستبد كما يعد دراهمه؛ لأنهم ثروته الحية!
غير أن هذه الوسائل على اختلافها لم تكن ولم تزل إلى عهدنا - عهد الاشتراكية العلمية
11 - إلا ثورات هي مهما كانت فإنها أشبه شيء بجموح الحيوان إذ يحمي أنفه فيجمح، ثم يسترسل في جماحه، ثم يشتد حتى يعتز صاحبه على رأسه ويملك نفسه منه، ثم ماذا؟ ثم يسكن مكرها بعد أن جمح راضيا، فإن لم يسكنه الألم من صاحبه أسكنه التعب من نفسه؛ لأن التخلص من شيء في فطرة الإنسان وانتزاعه من مغرزه في نفسه لا يكون بالتخلص من إنسان بعينه.
ومن هذا يا بني، ترى أن الإنسان لا يعيش فردا، ولكنه حين يموت يموت فردا؛ فإذا رأيت فقيرا منبوذا من الاجتماع منفردا عنه، لا يساهمه في عمله وعيشه، بل كأنه يعيش في بقعة مجهولة من الحياة، فاعلم أن إهمال ذلك الفقير إنما هو نوع من القتل الاجتماعي.
ههنا قاتل ومقتول؛ لم يأخذ القاتل بحق من الحقوق ولا ثأر لنفسه ولا قتل بيده، أما المقتول فإنه لم يقتل في إثم اجترحه، ولا هو جنى على نفسه الضعف الذي أرهقه وبلغ منه حتى جعل إهمال القوى إياه كأنه حكم عليه بالقتل؛ فترى على من تكون هذه التبعة، وهي بالتحقيق ليست على القوى لقوته، ولا على الضعيف لضعفه؟
هناك اثنان، رجل في الماء وآخر على الشاطئ؛ فأما الذي في الماء فليس بينه وبين الموت غرقا إلا نفس واحد مبتل ينسل بالماء من حلقه إلى رئتيه، وهو يرى بعينه الموت دائبا في حفر قبره المائي، فليس الموج الذي يتكفأ به ويتناثر من حوليه إلا ما تثيره يد جبار الموت من غبار ذلك القبر، وتحثوه في وجهه بنزق وغضب، بعيد عن الأحياء حتى بعد عن أن يكون له قبر بينهم، ولا صلة بينه وبين الحياة الأرضية إلا نظرات ذلك الرجل القوي الذي يتراءى في عين الغريق كأنه صخرة راسية على الشاطئ لها قوة وليس لها إرادة، ولكن هذا الذي يشعر بصلابة الأرض تحت قدميه، ويحس القوة من يده وعضلاته، يشعر أيضا بمعنى من الصلابة في قلبه، وقد جاء إلى الشاطئ ليتنفس من تلك النسمات التي يتنهد بها صدر السماء، فتكون أرواحا للأمواج تبعث فيها حركة الحياة. ما له ولهذا المنظر؟ سواد يطفو على الماء كأنه هنة من المتاع الخلق، أو حذاء قديم أو ريش تحسر عن طائره،
12
أو رأس رجل يغرق ؛ وما دفعه بيده إلى الماء فيكون حقا عليه أن يستنقذه، ولا كان الغوص من صناعته فيعتمل في إخراجه ليخرج معه أجر عمله، وهو قوي ولكنه قوي لنفسه لا للضعفاء، وقد جاء ليروح عن نفسه، وإنقاذ الغريق عمل آخر وربما أنشبه في حلق الموت؛ أخذ فيما جاء له وما زال يموج في جلده ويتنفس ملء صدره من الهواء ومن زفرات الإنسانية التي تنشق لها غيظا، ومن لعنات ذلك الغريق الذي بدأت حياته تذوب كما ينماث الملح في الماء،
13
حتى آن له أن ينصرف وترك الرجل يغرق وهو يقول: لا بأس أن ينقص عدد أهل الأرض واحدا، فهم كثير!
ترى على من تكون هذه التبعة أيضا؟
إذا أردتم أيها الناس أن تعرفوا ذلك، فإنكم تستطيعون أن تحققوه بدون أن تكونوا شرطة
14
أو قضاة أو أهل قانون أو رجال فلسفة، ولكن بأن تكونوا من ذوي الإنسانية فقط؛ فإن الإنسانية لا ترى في الأرض إلا الضمائر، وما هذه الأجسام إلا أدوات صناعية ركبت هذا التركيب لتصلح لحياة الضمير؛ فالرجل قد مضى بريء اليد، بريء القوة، بريء العقل، إذ هو لم يقتل، ولم يجن على القتيل، ولم يحتل لقتله؛ ولكن الإنسانية حين تنادي الضمائر بأوصافها فتقول: أيها الطيب، وأيها الكريم، وأيها الشقي، وأيها السافل، تصيح بضمير هذا الرجل قائلة: أيها القاتل!
إذا لم يقر الأغنياء لأنفسهم بالضمائر، ولم يلحقوا بها التبعات التي تناسبها، فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول، وتخليهم من تبعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟ وكيف ترى ذلك الغني الفظ الذي يهر في وجوه الفقراء ويزمجر عليهم كأنه ينبحهم بلغة من لغة الكلاب، ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة، وإذا أعطاهم فإنما يعطيهم بقبضة فارغة، وهو لا يوقر أبدا إلا من فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفل من نفسه، ولا يبالي إلا بمن يطمع فيه كأنه جالس في «مكتب أحد المخدمين»، وقد تساوى في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه ، كأن ضميره لبسه مقلوبا، وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه، ولكنها في أيدي الناس؛ أفليس مثل الغني الدنيء رجلا عاقلا؟
بلى، وإنه لأعقل من كل من يمدحه ويزكيه، ولو كان هذا المثني عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه!
ولو أنصفت القوانين لما لبست مثل هذه الحرية الإنسانية على رذيلها، ولجعلت من نصوصها القاطعة ما يكفح مثل هذا الغني
15
ويتلقاه بلجامه؛ لأنه في الحقيقة ليس رجلا ولكنه دابة اجتماعية! «قال الشيخ علي»: ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلا من أصول نظامها في ضمير الإنسان، فترك له أن يقترف ما شاء من الإثم والمنكر، ولكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير والشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب نفسه، حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير بديا،
16
وأخذه بالحجة من هواه، فيخطر في نفسه ما ينزو بها كالشجاعة والنخوة، أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه كالانتقام ونحوه، وما يطمئن له الضمير في معنى الجناية كمدافعة الضرر وما إليه!
وبالجملة فإن أول ظلمه أن يعتقد ظلمه عدلا أو شبيها بالعدل، حتى لا يتلوي عليه أمر نفسه إذا خذله ضميره؛ فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين، فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه، تخلص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر، وما هو في حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئا.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلا على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقاب عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة إلى الجريمة غالبا؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟
ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الشقي تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل؟ إنه ينحط درجة واحدة ، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنسانا، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانا، فلا يبقى فيه من ثم إلا الفطرة الحيوانية التي تجعل عقل الحيوان مرة في القوة ومرة في الضعف، فإن أحس القوة على خصمه كان العقل في الظلم بكل ضروبه وأشكاله، وأبى هذا العقل الحيواني أن يترخص في شيء
17
هو من حقه بالقوة، وإن أحس من نفسه العجز والضعف ورأى أن لا قبل له بخصمه، فكفى باتقاء الظلم عقلا!
يابني، إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادة وراحة؛ لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة، فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي، ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئا إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حكما بمقدار ما يمنع، بضعة دراهم أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاء بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير، فيفقد معه كل شعور بلذة النفس التي هي أقرب المعاني إلى معنى السعادة.
ويومئذ لو اشترى كل لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألما من الضجر، وضجرا من الألم؛ لأنه فقد قوة من ضميره تقابل القوة التي يفقدها المريض من معدته.
فلينظر الفقير الجائع وقد أخذه كلب الجوع وسطع في عينيه وهجه، ودارت به معدته ذات اليمين وذات الشمال؛ إلى رجل غني ممعود
18
في كفه معنى الحياة وفي جوفه معنى الموت، وقد ابتاع مما تشتهيه معدة خياله التي لا تشبع؛ لأنها لا تنال شيئا، وأسرف بالمال في ذلك حتى استجمع الكثير الطيب، ثم انقلب إلى داره بعين من ذلك الذئب تكاد أشعتها تنضج الغذاء من حر نظراتها إليه.
سلوا صاحبنا الفقير يقل لكم أي لذة يا قوم تكون في غير هذا الطعام الذي يقتل به داء البطن،
19
وتتفتق عليه الخواصر شبعا وسمنة ، وهل هذه إلا روح مائدة من موائد الجنة فيها مما تشتهي الأنفس وتقر الأعين؟ ثم سلوا الممعود المسكين يقل لكم وهو صادق صدقا يتمنى بما ملكت يداه من الدنيا لو أنه كذب، يقل لكم: تالله ما أجد في هذا كله ولا في بعضه من لذة ولا سعادة، ولو أبحته جوفي لكان الموت بعينه!
إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كل ذي حق حقه بالنصفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم. ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغنى، لرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فطر أكثر الخلق - لطبيعة الخوف المتمكنة منهم - على أن يتسعوا في فهم الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية؛ فالفقير الذي لا يفهم حقيقة الفقر يتألم بإدراك ووهم وفلسفة؛ إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبله على حاضر الأغنياء ومن في حكمهم فقط؛ وبهذا يكون ألمه عملا عقليا في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثر مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب. فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لوجد الحكماء في الأرض شيئا حقيقيا يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورب غنى يزيد أهله بالحرص والدناءة فقرا؛ فانظروا فيهما بأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنا لها، انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كل موعظة إنسانية أو إلهية، فلا تثمر شيئا حتى إذا ماتوا نبتت كلها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاء وسلوة وموعظة من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظر فتعطيها محاسن الطبيعة الفكر.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هي من نور الطبيعة؛ فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبر واحد؛ هو ملء هذه المعدة!
هوامش
الفصل الرابع
مسكينة! مسكينة!
قال «الشيخ علي»: واسمع الآن يا بني ما أقص عليك، فإني محدثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمته ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء، ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل، ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!
فواها لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره، ولا توتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير.
وقد علمنا أن كل شيء يسير، فإنما هو يذهب في طريق يتهدى أو يعتسف،
1
وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقا في هذه الحياة إلا من ضمائر أهل الخير؛ وبهذا يضرب الشر أهله وغير أهله.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر، فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة، فحدثتني أنها استضاقت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة في غار في جبل، ثم استضاقت فكأنما ولجت هذا الغار فانحدرت تلك الصخرة، فسدت عليها فلا وراء ولا أمام، وأعجزها حتى المعاش الملفق.
2
وخرجت يوما على الناس وكأنها لقذارتها قطعة من الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أودية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها؛ كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي - علم الله - بقع أشأم منها أنها في رقع، وقد اغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنه بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته وجه كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر الممحوق في استطالته تحت الظلام ومده ، وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها، كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من المرض في صدرها أكثر مما خفي بين الناس من قدرها؛ وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض كلها أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلا خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت ثم رأيت صورة البؤس، ولكن في غير إطار.
3
وإنها لتمشي وكأن ليس فيها دم ينتهي إلى قدميها، فهي تجرهما جرا، وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشا لقلبها، فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب، ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!
وفي رأسها عقل زاد فضل الله ورحمته في جهة منه، ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك تحمد الله، إذا هي مع ذلك تلعن الناس، وهي مرة تنظر إلى الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها، ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئا إلا نفسها، ولم يكن يمسك روحها بين الاثنين إلا خيطان: أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله، والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جدتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها، تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت عن سن الموت!
4
أما الآن فقد تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدتها المسكينة، ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال «الشيخ علي»: وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف، ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها
5
وملء بطونها هواء، غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعا، وهي على ضعفها أقوى من الشرائع والقوانين؛ إذ تنبعث وكأن كل طائر منها إرادة متجسمة تقذف بها السماء، فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط، ولا تعرف إلا أن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغدا.
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ؛ فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكلب والتوحش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة، وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يخال لها أن في الموت عيشا؛ فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيعونها، ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية ترزق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق، حتى لم تترك لها في الناس «وجها»، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ دائما ولا تعطي أبدا، وهي يد الموت!
وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملا من شبع وري؛ فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تقتل من جهتين!
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقا؛ لتموت نظيفة، وتكون لنفسها غاسلة، وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء!
ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركنا، أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها، كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتد بها المسير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وإنها لكذلك؛ إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع، وهو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوما كاملا، على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إداما ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة، وأدرك أن روحها تخطو في أنفاسها، وأنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه، طالما شد عليه حتى انطوى، ولان لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، أكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه؛ فابتدر
6
إلى المسكينة، وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه، ثم ذهب لا يعرف ما صنع؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء؛ أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه؛ لأنها لا محالة متوعرة به،
7
ستحسبه اقترف إثما فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله، وإلى أن يأتي الله بالصباح الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل قد صب عليه الويل؛ وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير، بدلا من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
أما الفتاة، فأرسلت في إثره نظرة حية ولم تجزه غيرها، بل جعلت جزاء عمله من عمله نفسه؛ لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به، كلاهما لا يكون إلا من خبث أو لؤم. هي فتاة أقدمت على الموت ولم تقدم على السرقة، وإنها لتعلم أن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولكنها رأت الطفل غير أهل لأن يعرف موقع إحسانه من نفسها؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة، بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع؛ وكذلك تعرض لبعض الناس حالات من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطنا صغيرا من العظم؛ فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعا، ومات الذي كان بينها وبين الموت!
وبينا هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لو لبس معنى الغنى لفظا ما لبس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغنى ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحمق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعناتها كالمطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغني معهن في الطريق لا حارسا ولا منعما ولكن للكيد والفتنة؛ فتنة المساكين، وكيد الحاسدين، فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري، وهي نصف
8
من النساء ولكنها تتصابى، فكأن في وسامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات! وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني، حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة! وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها، ولكن مصورة! فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله، ولكن مزورة! وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع؛ لا جدال فيها إلا من زنديق!
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر ، فقالت: يا لها سعادة أن تكون هذه «العجوز» لا تتقدم في عمرها إلى الأمام، ولكنها ترجع إلى الوراء! وأن تظهر بين الناس حسناء، وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن! وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له شقاء أن تكون هي كما هي، وأكون أنا كما أنا!
ثم رمت بعينيها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة، فما تبينتها هذه وألمت بما في نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا، وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد، غير أن الفتاة ملأت عليها الطريق بحركاتها، فكانت وجهها
9
كيفما أمت أو انحرفت يمنة أو يسرة، وكأنما تطاردها مطاردة!
فلما عيت السيدة بأمرها، وغاظ الفقر نعمتها، وهاج فضول الفتاة حنقها وكبرياءها؛ وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف، يكاد يستنفض الناس طرفها،
10
وتكاد تميز من الغيظ، وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش!
فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء؛
11
إذ ليس بعد الفقر خوف، ودلفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها، حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: سيدتي، أدام الله نعمته عليك، وهنأك هذه النعمة بدوامها. - هي دائمة، وما أنت والنعمة؟ - سيدتي، وقاك الله ما أنا فيه من بأساء الحياة، ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي! - فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذن أيتها الحمقاء؟ وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ - سيدتي، ألا مهلا مهلا، وانظري إلي ينظر الله إليك. - قد نظر الله إليك من قبلي. - سيدتي، هبيني خادما أحسنت إليها. - فلتكوني خادما طردتها إن بلغت أن تكوني خادما لمثلنا. - يا ويلتنا! ألا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ - ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعا إذا أنا جدت عليك، ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي! - سيدتي، ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان، وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء ، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره! - إذن فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي. - سيدتي، ليس فقري عن خطأ مني، وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة! - وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ؟ - رحماك واتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالا مني! - حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا، ويومئذ تعرفين كيف تطرد الكلاب!
قال «الشيخ علي»: فكبر ذلك على الفتاة، وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر وحكمته، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية؛ مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخا؛ هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها، ولم تجد لها عزما.
أما السيدة الكريمة - كما يقال - فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافتر ثغرها قليلا عن ابتسامة السخرية، وسرها أن يكون في لسانها كل هذا المنطق، ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: «مسكينة! مسكينة!» ومرت بعد ذلك لا تلوي، وما يخطر لها إلا أنها نفضت نعلها!
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة، وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج، فأطلق عليها دموع البائسة، وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل، فانزوت إلى جانب من الطريق وجعلت تبكي، ثم تبكي، ثم تبكي؛ حتى لو جمعت دموعها لغمرت منها، وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة، وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعا.
12 •••
كانت للسيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعة في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيما ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله، فولدت لها الفتاة وكأنما انشق لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة، بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى، ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوع من الفقر إلى الله؛ وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر، كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها؛ فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟
وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض، فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع؛ فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ولقد تكون المصيبة جنونا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تر ملجأ من الله إلا إليه، فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة، ومسحت من وعيها فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جنت؟ «مسكينة مسكينة»! «مسكينة مسكينة»!
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم، فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب «مسكينة مسكينة»! ثم مرت أيام وبنتها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية تتخايل الموت فيها لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: آه يا ابنتي! «مسكينة مسكينة»! •••
قال «الشيخ علي»: وضرب الدهر من ضرباته، وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملا، فتردم جانب من حالها؛ وبينا هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته؛ فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها!
فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزنا، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! «مسكينة مسكينة »! ...
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذبه بمعانيها، ويا رب كلمة ملفوظة وفيها لله كلمة غير ملفوظة! •••
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
هوامش
الفصل الخامس
لؤم المال ووهم التعاسة
قال «الشيخ علي»: وأنت يا بني، ما إن تزال تصف الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر، ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود، ولا من صدور أهل الدم
1
فأقول أحمر، ولا من شيء أعرفه؛ لأنه ليس شيئا يسمى، وعلم الله أن من يهوي في جهنم سبعين خريفا وعيناه تدوران في رأسه، لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شرا من وجه دنياك!
إنك يا بني تصور الأرض لا أرضا ولا ماء بل قلوبا ودموعا، وتعرفها لا دولا ولا أمما بل آلاما وحوادث، فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى وقدتين من قلبك ومن الشمس، وإلى نفحتين من خيالك ومن الفضاء، وإلى قدرين من حزنك ومن الأبد، ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها،
2
وعلى ظهرك!
هيهات لقد أسرفت على نفسك الضعيفة، وجعلت هذه الحصاة الهينة تحت مطرقة الزمن، فما تزال رخوا منبعثا مسترسلا في اندقاق ولين، كأنك رجل من العجين، وكم تقول لي: «فلان» وجاهه العريض، ودهره المريض!
وانظر إلى «فلان» كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغنى وأمسى!
و«فلان» كيف تمر من فرج أصابعه سفن الآمال، في تيار المال؛ كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار!
و«فلان» قبحه الله! كيف صار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه!
و«فلان» أخزاه الله! فما بر ولا نفع، بل تفرق بالحرص على ما جمع، وطمع في كل شيء حتى في الطمع! «وفلان» الذي جمع وعدد،
3
وخلقه الله واحدا وهو في الرذائل يتعدد، وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستكبر كأنه فرعون على النيل! «وفلان» وما أدراك ما فلان؟ جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وأن قيل في غيره «ابن نعمة» فهو في أهل النعمة أبو الآباء، على رأس عظيم كأنه ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغنى إليه، وقامة بائنة
4
كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه؛ وهناك أنف أما في السماء فله منزلة، وأما في الأرض فعطسته زلزلة، ينفض الناس من رهبته نفضا، ويفرش الوجوه من هيبته أرضا، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية!
قال «الشيخ علي»: وما أنت يا بني وهذه «الفلانات» وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه، فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم لتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعمالهم طردا وعكسا، فما أشبههم بدابة الطاحون؛ تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف، ثم هي لعلها حين تسمع ذلك الهزيز وتلك الجعجعة تحسبها من نشيد الاحتفال بها!
فهم قوم مسخرون فرشهم الله أمرا من أمره،
5
ويسرهم لما خلقوا له، فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار لو نالت السموات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال، أما الطمع فجاءهم بماذا؟ جاءهم يا بني، لو قلت بصدأ القلب وهرم النفس ودناءة الطبع، ولو قلت بكل ما في الحشرات من القذر، وبكل ما في السباع من الضراوة، وبكل ما في الدبابات من السموم؛ لكنت عسى أن أقارب الوصف، ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله.
غير أني أقول لك يا هذا: إن ثلاثة من المتجاورات يفسر بعضها بعضا؛ الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء.
أتحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف
6
به الدهر وطحنته النوائب بأرحائها، وجاءه بعد الدنيا المؤنثة يومه المذكر،
7
وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟
8
فلم لا يعدون الغني شيئا دون المال، ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضا ذات وجهين في الناس!
هو المال، المال وحده لا غير؛ فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كما نحتاج إلى بائع الملح! وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفى إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف بالعصا، وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى،
9
وهو - من تعلم - دسم الثوب ترب اليد، قذر التفصيل والجملة، يصلح أن يكتب على وجهه «متحف الميكروبات المصري»، ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟
كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر، أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق، ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته، وقد انقضى عصر الأنبياء!
قال «الشيخ علي»: فإن لم يكن الغني إنسانه من الناس يواسيهم ويسعدهم، ويتخذ من المال سبيلا إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر ما لها، ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه مرآة للفقراء يبصرون فيها ابتسام الدهر على وجوهم العابسة، ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين، ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين؛ فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، بل هو شخص لعنة من لعنات الله والملائكة والناس نفخت فيها الروح، وهي اللعنة أي منقلب تنقلب.
ما أشبه المال أن يكون آلة من آلات القتل؛ فإنه يميت أكثر أصحابه موتا شرا من الموت - إلا من عصم الله - موتا يجعل أسماءهم كأنها قائمة على ألواح من العظام النخرة، ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها، ثم يثبتها في التاريخ آخرا لا بأعيانها ولكن بعددها، أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد البهائم التي نفقت بالطاعون. فهذا الشخص الميت وهو بعد في الأحياء لا يبلغ في قدر نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من ... من ... من جيفة حمار!
يا بني، ربما كان الرجل نبات تعمة الله؛ لأنه سيكون حصاد نقمته، فهذه منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ بالله منها، وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنة وسمنا، ويكاد أحدهم ينشق مرحا ونشاطا، ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطرا من العمر إلا سببا في أمراض مهلكة تستوفي الشطر الآخر، فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون!
وإن خطأ كبيرا أن تقضي لفلان من «فلاناتك» بمتاع الدنيا؛ فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير، وكيف تحكم ويلك على غناه بفقرك، وعلى آماله بيأسك، وعلى شخصه بظلك، وعلى نهاره بليلك، وعلى عمره كله وهو بعد حي لم يوف عمره، ولا تدري ما عسى أن يكون له فيما بقي؟
ألا دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة، فلعل مصيبته قادمة في الغيب، وكأن غناه من مقدماتها، وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة؛ فإذا مات الغني ولم تعرف في جملة عمره هما ولا غما يعدل بؤس الفقر مهما اشتد الفقر، فكفى حينئذ بالموت من تلك الجملة! وإنما الحياة مدة ستنقضي، فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره، فقد انقطع!
10
تقول: إن لهم متاع الحياة! ولو أنصفت لقلت إن لهم بؤسها الممتع! فإنهم يجمعون المال من طرق لا تؤتيه إلا نكدا، ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه، وهلم كما تدور دابة الطاحونة، وهب أنهم لا يألمون كما تألم، فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفا وألوانا حتى يتنكر لها معنى النعمة، فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرهة ولكن لا تريد الكراهة، ومتسخطة ولا ترغب في السخط، ومتألمة ولا تعرف مم ألمها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمة لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.
ولولا هذا البلاء وأنه ما وصفت لك ؛ لما أصبت على الأرض غنيا كهؤلاء الوارثين؛ تضرب به كل لذة وجه أختها، فتسلمه الواحدة إلى الأخرى، ويجذبنه بكل حروف الجر، من وإلى وفي وعلى، بين الخمر والقمار والفسق وما لا يحسن أن يسمى، حتى تسلمه اللذة الأخيرة إلى الفقر أو القبر!
ولو أن «ضجر اللذات» يصنع بكل الأغنياء هذا الصنيع لفسد الكون، بيد أن الله أراد عمرانه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤما خاصا، لؤما ذهبيا يكسر من سورة هذا الضجر، كما يفثأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.
11
فالقوم إما كريم يضجر فيسرف، وإما لئيم يضجر فيمسك، وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته، فهم كما هم ونحن كما نحن وكلنا سواء كما ترى، وكأن أم المصيبة حين ولدت وضعت بنتين: المصيبة التي تؤلم، والنعمة التي لا تلذ! ...
وليس أشقى ممن منع السعادة وأعطي الرغبة فيها، إلا الذي أعطي السعادة ومنع اللذة منها!
فلا تقل يا بني إن العصا لظهور الفقراء وحدهم، فإن هناك السوط أيضا، وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا؛ ولذلك خص بشرفها الأغنياء!
وانظر ويلك، هل ترى الفرق بعيدا بين الضجر من شيء لأنه موجود، وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود، بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة، بين ألم الغني الذي لا تجده أبدا إلا على شك في أنه سعيد، وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبدا يشك في أنه تعس؟
قال «الشيخ علي»: وتسألني عن التعاسة ما هي؟ وكيف هي؟ وتريدني على أن أبتغي لك مما بين ظاهرها وحقيقتها؛ ألا فاعلم يا بني أن هذه الكلمة حقيقة بأن تنسي نفسها، وما ادعى أحد معرفتها إلا لأنه لا يجد أحدا يعرفها، وكل شيء مجهول فما أسهله أن يكون من علم كل جاهل، وما أصعبه أن يكون من جهل كل عالم، وإني لأرى الناس يأتون في وصف التعاسة بكلام كثير، وما أهونها إذن لو أن كل إنسان يحسن من وصفها بهذه السهولة!
لقد ألف هذا الإنسان من عهد القبائل في الاجتماع الأول أن يطوي العالم كله في قبيلته، ويجمع القبيلة كلها في نفسه؛ فيزعم أن «كل الناس » يعرفون كذا، «وكل الخلق» يقولون كذا، وأن «الدنيا كلها» و«كل العالم» ... وعلم الله ما في الدنيا، ولا في العالم من يعرف أو يقول غيره، أو هو مع غيره من ذوي جماعته إلى اثنين أو ثلاثة أو جماعة منهم، ثم بقي ذلك ميراثا في أخبار الجهلاء وأوصافهم، وفي كلام أهل المجازفة إلى اليوم!
ولكن إن شئت أن تعرف التعاسة - ولا أقول ما هي (حرسك الله) ولكن ما علمها - وإن شئت أن تسمع لها وصفا آتيا من جانب السماء؛ فالتمس في دار الهموم من لم يبق له هم يحمله إذ يكون قد احتمل كل هم؛ فإن مثل هذا المخلوق - الذي لا تعرف أهو حي في ثيابه ميت فيما وراءها، أم هو ميت في ثيابه حي فيما بعدها - متى استفرغ دمع أجفانه ومات البكاء في عينيه، خلق الله في لسانه ألفاظا كالدمع، ولغة كالبكاء، ومعاني هي في جملتها أوصاف التعاسة على الحقيقة!
وأين تحسبك واجدا هذا المخلوق الملهم المسخر الذي تراه كأنما ينضغط بين الأرض والسماء لشدة ما يجد من حطمة هذه الدنيا؛ حتى تكتب من تاريخه فصلا في ذلك المعنى، وحتى تخرج من لغة الأقدار ما يصحح لفظا واحدا من لغة الناس؟
ألا إن الأرض لا تشهد كل يوم نبيا مثل أيوب يمتحن الله صبره امتحان الألوهية للنبوة، وإذا لم تكن المصيبة - رعاك الله - كأنها في باب النقمة تاريخ غير إنساني؛ فإن بينها وبين معنى التعاسة الذي يضج الناس منه كالفرق بين رؤية السيف مسلولا على العنق وبين رؤيته في العنق.
12
ولقد أعرف رجلا من أهل الفقر النظيف أعطى ابنته قطعة فيها «عشرة غروش»، وأرسلها تبتغي بها رزقا من الطعام، فأضاعتها فكأنما أضاعت عقلها، وضاقت عليها الدنيا، وخيل إليها أن ليس على الأرض ما يسع طفلة، فلم تجد لها غواثا إلا في الموت يحول بينها وبين أبيها، فجرعت من «الفنيك» جرعة سائغة كانت فيها نفسها، وابتعدت عن أبيها ولكن بعد ما بين الدنيا والآخرة!
فهذا مثال مما يجلب الضعفاء على أنفسهم من التعاسة: تموت الفتاة، وتسير الجنازة، ويفتح القبر؛ لعشرة غروش!
ويحدث في العالم هذا الفراغ، وتخرج الدنيا إحدى عجائب التعاسة، ويشهد الناس ذلك المنظر القاتل؛ وكل هذا لعشرة غروش!
ويقع للفتاة أمران أهونهما الموت، وأصعبهما الذي لا يحتمل ضياع عشرة غروش!
وما عشرة غروش يا بني؟ إنها قوت حمار في يوم أو يومين، ونشوة سكير في ساعة أو ساعتين، ولذة فاسق في لحظة أو لحظتين، ولعنة الله على غني لئيم في نفس من حياته أو نفسين!
ولكن يعلم الله كيف كانت في نفس تلك المسكينة من غلظة أبيها وقسوته، وما خشيت من بادرته وما حسبت من اضطغانه عليها، وكيف استحالت هذه القطعة تاريخا طويلا من الوساوس والأوهام حين أضاعتها، فالناس ناس لولا الوهم، وكان الوهم وهما لولا الناس!
ولعمري ما الذي يجعل المرء جبانا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من دنياه بالذي هو مدبر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟
أما إن ذلك ليس من فقر ولا غنى، ولكنه حرص على الحياة يخالط بعض الأنفس ويستمكن منها حالة بعد حالة، فإذا هو قد انقلب في آخرة الأمر خوفا من الموت، ثم لا يزال يحور وينمي وهو في ذلك يخلع القلب من الإيمان الذي يربط عليه،
13
واليقين الذي يثبت به، حتى يبلغ بعد حين أن يكون خوفا من الحياة نفسها، ومتى كان الحرص على الحياة قد صار خوفا من الموت، ورجع الخوف من الموت مع ذلك البلاء خوفا من الحياة؛ فهذه - أصلحك الله - حالة من الجنون تستلب العقل، وسواء من أصيب بها ومن خولط في عقله، وليس معها لهؤلاء الضعفاء كما يشهدون على أنفسهم إلا موت الجبن الذي يسمى انتحارا، أو حياة الجبن التي تسمى ذلا، ولخير للمرء أن يكون حمارا من صنعة الله وتعرفه الحمير، من أن يكون حمارا من صنعة نفسه وتنكره الناس!
إن لنا على هذه الأرض حياة واحدة علم أهل العلم أنها حقيقة مسرعة بين أوهام، فهي ما تبرح تجاهد كل شيء، ولا تثبت أطول من مدة جهادها إلى أمد غايته أرذل العمر،
14
وعرف أهل الجهل أنها تتقدم إلى الموت، وأن الموت يتقدم إليها، فهما لا بد ملتقيان، لا العلم ولا الجهل يرتاب أو يشك في الموت، ولا الفقر ولا الغنى، ولا الصحة ولا المرض، ولا شيء من خصائص الأحياء؛ لأنه ليس على الأرض حي قديم! ولكن العالم والجاهل، والفقير والغني، والصحيح والمريض؛ كل هؤلاء يخافون الموت ويحرصون على الحياة إلا قليلا منهم؛ فليتهم علموا أن النفس روحية، وأنها تألم لهذا الخوف ولا تقار عليه؛ إذ هي لا تعرف الموت لأنها خالدة، ولكنها تعرف الألم لأنها في غير دار خلود، ومعنى ذلك أن الإنسان يخاف الموت، فيتصل هذا الخوف بالنفس فترده إلى حوادث الحياة، فتخيفه هذه الحوادث، فيذله هذا الخوف، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
15
ونحن إنما ننصب الحبالة
16
ثم نرتبك فيها ونضطرب، فكأننا لا نصيد إلا من أنفسنا؛ إذ لسنا نجهل أن للنفس حظا ليس للجسد، وأن الفارس لا يربط في الإصطبل وإن كان جواده فيه، غير أننا مع ذلك نحاول أن نغذو النفس من اللذة الجسمية، وأن نعلف الفرس والفارس من طعام واحد! فهذا التناقض الذي نسيء به إلى أنفسنا هو الذي يجعل النفس خائفة من الحياة؛ إذ لا تجد فيها غير ألم التعبد للأهواء والشهوات، ولا تصيب من الحياة إلا ما تستذم
17
به الحياة إليها، فلا يكون من ذلك إلا أن تسيء إلينا هذه النفوس بتناقض آخر، فربما كان الرجل في النعمة السابغة قد أينعت خضراؤها، ثم هو لا يشعر منها إلا ما يشعر من المصيبة الماحقة، ومتى فزعت النفس من الحياة كما عرفت فلا هناءة على ذلك الفزع، ولا تكون الحياة من ثم إلا موتا مستمرا أو خوفا من الموت لا ينقطع.
18
قال «الشيخ علي»: يا بني إن الحرص جبن، والجبن ذل، والذل استعباد، وما يدخل من هذه الأبواب إلا الشر، فكن حرا من الأهواء كما خلقت، وكما خلقت الحرية التي لا قيد لها من رذائل الدنيا، فإنك لن تراع ولن تعرف مما يسميه الناس تعاسة أكثر مما تعرف مما يسمونه سعادة، ولن تجد في مصائب الحياة ما يموت دونه الصبر الجميل؛ فإن عمر هذا الصبر أطول أبدا من عمر الصابرين!
لذلك لا يغضب الفيلسوف، ولا يخاف الشجاع، ولا يبخل الكريم، ولا يذل الأنوف، ولا ينافق الرجل الحر، ولا يكذب الرجل الشريف؛ وإنما هذه مظاهر محدودة من حرية النفس، فكيف بالنفس إذا كانت حرة من كل أقطارها؟!
وقديما علم الناس أن من لا يبالي بشهوات جسمه هو الذي يستريح وادعا، ويتعب التعب في البحث عنه، وما علمت ولا علم الحكماء والأطباء غذاء تسمن عليه المصائب والأحزان إلا الحرص على الشهوات!
وليت شعري ما هي هذه الشهوات؟ أما إنها في الحقيقة نزعات طبيعية لا بد منها بمقدار؛ لأن الطبيعة الإنسانية تعالج نفسها بما يعينها على البقاء،
19
وما يجعلها صالحة له على الوجه الأفضل؛ فهي تغري الإنسان مرة وتؤلمه مرة، كل ذلك ليجلب لها أو يدفع عنها، فما تسميه لذة من لذات الجسم إنما هو علاج طبيعي من ألم طبيعي لا أكثر ولا أقل، كالأكل مثلا، فما كانت الطبيعة لتغري به هذا الإغراء حتى فات عند أكثر الناس حد اللذة، لولا أن الجوع انحلال في الجسم؛ فإن هو أسرف عليه أو استمر به أوقع فيه الفساد وركبه بالضعف علة بعد علة.
غير أن الإنسان بما فيه من شبه البهيمة ينجذب إلى طبع البهيمة غالبا، ونسي أن للبهائم وازعا طبيعيا هو فضيلتها الخاصة بها، فأقبل يرتع ما شاء، وجد به الحرص بمقدار ما يطمع فيه، وغلبه الطمع على بصيرته، فلا يكون في إنسانيته إلا بهيمة تتخيل وتتفنن ما لا يتفنن إنسان ولا بهيمة، وما تجد من مستهتر بالشهوات إلا وجدته من أجل ذلك راضيا مغتبطا يتمنى لو أنه في هذه الشهوات بهيمة البهائم كافة!
أف لهذه الدنيا! يحبها من يخاف عليها، ومتى خاف عليها خاف منها، فهو يشقى بها ويشقى لها، ومثل هذا لا يكاد يطالع وجه حادثة من حوادث الدهر إلا خيل إليه أن التعاسة قد تركت الناس جميعا وأقبلت عليه وحده، ولولا الخوف يزلزل قلبه لأدرك الفرق بين النسمة والعاصفة، وعلم أن اللفظة لا يلزم منها أن تخلق معناها، وأن ليس كل ما نسميه تعاسة يكون في حقيقته من التعاسة.
وترى الواحد من هؤلاء لا يزال يلوك لسانه
20
في كلمات من التأميل والسخط والألم والنفرة وغيرها مما هو من لغة الحرص على الحياة؛ فهو على الأرض وكأنه يعيش في سحابة تجري بها الريح، ولعمري كيف تهنأ الحياة مثل هذا إلا إذا كان أديم الأرض من ورق الزهر، وكانت مزابل هذه الدنيا رياضا غناء، وعدت الطيور الجميلة من كلاب هذه المزابل؟!
كذلك لا يسعد أكثر الناس بالحياة ولكنهم يشقون بالحياة والموت؛ ومن ثم ظلموا التعاسة فجعلوها أصغر مما هي، كما ظلموا السعادة فتوهموها أكبر مما تكون.
قال «الشيخ علي»: واعلم يا بني، أن القدر وإن كان من السماء، ولكن تاريخه ثابت في الأرض، وما كانت المصائب جديدة في الحياة، وهذه المحابر التي كتب منها تاريخ الإنسان لا تزال كما كانت من قبل تشرق بالدماء وبالدموع، ولا يزال الدهر يمد منها ولا يزال يكتب من هذا المداد؛ فمم يخاف هذا الإنسان الجديد، وليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمن قبله، وما هو بخالد ولا هو بمتروك لما يحاوله، ولقد علم يقينا أن الله لم يخلق فيما خلق مقراضا يقلم أظفار الموت؟ يريد من قدر الله زلالا صافيا كأنه ماء مرشح يصب من حياته في كأس من البلور! ويبتغي أن يكون في الأرض تاريخا جديدا سلسا منقحا ليس فيه شيء من تلك الألفاظ الجافية في نبوها وخشونتها: ألفاظ التخريب والتدمير والتقتيل والجوع والمرض والأحزان والهموم ونحوها.
فأما أن يكون من ذلك التاريخ القديم الذي تمليه قدرة الله على الطبيعة، ثم لا يكون إلا كالطبيعة نفسها في النظم والنسق ، ولا يجيء الإنسان الجديد فيه إلا طباقا أو ناسخا أو منسوخا؛ فهذا هو موضع النفرة ومكان الأذاة، ومنه مثار الهم وإليه مسرب الدمع، وذلك والله معنى إن لم تنشأ منه تعاسة الإنسان فهو على كل حال من تعاسته.
الإنسان كله يا بني منطو في رأسه، وما هذا الجسم إلا أداة، منها ما يحمل الرأس، ومنها ما يحمل إليه، ومنها ما يحمل عنه؛ فالجسم دابة من الدواب لا أكثر ولا أقل، والرءوس لا يمكن أن توزن بميزان حتى يعلم فرق ما بين رأس ورأس آخر، فالإنسان مختبئ محجب، وكأنه لا يزال منه جزء عند الله، فما ينفك يجد من نفسه ما يبعثه على النزوع إلى الغيب والفكر في المستقبل؛ لأن هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعور المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ أو المفزع أو أي ما يكون من أشباهها؛ لأن هذا الحاضر غير تام به ولا كامل معه، وليس ذلك بعجيب، ولا من العجيب أن يألم الإنسان لحياته؛ ألا يرى أنه في جسم لا راحة للروح إلا بعد تحطيمه؟
ومن ههنا تفاوت الناس؛ فمنهم من تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب ويصل بينه وبين حاضره، فيتوهم في الحياة ما ليس فيها ويسخرها لأوهامه باطلا، ومنهم من يقبل على شأنه ويأخذ الحاضر بما فيه، ويعرف أنه حي ولكن على شروط لا بد منها للحياة.
فأما الجاهل الأحمق المخدوع فكأنما يرى في مرآة خياله الغيب كله، أو ما يظنه الغيب كله، فلا يعدو أن يسترسل في ظنونه وأوهامه استرسالا أشبه بالأبد الذي لا حد له؛ ومن ثم لا يرضيه شيء ما دام في هذه الحياة شيء لا يرضيه، ولا يقنعه شيء ما دام في الدنيا شيء لا يناله، وكل مصيبة يخشاها أو يتوقعها فكأنما هي نازلة به أو قد نزلت، وعنده أن كل ما يمكن أن يكون فينبغي أن يكون، وما هو جائز فليس ما يمنع أن يكون واجبا، وما قيل إنه غير جائز فهو غير مستحيل، وما الذي يمنع أن تخسف به الأرض، أو تقع عليه السماء، أو ينحدر إليه رجم من الشهب، أو ينهتك حجاب قلبه،
21
أو يسل البلاء خيط عظامه، أو يخالط جوفه كل داء دوي، ثم ما شئت من «أو» بعد «أو» ... إلى أبعد حد مما انتهى إليه أهل الفقر في الفقر، وأهل الأمراض في الأمراض، وأهل الأحزان في الأحزان، وأهل المصائب في المصائب؛ فيذهب العمر باطلا بالذي عليه والذي له، ويجني هذا الإنسان على نفسه من أثر الخوف والطمع ما لا يستقيله أبد الدهر، فلا يهنأ بموجود، ولا يطمئن إلى مرجو، ولا تكون آماله إلا مخاوف مستبهمة لا مأتى لها من الحقيقة، فيجد روح التعاسة في أشياء كثيرة، ولا يكاد يصيب العزاء في شيء قليل!
وهنا يا بني الحفرة التي يقبر فيها بعض الأحياء ليعيشوا عيشة وهمية، أو ليموتوا موتا وهميا، تلك الحفرة التي يقضي الأحمق شطرا من عمره واثبا في الأوهام بين شاطئي الدنيا والآخرة، حتى إذا انتهى إليها تردى فيها، وكان الرأي لو ادخر لها بعض تلك الوثبات.
وأما الحكيم الذي يعرف الحياة كما يمكن أن تكون، ويعرف أن كل حي من الناس فإنما هو حي على شروط لواهب الحياة، ثم للحياة نفسها، ثم لأهل الحياة؛ فهو أدرى بالمصائب من ذلك الأحمق، ولكنه لا يثيرها ولا يبحث عنها ولا يمتلق لها العلل
22
من نفسه، ولا يعترضها في غيره، وما نزل به منها فإنه يفتح لها من قلبه سبيلا تمر فيه بين العزيمة والجرأة، وإلا فبين الثبات والصبر، وإلا فبين التوكل والإيمان، وما أهون مصيبة تفتح لانصرافها ثلاث طرق واسعة!
وهذا الحكيم يجد في محنته لذة تشبه لذة الدرس لمن همه الحكمة واختبار الأشياء ومعاناة خواصها وأسرارها، كأنه من مصائبه في «معمل» للتجربة والاختراع؛ فإنما هو يتلقى عن الله ما لا يصيبه به إلا هو، وما لا يصرفه عنه إلا هو، وإنما يستعمل رأسه للفهم لا للوهم، وهو يعرف أن علم الله أزلي يسع الأزل كله، وأن الأقدار من علم الله فهي مقسومة على الدهر كله، وأنه هو في جانب الدهر لا يبلغ أن يناله ما تنال الشرارة من ماء البحر إذا هي انطفأت في البحر.
هذا الحكيم يعرف أن الحياة ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجه، ولا هي بالهرب من الموت في كل وجه، فهو لا يبالي الموت ولا يخافه، ولا يعبأ بالحياة ولا يرجوها، ولكنه يمشي على صراط من فضائله، وعلى نور من ربه، فما دامت فضيلته لا تنكره، وما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، فكل ما بين الأرض والسماء وما بين الآخرة والأولى هو مادة العزيمة في نفسه، ومادة القوة في روحه، ومادة الابتسام على شفتيه!
فإن نزل به هم وأدركه خور الطبيعة وضعف الإنسانية، فلم يستطع أن يخلص منه، صرفه إلى جهة غير جهته، واستخرج منه معنى غير معناه، وقابل بين راحة الرضا به وتعب السخط عليه، ونظر في مبلغ شره، وما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شر منه، وجمع بين الدعاء لله أن يصرف عنه ما وقع، وبين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع؛ ثم لا يزال يعالج الهم مستأنيا ربيطا جأشه، حتى تثوب إليه القدرة على نفسه، فتسكن إليه النفس من نفرتها، وحتى يرى هذا الهم كأنه مما لا بد منه في رياضة أخلاقه وتنزيه شمائله، وكأن صدع الجانب الذي بينه وبين الناس، أو بينه وبين نفسه، إنما كان لتقوية الجانب الذي بينه وبين الله.
وأشقى الناس من يتوقع الشقاء وهو لا يعلم من حاضره ما الله صانع به، ولا من مستقبله ما الله قاض فيه، وكأنه يتظنى بالله فيرى أنه تعالى قد وكله إلى نفسه، وأيأسه من رحمته، وصرف عنه تيار الغيب المتدفع بالحوادث والأقدار بين شاطئ الليل والنهار، فلا يدفع إليه جديدا ولا يصرف عنه قديما، وكأن الزمن كله يتحرك وهو ثابت قار قد حصره الهم من هذا الفلك في زاوية، ووضعه الدهر من بيت الأحزان موضع القافية، والمصيبة في مثل هذا أكبر من كل شيء لأنها لا شيء. ولا ينفع المرء أنه من الناس إذا لم يكن من نفسه، وهذا لا نفس له أو كأنه لا نفس له؛ إذ لا ثقة به ولا قوة فيه، ولو كان وجهه جلدة مما بين عيني الأسد لما ظهر إلا جبانا، ولو اختلط الحاضر بالمستقبل على شيء لما اجتمع منهما ما يجتمع من غضون جبهته في تعاسته التي يظن أنه خص بها؛ فهو يتوهم الخوف، ثم يخاف مما يتوهم، ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم، ثم يخيفه أن تخذله الأقدار فلا يقوى على ذلك، ثم يكون أشد خوفه من أن يستمر له ذلك! فمن خوف إلى خوف إلى خوف، وهو تتابع يصور الرعدة التي تعتريه لجبنه كما يصور ضحك القهقهة من هذا الجبن.
23
وذلك يا بني ضرب من ضروب استحالة النفس، كأنها ليست في صاحبها أو ليست له؛ فهو يمر على الحقائق فزعا كما يمر الطائر على الأخيلة التي تنصب له على الثمر، ويجزع منها كما يجزع الطفل من أرواح المردة والشياطين التي تسكن ألفاظ التهويل ونحوها مما يفزع به، ثم هو من المصيبة الواحدة في مصيبتين: أما الأولى فشدة الخوف التي تفقده لذة ما يكون فيه من النعم - والنعم لا حصر لها - فلا يشتهيها، ولا يجد لها مساغا بعد أن لبسه مرض الهم. وأما الثانية فقوة اليأس التي تضعف قدرته على الحيلة للخلاص مما نزل به، فكأنما شد عزمه وثاقا، ثم لا يكون من اجتماع المصائب الثلاث
24
معا إلا أن يورثنه الذل وسقوط الهمة وتخلخل الفؤاد واضطراب النفس، حتى كأنه من هذه الوساوس بين جدران وثيقة محكمة لا نافذة منها على فضاء الغيب، والغيب ملء الأبد، فيصبح جلدا بلا جلادة، وعظما أوهنت منه البلادة، ورجلا لو أطاعته كل قوة في الدنيا لما أطاعته الإرادة، وصنما من أصنام الحياة يعرفه العاقل للتحطيم ويحسبه الجاهل للعبادة!
هوامش
الفصل السادس
وهم الحياة والسعادة
قال «الشيخ علي»: ولقد عرفنا الحياة ما هي لأننا نحن أمثلة عليها ، ولكن البحث في معنى هذه الحياة لم ينته بعد؛ لأن هذا المعنى لا يزال كما كان فوق السموات، ولو استطاع الكاتبون من أهل العلم أن يخطوا في كتبهم بمداد من أضواء النجوم التي يسكبها الخلود كل ليلة على الأرض ملء محبرة الليل، لكان عسى أن تستنير مباحثهم في ظلمات الحياة، وأنى لهم ذلك وليس وراء النفس الإنسانية إلا الذي هو وراء السماء، ولا وراء السماء إلا الذي هو وراء النفس؟
ألا فاعلم يا بني أنه ما دام هؤلاء العلماء يتعاقبون على تفسير المعاني الإلهية ولم ينتهوا بعد، فمعنى ذلك عندنا نحن الجهلاء أنهم لم يبدءوا بعد.
وما هي الحياة؟ أما إنها ليست طريقا مسافته كذا، ولا قياسا ذرعه كذا، ولا وزنا مبلغه كذا، ولا شيئا من هذه المعاني التي تضرب الأقلام والألسنة في مفاصلها، بل هي فيما وراء ذلك من عال إلى بعيد إلى غامض إلى مبهم، حتى تنتهي إلى منبع النور الذي تلتطم على ساحله موجة الأبد.
وإن أبيت إلا ما هو دون ذلك وضوحا وانكشافا وبسطا في التأويل، فقل إنها في كلمة واحدة: فتح السماء بفكرة واحدة.
1
ولتدعني يا بني من لغة هذه الكتب، فإنها متى انتهت إلى السماء رأيتها أكثر ما تراها ألفاظا لا معنى لها؛ إذ ليس هناك من جلال الله إلا ما يشبه أن يكون معنى لا ألفاظ له.
ودعني أحدثك عن الحياة بما أفهمه - أنا الرجل الطبيعي - من فلق الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره؛ وبما أعرفه من هذه اللغة التي تنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدر حين يجيب؛ وبما أستوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها جوارح الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرضي الذي يريد أن ينتهي، ولغة الخلود السماوي الذي يريد أن لا يفنى؛ فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو الذي جعلها كما يقول الناس سوداء.
ولا يكفي أن يعلم الرجل كيف يسوق المقدمات، وكيف يحسن القياس، وكيف يخرج معنى من معنى؛ حتى تكون النتيجة على ما توهم، والحقيقة على ما يقيس، والصواب كما يستخرج. وفي علم الحياة خاصة - وهو العلم الذي لا مادة له إلا من الحوادث - أن بناء من المنطق لا يتخذه بيتا إلا ساكن من الخيالات!
لست أعرف الناس قد غالوا بشيء قط مغالاتهم في قيمة هذه الحياة، فقد والله استجمعوا لها كل ما في الرغبة من الحرص، وكل ما في الخوف من الحذر، وكل ما في الأمل من الترقب، وكل ما في الحب من الخيال؛ واستجمعوا فوق ذلك تلك المعاني التي لا قرار لها في الأرض ولا في السماء، معاني النظرات الوهمية التي يرسلها المخلوق من أرضه إلى عرش الله، كأنه لا يجرؤ على أن يشك في نهاية الحياة إذ هي تنتهي على أعين الناس، ولا أن يجزم بهذه النهاية إذ هو لا يريد الموت، وكأن الحياة لا تكفيه.
وما دام للحياة غد يرتقب وهو الذي يسمونه المستقبل، فكل وهم يسهل على الحقيقة أن تهلكه أو تمرضه أو تضعف منه، إلا تلك المغالاة الممقوتة، فإنها أبدا في خصب وعافية ما بقي لها غذاء من ذلك المستقبل المحجوب.
قال «الشيخ علي»: وأنت إذا سألت رجلا عن مسألة، فسدد الجواب وأحكم الصواب، قلت: هذا جواب يحسن السكوت عليه. ولكنك إذا سألتني أنا ما هي الحياة كما يفهم الناس؟ قلت لك: هذا سؤال يحسن السكوت عليه! لأن اللغة هي هي التي أسمتها «الحياة» واستخرجت لهذا الاسم العذب معانيه من أوهام الأحياء، وكم فيما وراء السماء من معاني تملأ الأبد، ولعلها لا تملأ سطرا أو سطرين في معاجم اللغة!
ولكن دع هذا وسلني ما هو الزمن الذي يقضيه الإنسان من يوم يولد، فلا يقدر أن يرفض هذه الدنيا إلى يوم يموت، فلا تستطيع هذه الدنيا إلا أن ترفضه؟ وما هو هذا المهد الذي يكبر شيئا فشيئا حتى يصير في الآخر قبرا؟ وما هو هذا العمر الذي يمتلئ قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفراغ فيغيب فيه؟ وما هي هذه الحوادث التي تزلزل الناس
2
في طريق القدر حتى يخروا على وجوههم فتتحول أجسامهم في الأرض إلى تراب في طريق المنفعة، ويتحول تاريخهم ترابا على طريق الموعظة؟
سلني كذلك يا بني أجبك: هذا الفناء المحتوم، وهذا الشقاء المقضي، وهذا الأمل الباطل، وهذا النصب الضائع، وهذا العمل الذي لا يراد لنفسه ولكن لما بعده؛ كل ذلك هو الحياة، أفلا ترانا نخادع أنفسنا إذا سألنا عن الحقيقة التي يسوءنا أن نعرفها، فنحرف السؤال إلى جهة بعيدة لكيلا نرى الجواب الصحيح مقبلا علينا، ولكن مدبرا عنا؟
فما عسى أن تكون هذه الآمال، وهذه المنافسات، وهذا النزاع، وهذا الصراع، وهذه الأفراح، وهذه الأتراح، وكل ما إلى ذلك مما هو من مدلول الحياة؛ إلا باطلا نستمتع به قليلا، ثم يظهر أنه متاع الغرور؟
ما عسى أن تكون الحياة بكل ما فيها إلا مدة محدودة على ظهر الأرض، تجعلها أوهام الإنسان ومطامعه وحماقته وجهله وكبرياؤه كأنها الأبد كله؛ فيكد ويكيد، ويعمل ويدخر، ويهنأ ويحزن، ويطمع ويحرص؛ على نسبة من ذلك لا من نفسه، أي نسبة أبدية لا إنسانية.
ألا إنما مثل هذا الإنسان المغرور مثل رجل جمع الله عليه المصيبتين في باصرته وبصيرته؛ فضل في مكان، فهو يقبل ويدبر في دائرة من فضاء الأرض لا يهتدي إلى الوجه ولا يذهب على السمت، فيتوهم أن الطريق لا ينتهي، وأنه وقع في صحراء لم تدرسها عكازته، وليست من علم رجليه في جغرافية هذه «المسكونة»، وكما لا تكون الطرق عند هذا الأعمى إلا من علم رجليه، فأكثر طرق الحياة عند هؤلاء المغفلين الذين يطمس الله على بصائرهم هي من علم بطونهم، وما أدراك ما علم بطونهم؟ وما رأت الحكماء أحدا قط جهل حقيقة معنى الحياة إلا وجدوا هذه الحقيقة في بطنه؛ ولذلك قالوا: من كانت همته ما يدخل جوفه كانت قيمته ما يخرج منه. وإنما البطن جوع فشبع وشبع فجوع، وعلى هذا القياس لا تكون حياة هؤلاء إلا جوعا في الشهوات والآمال، فلا يطفئه إلا ما يسعره، ولا يجلب الراحة فيه إلا ما لا بد أن يرجع التعب به، جوع في الشهوات والآمال بالعقل لا بالبطن؛ لأن علم الحياة عندهم علم بالبطن لا بالعقل، وكلاهما مثلة بهذا الإنسان،
3
ويا لله كيف يريد الإنسان أن يحيا كما يحب، ثم يحب ما لا يتفق مع سنن الحياة؟
من أجل ذلك شقي أكثر الناس بالعقل؛ إذ يقلبون به الأمور، ويحتالون منه الحيل، ويكرهونه أن يعمل على السخرة في لذة الجسم، ويحضرونه من هم الشهوات الحيوانية ما لا قبل لهذا الروح الإلهي أن يستكلب فيه،
4
وإذ يخضعونه بدلا من أن يخضعوا له، ويسيرون به بدلا من أن يسير بهم؛ فكان من ذلك طغيان الحواس وطمسها على الروح وتعفيتها على آثارها الإنسانية، ولا جرم كان من وراء ذلك طغيان هذه الفوضى المترامية في الاجتماع، وانبثاقها بالشر من كل ناحية، وتداخلت حدود المطامع بعضها في بعض فصار الناس كالأمواج، لا تقوم القائمة إلا من سقوط الساقطة.
وكان الناس يتعلمون كيف يسبحون في بحر الدموع ليأمنوا الغرق فيه، وليستنقذوا الغرقى منه،
5
فجدت بهم الحوادث حتى تعلموا القتال عليه، وصار من لم يستطع أن ينقذ نفسه يجتهد أن يغرق غيره!
الإنسان حيوان لولا العقل، فلما أخضع لشهواته العقل صار إنسانا لا حد له في الحيوانية، فهو من هذه الجهة لا إنسان ولا حيوان، وإن كان الشيطان مطرودا من رحمة الله، فخير ما يقال في هذا الإنسان أنه شيطان فيه موضع للرحمة!
ولقد خلق الله هذه الحواس ولا ضابط لها إلا العقل يحكم تحديدها، ويتولى تسديدها، ويستعين في أمرها بكل على كل، ومن ثم يستقيم من هذا الإنسان شيء معقول، ويصبح قد ضربت عليه الحدود لا يتعداها، ورسمت له دائرة في الإنسانية لا يجاوزها، فيقر كل امرئ في حيزه وقد صار عنده من الناس وعند الناس منه وثائق من العقل وبينات من الحق، إذا هو حاكم إليهم ضلالة منهم، أو حاكموا إليه ضلالة منه ،
6
وهنالك يرى كل عمل طيب ثواب نفسه؛ لأنه هو من فضائله كأنه شريعة لنفسه، ومتى كان العمل الطيب مما يجزئ في ثوابه عند الرجل من الناس أنه عمل طيب، فقد أصبح ولا غرو من سعادته؛ إذ لو لم يجد به سعادة لما لقي منه ثوابا، وبذلك - بذلك وحده من دون كل الوسائل الأخرى - تصبح السعادة عملا من الأعمال يمكن أن يمارسه الإنسان فيسعد ما شاء الله أن يسعد، ثم تكون الحياة على ذلك واجبات يقضيها، فإن تحققت أو لم تتحقق فإما دخلت على نفسه بسرورها، وإما خرج منها بعذره وقد أبلى عذرا.
ومتى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجبات يتنجزها ويستقضيها من نفسه، فما ثم لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يدي المصطلي؛ لا يراد منها إلا حرها، ولا يطلب من حرها إلا قدر معلوم، ولا يبتغى هذا القدر إلا مدة بعينها، ولا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يصلح أو يدفع الأذى، لا سرف في كل ذلك ولا هوان ولا مضيعة.
قال «الشيخ علي»: ولكن كل شر العالم يا بني في لفظ واحد هو طغيان الحواس، وبمعنى واحد هو إذلال العقل، ولغرض واحد هو هذا الموت الأدبي الذي يسميه المغفلون سعادة الحياة.
منذ طغت الحواس أصبحت الحدود بين مطالب الإنسان من فضائله إلى رذائله ولا أثر لها؛ لأن الشاطئ لا يعرف تحت السيل إذ طم عليه،
7
فما أنت ولا أنا ولا أحد يدري ما هو حد الكفاية في رغبات هذا الإنسان وأهوائه، بل صارت هذه الكفاية وما ينطوي تحتها من ألفاظ القصد والقناعة والرضا وما إليها؛ ألفاظا خيالية يساير ظلها ظل الإنسان، فلا حد لها ما دام هو لا يثبت لنفسه حدا، ولا تتأخر ما دام هو يتقدم، وأصبح أكثر الناس في رغباتهم الخيالية وما يعملون لها مدة الحياة كرجل ائتلى
8
أن يخط دائرة مركزها ليس في محيطها، فكلما رسم دائرة رأى المركز في داخلها، فيجتاز به وراء المحيط، ثم يدير يده فإذا واحدة أخرى تقاطع الأولى، ولم يصنع شيئا صحيحا مما يحاوله، ويمضي على ذلك ما شاء الله ولا يصنع شيئا، فلا هو يخطئ رأيه، ولا هو يرى من عمله شيئا صحيحا؛ وما بقي من الأرض فضاء لم يخط عليه بعد فهناك ... هناك يرى هذا الأحمق الدائرة المتوهمة التي يخرج مركزها عن محيطها!
من هذا ونحوه أصبحت السعادة وهما من الأوهام؛ إذ لم تعد في إشباع العواطف وتغذية الشعور، وليست في موضعها الذي هو بين الضمير والعقل، ولكنها في إشباع جسد لا يشبع ما دام حيا، وفي تغذية حاسة لا يزيدها الغذاء إلا شرها وضراوة، فلن تكتفي إلا إذا بطلت، وفي موضع مجهول بين هذه الحواس لا حد له إلا كالحد بين ما يجد المعدم وما يتمنى؛ فالسعادة على ذلك هي دائما في الاستعداد للسعادة، وكفى بهذا عبثا!
ولعمري ماذا تكون الحياة، بل كيف تكون؟ أليس يعلم الإنسان أنه سائر إلى الموت، ويعلم كذلك أنه طالب ما لا يموت؟ فلا جرم كان شعوره بهذا التناقض مؤلما، وكان هذا الألم هو منشأ الهموم التي لا تدعه لنفسه ولا تدع نفسه له، وكانت حقيقة هذه الهموم التي يجمعها كلها هي شعور الإنسان - شعورا فطريا جرى منه مجرى العادة - بالمنازعة بين ما يطلبه هو في الحياة، وبين الحقيقة التي تطلبه هو من الحياة - أي الموت - ومن ثم يضطرب كيانه العقلي، فيؤثر كل شيء في نفس هذا الإنسان تأثيرا أكبر من حقيقته؛ لأن حقيقة هذا الإنسان لم تعد في نفسه بل في مطامعه، فهو يا بني كالوعاء المثقوب، تصب فيه البحر ولا يزال فارغا! والحياة عنده دائما هي طلب الحياة، وكفى بهذا عبثا!
ولا تحسبن أنه لا يبالي بما مضى من عمره، بل هو يستشعر فوق ذلك الخوف من أن يكون الذي مضى هو أكثر العمر وأطيبه؛ ولذلك لا يبرح شقيا بما يحاول، إذ يحاول أن يجمع طيبات الحياة، ويستحوز عليها في القليل من عمره، ليستمتع بها فيما وراء ذلك، كأن الحياة التي قوامها من الغذاء لا تفارق الإنسان ما دام الغذاء في بيته، وكأن الله يبيع المستقبل لمن اجتمع له من الدنيا ما يتوهم أنه يقوم ثمنا للمستقبل.
لا يبرح هذا الإنسان شقيا، وهو أبدا من الهم والغيظ والتوقد واشتعال الأمل والاضطراب في أسباب الحياة كالسكة المحماة؛
9
يحسب ذلك من نفسه قوة وفضلا وسعة في الحيلة، ولا يدري أن هذه النار المشبوبة في صدره تقطع منه أكثر مما تقطع به، وأنها كما تعطيه قوة المضي في هنات الحياة وهيناتها، تعطي الأقدار الصلبة مثل هذه القوة عليه؛ فلا تكاد تصدمه من أي أقطاره
10
حتى يتثلم ويتفلل.
وهل تحسب مثل هذا يكون عداده في أهل السعادة، وهو من الحرص على الحياة يكاد يشم تراب قبره في كل حادثة تلم به، ولا يزال يصلب على كل باب من أبواب الأيام حين يفتحها الصباح وحين يغلقها الليل، ويرمى بالنبل المسموم من فضوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميره كل يوم قتلة الكذب والغدر والإثم؛ لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟
وما ظنك بسعادة أولها حب النفس وآخرها بغض الناس؛ ومن مقدماتها منازعة الفرد للمجموع، ومن نتائجها منازعة المجموع للفرد، ومن مبدئها درس الشر علما، ومن غايتها مزاولة الخبث عملا، ولها اسم السعادة وفيها معنى الشقاء، ومن شروطها على صاحبها أنها لا تمتعه إلا بما يمله، ولا تتبرج له إلا فيما لا يناله، ولا تظهره للناس أبدا إلا ليروا فيه رذيلة من الرذائل، ثم لا تكون مع ذلك في موضعها إلا كالفقر في موضعه؛ هذا يوازن بين نعم السماء التي تنزل على الضمير وبين هموم الأرض، وتلك توازن بين هموم السماء التي تنزل على الضمير وبين نعم الأرض، وآخر أمرها أن لا يعرفها صاحبها إلا على الضد مما يعرفها الناس، فهم يسمعون لها الأصوات العالية من الأمر والنهي والجاه وما إليها، وهو يعلم أن هذه الأصوات لم تخرج منها إلا لأنها كبيرة فارغة.
قال «الشيخ علي»: وبذلك يا بني خسر الناس لذة الحياة، فلا أدري أهم بشر أم آلهة ؛ لأني أرى كل حي كأنما يريد أن يرم صدعا في الكون، وأن يصلح من هذه الدنيا ونظامها ما لم يصلح له، ولماذا؟ لأن الدينار الواحد نواة ذهبية، ولكن هذه النواة لا تخرج لكل إنسان نخلة من الذهب.
ولماذا أيضا؟ ولأن أكل هذه النخلة حين تؤتي أكلها لا يكون إلا مرا.
ولكن أليس في الأرض غير المال ما يمكن أن يستلذ وأن يسمى نعمة؟ وأين هي تلك السوق التي تعرض فيها النعم الهنيئة، ويقف على جانبيها ملائكة الله يبيعون بالدرهم والدينار؛ يبيعون المريض من أولئك الأغنياء عافية، والضعيف قوة، والحزين مسرة، والخائف أمنا، والفزع اطمئنانا، والهرم شبابا، والمهزول جسما رويا، والميت رجعة أخرى ...؟
ألا فليعلم الإنسان أن هذا العالم لا يصلح على غير ما هو عليه وما لا بد منه لنظام الحياة، فسيأتي إن خيرا وإن شرا؛ فكلنا يسمي الصعاب التي تعرض له في طريق الحياة عقبات؛ لأننا لا نبصر ما وراءها، ولا نعرف في أي موضع تقر من نظام الحاضر أو نظام المستقبل، وهي لو تعلمون وسائل لما بعدها، فما تراد لنفسها أكثر مما تراد لغيرها، وهي بأن تكون مقيدة بهذا أحرى من أن تكون مقيدة بذاك، ورب صخرة حالت في طريقك لتلفتك إلى هاوية من ورائها، أو لتتقي بها عدوا يدلف إليك من ورائك!
والأعرج الذي يتأبط سناده
11
ويتخذ منه رجلا تبدأ من الكتف، لا يكاد يعرج بضع سنين حتى يستفيض صدره ويكتنز عضله ويتفتل ويصبح لحيما بادنا، كأنما جمع في زنده حجم يده إلى حجم رجله التي رمي فيها، وكان مرهفا دقيقا متهدم الصدر بارز الأضلاع خاوي العروق ممسوحا في جملته، ثم أنت لا تراه إلا ساخطا متبرما يكاد يتحطم غيظا، وهو يلعن سناده وما حمل ... واليوم الذي حمله فيه، والسبب الذي حمله به، ويرى كأن العرج هو الذي قطعه عن شأو المعالي وكان سباقا، ويظن عند نفسه أن هذا العرج قد جعله في مشيته الممثل المضحك على مسرح الحياة!
ولا كل هذا يا رجل؛ فهل نسيت - ويحك - أن السعال كان ينفضك نفضة الموت، وأن البرد كان قد اتخذ من أضلاعك سقفا يأوي إليه، وأن الأمراض لم تبرح ترميك آونة بعد أخرى كأنها تلين عظامك القاسية للضجعة الأخيرة، وأنك كنت لا محالة هالكا تنفث رئتيك من شفتيك، وتبصق روحك تحت رجليك، وأنه لولا الداء الذي يسمى العرج لهلكت بالداء الذي يسمى السل؟
12
هذه واحدة يا بني، وما من واحدة إلا هي أختها، وحكمة الله لا تختلف، بل هي هي في كل شيء وإن كنا لا نعلم، وما خلق شيء عبثا، فتعالى الله الملك الحق. ولقد أعرف أن ما لم يقض لي فهو مقضي لغيري، وأنه لا بد أن أذهب في هذه الحياة بقسط من مصائبها؛ لأنه جزء من نظامها يتوقف على وجودي ويتوقف وجودي عليه، وهل أنا بدن يملأ الأرض، ورأس طبق السماء، فيكون الفلك عمامتي، والقضاء غمامتي، وكل خير لهامتي؟ إن أنا يا بني من هذا الناس في أقدار الحياة المكتوبة إلا كالجندي في العسكر، نصبته الحرب آلة حية تحركها الألفاظ والإشارات من حيث تأتي؛ فهو يندفع إلى الموت ويشوي من لحمه على النار متى أرادت خطة الحرب أن تنبعث وتتحرك، وإنما هو بجسمه وروحه وعقله نقطة صغيرة في خط صغير من خطط كثيرة مثله رسمت بها فكرة أمير الجيش على صفحة الميدان؛ فليس للجندي أن يسأل عند الحركة: لماذا ...؟ إذ هو لا يجد عندئذ من يقول له: لأن ...! ولكن متى أزفت الآزفة وحقت النهاية بالنصر أو الهزيمة، رأى العمل الذي وراءه كأنما انقلب أحرفا وكلمات يستوضح منها فكرة القائد كما رسمها!
قال «الشيخ علي»: ومن الأسئلة في هذه الحياة ما يولد حين يموت جوابه كما رأيت،
13
فهو حمق من السائل ومضيعة؛ لأنه لا جواب عليه، وربما اعتده الأحمق معضلة من المعضلات، وكد ذهنه فيه، وقصر همه عليه، وجعل يلقى به الناس ويفتح له الأحاديث، وذلك سخف لا يوجد به الجواب الصحيح ولكن يضيع فيه السائل؛ إذ يستنفد من وسعه وعمله وحيلته، ثم لا يرد عليه من كل ذلك سوى الخيبة، وهذا - أعزك الله - سر من أسرار ضيق الناس بالحياة وتبرمهم بأقدارها ؛ لأن أكثر أعمالهم وآمالهم من جنس ذلك السؤال، فما أقل من ينتهز من يومه قبل أن يذهب يومه، وما أكثر من يريد غدا قبل غد!
ولكأني بهذا الإنسان يود لو أسرع الفلك في دورته، وجعل يرتمي به المرامي البعيدة لينهب ما في الغيب نهبا، ولينال الممكن كله وشيئا من المستحيل أيضا؛ فيحيا بعد ذلك حياة طيبة عذراء لا تلد لياليها من مواليد الغيب قليلا ولا كثيرا.
دونك آمال الناس فانظر هل تجد في هؤلاء الحمقى من يصب آماله إلا في قالب يسع ضعفيها على الأقل، وهو يحسب أنه بتوسيعه لها يخفي جانب الاستحالة فيها، ولا يدري أنه يخفي جانب الممكن المعقول أيضا! يصبها في قالب التمني، وما موضع التمني في عالم الحس وفي هذه الحياة الأرضية التي لا تزال تضرب جيلا بجيل، وتدفن قبيلا بأيدي قبيل، ويهملها الإنسان في الكثير وهي لا تهمله في القليل؟ وهل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا وما تريد أنت وما يريد فلان، إلا كما يتمنى كل إنسان من هؤلاء أن يكون غير نفسه، وكما يتمنى الطفل حين يجيب معلمه خطأ ويعلم أنه أخطأ؛ أن يكون الجواب حقيقة كما أخطأ؟
وقد يقال إنه ليس في العلماء أحمق ممن يكد ذهنه في ابتكار جواب غريب لمسألة لا تقع لإنسان ولا يحتاج أحد إلى جوابها؛ فكذلك لم أر في الجهلاء أحمق ممن يسأل الحياة سؤالا لا جواب عليه، أو لا يفهم الجواب عليه؛ كل ذلك حمق، وكل ذلك سخف، وكل ذلك عبث وباطل، ولكن يا أسفا على الناس! كل ذلك أيضا من مذاهب الحياة، وكل ذلك من الواقع!
فالناس من بين طامع جريء إن نفعته الجراءة ذهب بمنفعتها الطمع، وقانع ساكن إن أفادته القناعة ذهب بفائدتها السكون، ومتحيل على الغيب يستجمع له والواقع قد نفذ فيه، ومتبرم بحاضره يبني على السماء والأرض تهدم منه، وقليل من الناس المؤمن الوثيق الذي يشعر بقوة الله في كل ضيق؛ فإن لم ينصره الله على الحياة لا يخذله فيها ، وتراه لا يشك فيما يعرف ولا يريد أن يعرف ما يشك فيه، وهو يعلم أنه ليس شيء من المصائب والنعم يمكن أن ينزل في غير موضعه المهيأ له؛ إذ ليس في هندسة الله مكان مختل،
14
وأن النعمة الصحيحة ليست في لذات الإنسان الحي ولكن في حياة هذا الإنسان؛ إذ الحياة الصحيحة هي التي توجد اللذة، وأن القوة التي تسمو بالحياة حتى تسخر لها الطبيعة تسخيرا إنما هي قوة العقل، فإن وهن العقل صارت الحياة طبيعية حيوانية لا لذة فيها مما خص به الإنسان دون الحيوان من روح الله، بل تكون اللذة كل اللذة هي فقدان الألم أو إطفاءه إن تسعر.
15
وتالله لو أفرغت طيبات الدنيا في جوف هذا الحيوان الإنساني الذي وصفت لك ممن يسمونهم الأغنياء والمستمتعين وأهل الحظ والهناءة؛ ما زادت في لذته على ما يكون من إفراغ حقل من البرسيم في جوف حمار!
قال «الشيخ علي»: وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها، ويذهب باحثا عن حقيقة الحياة.
ويا عجبا للناس! كأنهم ملكوا الأعمار، وضمنوا لأنفسهم دولتي الليل والنهار؛ فقلما يفكر أحدهم إلا في زاد الدهر البعيد والحياة المتطاولة والأمد الواسع، وهو لا يرتاب في أنه لا يعيش غير عمر واحد محدود، ولكنه لا يدري أنه يحمل على نفسه من تلك الأطماع شقاء بضعة أعمار طويلة عالية السن، ويسوقها بين يديه ظالعة عرجاء تطلب السعادة في طريق لا آخرة له، فهي تسير لأن بين يديها غرضا ما ينفك ماثلا على بعد منها، ثم تنبعث لأن الطريق لا تنتهي، ثم تقف عاجزة لأن الحياة قد كلت، ثم تقع وما بها حركة لأنها انتهت إلى الحفرة المجهولة التي تنشق تحت قدمي كل إنسان في الساعة التي هو رهن بها، ولو كان طريقه في النعم واللذات على وادي الجنة بين الشمس والقمر!
كل شيء هو ما شئت أن تتوهم، ولكن الحياة هي الحياة: هي الحقيقة التي تريد أن تعرف، والمدة التي تعمل على أن تنقضي، والمعنى الذي تطير حوله الأقدار وتقع لتلفت الناس إليه؛ هي الحياة التي لا تتسع لأكثر من قضاء الواجبات، ولا تحمل جسدها إلا ريثما نبليه، واسمها الحياة ومعناها النجاح، وهي الحياة لا المال، والحياة لا الشهوات، والحياة لا المطامع، وإنما قيمة الحياة فيما تذهب فيه لا فيما يذهب بها؛ فكل لذة لا تجد لروحك أثرا فيها لذة ميتة، وحقيق بك عندها أن تحسب أن شيئا من عقلك أو من فضيلتك قد مات فيها.
16
ولقد نقلوا في أساطير الأولين عن «ميداس» أنه بلغ من فرط الغنى أن لا يلمس بيده شيئا إلا استحال ذهبا، فأرادت آلهة الخرافات أن لا ينخدع الناس فيه ولا يسحر أعينهم أو يسترهبهم، وأن يعلموا أنه إنسان، وأن فرط الغني مثلة به، فمسخ «أپولون» أذنيه فكانتا أذني حمار، ولعل فرط الغنى يا بني لا يكون في الأعم الأغلب إلا مع هذه الآذان! وما أملحها نادرة وأبدعها إشارة وأحكمها ملحة! فإن كل ما في الحمار لا بد منه لتكوينه حمارا سويا، إلا أذنيه الطويلتين،
17
فلو حملهما إنسان كميداس رزق غنى الحيوانية، فهما برهانان على أنه ليس بإنسان صحيح، ولم يستطع أن يكون شيئا حتى ولا حمارا من الحمير.
وأي شيء هذا الغني الذي يأكل ويتمتع ولا يرتعي من لذات الحياة إلا الخضراء الناضرة، وقد سلط على هلكة ماله أو سلط ماله على هلكته،
18
فإن ذهبت تعتبره إنسانا لم تر فيه من الإنسان إلا النصف الأسفل.
أهو حيوان؟ فأين عمله الطبيعي إذن؛ فإني لا أرى هذه الحيوانات
19
كلها إلا عاملة لنظام الطبيعة كما تعمل الطبيعة لها.
أم هو إنسان؟ فأين عمله الاجتماعي الذي يسني منزلته إذا أصبح الناس على منازلهم، وأين الحد الإنساني الذي يصله بمجد الماضي، أو يدل عليه في عمل الحاضر، أو يلحقه بأمل المستقبل؟
إن الطبيعة يا بني لا تغفل خطأ ولا تنسى مذنبا ولا تصفح عن إساءة، ولكنها تضرب بيد ألطف مسا من الهواء وأخف موقعا من الضوء، على حين أن صفعتها زلزلة لا يقوم لها بناء حي؛ فلو أن مثل هذا الغني قد أعطي معدة حمار أو أعصاب بغل أو قوة فيل أو نحو ذلك؛ لتم تمامه بالمال، فوجد في هذا المال مسد حاجته كيف مست، غير أنه أعطي شره الحمار دون معدته، وأعطي في هذا الباب من البغل والفيل، وغير البغل والفيل دون ما يحمل ذلك وما يبعث عليه، فكأنما مسخ من باطنه مسخا، على حين أن طبيعته الإنسانية لا تخلو على هذه الأبواب من هذه الشهوات،
20
ولا تصلح بها ولا تطعم فيها من الحياة، وقد حدثوا عن امرأة من ذوات النعمة الفاشية في أمريكا اتخذت كلبا، فوقع منها بموضع محبة شديدة، فاستصفته وتحفت به وذهبت كل مذاهبها في ترفيهه، وفتحت عليه من دنياها العريضة، فنصت له السرير، وفرشت له الحرير، وأبدلته سماع الموسيقى من سماع الهرير، ومنعته العظم يعالجه ويقرضه، وحرمته على الجوع يقعده وينهضه، وما زالت به ترأمه وتحنو عليه، فإذا هو يذوي ثم يضعف ثم يمرض ثم هلك؛ وكانت المرأة كأنما تقتله بالنعمة شر قتلة، وتصب عليه العذاب صبا من ألوان ذلك النعيم؛ فكيف بصاحبنا الغني حين تبالغ الطبيعة في ترفيهه على ما يشاء له الهوى من سنة الحمار والبغل والفيل وجماعتها، كما بالغت صاحبة الكلب في ترفيه كلبها على سنة الإنسان؟
قال «الشيخ علي»: الحياة يا بني مدة، والمدة ضائعة لولا العمل، والعمل على مقدار المنفعة، والمنفعة بآثارها، وهذه الآثار هي تاريخ الحياة؛ فالأحمق الشره الذي يعيش مقبورا في بطنه، والغني اللئيم الذي يعيش مقبورا في خزانته، والفاسق العاهر الذي يعيش مقبورا في رذائله ومخازيه، والدنيء السفلة الذي يعيش مقبورا في جرائمه وآثامه؛ كل أولئك لا تاريخ لحياتهم ولا حياة لتاريخهم، فهم أناس خلقوا بخصائصهم لتمثيل ألوان العذاب وأصناف العقاب، يقع ذلك عليهم من الله ثم يقع منهم على الناس، وإنما يعان المخذول منهم على احتمال أمره بما هو فيه من الغرور وما يطوع له، وما كان الغرور وصاحبه في عاقبة الحياة ورجع الأمر إلا كرجلين من الحمقى ضمهما طريق فاصطحبا، ثم أفضى بهما السير إلى جبل قطع عليهما، فقال أحدهما لصاحبه: إني أراك شديد الأسر قوي البضعة، وما أرى إلا أن تحمل هذا الجبل وتلقيه بعيدا من هنا، فلا مذهب لنا إلا من ورائه. قال له صاحبه: أما إني كما وصفت، وإن بي لقدرة على حمله، فما عليك أنت إلا أن تضعه على ظهري!
21
فلا الحامل أطاق فحمل، ولا المعين استطاع فأعان، وإنما هما كحماري العبادي الذي قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا.
وهكذا يعين الغرور على طلب الدنيا، ويزين للمغرور فلا تراه أبدا إلا على زينة من أمره،
22
حتى تذهب الحياة في باطل كالحق أو حق كالباطل، فإذا حسم الموت عنه مادة غروره وجاءه باليقين الذي لا مرية فيه، قال: ويحي! لو رجعت لعلي أعمل صالحا فيما تركت! وآه لو عرفت حقيقة الحياة قبل الموت، أو عرفت حقيقة الموت وأنا بعد في الحياة!
أيها المغرور! ما أراك إلا دائبا في طلب الحياة حتى تفقدها من شدة الطلب، فلا تكاد تستوضح ما هي؟ فإياك وإياها، لا تأخذ معنى الحياة من نفسك؛ وإن لنفسك أغراضا حية تريد أن تكون هي الحياة، ولا من الناس؛ إن فيهم أغراض نفسك، ولا من مدة عمرك؛ فإنها لا تبلغ طرفة واحدة من عين التاريخ.
ولكن أعد نظرا على ما وراءك، وخذ معنى الحياة من ستة آلاف سنة عرفت من تاريخ الحياة نفسها،
23
ثم من عمر الأرض كله، ثم من تاريخ الموت المجهول أوله وآخره؛ خذ معنى الحياة من هذه الأفواه الصامتة التي لا تكذب لأنها تحفظ الحقيقة الإنسانية، من هذه القبور التي تملأ الرحب، من هذه الهاوية التي ينصب فيها فراغ الحياة دائما دائما؛ لأن تحتها مجرى التيار المتدفع من النهاية الأرضية المعروفة إلى الأبد الذي لا تعرف له نهاية. خذها من هذه الكلمة التي وضعتها السماء للأرض، هذه الكلمة الأزلية التي تحقق الإخاء والمساواة في الناس جميعا بلا شذوذ ولا تأويل، الكلمة التي يكون القبر زاوية في معناها، كلمة الله - عز وجل - في قوله تعالى:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك .
أيها المغرور! خذ الحياة حقيقة لا وهما، وعملا لا علما، واسمع للحياة إن كنت تعرف لغتها، أو اسمع للموت الذي يعرف كل إنسان لغته؛ فإن كل ذلك يعلمك أن الرجل الحر لا يعرف على أي حالة يعيش إلا إذا قرر لنفسه على أي حالة يموت، وأن الحياة ليست في الوجه الذي توجد عليه من الغنى إلى الفقر، ولكن في الوجه الذي تنتهي عليه من العمل الصالح إلى العمل السيئ، وليست في ترفيه الحواس الغليظة ولكن في النفس والضمير: الضمير النقي، لثواب الدنيا وجمال الحياة ولذة الخير؛ والنفس الطاهرة، لثواب الآخرة ونضرة الخلود ورحمة الله.
قال «الشيخ علي»: فلا تسأل يا بني ما هي الحياة؟ ولكن سل هؤلاء الأحياء: أيكم الحي؟
هوامش
الفصل السابع
سحق اللؤلؤة
قال «الشيخ علي»: وإني محدثك الآن حديثا يشفي نفسك من الخبر، ويفتح عليك أبوابا من العبرة والموعظة، ويحضرك طرفا من الدنيا بأقداره وعلله ومذاهب حكمة الله فيه كأنما أنت شاهد أمره؛ فلتعلمن أن في المال مشغلة عما سوى المال، وأن الحرص عليه حق الحرص لا يداخل أمرا من أمور الحياة فيعترض بين ورده وصدره إلا ساء أحدهما أو كلاهما،
1
وفسد الأمر، فعسى أن يتصل بما هو أجل منه خطرا وأسنى منزلة، فلا يكون ذلك الحرص إلا مضيعة، ولا تكون الرغبة فيما يستخلف إلا سببا في ذهاب ما لا يستخلف.
ولتعلمن أن المال شيء غير الحياة، وأن الحياة شيء غير المال، وأن ما يختدع الإنسان فيتلون له من سراب هذه السعادة إنما يكون أكثر ما هو كائن من بريق المال يحسبه شيئا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وعسى أن لا يكون فيما أقبل من نعيم الدنيا إلا ما يدبر بصاحبها، وأن لا تصيب فيما زوي عنك من حظها إلا ما يقبل بحظ نفسك على نفسك.
ثم لتعلمن أنه إن كانت للقدر فترة عن رجل من الناس فقيرا أو غنيا أو بين ذلك، فما هي غفلة ولا معجزة، ولعل الرجل إنما يمد له في الغي مدا طويلا، حتى إذا جاء يومه انفجر عليه بما لا يطيق له سدا ولا يستطيع له ردا؛ وأنه رب كلمة تعارف الناس معناها وأجروها على مذهبها في كلامهم، فإذا هي نزلت بعض منازلها من الحياة كان لها معنى آخر لا تفسره إلا الحياة نفسها، ثم لا تفسره إلا على ضد مأخذهم ومقصدهم؛ فيقول الناس: «فلان الأمير.» ومعنى ذلك فيما نراه من حوادث الحياة وأقدارها فلان النذل، ويقولون: «هذا الغني.» ومذهب الحياة أنه الشقي بغناه، وفلان أعزه الله وإنما هي أخزاه الله بعزه، ويحسدون فلانا إذ يرون أن الله - عز وجل - قد مكن له وآتاه من بسطة المال والجاه، فهو يستعد للحياة بأفضل عدتها، ثم تقع الواقعة ويتغشى فلانا هذا ما شاء الله من الحوادث والأقدار، فإذا هو إنما كان يستعد للموت بأقبح عدته!
ولتعلمن كذلك أن الغاية من هذه الحياة كمال الحي في جسمه ونفسه، فإن تم بالفقر فذلك غناه، وإن نقص بالغنى فذلك فقره، ولا شأن لاصطلاح الناس فيما هو خاص بين المرء وذات نفسه، وهذا معنى بسطته لك آنفا ولكني متلقيك بمثاله من رجل وامرأة، ولا عليك أن لا تسمع حديثا عن الباشا و«هانمه»، أو أبي زيد وأم الخير، ولا علي أن أجيئك بالمثالين على باخرة
2
أجعل ذلك من صرف الكلام وتزيينه،
3
وما بلادنا من هذه المخازي بمنتزح، ولكني أردت إمتاعك من لذة الحديث على مقدار إمتاعك من حكمة الحادثة؛ والكلام عن رذائل الحياة في بلادنا هذه كلام غث يتجافى عن الرقة في أكثر مناحيه، وإذا وجهته إلى أكثر قومك فإنما أنت تشتمهم به أو هم يتلقونه من هذه الجهة، ولا مناص أن تقع بك ظنة السباب وإن كنت واعظا، ويقال عاق وإن كنت برا، وغاش وإن كنت من الناصحين.
الرجل البخيل
أما فلان هذا فهرم بخيل، لو مسخ حجرا لتحطمت من غيظها الأحجار، ولو كان على بخله حديدا لما لان الحديد في النار، ولو صوره الله طينا أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا «التراب» إلا من ثياب أهل الفقر.
وهو نبي أمة البخل، أما معجزته فهي قدرته على أن يستنبط غير المألوف من المألوف، ويستغل الصفر فيخرج منه ألفا إلى ألوف، وإنه على ذلك لآية، فما رآه المؤمنون إلا قالوا: اللهم غفرا. ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتوا وكفرا.
وكم تمنى وهو يتهالك حرصا أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال: ويلك دع عنك. وإذا علم أنه سيعطى كتاب أعماله في الآخرة، قال يا ليت صحفه من «ورق البنك»!
على أن درهمه في أيدي الناس هم، واسمه في أفواههم سم، وكم لأمواله من قتيل، فمن «استلف» فقد ذهب به التلف، ومن اقترض فقد انقرض! وكم من بائس قشعت غمامته، ثم غالت هامته،
4
وقضت دينه، ثم أبكت عينه؛ فوالذي نفسي بيده إن دراهم هذا الخبيث لتعد من اللصوص، وإنها للئيمة على العموم، أما هو فلئيم على الخصوص؛ يرسل الدرهم في يد المحتاج فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الملتهب فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره؛ ولو كان مخلوقا يوم عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غني كريم أنه «صراف» في خزانة الله، فجهد القول في هذا اللئيم أنه لص الخزانة!
5
وهو على غناه كأنه في الناس بؤس المفلس في القمار، وكأنه لحقارته ذيل الحمار؛ إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه فكأنهم نكروه، وإذا قضي عليهم أن يسموه فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجع الأظفار، وذنب بلا استغفار، اللهم قنا عذاب النار!
أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله ، كصدأ ذلك المخزون من ماله؛ وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجئ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما يعتري المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد؛ وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو اطلع عليه الفجر لهرب؛ وأما روحه الخفيفة فلو بعثت في خلق آخر لما كانت إلا بقة صيف في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالكنز المختوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.
وأحسب لو رسمه أمهر المصورين فأبدع في خططه
6
وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه،
7
وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقة؛ لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا تصلحه إلا يد الشيطان الرجيم، ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم. ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر بهما في الصورة معنى فقره وغناه؟
ولست أطيل في القول، فما أنا ببالغ من القول بعض صفاته، وهيهات أن يصفه على الحقيقة إلا من يعلم لغة الملائكة، فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته. •••
قال «الشيخ علي»: ذلكم هو «الكونت فيكتور»؛ رجل أملق أموال الناس وزادها في ماله، وجمع بين سوء حمل الغني وسوء حمل الجاه، وعرف النعمة ونسي المنعم بها، فكأنما فتح الله عليه من هذه الدنيا، ومكن له في أبوابها، وأفشى جاهه ونعمته على ما ابتلاه به في خاصة نفسه من المحق؛ ليجعله واحدا من أولئك الذين يخرج للناس من تواريخهم قصصا في الأخلاق محكمة السبك، في نسق التأليف الإلهي المعجز الذي يأتي بالحادثة إلى موضعها حية وميتة، وينزل الكلمة في مستقرها من الموعظة، ولو أن فيها ذهاب نفس وإدبار نعمة، ويدير المثل والفلك بأسلوب واحد .
وقد أسند هذا الرجل في حدود السبعين وكادت تحطمه السن، ولا يزال متأبدا
8
لم يستر سقف بيته امرأة، ولا ضحكت الشمس فيه على وجنة طفل يتبسم، وقد نشأ على أن حب المال لا يستقيم إلا ببغض النساء؛ لأنه أكثر ما يجمع لهن، وأكثر ما ينفق عليهن، ولا يرى المرأة إلا أنها «ثورة مالية»، «وسوق في البيت» و«أزمة يحتال الرجل للخلاص منها بالوقوع فيها»، ويقول إنها منذ أكلت من الشجرة الملعونة في السماء جعلت الرجل شجرتها الملعونة في الأرض، فهو ما عاش ينبت وينمو، وهي ما عاشت تحصد وتأكل. وقال مرة: إن الرجل لا يزال عقلا حتى يتزوج، فإذا هو فعل فقد صار من زوجه وأولاده سلسلة بطون. فقيل له: ولم لا يكون يومئذ من زوجه وأولاده سلسلة عقول؟ قال: إلى أن يصبح أطفاله القدماء رجالا يكون هو قد صار طفلهم القديم!
وجاءه يوما سمسار يساومه في أرض له، وجعل يراوغه ويترقى إلى خديعته بما أوتي السماسرة من خبث ودهاء، ويقبل به مرة ويدبر به مرة، والكونت في كل ذلك يعبث به وينمي له،
9
ثم صرفه على طمع كاليأس، فلما ذهب مدبرا قال: ويحي! لو أن هذا السمسار كان امرأة جميلة إذن لأدارني في يده كما يرقص الدينار على الظفر؛ فالحمد لله إذ خلق النساء على نظام رحيم، فجعل في هذا الشر المحتوم موضعا للهرب!
ولما بلغ الخمسين - بعافية من الله - قال: أحسبني لو كنت متزوجا يوما فإن امرأتي في هذه الساعة تلتقم ثدي أمها؛ فسأنتظر حتى تصلح لي! فأجابه بعضهم: وحتى تصلح لها أيضا!
وتواصفوا عنده الجمال مرة، وأفاضوا في حديث النساء والنعمة بهن - وقد تعالم الناس ذلك البغض منه - فلما أضجروه قال: حسبكم يا قوم، ما أراكم إلا تخلقون إفكا؛ إن هذه المرأة في حقيقتها غير تلك المرأة في وهم الرجل، فهي هي حتى يبعث عليها وهمه ويصبغها بألوان نفسه وتستضيء به، فكأنها منه أمام الفانوس السحري! إن المرأة خصم عنيد لا يقتل بالغضب ولكن يقتل بالضحك، وشر ما فيها أنها إن لم يكن منها قتل فليس معها حياة.
10
تقولون إن الرجل محتاج إلى المرأة! فقد كان ذلك أيام كانت المرأة كأنها في عملها للرجل رجل آخر؛ فتلك حاجة اليد إلى اليد، وحاجة الظهير إلى الظهير، ولهي مناقلة طبيعية في الجنسين بين قوة تحتاج إلى ضعف يخفف من سورتها، وبين ضعف يحتاج إلى قوة تشد منه؛ فلو كان للعالم كله رجالا إذن لطالت أنيابهم كثيرا، ولما وجد على الأرض من يخترع مقصا للأظافر!
أنا لست أنكر أن المرأة شيء طبيعي، وما هي بهولة من الهول
11
ولا مسخ من المسوخ، ولا أنا آسف على خروج آدم من الجنة بذنبها؛ فإني رجل اقتصادي، ولقد كان من هذا الذنب رأس مال كبير، فإياكم وإياي، لا تظنوا أني أكابر أو أماري، ولا تحسبوني جلفا يكره الجمال، ويريد أن يكون للمرأة بديلا من رأسها النحيف المكلل رأس جاموسه، وبدلا من يدها الرخصة الناعمة ظلف بقرة!
12
حسبكم يا قوم - حسبكم الله - لا أطيق هذا العبث بي، ولكني أسمعكم تقولون المرأة، وتصفون المرأة، ولا أرى المرأة نفسها كما تحدثون وتصفون، بل أرى مخلوقة غريبة الأطوار في هذه المدنية، وأرى خرقاء إن لم يكن معها الإفلاس فلا أقل من أن يكون معها الندم أو الغيظ أو السخط، وربما كانت بلاء ماحقا يزف إلى الرجل يوم زواجه باحتفال، يخيل إليها من الفكر في المال أن الرجل هو مال أيضا، وتريد أن تتزوج، ولماذا؟ لأن المحراث لا يلتمع نصله إلا بعد أن يجدوا له الثور!
امرأة متأنقة لا تريد إلا أن تطلع الشمس كل يوم على زي جميل، ليكون لزوجها كل يوم هم جميل، ثم هي أحسن ما تكون حين تخرج من بيتها، كأن بيتها منخل لا يمسك منها إلا الحثالة!
إننا يا قوم لقاء المرأة لا تلقاء معجزة من معجزات الأنبياء، فنحن نستطيع أن نقول هذا خطأ فيها وهذا صواب منها، ولكنها على أي أحوالها لا تريد أن نكون معها أبدا إلا على حالة واحدة؛ تريد أن تشبه نفسها لأنها لا ترى أكمل من نفسها، أما الرجل فهو إذا رأى فيها نقصا ، فذلك عندها لأن عينه عين رجل، وتكاد أهدابها تكون من شعر اللحى والشوارب؛
13
فمن ههنا لا يرى الخبيث تلك الحسنات النسائية التي تترقرق من المرأة في كل شيء صافية جميلة كنور القمر.
ترى هذه المرأة أن كل حسن في أعمالها لا يكون إلا أحسن شيء، لأنها حسناء، ولكنها لا تقر أبدا أن كل قبيح في أعمالها ينبغي أن يكون أقبح شيء، ولماذا؟ لأنها حسناء أيضا!
هذه المرأة الجميلة قد ظنت عند نفسها أنها شيء مقدس؛ ولذلك لا تريد أن تعمل عملا كبقرة البراهمة، فيا ليت الرجل كان شيئا مقدسا أيضا، كعجل المصريين القدماء! ولكن البقرة المقدسة في المرأة لا تعرف العجل المقدس في الرجل!
يا هؤلاء، إنما الرجل مخلوق قوي، ولكن معظم قوته منصرف إلى حواسه، فمن ثم كان في يد المرأة ضعيفا؛ لأنها على ضعفها ينصرف ما فيها من القوة إلى عواطفها، فلا يلتقي الخصمان إلا كانت الهزيمة على الرجل، وقد كان لولا سفاه رأيه في منظر عن هذا ومستمع،
14
فما رأيت قط رجلا يهوى امرأة إلا اعتد سلطانه في أنه يشعر بسلطانها عليه، وكان رضاه في أنها راضية عنه، فهكذا هكذا.
جعل الرجل حاجته الكبرى في المرأة، وبالغ في توهم هذه الحاجة، وافتن في تصويرها ألوانا وضروبا؛ فجعلت المرأة حاجته إليها سبب كل حاجة لها، وبالغت في الطلب، واحتكمت فيما تطلب، وانصاع الرجل في يدها كالبهيمة السائمة، وجعله التمدن الفاسد في رأيها كآلة الساعة، علامة ضبطها وإتقانها «أن لا تقدم ولا تؤخر»! وإن تعجب فعجب أن هذا الرجل نفسه إذا هو كبحها مرة عن حاجة تطلبها، أرضاها بحاجة أخرى لم تطلبها؛ فكأن هذا المسكين إذا تعبد لها يأبى إلا أن يكون عبدا بشهود وأدلة. وتحسب المرأة اليوم أنها غير المرأة من قبل، وغير ما كانت حالها، كأنها رقى في التاريخ، فقد غيرت نفسها بالفنون والعلوم والأزياء، وبهذا التحكم الباطل وبهذه الدعوى الفارغة، وأنا أول المؤمنين أنها غيرت نفسها، ولكن هل غيرتها الطبيعة؟
15
أيها السادة، إن مع كلمة «هات » كلمة «خذ»، لولا كلتاهما لخربت الدنيا وتقاصرت الأمور والأحوال، وكل عمل وكل عامل يتركب منهما؛ فالدنيا كلمتان «هات، وخذ»، والحياة كلمتان «هات، وخذ»، والمرأة التي تصفونها كلمتان أيضا، ولكنهما «هات، وهات»!
قال «الشيخ علي»: ومر هذا الكونت في فلسفته يمضغها مضغ الماء، وربما أصاب شيئا، ولكن ماذا تنفع كلمة الحق يراد بها الباطل؟ وهذا رجل يتكلم كأنه ابن شجرة لا ابن امرأة! على أن من تعلق شيئا من أمور الحياة وكل إليه، وهو بعد لم يعرف غير المال يجمعه ويدخره، وقد خلقه الله رجلا ماليا، ويسره لما خلق له، وكثيرا ما رأى وجهه في المرآة؛ فكان يعجبه من منخريه أنهما في تفرطحهما «كحافري حصان الجنيه الإنجليزي»!
ولما استوفى عمر السبعين وأصبح في يبسه وموته كأنه جذر قرن من الزمن، خرج في عيد مولده إلى سواد المدينة
16
منحدرا إلى قرية يملكها، وانطلق يجتلي مناظر الطبيعة، فكان لا يرى في السائمة والطير والنبات والأزهار إلا شبابا وطفولة، وكان وحده منظر الهرم المستميت في هذه الطبيعة كلها، وأعجبته شجرة قائمة على مسيل الماء، وأعجبه أن يتفيأ ظلها وقد تحفى بروحه المتعبة بردها ونسيمها، فانطرح يتثاءب هنيهة وأحب أن يسافر إلى شبابه البعيد على مطية النور، فكبس رأسه على ذراعه فإذا هو نائم كأنما جرع السم، فخمده من فوره.
ورأى فيما يرى النائم كأن الأرض ترقصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها، كأنما أشرف على الأرض فجر يوم من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوء رطب يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فلقة القمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه «بردا وسلاما»، فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي تتخطى الغمام هابطة إليه، وإذا هي على الأرض نحوه مقبلة، وإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه؛ فارتجف جسمه رجفة شديدة كأن فيها شوق سبعين سنة من الهجر، وما لبثت عقدة أجفنه أن انحلت، فنظر فإذا يد فتاة قروية ناعمة تهزه برفق!
فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال، ولما تصح عيناه من سكرة الحلم، فكان يخيل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معا في طلعة هذه الفتاة وعلى غرتها، ثم كشف لها عن رأس كفروة الأرنب البيضاء، وانحنى متأدبا، وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي!
أما هي فابتسمت له، وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، وأنها لو لم تنبهه لما انتبه آخر الدهر، كأنما حسبته ميتا، وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالا كجمال الشفق إذا افتر عن نور الفجر.
وتأملها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحلم، وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوت عليه وتقلبت فيه؛ «وبعث عليها وهمه، وصبغها بألوان نفسه، واستضاءت به فكأنما منه أمام الفانون السحري!» وما خلق الله لذة أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يشعر المرء بالأماني كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تسلمها، فتكون ذكرى الحلم أروح للنفس من الحلم نفسه على الحقيقة؛ لأنها نتاج ما بين لذة لم تكن شيئا ولذة صارت شيئا.
وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراء العينين، ساجية الطرف، أسيلة الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانة ترف رفيفا، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتساما حتى لا يحسب من رآها أن الشمس طلعت يوما على أبدع من ثغرها واللؤلؤ، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعض ما يعتري الشحيح الذي يخبأ أنفس ذخائره في أخس الأمكنة وأقبحها منظرا، وفيما لا حفل به من الأداة والمتاع، فكانت «لويز» على ما وصفنا من الجمال والظرف، ولم تكن مع ذلك إلا قروية!
أما صاحبها فما أشبهه بعنق النس؛ شيخ مضعوف، كالعرق المنزوف، والعظم الملفوف ، ممسوح العضدين،
17
ناسل الفخذين، كأنما يتوكأ منها على عصوين، غير أن له عينا يتوقد فصها ويستنفض الناس طرفها،
18
فلا يملك من تقع عليه أن يضطرب، وكذلك اضطربت الفتاة، وما كاد الرجل يلمح اضطرابها حتى طبع الله على بصيرته، فحسب ذلك معنى من الغزل، وانطلق وراء خياله يمر به على آمال الشباب الفانية، وكان لحظ الفتاة ينساب في عروقه دما يغلي، فحسب أن جسمه قد ثاب إليه،
19
وأنه بعث خلقا جديدا لهذا الحب الجديد.
ويبالغ في التظرف ويجلس قريبا منها يستنبئها، وهي تطرف له من أخبارها،
20
فعلم من روايتها أنها شريفة النسب خالصة العرق، وقد نبا بها المنزل وانحط الدهر على أهلها، فهي ذاهبة إلى المدينة تلتمس حياة التقوى في دير العابدات، وعلمت هي من رؤيته أن في هذا الموت الماثل أمامها حياة، وأنه لا مذهب لها من ورائه إذا هي أفلتته إلا مذهب القدر المجهول، ورأته كأنما يتشرب لفظها ولا يسمعه، وأبصرت هواها في حماليق عينيه؛ فجعلت حينا تبسم له وتلحظه، وحينا تلحظه وتبسم له، وما تلفظ من أنه في بث حزنها إلا أحس المسكين أنها نقرة على أوتار قلبه، ولعل الإنسان لا يمكنه أن يحب إلا إذا هيأت له الطبيعة مجلس الحب على ما يشتهي، وعلى ما هو مذهب الحب في نفسه!
وقد مذعت له الفتاة من خبرها،
21
وكتمت عنه أنها طريدة منبوذة، استزلها فتى من عشيرتها على أن يتحللها وكان منها معقد فؤادها زمنا، ثم طوح بها عاره وغدره ولؤمه جميعا، فخرجت هائمة على وجهها، ولفظها قومها كما تطرح الثمرة إذا دب فيها الفساد من عبث الطير!
قال «الشيخ علي»: وانقلب الاثنان كلاهما صيد وصائد؛ أما هي فأصابت رجلا مجنونا بها يحبها حب الجد والأب والزوج والعشيق، فإن ثاب إليه عقله من جهة بقي مجنونا من ثلاث جهات، وحسبت أن الموت مصبحه أو ممسيه، فهو همها عشية أو ضحاها، ولقد كانت من الضائقة والعوز وشدة الاختلال بحيث لو عهد إليها أن تغسل الزنجي حتى يبيض لقاء درهمين لطمعت فيهما! وأما هو فقد ظفر في زعمه بالمرأة الطبيعية التي نبتت مع الأزهار، وطلعت في سماء الحياة مطلع ضوء النهار، وحسب أن هذه الفتاة التي تناهز العشرين إنما هي زيادة عشرين سنة في عمره ينتهبها من القدر انتهابا، ويقضي بها دين الحب طفولة وشبابا. ولست أدري كيف عزب العقل عنه، ولا كيف خذله رأيه، ولا كيف وهى ركن فلسفته وكان من قبل وثيقا، ولا كيف أحب منذ الساعة وقد كان يتصاون عن النساء، ويحسب أن بغضهن عقد لا يحله إلا من يحل عقدة نفسه!
ولكن الحب يا بني لا يكون عجيبا بلا شيء يعجب منه، وكثيرا ما يتملأ الرجل بغضا ليحب بعد ذلك بمقدار ما أبغض،
22
فمثله كمثل من يبحث عن البرهان بطريقة من طرق المغالطة التي لا تؤدي إليه، فمتى أصابه كانت قوة البرهان بطريقة استخراجه العجيبة أشد منها في البرهان نفسه.
وهي الأرواح ما يزال بعضها يتسلط على بعض، وما إن يزال في كل روح معنى هو الوسيلة إلى هذا التسلط ومنه مساغه ومأتاه؛ فلو قلت إن في مسلاخ ذلك الرجل معنى الحمار لما كان في الفتاة إلا معنى العصا، وكذلك انطلقت وهي تسوقه في طريق مصائبه، وعند العصا تفرغ حيلة الحمار، ولو كان الحمار أبيا.
في الحب
من هذه الهيفاء التي تستميل ولا تميل، وقد استبدت بالجمال فلا يرى في غيرها شيء جميل، طالعة كالضحى فكل نجمة من ضوئها كاسفة، لاهية كالنسيم وفي كل قلب من حبها عاصفة، وقد عبدها العشاق باطلا كما يعبد المجوس الشمس، وتمنوا في دلالها المحال كما يتمنى المرء من أمس، وكتب عليهم هواها المحتوم: «جند ما هنالك مهزوم»!
وكم تمنوا لو أن لين أعطافها، يتعدى إلى انعطافها، ولو أن بعض ابتسامها يشرق على ظلمات اليأس من غرامها، وهي تقتل منهم برضاها وغضبها على السواء، كأن حبها الموت متى قضي جاء به الداء، وجاء به الدواء!
في الحفلات
ومن هذه الطالعة في غلائلها، المعروفة في الحسن بدلائلها، المشرقة كالبدر في ظلمة الحلك، الضاحية كالشمس في قبة الفلك، تعترف بالهوى في ألحاظها، وتنكره في ألفاظها، وتقبل بعينها سائلة عما بين جنبيك، وتلتفت بجيدها مائلة عن جواب عينيك، وقد حسرت عن زنديها، ووضعت رمزا للحب تلك الوردة على نهديها، فلاحت للمحبين كأنها روح القبلات من خديها؟
في الرقص
ومن هذه الزهراء كالنار المشبوبة، الحسناء كالدمية
23
المنصوبة، المشرقة في زينتها كغرة الدينار، اللائحة في ميناء الدموع كما يلوح المنار، وقد شف قلبه عن الجوى كما يشف الزجاج، وتدافعت من طرب الهوى كما تتدافع الأمواج، وهي ترقص على حركات القلوب في الضلوع، وتسترسل في سهولة كأنها جسم خلق من الدموع، والأبصار قائمة على قوامها، والنفوس حائمة منها على حمامها، وما هي في عين المحب إلا خطرات الطيف، أو رقة نسمات الصيف، ولا رقصها إلا معركة في الحب قام فيها اللحظ مقام السيف؟
في الموسيقى
ومن هذه الباسمة كالأزهار، الساجعة كالأطيار، التاركة عشاقها كالشمس بين طرفي الليل والنهار، القائمة كالكأس في اليد، الناعمة كالحمرة في الخد، وهي تحيي بالصوت لأنه يخرج من صدرها، وتسكر باللفظ لأنه يمر من ثغرها، ويكاد يخلق من سحر نغماتها القلب المفتون، ومن حركات أناملها العقل المجنون؛ إذا صدحت فحمامة، وإذا رقصت فغمامة، وإذا أرسلت من يدها «صيحة» الأوتار أقامت للطرب «القيامة»؟ •••
تلك هي درة الصدفة المطروحة على ساحل الموت، وهي حمامة ذلك القفص البالي المصنوع من العظام، وهي خطيبة الكونت فيكتور!
وتلك هي «لويز» القروية الساذجة؛ كانت نبتة في الطين، فأصبحت زهرة في وعاء ثمين، ولأن تكون نبتة مهملة وتنمو، خير من أن تكون زهرة مرعية وتجف.
ولقد رأى الكونت - أخزاه الله - أن أحسن ما يكون الاستمتاع بالجمال حين يكون الجمال فنا وفتنة؛ فأما الفتنة ففي عيني لويز وجمال تكوينها، وأما الفن فلا سبيل إليه من هناك ولا من فلسفته، وليس إلا أن يبسط يده كل البسط حتى تنبت له تلك الزهرة من أغصان الذهب والجوهر؛ فأنفق واتسع في الإنفاق، وجعل آمال شيخوخته كلها مقترحات في زينة الفتاة؛ فبرعت البراعة كلها في الرقص والموسيقى، وأحسنت من الفن النسائي في أساليب الظرف والجمال والزخرف على جسمها، ما ترك هذا الهرم المتصابي المفتون يفاخر الناس كافة بأنها خارجة من قريحته.
وأعجب ما في أمره أنه على كثير ما أنفق وطائل ما بذل، لم يكن يرى أنه أنفق على لويز ما لا بد منه لمثل لويز! وهو منذ أصبحت في كنفه استبدل من الحرص على المال بالحرص على الحياة، وعرف أنه لا بد في الحب من وسيلة، وأن قلب المرأة ليس في يد أحد، ولا في يد المرأة نفسها، بل هو يحتكم فيما يختار، ويختار على ما يحتكم؛ وأنه ليس أشد عنفا من هذا القلب، فهو إن لم يحي قتل؛ يحب المرأة عاشق غير محبوب منها، ويريد مراغمتها على حبه، فيقتله قلبها لوعة وضنى بما يطوع لها من صده أو بغضه، وتحب المرأة ثم يمنعها قومها ويرغمونها على غير من تحب، فلا يقتلها إلا قلبها!
وإن «فكتور» ليعرف أنه فارغ الخلقة من وسائل الحب كلها، ويعرف أنه في أحمض أنواع الهوى لا يعدل أكثر مما تعدل قشرة الليمونة المعتصرة، فكيف به في الثمر الحلو، وكيف به في حب لويز!
لم يبق إذن إلا أن «يخرج الوسيلة من يده»، والمال أضعف الوسائل في الحب الصحيح، وإن كان أقواها في الحب المكذوب، على أنه لا يجعله قويا من ضعف إلا أن يظل يمد بعضه بعضا، فإذا أنفضت اليد أو أمسكت، فلأن يقبض المحب على الريح أيسر من أن يضع يده على ظبية شاردة.
ومن أجل ذلك توسع الكونت في البذل حتى كأنه كيس مخروق، ولم يعرف لها طلبا إلا بلغ فيه رضاها، وحسب أن في رضاها محبتها، فكان يأتي بالحاجة التي تطلبها والحاجة التي لم تطلبها، ويجعل كل شيء شيئين، «وأبى إذ تعبد لها إلا أن يكون عبدا بشهود وأدلة»!
وبقيت «لويز» تتربص به الأجل، فكانت له كحرف التسويف، ولا تزال تدافعه عن نفسها، وتروضه على الصبر، وتمنيه أنها تستتم فنون الجمال من أجله، وأن هذا القمر متى تم فسيدخل معه في المحاق لا محالة، وتظن باطلا أنه لم يبق منه إلا كما بقي من ذنب الوزغة
24
تضرب به يمينا وشمالا ثم تموت، بيد أن الموت لم يستنقذها منه، وإن كان يرأف بها أحيانا، وتدخله الرقة عليها فينيب عنه «الروماتزم»
25
ليريحها بضعة أيام!
وكان الرجل يخشى غضبها، ويطمع في رضاها؛ فكان يستعين ببعضه على بعضه، ويعلم أنها ترى الصبر أحسن ما فيه، فيترك أقبح ما فيه جانبا ويصبر، فلما استوت فتنتها ولم يبق من باطلها ما تتعلل به أو تمتلق به علة، ورآها قد أخذت زخرفها وازينت واهتزت وربت؛ صار منها كحرف الجر
26
لا يريد إلا أن يكون الجار والمجرور «متعلقين»، وفرغ صبره واستيقن أن له آخرة، وأن صاحبته لا تزال في أول دلالها، وكانت تحسب الدهر نائما عنها، فإذا عينه قد انتبهت في أجفان هذا الشيخ، فنظر إليها نظرة لا صواب فيها.
وباغتها الرجل فخيرها بين أمرين خيرهما شر: إما طريق إلى صدره، وإما طريقة من غدره؛ ومع الأولى الوصية بالمال، ومع الأخرى أن تذهب في الحال!
وكذلك غلبها على أمرها، وانتصر في معركة كان لا بد أن يخر فيها أحدهما صريعا، وقد استحال أن يكون المغلوب غيرها، وإن عثرة تنتهض منها بعد حين خير من عثرة لا تستقيلها؛ ورأت الظبية أن لا مناص، فوقعت في يد القناص.
يا ليل
الليل منسدل كأنه حجاب مضروب بين الحياة والأحياء، مجتمع الظلمة كأنما هي ذنوب الناس في نهارهم جعلت الملائكة ترسلها إلى السماء، وتغشى الأرض معنى من خشية الله فنفرت له دموع المساكين، وأقبلت عليه أنفاس المحزونين، وبرزت له في آثار الظلم دعوات المظلومين؛ وقد ارتفع إلى الله صوت يتقطع زفرات، ويتلهب حسرات، ويسيل من الدمع قطرات، وكان صوت «لويز» وهي تزفر الزفرة تكاد تنشق لها، وترسل الأنة تكاد تدفن فيها؛ وما بها الغيظ فتسكته عنها، ولا بها الحزن فتمسحه بدمعها، ولا بها الهم ، ولا بها الغضب، ولا أمر مما يتواصفه أهل البلاء ويبثونه في شكوى أحزانهم، وإنما ذلك شيء إن يكن من الحياة فليس بالحياة، وإن يكن من الموت فليس بالموت، ولعله منازعة الحياة والموت على قلبها!
ما بك يا لويز وقد بت زوج الكونت الذهبي، وهو عما قليل آخذ ما أمامه وتارك ما وراءه، وما بك أيتها المسكينة وقد كنت فقيرة بائسة لا تملكين قوت يوم فقبضت على أعناق سبعين سنة تجمع المال وتكنزه، وما بك - عمرك الله - وقد خرجت من الكوخ إلى القصر، وصعدت من العريش إلى العرش، وإن كانت حواء قد طردت من الجنة فقد طردت أنت إلى الجنة، وفي الجنة قوم يقادون إليها «بالسلاسل»!
قالت المرأة وهي تناجى ربها: إلهي! ماذا قضيت علي؟ لقد وضعت الدنيا على راحتي، وكأن مملكة آمالي مرسومة في كفي، ولكن أي فرق بيني وبين تمثال من الذهب الخالص في منزل هذا الرجل! لقد رددتني من فقري وذلتي إلى رجل رددته أسفل سافلين،
27
فما يريني الدنيا التي أعرف أنها الدنيا، ولكنه يريني الآخرة!
يا ويلتا! إن لم يخجل الرجل من شيء أفلا يخجل من أنه لا يخجل؟ أبى هذا الموت لشقائي إلا أن يتخذني زوجته، وكنت خليقة أن أجعله أسعد رجل في الدنيا لو اتخذني ابنته!
اللهم إنك رزقتني العافية في كل جوارحي، ولم تصبني إلا في القلب!
يا ويلتا! ما أنا إلا لعبة في يد هذا الطفل، لا يلذه شيء أكثر من تحطيمها في طرق لذته، وقد خلقت يا رب من يحطم القلوب الصحيحة ولم تخلق من يستطيع أن يجبر القلوب المكسورة، وإنه ليس فيما برأت وذرأت مخلوق أشد تعبا ممن يفتش في قلبه عما ليس في قلبه، وهل في الممكنات أو في أشباه الممكنات أن أجد في ناحية من قلبي حب هذا الزوج؟
لقد عرف الناس أن قلب المرأة كثير العبث، وهذا الذي يسمونه دلالا ويحبونه في الحب إنما هو شيء من عبثه، وأن هذا القلب إنما خلق ليحب؛ ولذلك أعطي قوة يخلق بها الحب من العدم، غير أنهم جهلوا فيما يجهلون من أسرار المرأة أن ذلك القلب إنما جاءه العبث بالرجال من أنه لا يطيق أن يعبث به أحد من الرجال، ومتى وجد من هؤلاء من يريده بنادرته، ويجعله من هزله معرض السخرية وموضع العبث، لم يكن في الدنيا أحد أبغض إلى المرأة منه، وإن كانت الدنيا كلها في طلعته، وإن كان مخلوقا من رونق الشمس.
أليس النساء يحببن حتى الكلاب ويرفهنها ويغالين بها وينزلنها منزلة الولد في الحب والانعطاف والتوجع والتحزن؟ فسبحانك اللهم! إن هذا القلب الذي يسع حب الكلب يضيق عن حب كثير من الرجال؛ إذ يحبون المرأة حبا ليس فيه شيء من روحها - حب الزينة أو الاستمتاع أو الخدمة - فكأنهم بذلك يبغضونها بغضا فيه كل روحها.
يا ويلتا! أعجزت أن أجد في هذه العاجلة نفسا أرى فيها نفسي؟ وهل حرمت علي كلمة الحب فلا يفيض بها صدري ولا ينطلق بها لساني؟ وهل خلقت لؤلؤة لأكون في عقد من الحصى، ووسمني الله بهذا الجمال ليعذبني بهذا القبح؟ وما عسى أن ترد علي هذه النعمة ما دمت لا أجد لها سبيلا إلى قلبي، وما دام هذا القلب لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يعامل بالمال!
ضل ضلالكم أيها الناس إذ تحسبون النعمة حق النعمة في الغنى وحده، وتمضون الأمر على ما تخيلتم من ذلك، ولا تدرون أن الله ينتقم بالغنى أشد مما ينتقم بالفقر؛ فلو أني ابتليت بالمصيبة، وأنا امرأة خاملة لاحتملتها وقلت خمول عرفته فما يبلغ بي ولا يزيدني بنفسي ولا بنفسه معرفة، ومن رحمة الله بالفقراء الخاملين أن في كل بلاء يعتريهم ما يعينهم على حمل بلاء أشد منه، ولكن الضربة اليوم لا تصدع الصدفة بل تسحق اللؤلؤة؛ فاللهم لا قوة إلا بك!
وما أشبهني إذ قتل هواي هذا الكونت، بزنجي من زنوج أمريكا اغتال سيدا من البيض، فلم يجدوا له عذابا إلا أن يشدوا قتيله في وثاقه، وتركوه يبلى تحت عينيه، ويسيل جوفه تحت أنفه، ويتناثر لحمه على صدره! وهكذا يقتله القتيل وحده بالرعب والجنون قتلة لا وصف لها في لغة الحياة .
ولقد كنت بائسة يطير بها القضاء ويقع، فلا تزال دهرها تحت جناح مخفوض من رحمة الله، أو فوق جناح منشور من الأمل في رحمته؛ فلما وجدت الغنى واستشرفت للسعادة، شغلني الله بهم نفسي، فشغلتني نفسي عن النعمة، فلا تزيدني النعمة إلا هما! وقد كتب الله علي أن يقتلني بغض هذا الرجل، فوهبني الغنى من يده وحسب الناس أن ذلك لكيما أستمتع به، وعلم الله أن ذلك لكيما أتصل بقاتلي! فاللهم قد أحيط بي وليس ورائي منفسح؛ فمن حيثما التفت لا أرى غير ما قضيت علي أن أرى؛ وهذا امتحان أينما أتوجه في الحياة لا تقابلني الحياة إلا بمسألة من مسائله المعضلة!
إن كلمات القضاء لا تقرأ لأنه لا ينزل بالناس إلا معانيها، على أن الكلمة الأزلية التي يكون معناها هذا الزواج وهذا الزوج، لا بد أن تكون جملة كاملة من غضب الله في السماء، لا يقابلها إلا سيرة كاملة من ازدراء الناس في الأرض. •••
قال «الشيخ علي»: ونفرت دموع هذه المرأة تخفف من يأسها، وإنه ليأس أكبر مما تحتمل نفسها من الصبر لو أنه من وجه ذلك الزوج وحده، فكيف به ومع ذلك الوجه شبابها الهالك، وآمالها الضائعة، وغصة من شماتة الناس وازدرائهم، وبلاء من نعمة سابغة ستنقلب فضيحة وسخرية؟
واها لك أيتها المسكينة! إن مصيبة الأغنياء لتكشف نفسها فهم يحملونها ويحملون آراء الناس فيها، وإن المصيبة لتكون واحدة ولكنها ترتد إليهم من قلوب الشامتين من أعدائهم والمتربصين من حسادهم والمتوجعين من سائر الناس، وكأنها مصائب كثيرة لا تعد.
والمرء لا يأخذ من الله بشرط ولا يعطيه الله على شرط؛ فإن كان في الغنى تلك النعمة ففي الغنى هذا الهم، وما رأيت أيسر اضطرابا من الماء الراكد قذف بحجر، إلا الغني الغافل قذف بمصيبة!
ويحكم أيها الأغنياء! متى رأيتم ثمرة لا تسقط أبدا من غصنها الأخضر، وثمرة تسقط من الغصن ثم ترد إليه فتعلق به وتنضج عليه، فاعلموا يومئذ أن غناكم هذا نعيم لا رزيئة فيه ولا مصيبة؛ لأن هذا الكون حينئذ يكون فوضى لا نظام له ولا قرار. •••
وانصدع الفجر، وأقبلت الحياة تتنفس من مباسم الأزهار، وتتغنى بألسن الأطيار، والفتاة موجسة أن ترى طلعة شيخها، وكأن هذه الطلعة صبح غير الصبح، وودت لو وقف الزمن، فإن لم يمكن فوقوف الأرض، فإن لم يمكن فوقوف قلب هذا الشيخ، وخيل إليها أنها ستقرف بإثم منكر إذا هو بادرها قبلة الصباح على مثل شفق الشمس من خديها، وأنها لا ترمى بمسبة أوجع ولا أمض من قوله حبيبتي! وانسلخ الليل، وطارت الأحلام، وأفصحت الحقيقة، واستيقظ الكونت.
على المائدة
زهرات ناضرة كأنما اختبأت فيها ابتسامة الفجر، عاطرة كأنها رسالة اللقاء بعد الهجر، بديعة التنميق تحسبها قصيدة من شعر الألوان، متفتحة للحب وكأنها لكتاب الحب عنوان، متلائمة مصففة، متلاثمة كالشفة على الشفة، قائمة في جلالها وحسنها كأنها في خلقة الجمال آية، وكل زهرة في لونها كأنها لدولة من دول الحسن راية؛ وقد جلست إليها غادة فتانة كأنها في رقتها روح النسيم، وفي نضرة شبابها روح الحديقة، ولاحت الأزهار كأنما هي خيالات جمالها، وظهرت الغادة كأنها هي الحقيقة.
تلك هي «لويز» في صبيحة عرسها على المائدة، وقد أثبتت في كل زهر لحظا من لحاظها، ولا يشك من رآها في تلك الحال وهي ترتقب ظهور زوجها أنها تنفس على هذه الأزهار شبابها ونضرتها وحسن ملاءمتها، وتحسدها على أن ليس فيها أعواد من الحطب تفسد نظامها وتنكر بهجتها وتغض من حسنها، كما ابتليت هي بزوج من عود.
28
وإنها لكذلك؛ إذا خفق أقدام وضوضاء وموكب وشيء كالموسيقى، فما لفتت جيدها حتى أبصرت الكونت داخلا يتوكأ على خادمين وله نغم مختلف، وآهات وأنات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل، وكان «الروماتزم» قد دب دبيبه في مفاصله تلك الليلة، وبات يفتل في عروقه وأعصابه، ووعكته الحمى، واجتمعت إليه علل الشيخوخة كلها تهنئه بالزفاف، غير أنه لم ينس مع هذا البلاء كله أن عروسه ترتقبه على المائدة ، فحفزه الشوق وعاوده الصبى، فطار إليها بجناحين من خادميه.
ولما بلغ ظلها أفلت الخادمين ثم ارتمى عليها يقبلها رياء ومصانعة، ثم تمسك بها يستند إليها، ثم انحط إلى يمينها، وما كادت تناوله قدح اللبن يرتضعه، حتى غمره الألم وهاج داؤه، ففتح فاه وصدحت الموسيقى بنغم مختلف من آهات وأنات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل.
ورأت «لويز» ذلك فرقصت أحشاؤها! فلم تملك المسكينة أن اقتلعت جسمها من الكرسي، وانكفأت هاربة إلى حجرتها، وانطرحت في غمرة أخرى من الألم، وبقيت هناك ملقاة يدار بها، وكانت لم تغتمض في ليلها، فاصطلح على جسمها هم الليل والنهار!
فصل خامس في السنة
وزالت هذه الغشية عن الكونت بعد أيام، كانت العروس فيها من روح الأمل كالمختلعة
29
إذا أخذت كتاب طلاقها، أو الأمة إذا وعدت بعتاقها، وكان دعاؤها لله كلمات لا تعدوهن، تقول: اللهم رحماك! فأنت المصيب وأنا المصابة، تلك قوتك وهذا ضعفي!
وكانت إذا حمدت الله تواردت مع زوجها فيما يحمد الله به من حيث لا يشعر أحدهما أو كلاهما، كأن للحب الشديد والبغض الشديد لغة واحدة؛ فكان هو يقول: الحمد لله إذ لا تراني! وتقول هي: الحمد لله إذ لا يراني!
وباغتها الرجل منصبا عليها، فلو أن ميتا طالعها من قبره ما كان أروع لها عنه؛ قلب حيواني يسكن من أضلاعه الخربة في شقوق، وظهر كالقوس يحمل من روحه سهما ليس له إلا المروق، وعروق ناشرة كأنها في جلده المتغضن خيوط في خروق ... ودخل عليها كما يدخل الشتاء بكلوحه وبرده، على الروض النضر والبقية الضعيفة من ورده، ونظرت إليه فلم يقع من نفسها إلا موقع الهموم على الهموم، ولم يكن في عينها إلا كما يكون الحلم في رأس المحموم!
وجلس إليها الشيخ يتطفل ويقترح، وكانت لويز تعرف أن السنة أربعة فصول، أما سنتها هذه فكانت فصولها بعد اقتراح هذا البغيض خمسة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وشهر عسل الكونت! فقد لج الرجل في عناده وأبى إلا أن يكون له ولها «شهر عسل»، ومما زاده لجاجا وعتوا أنه كان يخشى أن ينسلخ الشهر، فقد ذهب نصفه في تجرع «الدواء»، ولم يبق «للعسل» إلا ريثما يمحق القمر أياما معدودات!
ثم انصرف من لدنها على أن ترصد للسفر أهبته، وأن ينطلقا على جناح غراب.
30
واستقبلت العروس ليلتها، وجعلت تقلب وجهها في السماء، وترنو إلى النجوم بعينين قد ثبت في إنسانيهما خيال ذلك الرجل كما يثبت خيال القاتل في عين المقتول،
31
فلم تر في هذه النجوم إلا هرم الدهر وتحجر الأيام، وقد استيقنت أن نجمها طامس لا محالة
32
وكأنما خرج عن الفلك، وضل في ذلك الحلك!
وما هي إلا خطرة الفكر حتى لاح في مرآة نفسها خيال ذلك الشاب الذي اختلبها أياما بالهوى، وكان لها منه الداء وكان له منها الدواء، وأغواها في عرف الناس ولكنه هو ما ضل وما غوى، وكان هذا الفتى قرويا فحلا، ظريف الهيئة، مستوي القامة، عريض الصدر، تام الخلقة، وثيق التركيب قد ارتوت مفاصله، واستحكم نسجه، وله مع ذلك خلابة، وفي لسانه دعابة، فما أطل حديثه وأنداه! وما أحلى خبره إذا كان من الغزل مبتداه!
وقد أحب الفتاة أكثر مما أحبته، ولكنها كانت غريرة لا تتبين منزلة ما بين الحب والاستسلام، وبين ما يعده الرجل وعدا بالفعل وما يراه وعدا بالكلام، ولم تعرف أن هذا الحب سلاح ذو حدين، فالمرأة تقتل به من ناحية الرجل، فإن غفلت مرة عن نفسها قتلت هي به أيضا من ناحيتها؛ وأن حب الرجل حب مجنون بطبيعته، فإذا لم يكن حب المرأة عاقلا، انقلب كلاهما حيوانا طامس القلب
33
لا يبالي ما جنى على نفسه؛ وأن الرجل يقاد من رغبته ما دامت أملا في قلبه، فهو يعد المرأة ما شاءت وشاء لها الهوى، حتى إذا انقطع هذا الزمام انقطع ما بين لفظ الوعد ومعناه، فأخذ منها ما أخذ وترك في يدها ما أعطى، وما عسى أن يكون قد أعطاها إلا آمالا ومواعيد وغرورا من زخرف القول؟ وكذلك أمر الرجل والمرأة؛ تحسب الفتاة إذا هي أحبت فاستأسرت لصاحبها أنها تبذل في مرضاته أعز ما تملك، وتنوله خير ما استؤمنت عليه، وتعطيه ما لا تستعيض منه آخر الدهر؛ وأن ذلك أحرى أن يؤدم بينهما،
34
وأن يكون ميثاقا للحب غير منقوض، ويحسب الرجل أنها لم تنله إلا شيئا هينا قريب المنالة، هو عندها وعند كل امرأة؛ فإن كان سري الخلق نبيل النفس، رثى لها مما صارت إليه، وندم كما يندم على الإثم، ولا يكون همه إلا أن يلتمس المخرج من أمرها، فإن طارحته حديث الزواج رأى أن من فرطت له حرية أن تفرط فيه، وبهتها بهذه الكلمة
35
وسلم وقد مات الذي بينهما؛ وإن كان لئيم الطبع خسيس النفس شد على رقها، واتخذ من ضعفها قوة ومن خوفها أمنا، حتى إذا ملها تنكر لها ثم أنكرها، فإن استقضته ما وعد من زواجها رأى أن الزواج قد سبق أوانه؛ فلم تعد تصلح له ولا يصلح لها، وكلا الرجلين سافل دنيء زمر المروءة،
36
وإن قال الناس فيهما سري ولئيم.
فالسحابة تنهل بمائها، ثم تجتمع مرة أخرى في سمائها، والزهرة تقطف لحسنها، ثم تنبت مرة أخرى في غصنها، ولكن العذراء حين تفرط في خدرها، وتضع نفسها دون قدرها، لا تبرح شقية حتى تنزل في قبرها.
وهكذا لا يزال الرجل في عتوه وظلمه كالساحل، ولا تزال المرأة في ضعفها ولينها كالموجة، فلو أن ألف موجة عاتية يصدمن الساحل لاستباحهن وما سلبنه مقدار شبر من الرمل! وما اعترك رجل وامرأة في خلق العفة إلا كانت هي الساقطة وحدها في الاعتبار؛ لأن العفة إنما عرفت بالمرأة من أصل الخلقة، وإنما يتصاون الرجل تشبها وتقليدا، فإن هو زل مرة وقارف الإثم فقد أخطأ في التقليد ولم يفقد شيئا من طبيعته، ولكن المرأة متى فعلت ذلك فقدت من نفسها، وغيرت في تكوينها، وأخطأت في الأصل الذي بنيت عليه طبيعتها، وقامت به شرائع الله ومر فيه نظام الأمم؛ فلا جرم كان عقابها على الخطأ عقابا نفسيا، يجمع من شدة الطبيعة إلى عنت الشرائع إلى قسوة الاجتماع؛ ولهذا كان شر عيوب المرأة ما عاب فضيلتها الخصيصة بها.
37
قال «الشيخ علي»: وانطلقت نفس «لويز» لمسرى خيال حبيبها، وكانت تبغضه دون البغض؛ إذ هو مسعدها ومشقيها، فصارت بعد زواجها تحبه فوق الحب؛ إذ لا ترى لها مسعدا غير ذكراه، ولا تعرف على ظهر الأرض من أشقاها غير الكونت!
ولما ذكرته انهملت دموعها، فجعلت تبكي حتى انحلت سحائب همها، ثم أشرقت كما تصحو السماء في أعقاب المطر، فلو رآها أشعر الناس في ذلك الجمال المشرق الحزين الذي تورد حتى التهب؛ لوقف عندها وقفة العابد في المحراب يشعر بالقوة الأزلية ولا يحسن أن يصفها. وأي شاعر تحيط نفسه بهذا الشقاء الذي رفعه جمالها الساحر من بين آلام الأرض وألحقه بذلك الألم المنفصل من السماء، الذي لم تشهده الأرض إلا مرة واحدة، يوم جلست حواء تبكي أول بكائها بعد خروجها من الجنة؟
ويا لله ما أروع الجمال حين يتألم ويحزن ويحضر الجميلة همها! إن مثل من يحاول أن يصف دموع هذه الجميلة وحسراتها وصفا ناطقا يتنفس به القلب، كمثل من يريد أن يخلق من سحر البيان زلزلة ترجف بها الأرض حين يبالغ في وصف الزلزلة؛ وما اللغة إلا أداة، فكيف - ويحك - تستعمل هذه الأداة في صفة قوة تعجز عندها كل وسيلة، حتى الشعور الذي أبدع اللغة؟
لقد جمعت المقاييس بين أقطار الأرض، وطوت ما بين الأرض والسماء، وداخلت ما بين أنجم السماء بعضها من بعض، ولكن أية أداة تعين لنا درجة الإحساس بين نفس عاشقة مدنفة تشهد آلام نفس معشوقة، وبين عيني شاعر غزل وثاب الخيال تنظران في عيني امرأة جميلة باكية، وبين ألم جامد جاف يضطرب في نفس الرجل، وألم سائل متدفق تضطرب فيه نفس المرأة؟
إن هذه الأنفس إنما تشعر بمقدار ما فيها من الإحساس، لا بمقدار ما في الحقيقة من مادة الشعور. وكأي من رجل أبله متغفل يدور مع الآلام والأوجاع دوران الغبار في العاصفة، فإذا رأيته توجعت له وداخلتك الرقة عليه وثارت نفسك من أجله ثورة السخط على هذا الاجتماع الإنساني، وتمر بالرجل ثم تنساه، ولكن هناك طفلة، طفلة صغيرة قريبة العهد بالغيب
38
قد ضلت بيت أبويها في المدينة المترامية، فمشت ذليلة ضائعة يتحير الدمع في عينيها كما تتحير الألفاظ بين شفتيها، وقد ساورها الخوف، وتوثبت نفسها فزعا لهول ما هي فيه، وجعلت عيناها تتوسلان إلى الناس بالبكاء، ولسانها يتلجلج بألفاظ مرتعدة كأنما ينتفض عليهن قلبها الصغير، وهي في ذلك لا تبرح تتمثل أبويها فتضطرب اضطراب الفرخ إذا سقط من وكره ولم ينتهض، وترى أن المصيبة قد انحصرت فيها وحدها من دون الناس، فتبكي بكاء تكاد تنشق له، ثم تعود إلى التوسل بعينيها الدامعتين وبألفاظها المتلجلجة؛
39
فانظر وأنت أبو مثلها ما عسى أن ينزل بك من الحسرة ويتغشاك من الهم، إذا رنت إليك هذه الطفلة من وراء دموعها تسألك أن تدلها على بيت أبويها الماثل في رأسها الصغير، وهي تحاول بذلة ومسكنة أن تنقله إلى نفسك وتبنيه فيها بألفاظها وإشاراتها الضعيفة لتهتدي أنت إليه؟
فالمصيبة ليست مصيبة بمادتها، ولكن بما يقابل هذه المادة من نفوسنا؛ ومن ثم فهي لا تؤثر فينا بنفسها، ولكن بالكيفية التي نقابلها بها.
قال «الشيخ علي»: ثم سكنت «لويز» هنيهة لذكرى أيامها الأولى، وهي تعلم أن لا رجعى لها، فقد استيقنت أن هذا الغنى ضرب بينها وبين الفقر حجابا، ولكنه رفع بينها وبين الشقاء حجابا آخر، كان ذلك الفقر وحده هو الذي يمنعها منه؛ وكأن القدر لما اختط لها التعاسة، رسم هذه الخطة بقلم من ذهب!
واستشرفت نفسها لخاطر غريب ألم بها فأضحكها على ما بها من الهم؛ فقد أحضرت خيالها ذلك الحبيب الأول في شبابه الغض، وقوته الثائرة، وفورته العنيفة، ونشاطه المهزوز، وأرادته على حب امرأة في أرذل العمر - وهو عمر «الكونت» - يلوح وجهها في العين كما تلوح القفار، ويمتد أنفها بين الوجنتين كأنه جحر في أحجار، ويضحك ثغرها الأدرد
40
فلا تشك أنه في تلك الصحراء «غار»؛ وقد ثابرت عليها الأوجاع والأمراض، حتى أصبح جسمها بين يدي الموت كالخيط بين شقي المقراض!
ثم جعلت ذلك الحبيب يتزوج منها لمالها وغناها، وقد أصاب عندها ملء أطماعه ذهبا وفضة، ثم وصلت بين شعلة فؤاده الملتهب هوى وشبابا وبين هذا الجسم الفاني الذي يشبه حطام اليبيس،
41
ثم أرادته على أن يعتقد أنها «السكرة» التي وضعت في كأس حياته لتحليها، ثم نظرت لترى ما يكون من أمره وأمرها في الحب حين لا يكون الحب إلا مراغمة وإكراها؛ فإذا الحلم قد انهال، وإذا الوهم قد استحال، وإذا الشاب لا يحب تلك المرأة ولا في الخيال.
فجهدت أن تذكر في تاريخ الناس من يكون قد امتحن بمثل هذه المصيبة، وصبر لها كما يصبر من ذات نفسه على آفة أو عاهة أو مثلة، فأبى عليها الواقع أن يخرج لها مثالا واحدا!
فكدت ذهنها في تصور هذه الحال وتقليبها على وجوه مختلفة، فلم تستقم لها صورة صحيحة، وثبت عندها أن حب شاب قوي في الثلاثين لعجوز هالكة سبعين هلكة،
42
أمر يكاد يكون في استحالة الجمع، كطرح السبعين من الثلاثين في حساب العدد!
وعجبت أن يستأثر الرجل وحده بهذه الأنفة، ويلتمس لنفسه في هذا الباب ما ينكر على المرأة أن تستنكره، كأن هذه المرأة عجماء لا تبالي من صاحبها إلا العلف، ولو انتهى بها إلى التلف؛ وكأن كل امرأة إنما هي اسم على جسم؛ فليس على الرجل إلا أن يختار اسما ثم يثبته في وثيقة الزواج بعد أن يساوم عليه، أو كأن المرأة بلغت من الجفاء وضعف التمييز بحيث لا تأبى أن تتخذ أعواد فرشها من أعواد نعشها، وأن نقيم لها قبرا في البيت، وتنظر كل صباح في وجه ميت، وإلا فكم من فتاة كالقمر أخفاها نهار المشيب! وكم من عروس للحب زفت إلى غير حبيب! وكم من وجه صبيح يقبله ثغر قبيح! وكم من كعاب سال عليها اللعاب! وكم من حسن هو رمز الحياة قرن به الموت رمزه! وكم من قد أهيف كالألف لا يرى إلا شيخا أعجف كالهمزة!
وهنا انتبهت «لويز» إلى زوجها المتهدم الذي هو همزة القطع، وإلى تصابيه المضحك وحماقته العمياء وحبه الأخرق؛ فانتفضت من الغيظ وكاد بعضها يحطم بعضا، وجعلت خواطرها تنبض في رأسها كلمح البرق، وأخذت تلتمس الوسيلة لرد هذا البلاء عنها أو مدافعته، بيد أنها كلما ابتدأت فكرا انتهى بها إلى قولها: ما عسى أن أصنع؟!
هي لا تفكر إلا فيما ينبغي أن تصنعه، ولكن الفكر يفضي بها إلى هذا السؤال بعينه، فكأنها من الهم والحيرة منعزلة عن نفسها، وقد نفر منها فكرها وقلبها وحظها جميعا، ولم يبق معها إلا روحها المعذبة، وهي كذلك بينها وبين زوجها وبين القدر!
ولبثت زمنا لا تجد من رأيها إلا قطعا وأشلاء، حتى لمحت من نافذة القصر مركبة تدرج في الطريق، ورأت سوط الحوذي يتلقى الأمر منه إلى الجوادين، فلا ينزل عليهما إلا انطلقا ملء العنان، كأنما يحاولان الهرب منه ولا يعلمان أنهما يهربان به؛ فرثت المسكينة للبهيمتين، ثم كأنما حشرت لها كل مركبة على الأرض في صعيد واحد، فلم تذكر أنها رأت قط سائقا ليس في يده سوط ما دام بين يديه حيوان!
وظلت واجمة عند هذا الخاطر هنية؛ لأنها ما برحت تتلقى من ضربات القدر وهي تعدو في الحياة عدوا فيه من السرعة بمقدار ما في هذه اللذعات من الألم! ثم قالت: ترى أي حيوان في مسلاخ
43
هذا الهرم؟ وما كذبت أن قلبت الخاطر على وجهه الآخر، فتناولت السوط، واستوت على مركبة الأقدار، ولم يبق أمام عينيها إلا سبيل الحياة وظهر الكونت!
وكذلك فاءت من غضبها إلى رضا أقبح من الغضب، ورأت أن هذا الشيخ المأفون الذي يتطاوع
44
للصبي وقد جاوز السبعين وهلك في الدهر، ثم لا يستحي أن يجعلها مثلة على أعين الناس، وأن يكون لها مخزية ولا كالمخزيات، جدير به أن يجد منها كفاء ما وجدت منه، وجدير بها أن تبدله من شهر العسل شهرا هو أحق به وأهله، وهو على ذلك أقرب الأشياء من العسل؛ لأنه ... «شهر النحل»!
قال «الشيخ علي»: هكذا يفسد الرجل المرأة وهو يدري أو لا يدري، فهو يبتغيها متاعا ويريدها ملهاة، ثم لا يقدر فيها غير الطاعة لما ابتغى وأراد، كأن الطينة الإلهية التي جبل منها الرجل شديدا متماسكا، بقيت منها بعده هنة ضعيفة فتركت حتى ركت وانسحقت، ثم خلقت منها المرأة ذليلة طائعة! وإن أقذر خلق الله ليكون معه الدرهم فاضلا عن حاجته، فلا يجد ما يمنعه أن يبتاع به الزهرة الناضرة، ولكن العجيب من أمره أنه إذا احتازها لا يلويها بين أصابعه ولا يدنيها من أنفه إلا بعيدا بعيدا وقليلا قليلا، بل إنه ليستحي لقذره من طهرها، ولنتنه من عطرها؛ فلا يحملها حتى يتجمل لها، ولا يظهر بها حتى يكون في الجمال أهلها، وما أدري كيف أدبته الطبيعة هذا الأدب مع شبه الجمال، ولا تؤدب مثل ذلك الهرم الأحمق مع الجمال نفسه؟
ويعمد الرجل متى أصاب مالا إلى الطيبات من صنوف الطعام وملذات الشراب، فيتضلع ويتملأ، وليس في ذلك من حرج؛ إذ هو ماله ينمو في باطنه، فإن ربح أو خسر فإنما «المضاربة» في معدته! ثم يعمد أقبح خلق الله وجها وأظلمهم سنة وأشأمهم طلعة، بذلك المال نفسه إلى أجمل النساء فيرخي عليها أستار بيته،
45
ويساهمها قبحه وجمالها، وإنما هي في رأيه بعض الطيبات، وصنف شهي من طعام القلب، فترى في أي جهة ينمو هذا المال الذي بذله وتندى به، فإني لا أرى له نموا في قلبه ولا في قلب تلك الحسناء؟
أما هو فما إن يزال يعرف منها البغض، وأما هي فما إن تزال ترى فيه القبح؛ وأحسب لو أنفقت ما في خزائن الأرض كلها على التأليف بين الحسن المبغض وبين القبح المحب، ما ألفت ذات بينها، ولا زدت كل واحد إلا من طبعه.
46
وكيف يرى هذا الدميم أن مرآة بيته التي اشتراها وبذل فيها واختارها على عينه، لا تظهره أبدا إلا دميما، وهو كلما بالغ في رونقها وصقلها بالغت هي في إظهار قبحه ودمامته، ثم يريد أن لا تراه امرأته الحسناء الفاتنة إلا جميلا فاتنا، ولا تكلمه إلا في الحب، ولا تقبله إلا قبلة الهوى كأنه هو الذي خلق لها عينين ولسانا وشفتين!
ولعمر الله لو أن في أضلاع هذه المرأة قلب رجل من صيارفة اليهود، قد جثم على منكب الطريق وسرح الذمة والدين، والظن واليقين، وجنود إبليس أجمعين؛ في طلب الدرهم يأكله سحتا، وينحته من أيدي الفقراء نحتا، لما رأته على ذلك المال وذلك القبح إلا كالخرقة فيها دينار، فهي هي لم تخرجها قيمة الذهب الغالية عن كونها في اليد والعين خرقة بالية!
أيريد الرجل لسعادته امرأة لا نفس لها ولا قلب؟ لعله يحاول ذلك، ولكن كيف تسعده إذن؟ إني رأيت في معاشرة الحزين للحزين شيئا من الفرح يتنفس به الحزن على الحزن، فليت شعري أي مهنأ
47
أكثر لذة وأحسن إمتاعا من معاشرة اثنين كلاهما يهنأ الآخر؟
أيها الهرم الأحمق الذي يستبد بالجميلة الفاتنة! إنك تعبث بذنب السفينة فإذا انحرفت هنا وهنا زعمت أنها تضل الطريق لسوء تركيبها، ألا فاعلم - ويحك - أنك لا تصلح أن تكون ربان هذه السفينة، وإذا كنت تستطيع أن ترفع شراعا أو تحرك مجدافا، فما أنت وهذه الباخرة؟ ماذا تصنع - ويلك - في آلات هذا القلب الذي صنعته يد الله ليخوض لجج الحب في بحر الشباب إلى ساحل السعادة، وليس بينه وبين الهلاك إلا أن يرتطم في ذلك البحر بصخرة الموت التي لا تكون أكثر ما تكون إلا من رأس رجل هرم.
عسيت تقول إنك غني ملء الأمل الواسع، وإن هذه الحسناء ستفضي من طريق مالك إلى طريق حبك؛ لأن المال - زعمت - أوسع طرق الحياة وأطولها، وفيه منفذ إلى كل طريق شئت أو شاء الهوى، فلعمري إن هذا المال كما تزعم، ولكن لا يذهبن عنك أنك لا تعرف إلا فاتحة الطريق إلى هذه الحسناء، وأن خطط الآمال ليست من «شوارع التنظيم» أو الطرق السلطانية التي يفضي كل منها إلى جهة بعينها، أو جهات لا يخطئها من انطلق بسبيلها؛ فقد تبدأ تلك الحسناء من طريق هذا الغني الذي تفتحه لها، ثم لا تلبث أن تنعطف إلى مذهب من مذاهب قلبها، ثم تأخذ من هناك في ناحية من نواحي مصائبك ؛ لأن سبيل حبها وسعادتها من تلك الناحية، ثم تفضي من كل ذلك إلى طريق من الحياة، إذا هي أبصرتك فيها رأتك وليس من ورائك للبغض مذهب، ورأت وجهك ثمة كأنه صفيحة مما تكتب عليه أسماء الطرق، وقد كتب عليها «شارع المقبرة»!
أنت أيها الأحمق استنقذت هذه الحسناء من الفقر، ثم جعلت تباعد ما بينك وبينها، فأخذتها خادمة وجعلتها سيدة، وبصرتها بما كانت تجهل من فنون الجمال وأساليب الهوى، ثم جعلت غاية كل ذلك إمتاع جسمك الفاني ولذة قلبك الخرب، فنسيت نفسك بادئ الرأي ولم تذكر إلا الفتاة فاتخذتك صديقا، ثم نسيت الفتاة آخرا ولم تذكر إلا نفسك فاتخذتك عدوا، فلولا تركتها على جهلها وغرارتها ما دام العلم بالحب لا يكشف منك للحب إلا عن خرافة؟
ويا عجبا من غرام الشيوخ بالفتيات! فإن أكثر من أنت واجد من المحبين وأهل العشق، متى أصابه الكبر وذكر حوادث حبه، رأى فيها ما يسميه جهلا، وما يسميه حماقة، وما يسميه غفلة، وما يسميه خطيئة؛ كأن الهرم يجعل الأشياء نفسها هرمة؛ إذ ينزع منها أوهام الشباب وغروره، فلا تظهر من ثم إلا حقائق مخلصة؛ فما عسى أن يرى الشيوخ فيما يسمونه غراما؟ بل ما عسى أن يرى الحب في هؤلاء الشيوخ «المتطفلين»
48
إلا ما يسمى حماقة وجهلا وغفلة وخطيئة؟
يحب الفتى الناشئ حبا طاهرا يستوجف قلبه،
49
فيقول أكثر الناس: أحب قبل زمن الحب!
ويعشق الرجل الهرم عشقا فاسدا يستوقد ضلوعه، فلا يرضى أن يقول مرة واحدة، ولا أن يقول عنه أحد إنه أحب بعد زمن الحب، مع أن الفتى رجل يبنى، والهرم رجل يهدم؟
ولو لم يضرب الله على بصره لعلم مما تشرع الطبيعة أن أحق الناس بالخيبة رجلان؛ رجل وجد قبل زمنه فلا يحسن أن ينفع أو ينتفع، ورجل أتى بعد زمنه فلا يحسن أن ينتفع أو ينفع!
متى كان الرجل حقوقا فقط، وكانت المرأة واجبات لا غير، فقد خلا الرجل من العقل وخلت المرأة من القلب، وخلا الاثنان من هذا المعنى الروحي الذي يسمى الحب؛ فإن لم يستطع ذلك العاشق الهرم أن يسترد لنفسه الصبى الذاهب حتى تحبه تلك الحسناء طائعة، فليسترجع لتاريخ الأرض وحشيته الأولى حتى تلوذ به تلك المرأة كارهة!
ويل للإنسان من هوى نفسه، فلولا هذه الحماقة فيه لما وجد على الأرض خطأ؛ لأن كل إنسان حين يخطئ فإنما يريد حقيقة من الحقائق، غير أنه يجعل مركزها في رأسه ولا يعتبرها إلا من هناك، مع أن مركزها في العالم.
شهر النحل
قال «الشيخ علي»: كل خطب عظم مدة هان بعدها، إلا خطب المرأة فإنه متى عظم لا يزال يعظم، وما رأيت في أصناف البلاء كالمرأة السليطة إذا هي استكلبت،
50
فكأنما جعل الدهر الجائر أيامها خطا من خطوط مداره، واتخذ من دار زوجها متحفا، ثم أودعه تلك المجموعة من آثاره. ويا رحمة لهذا الزوج! فهو كلما خرج من بيته خرج خزيان يتنقب، وكلما انقلب إليه انقلب خائفا يترقب، ولا تزال تعرف في عينه نظرة مغلوبة وأخرى مسلوبة، وفي قلبه مصيبة مستقرة وثانية مجلوبة، وترى على وجهه سمة استخذاء
51
كأنها مسحة استهزاء، ولروحه ظلا على فمه كأنه ظل النخوة الهاربة من دمه؛ ولا يزال مع امرأته المكابرة كأنها ذنب وكأنه ندامة، وقد جمعت عليه الدنيا والآخرة، فكأنه من خوفها في موت ومن لسانها في «قيامه».
وما في خلق الله أعظم من المرأة، فهي طبيعة وحدها، غير أنها الطبيعة الدقيقة الحس، وليس يدرك الرجل حقيقة نفسه قبل أن يخلطها بنفسه؛ فإذا رأيتها خاملة مغمورة، أو ساقطة مزجورة، أو ميتة في الأحياء مقبورة، فلا ترين أنها مغلوبة للرجل ولكنها مغلوبة لاحساسها، وقد وفر الله عليها من القوة ما شاء، ولكنه غمز منها موضعا دقيقا فخرجت بحيث تراها أقوى الأشياء، وترى هي نفسها كأن لا قوة فيها، وهذا سر من نظام الطبيعة؛ فإن أشجع الناس الذي لا يخاف شيئا يخاف أشياء كثيرة من نفسه، فلولا أثر يد الله في إضعافها ما قامت للرجل معها قائمة.
وهذا الموضع الذي أسلمها ضعيفة مستخذية إنما هو جهلها بتصريف إحساسها، فليست القوة إلا شيئا طبيعيا في هذا الوجود كائنة ما كانت، وإنما الشأن كله في العلم بطريقة استعمالها، وما من رجل يداري المرأة نوعا من المداراة فترضى عنه وجها من الرضا، إلا رآها في يده أضعف ما خلق الله هينة لينة سمحة مطمئنة، إن كانت دون الملائكة فهي فوق الناس؛ إذ هو إنما يستولي على إحساسها فيأمن أن تصرفه في غير مرضاته ومحبته، ومن ثم تصبح كأنها صورة من إرادته، وكأن في نفسها نفسه.
فإن جهل الرجل كيف يداريها، وانقطعت الأسباب المختلفة بينه وبين رضاها، ولم يكن أهلا منها لما هي أهله منه، استوقد إحساسها وبصرها كيف تناله؟ ومن أين تأتيه؟ فابتلي منها بفتنة ما تهدأ وقدتها؛ فما السابح في البحر إذا أراد أن يقيد الموجة العاتية بالحبال، ولا المصروع إذا حاول أن يدفع بيده ما أفزعه من جن الخيال، ولا الطفل يبتغي أن يمسك القمر في الماء، ولا المجنون يتطاول فيقتلع النجم من السماء؛ بأقدر ممن تبغضه المرأة إذا زعم القدرة على إرغامها وتصريف زمامها؛ ومن تمضغه المرأة إذا زعم القدرة على إسكانها، والسلامة من بركاتها، ومن تحقره المرأة إذا زعم القدرة على ردها وإرجاعها دون حدها، ومن تصول عليه المرأة إذا ادعى القدرة على إسقاطها، والقوة على التقاطها!
فليس يعجز الرجل في سلاطة المرأة إذا هي سلطت عليه ما يكون من حدة جنانها، وشدة عنانها، وشرة لسانها؛ فكل هذه وأمثال هذه إنما هي ضروب مما تحاول من إظهار عظمتها الطبيعية المغلوبة، ومن أجل ذلك قلما كانت المرأة السليطة إلا غالبة؛ إذ هي نفس منفجرة.
ولقد يعجز الإنسان أحيانا كثيرة أن يكون نفسه؛ إذ لا تنقاد له الطريقة التي يغلب بها على الحوادث أو يجاريها أو ينبه لها الحذر، ومن ثم ينكر نفسه كأنها غير التي يعرف من قبل، ولكن المرأة متى ثارت لا تعجز أبدا أن تكون نفسها، وما نفسها إلا أعظم ما في الخليقة من الخير والشر!
قال «الشيخ علي»: كذلك صارت «لويز» مع زوجها، وانحازت إليها طبيعته الغالبة؛ فكانت قوية به وبنفسها، وكان ضعيفا بها وبنفسه.
ألا وإن أخلاق المرء إنما هي أعصاب أعماله، فانظر - ويحك - ما عسى أن يكون في البغض أشد من أعمال امرأة أبغضت بعقلها وبقلبها، ولحاضرها ومستقبلها، وصارت حياتها كلها من الشر والسوء كأنها لعنة يصبها الله على رأس هذا الهرم؟
وكذلك اندمج في إرادتها كما يندمج الثعلب في فروته الجميلة الناعمة؛ ترميه بالنظرة حين يتكلم فتقف الكلمة بين حلقه والوريد، ويجيئها وقد أجمع النية أن يأمرها فلا تأخذه عينها حتى يسألها ما تأمره؟ ويجهد أن تعلم أنه زوجها ثم ينقلب وهو يتمنى لو تعلم أنها زوجته، ويوسع قلبه عزما أن يفعل ويفعل، ثم يراها فيخشى أن تكون اطلعت على أن في قلبه شيئا من العزم!
وهو لا يعلم بزعمه كيف أنكرته وكيف تغيرت عليه وكيف تنكرت له، ولكنه يريد أن يسأل كل شيء عن ذلك إلا وجهه، ذلك الوجه الذي جعله الحب أقبح ما عرف من دائه، وأشد ما خاف من أعدائه، وما أفضى إليها مرة وهو يحمله، إلا عرف أنه من ذنبه في حبها، وأنه من عذرها في بغضه؛ فيطرق إطراقة يتكلفها ويحسبها تشفع له عندها، لأن فيها ذل الشيبة، وألم الخيبة، وشدة الهيبة، ولكن وجهه يظهره وقتئذ مظهرا ليس في معنى السماجة أسمج منه؛ إذ يكون كاللص الذي لا ينكر على ملأ من الناس أنه سارق، وهو مع ذلك يحرص على أن لا يؤخذ منه ما تجشم في سرقته. وقد عرفت المرأة أنها لا تغمز منه إلا مكاسر عظمه الواهن، ولا تطأ منه إلا كل مفصل مرضوض، ولكنها عرفت كذلك أنه ظالم لنفسه؛ إذ حملها ما ليس في طاقته، وظالم لها إذ أرادها على ما ليس في طاقتها؛ فهو ظالم أشبه بمظلوم، وما مثله في حبها إلا كمثل الفراشة، لا ترجع دون المصباح إلا أن تخالط ناره، فما تحتال من حيلة إلا أحست منها حتفها وتلفها، غير أنها لا تزال تنزع من ذلك إلى ما ينبغي أن تنزع عنه، وكلما تهافتت انحص جناحها من ناحية؛ ومع هذا كله لا تسكن ما دامت فيها حركة تنبعث.
وما من شيء إلا وقد جعل الله فيه النفع والضرر، فمن التمسه على حالة منهما لم تؤده إلى الأخرى، وما تغني الإنسان معرفة الأشياء على حقائقها إلا إذا عرف مع ذلك فروق ما بينها، وتبين الحدود الفاصلة بين الشيء والشيء الآخر، وبين الحالة والحالة في الشيء الواحد؛ فقد يكون الإفراط من الدواء داء مع الداء، وقد يجتمع من طعامين بلاء لا يكون من جوع يومين!
والمرأة هي هي في حاجة الرجل إليها، ولكن كل امرأة تكاد تكون جنسا بعينه في حاجتها إلى الرجل؛ فمن ههنا أحبت وأبغضت.
ولو أن هذه المرأة مما تنبت الأرض وتسقي السماء، لقد كانت تصلح مع كل رجل كما تصلح لكل رجل، ولكن لها قلبا، وحسا مع هذا القلب، ونفسا مع هذا الحس، ورقة مع هذه النفس، فهي إن لم تحب الرجل من هذه الجهات الأربع، لا تكون قد أحبته ذلك الحب الروحي العجيب الذي يوصف بأنه حب المرأة.
52
قال «الشيخ علي»: وقد رأت «لويز» أن زوجها خرب من كل جهاته، وأكبر ما فيه أنه كالأرض الفضاء؛ إذا ضرب عليها سور وجعل في هذا السور باب، ووضع على هذا الباب قفل ... فما غناه العريض، ولا ماله الكثير، ولا اسمه في أهل الغنى، إلا كتلك الحدود المضروبة على ما وراءها من الفراغ والفضاء!
وكانت ترتاع لذله وترق لخضوعه، وتود لو استطاعت أن تراه غير من هو، فتعرفه غير ما عرفته وتجزيه غير ما جزته، ولكنه لم يكن يجيئها أبدا إلا بادي المقتل، ولا يريد مع ضعفه أن يعدل عن محزها، وما أماتت من نفسه نزعة إلا انبعثت فيها نزعة أخرى، كأنه رأى في غضبها جمالا لم يره في رضاها، وأحس من سورة شبابها وفورة غيظها ما يعالج منه خمود الهرم وبرد الموت في عظامه؛ فاعتاد منها ما تجزيه، واعتادت منه ما يخزيه، ومرا على ذلك دهرا مات فيه الوفاء، ومرض الحياء؛ فإذا تاريخ هذه المرأة كله لعنات، وإذا عرض ذلك الرجل كله طعنات، وأصبحت ملكة عليه، وأصبح معها كما قال ذلك الحكيم: «من أراد مصاحبة الملوك، فليدخل كالأعمى وليخرج كالأخرس!»
وبعد ...
فإن آلام النزع وإن لم تكن هي الموت ولكنها أشد منه، حتى إن الموت ليكون راحة منها، وقد مد الله في نزع «الكونت» مدا طويلا، فكان يقظان العين نائم الروح وكأنه مقبور في جلده، وكانت زوجه لا تألوه موتا، فليس يراه أحد إلا ظن أنه لما به،
53
ولكنه لا يموت؛ لأن أيامه كانت بعض ما كتب في الأزل من تاريخ هذه البائسة، وقد حمله الله على الأمل، والأمل مطية دائبة لا تكل ولا تنقطع، ولو ذهبت تقطع مسافة ما بين الضدين لتجمع أحدهما بالآخر، فما يزال يحسب أن لزوجته فيئة بعد شرة الصبى، وأن تقادمه في الهرم وتقدمها إليه سيصلحان ما أفسد الدهر منهما جميعا، وليس في الناس أحمق ممن يدفع نفسه إلى ما يظن، في حين تدفعه نفسه إلى ما يستيقن!
أما هي فرأت أن لا سبيل إلى انهزامها أو تراجعها بعد ما أنزلت أخلاقها إلى المعركة، كأنها ماتت قبل أن تموت فليس يضرها أن تقع في هذه المعركة هالكة، وليس ينفعها أن تخرج منها حية، وكل شيء تستدرك منه الحيلة إلا ما أفاتت المرأة من شرفها النسائي، فإنه إن فرط منه فارط لم يستدرك، فبسطت عنانها في يد الأقدار وانطلقت على أثرها صاغرة!
وقطع الفلك في دورته عشر سنوات حتى تفرى الليل عن صبح لم يشهده «الكونت»،
54
فترك لامرأته ما جمع، وترك فيها ذلك الموت الحي، وتركها في تلك الحياة شجرة مرداء،
55
غير أن اللذات لم تبق عليها بعده، فقد لا تقتل الآلام إذا أسرفت على النفس، ولكن اللذات لا بد قاتلة، وكأن الطبيعة فرضت على الإنسان أن لا يلذ بالعيش إلا حيث تكون لذته اختلاسا، فإنما ركب على أن يشده ما يؤلمه، ويبني منه ما يحسب أنه يهدمه؛ فإن هو حمل نفسه على لذتها، وأطلق لها ما بين هواه ورأيه، فقد أراد لبنيته الضعيفة وضعا ليس في هندسة الحياة، فلا تترك فيه اللذات إلا أمراضا، ولا تحمل منه الأرض إلا أنقاضا! ولو لم تكن هذه اللذة المسرفة سببا إلى الموت، لما ركب في غريزة الإنسان كره الموت من حب الاستمتاع بها، والحياة في «عمليتها الجراحية» المؤلمة لا تحز إلا بأسلحة الآلام الحادة واللذات الحادة!
وبيع ذلك القصر وما ضمه، وكان فيما يحويه بعض رفوف من الكتب يباهي الأغنياء بتنسيقها، ليظهر من ألوان جلودها رسم ليس في الحائط، فاشتراها أديب تأدى إليه خبر الكونت وامرأته، فإنه ليقرأ منها ذات يوم في كتاب يصف البأساء والضراء من هموم الحياة، إذ ندرت ورقة كانت بين صحفه، فالتقطها فإذا فيها روحان تعتلجان
56
بين هذين السطرين:
الفقر خلو من المال، ولكن أقبح الفقر الخلو من العافية.
فيكتور
والغنى أن تملك من الدنيا، ولكن أحسن الغنى أن تهنأ في الدنيا.
لويز
هوامش
الفصل الثامن
الحظ
قال «الشيخ علي»: وإن في نفسي أشياء من كلمة بين الكلام، قد ضل بها الناس ضلالا بعيدا، لا أعرف كيف استحدثت، ولا من أين انصبت على الدنيا، وقد خرج الناس من أن يهتدوا فيها إلى حقيقة مخلصة؛ إذ لم توضع في لغاتهم موضع شرح وإبانة، ولكن موضع غموض وإبهام.
ويا عجبا للإنسان! كيف اهتدى إلى التعبير عن المعاني الإلهية، التي يكون المعنى الواحد منها تاريخا طويلا لقدر من الأقدار المستكنة في غيب الله من لدن يقضى إلى يوم يقع، وكيف تلقى في نفس الإنسان معاني الغيب فيردها ألفاظا يحمل منها السماء بأفلاكها على بضعة أحرف!
1
على أن أعجب ما فيه أن يعبر عما تناله قوته بألفاظ صريحة خالصة لا لبس فيها ولا اختلاط، فإذا انتهى إلى ما يضعف عنده أو يعجز دونه أشار إليه بحروف مبهمة لا يكون لها في نفسه من الدلالة الغامضة أكثر مما يدل المجهول على أنه مجهول؛ فالإنسان متى أحس القوة رأيته كأنما يحاول أن يسمع السماء بطنين ألفاظه المكشوفة عن معانيها أنه موجود على الأرض، ويحاول أن يظهر للأرض بصراحة هذه الألفاظ أن له إرادة تعمل مع الأقدار في تسخير الطبيعة، ولكنه عند العجز والضعف، وعندما يتخيل صفات من القوة الأزلية ولا يحسها، تراه يرسل الكلمة الخفية التي تشير إلى كبريائه بشيء من الصراحة اللغوية المحدودة، وإلى ضعفه وعجزه بإبهامها المطلق، فما إن تزال في هذا الوجود اللغوي خالية من المعنى على وجه التعيين والنص، حتى يقع بها قدر من الأقدار فيكون هو معناها.
2
وضعف الإنسان لا حد له، فلا حد لما يستعمل من الكلام المبهم الذي يحمل ما شئت أن يحمل، ولولا ذلك لما صح أن تكون الفصاحة نفسها وسيلة من وسائل التعمية في محاورة الخصوم.
قال «الشيخ علي»: أما الكلمة التي أشرت إليها فهي لشمول معناها الطبيعي وإبهامه، كأنها لغة للنفس الإنسانية أين وجدت، ولكن ليس للإنسان أن يفسرها؛ بل هو يتعلل بها ويتعلق عليها، ويعلم أنها كذا خلقت؛ لأنه إن قدر معناها قدره على قياس لا يبرح يطوي هو من طرفه ليعرف ماذا يبلغ؟ وما هي مسافته؟ ويعد القدر من طرفه الآخر ليفسد عليه ما عرف.
فهي كلمة يستوي عندها خطأ الإنسان وصوابه، ولهذا يراها واقعة في موضعها وفي غير موضعها، ولا معنى لها عند هذا الإنسان إلا أنها اتجاه حركة القدر، وهي «الحظ».
الحظ يا بني كلمة غامضة غموض النفس الإنسانية، يتعزى بها أهل الأرض جميعا، ويظهرون فيها إيمانهم الفطري الذي لا بد منه للقلب؛ فما دام هذا الكون على تركيبه العجيب، وما دام هذا التركيب على غموضه المعجز بحيث لا يمكن أن يعرف بجملته، وما دام في هذا الإعجاز موضع حيرة للعقل، فلا بد في اللغات من ألفاظ تصور كل ذلك، وتصفه على تلك الوجوه العجيبة، بحيث تكون اللفظة إقرارا من الإنسان وإن جحد، وصورة لإيمانه وإن كفر.
وهذه الكلمات من أوضاع الإلهام، فلا تخلو منها لغة من اللغات، وهي بعد في تفاوتها وظهورها كدرجات الإيمان من أدناها إلى أعلاها، فمن لم يؤمن بالله وجد في لغته لفظا للقدر وهو الإيمان بعمل الله، فإن كفر بالقدر اعترضته نفسه بكلمة «الأمل» وهو الإيمان برحمة الله، فإن جحد هذه اعترضته طبيعته الإنسانية بكلمة «الحظ» وهو الإيمان بقدرة الله، ولا أحسب أن في الأرض رجلا يكفر بهذه الأربعة جميعا!
ومن ههنا كان الكفر نفسه لا يخلو من إيمان، وكان الكافر كأنه إنما يؤمن من أضعف موضع في الكون،
3
وما أشبه الإيمان بجبل راسخ يحمل الناس كافة، غير أن المؤمن يصعد مرتقيا من جهة، والكافر ينزل منحدرا من الجهة الأخرى!
والعجيب أن كلمة «الحظ» نفسها يضعف معناها ويقوى بعكس ما يكون في الإنسان من قوة الإيمان وضعفه؛ فالرجل المؤمن القوي في إيمانه بالله قلما يفهم من هذه الكلمة إلا أضعف ما تريد النفس منها، فهي تبعثه على تذكر قضاء الله والاستكانة لقدره والتعزي عما فات بما لا يزال في الغيب، ولكنك واجد ضعفاء الإيمان لا يفهمون منها إلا القوة المسخرة لحوادث الدنيا، ولا يريدون بها إلا تسخير هذه القوة في منافعهم؛ ومن ثم تهيج الكلمة في أنفسهم من معاني السخط والارتماض أكثر مما تبعث في نفوس المؤمنين من معاني التسليم والاستكانة؛ وهذا عجيب من طباع الناس لولا السبب الذي كشفته لك!
وما أراك تحسن معرفة هذا السبب ما لم تعرف حقيقة ما أريد بكلمة «الإيمان»، فلست أريد بها ذلك المعنى الذي يتعاون على تمثيله البناء والنجار والحداد وغيرهم من أهل الصناعات، حين يشيدون المساجد والبيع والصوامع ونحوها من أمكنة العبادة؛ فإن هي إلا بعض مظاهر الدين الاجتماعية لا غير، ولا يمكن أن يحصر الضمير الإنساني بين حائطين.
وإنما الإيمان هو ذلك المعنى الذي يلقي على روحك السكينة لأنها متصلة بالله، وفي ضميرك المحبة لأنه متصل بالناس، وهو ذلك المعنى الذي يعلمك ما أنت ممن حولك، وما حياتك مما وراءها، وهو ذلك الاعتقاد الكبير الذي تصغر عنده الحياة بما فيها من الخير والشر، وتهون بما فيها من النفع والضر؛ لأنه قائم على الفكر الذي هو بقية ما نفخ الله من روحه في الإنسان الأول،
4
فلا يضعف أبدا ما دام في الكون قوة، ولا يفتقر أبدا ما دامت الطبيعة غنية بجمالها، ولا يسقط أبدا ما دامت السماء قائمة، ولا يموت أبدا ما دامت الحياة باقية؛ ومتى خضعت له استحال عليك أن تذل لصغائر الحياة؛ لأنه هو لا يذل، ومن مظاهره تلك العظمة التي تكون في الأبطال فيستهينون بالحياة إذ هم أهل الموت، وفي العظماء فيتنزهون عن الدنايا إذ هم أهل الأخلاق، وفي الحكماء فيزهدون في حطام الدنيا إذ هم أهل النفوس.
ومن ثم كان الإيمان الصحيح حرية صحيحة؛ لأنه يعصم من ضروب الذل كلها، وكان منفعة خالصة؛ لأنه الحد القائم بين النفس وشهواتها، وكان عزاء نافعا؛ لأنه العقل السماوي الذي يلهم الإنسان حكمة كل مصيبة، أو يلهمه الثقة بالحكمة التي يجهلها، ولو أن للفضيلة عبادة لكان لها من أخلاق كل رجل صحيح الإيمان مسجد تعبد الله فيه!
ولا يصح إيمان المرء حتى يتبين لنفسه طريقا إلى ربه، فيرى كأن قطعة من السماء في باطنه تضيء له الحياة، ومتى عرف هذه الطريق وامتد بها ضميره إلى حيث يتصل بجلال الله، فمن هذه الطريق نفسها يرد مصائبه إلى الغيب كما جاءت من الغيب؛ لأن للقدر طريقين: فواحدة يندفع منها، وهذه لا تعرف إلا بعد أن تقع الواقعة فتدل عليها بنفسها، والأخرى هي التي ينصرف إليها القدر في حركة الدهر، وهذه لا يوفق إلى معرفتها غير السعداء، ومن كتب الله لهم أن يكونوا مظهر حكمته أو مظهر حمده.
فقوم يجدونها في إيمانهم الوثيق، وآخرون يصيبونها في حكمتهم البالغة، والمؤمن إنما هو صورة قلبية من الرجل الحكيم، والحكيم إنما هو صورة عقلية من الرجل المؤمن، فإذا نزلت بأحدهما المصيبة، وبلغت منه ما لا يبلغ الصبر، فتح لها طريق السماء في باطنه فيبصرها كأنها مدبرة، والمصيبة متى وجدت كالحياة متى ولدت، لا محل للعقل أبدا في أولها، فإن هي ذهبت مدبرة اعترضها المرء على عينه فتنكشف له عن معناها، فيتبين حكمة الله منها، ويرى حينئذ كيف تنقح يد الله في تاريخه.
وما أرى المصائب في نظام الكون إلا حركات ظاهرة تسير بها نعم مجهولة لا تزال من وراء الغيب، وكثيرا ما يكون من هذه المصائب ما ينبه الله به الناس من غفلاتهم حتى لا يقعوا في أشد منها إذا تركوا لما هم فيه؛ فليست النازلة هي المصيبة، ولكن المصيبة من جهلنا وضعفنا؛ ألم تر إلى كل نعمة مع الجهل والضعف كيف تحمق
5
وتضعف حتى لا تكون مع صاحبها إلا قريبا مما تكون المصيبة مع صاحبها؟
قال «الشيخ علي»: والحقيقة يا بني أن من لم يكن كفؤا لما يناله هلك بما يناله؛ فالحظ توفيق، والتوفيق أن لا يكون لك إلا ما تصلح له، فأنت بذلك مطمئن، ومن ثمرة الاطمئنان الرضا، ومن غاية الرضا أن تستمتع بما أنت فيه؛ فأيما رجل أصاب فاطمأن فرضي فاستمتع، فهذا هو ذو الحظ وإن كان عند غيره لم يصب إلا قليلا، ولم يطمئن إلا من ضعف، ولم يرض إلا من عجز، ولم يستمتع إلا بأهون المتاع.
إن كل امرئ يريد لنفسه لا لسواه، وإن أول التوفيق أن تريد ما يصلحك، وأول الخذلان أن تريد ما لا يصلح لك، وما الطمع إلا فقر حاضر ولو كان طمع الغني.
وإن هذه النفوس لتبلى من طول ما يلبسها قدر ويخلعها قدر؛ فلقد رأيت غير الموفق حين يجور في إرادته، ويضل في مسعاته، ويلتمس من الغيب ما يقدر لنفسه دون ما قدرت له نفسه؛ لا يبرح يكد ويسعى، وكلما لبس حالة من دنياه فاضت عليه فخلعها، أو ضاقت عنه فخلعته، ولا يزال ذلك من دأبه ودأب القدر معه حتى يهن ويضعف ويصير إلى البلى في نشاطه وحزمه، وفي طماحه ورغبته، وقد أنفق من حياته ما لا يرد في ابتغاء ما يدرك، وهذا كله هلاك بطيء يأتي على العمر، وما العمر بمقدار الزمن الذي تعيش فيه، ولكنه مقدار ما توفق من عيشك.
وهل سمعت برجل كان يحفر قبره منذ عقل معنى الموت، وقد نذر أن لا يحول عنه، ثم لم يزل يوسع الأرض من عمله، ويفسح في جوانب هذا القبر، وعمر طويلا، وغبر على ذلك دهره، حتى أصبح قبره يأكل القبور أكلا،
6
ثم أدركه الموت فانطرح فيه رمة بالية، فإذا هو لا يملأ من جوفه عمل يوم واحد مما كان يعمل، وبقيت الحفرة كأنها فم مفتوح تصيح منه الأبدية: أين الميت العظيم الذي أعد كل هذا لجيفته؟ وما بال هذا الساعد وما بال هذا المنكب؟ وفيم كان ذلك العمل؟ وما هذا النبوغ الميت الذي ضاعت فيه الحياة، ولم يعظم به الموت؟
إنك إن لا تكن سمعت بهذا الرجل، فلقد رأيت كثيرا من مثله يعملون للحياة عمل ذلك الأحمق بعينه للموت؛ فهو لم يمت بمقدار ما أعد لنفسه، وهم لا يعيشون بمقدار ما جمعوا لأنفسهم، ومنهم من أنفق العمر في أكثر من حاجته، ومنهم من أضاعه في غير حاجته، والعمر لا يستخلف، وكلا الفريقين طرف من قياس واحد في الخذلان وإن كان أحدهما يبتدئ من عكس الجهة التي يبتدئ منها الآخر.
لا يوجد على الأرض من يملك شيئا في الأرض غير محدود، ولكن ما من أحد يملك طمعا محدودا في نفسه، ومن هنا كثر ما يسميه العامة «سوء الحظ»، وإنما هو سوء التوفيق.
أما حسن الحظ فما أحسب الناس يعرفون ما هو، وما أراه إلا رغبة مجنونة لا يقرها العقل ولا يستقيم بها نظام الدنيا، وإنما عرف الناس في كل وجه من وجوه الحياة كيف تكون الخيبة، وكيف يمرض الأمل، وكيف يهلك الطمع، وسموا ذلك «سوء الحظ» فحسبوا أن لهذه الأحوال ضدا، وجعل كل واحد يتمنى لنفسه هذا الضد، ويصفه ويسميه «حسن الحظ» لأنه زعم لا سوء فيه، كالذي يسمع بالموت فيحسب أنه يعرف ما هو الموت؟ والحقيقة أنه لا يعرف منه شيئا، وإنما عرف الحياة الهالكة!
يأبى كل أحمق إلا أن يختط لله خطة يبني له عليها مستقبله، فكأنما يريد أن تمشي يد الله في التقدير على أجزاء الصورة التي في خياله!
7
ولو جمع الله أبنية الأماني من أوهام الناس ومثلها، وكشف عنها الغطاء فأبصرناها، لرأينا ثم «مدينة المستقبل» التي لا يملك أفخم قصورها إلا الصعاليك!
ما أنا فلا أرى كلمة «الحظ» فيما نأمله وفيما نتعلل به إلا لحنا من الألحان الطبيعية، التي خلقت في أفواهنا لنتغنى بها تحت الأحمال الثقيلة من مصائب الدنيا وأطماع النفس؛ كي تجم الطباع، وتنشط للسير بأحمالها؛ فما الإنسان إلا دابة للحمل، وعليه أن يحمل من معاني المادة التي يعيش فيها أو يعيش بها، والزمن نفسه بحكمته وعلومه وحوادثه إنما يعلمنا كيف نحتمل الأسواء والهموم أكثر مما يعلمنا كيف نتقيها.
قال «الشيخ علي»: ولكن يا بني ما هذا الذي يرتفع بالخامل، ويتقدم بالعاجز، ويجعل النكرة معرفة والمعرفة نكرة، ويضرب وجه الحق عن مستحقه، ويفلج
8
الضعيف وما يسمو به أمل، ويحرم المجد وما يشك في الظفر، ويخالف في سبيل الأقدار بين نصيب ونصيب، ويقطع في محاولة الأمور بين الأسباب والغايات، ويبعد المنفعة مما به تمامها، فإذا هي مضرة ومفسدة؟
لعلك تقول: إن كل هذا يجتمع في كلمتين هما «السعد والنحس»، وهما تنطويان في لفظة واحدة هي «الحظ»، ألا فاعلم أن هذا من وضع الإنسان لا من وضع القدر، وهي مذاهب لغوية تمر بين أنفسنا وبين أفهامنا، وقد جئتني بجمل تنطوي في كلمتين، وكلمتين تجتمعان في لفظة، وأنا آتيك بجمل في كلمات في صوت واحد؛ فما هي صرخة الألم مثلا؟ أليست قطعة طويلة من كلام النفس يجمعها الحس الثائر المتألم وينتفض فيها فلا تكون إلا صوتا واحدا! وانظر أين هذا الصوت مما يشرحه لك الطبيب من أسباب ذلك الألم وعوارضه في كلام طويل وعبارة سابغة لا يتألم منها حرف، مع أن أحدهما إنما يفسر الآخر كما ترى!
وأنا فلا بد أن أعلمك من أين خرجت هذه الأسماء،
9
لقد خرجت من تاريخ النوع الإنساني كله؛ فان هذا الحيوان العاقل كان يشعر بمعاني الأشياء قبل أن يضع ألفاظها، وكان السخط والغيظ والحسد والمنافسة ونحوها من غرائزه الطبيعية؛ إذ هي المعاني التي بثها الخالق في نفسه لتنشئ في الأرض تاريخ هذه النفس، فكان إذا تعادى رجلان أو فئتان فبغى بعضهما على بعض، أحس الغالب منهما أن قوى الطبيعة معه، وأيقن المغلوب أن قوى الطبيعة عليه؛ لأن الإنسان لم يكن عرف نفسه بعد، وكان هو وحده يمثل في هذه الطبيعة المخيفة الرائعة فكرة الخوف العاقلة!
فهذه الثقة في القوى الطبيعية المجهولة من الإنسان، وهذا الشك فيها والخوف منها، هما الأصل في تاريخ لفظتي: السعد والنحس.
ولقد كانت الأمم القديمة كلها تتوسل إلى الغيب المجهول بوسائل غريبة من الطلاسم والتمائم والتعاويذ ونحوها من الأعمال والعادات المأثورة في تاريخ كل أمة؛ لأن ذلك المعنى بعينه قد ارتقى مع العقل واشتد مع الإنسان، فخرج من مخافة الطبيعة إلى الرغبة في إخافتها، حتى تنزل على حكم الإنسان في اجتلاب الخير ودفع الشر. والزمن لا يأتي على الغرائز فيمحوها، ولكنه يحول منها شيئا ويهذب منها شيئا؛ ومن هنا كانت كلمة «الحظ» فاشية في المتمدنين؛ لأنها آخر صورة مهذبة من تلك الغريزة الأولى!
أما إن في حوادث القدر أشياء لا نفهم وجه الحكمة فيها، وهي الحظوظ والأقسام؛ فذلك صحيح في نفسه بمقدار ما هو خطأ في أنفسنا، والشذوذ فيما يقع من حوادث الدنيا وفيما نشهد من تصاريف القدر أمر معلوم، ولكن لماذا لا يكون قاعدة لأشياء نجهلها ما دمنا نجهل الغيب كله ولا نعرف منه شيئا؟
ما رأينا قط في تركيب هذا الكون المعجز شيئا خارجا عن موضعه، ولا شيئا زائدا في موضعه، فلم نظن مثل ذلك في الجهة التي تتصل بنا من حكمة الله، جهة السعد والنحس؟
يا بني، إنما قربت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إليه، وإنما بعدت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إلى غيره، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، فربما سعى المرء بكل سبب فلم يفلح، ثم يقع له سبب لم يمتهد له وسيلة قط فإذا هو عند بغيته، وإذا هو قد ملأ يديه مما كان قد يئس منه، فلا يكون عجبه كيف خاب في الأولى بأشد من عجبه كيف نجح في الثانية!
وهذا هو مظهر إرادة الله، فإن صادف من بعض النفوس الضعيفة حسدا أو غيظا أو سخطا أو منافسة أو نحو ذلك مما يكون مظهرا لضعف الإيمان في النفس، تحول المعنى إلى لفظ يحمل كل هذه العواطف الوحشية، فلبس الكلمة التي تسلب الإنسان قوة نفسه، وتكاد في إبهامها تسلب الأقدار قوة الحكمة أيضا، وهي كلمة «الحظ»؛ ألا ترى أن أحدا من الناس لا يتعلل بهذه الكلمة ولا يحتج بها ولا يسكن إليها إلا من غيظ أو سخط أو حسد أو عجز، أو ما هو بسبيل من هذه المعاني؟
قال «الشيخ علي»: فلم يبق من معنى «الحظ» إلا أن يقال: ولم وفق فلان، ولم خذل الآخر وما هو بدونه، وربما كان أحق منه، وربما كانت المنفعة به أكثر والنعمة عليه أظهر؟ ولم كان ذلك سعيدا، وبأي شيء صار سعيدا، وهذا شقيا؟ وبأي شيء عاد شقيا؟ إلى نسق طويل من هذه المسائل التي لا تجيب عليها السماء، ولا تكف عنها الأرض أبدا.
ولكن يا هذا لم تخفي أنت وحشيتك المهذبة وتكاتم الغيظ والسخط والحسد، ثم تحتال على أن تخرج هذه المعاني الخشنة في ألفاظ لينة، وأن تعترض على القدر في أسلوب من التسليم والرضا، وتطرح بينك وبين الله لفظة إن لم يكن معناها مخاصمة القضاء فمحاسبته، وإلا فمعتبة عليه!
وهل تعلم أنت ما هي شعوب الحوادث وفنونها، وما الذي سيفعله المجدود
10
حين تقبل عليه الدنيا، والمحروم حين تدبر عنه النعمة، وماذا يكون مما يترتب على الحرمان أو ينشأ عن الحظ، وهل تدري لم أساء بعض الأغنياء حمل الغنى دون البعض، ولم أحسن بعض الفقراء حمل الفاقة دون البعض، ولم ابتليت طائفة بالتمني وابتليت غيرها بالضجر مما تتمناه الأولى، وحبب إلى تلك ما بغض إلى هذه؛ ولم انتزعت نعمة بعد أن استمكن حبلها، وأقبلت الأخرى بعد أن استيأس أهلها؟
أليس من كل هذا يتهيأ البقاء للحياة الإنسانية في نظام لا يخف على نوع الإنسان فيهمله فيفسد به، ولا يجور عليه فيستأصله فيذهب به؟
وهل الناس إلا خطوط في لوح الغيب، يستقيم ما يستقيم منها، ويعوج ما يعوج؛ لأن كل ذلك مما لا بد منه في جملة الوضع وإحكامه؛ فإذا أردت أن تسأل لم استقام هذا ولم اعوج ذاك، ثم ما قصر وطال، ثم ما دق وجل، ثم ما علا وسفل، ثم ما انفرد واختلط؟ فسل: لم خلقت الدنيا ولم خلق الناس؟ وسل الخالق ولا تسل «الشيخ علي»!
كل ذلك يا بني حكمة وكل ذلك انتخاب، وقد ظفر العلماء في حركات النظام بما سموه «الانتخاب الطبيعي»، وعرفوا أن ذلك سر من أسرار التقدم والارتقاء؛ فاعلم أن ما نحن فيه من معنى «الحظ» إنما هو «انتخاب إلهي»، وذلك سر من أسرار الحياة والبقاء، وما من حركة لي ولك ولكل إنسان إلا هي تمس قطعة من تاريخ الحياة وطائفة من الأحياء؛ فليس من حي هو لنفسه وحدها، وليس من حقيقة هي لنفس واحدة، وإن عرف الإنسان بعض الحقيقة من نفسه، فأكثر الحقيقة لا يعرفه إلا من سواه؛ ومن أجل ذلك يقضي نظام الحياة بما نسميه «الحظ»، وإن كنا لا نفهمه كما يقضي به نظام هذه الحياة، وإنما قوة الحركة وضعفها على حسب ما يراد بها في الدفع والجذب؛ فكن واثقا بالله مؤمنا بالقدر خيره وشره، فالثقة وحدها حظ عظيم، والله تعالى يصيب الناس بنياتهم؛ إذ هي حقائقهم الصريحة، وإذ هو وحده المطلع عليها؛ فهو يوفق السعداء للنية الحسنة ثم يسعدهم بهذه النية على الوجه الذي يعلم أنه من سعادتهم، فإن لم يكن لهم الحظ الذي يريدونه فلهم الحظ الذي يلائمهم، وربما كان زمام العافية بيد البلاء، وكانت النعمة في عاقبة المصيبة، وكان الإنسان عابسا من طلعة القدر والقدر يضحك له!
وإذا لم يكن للأقدار نواميس أرضية تجري عليها وتقع بحسبها، فإن أقرب ما يصح أن يعد من نواميسها فيما أرى هو نيات الناس.
وما النية إلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما؛ فلا تنطو على ما يسوءك أن تنم به ألسنة الغيب، وإنما الحوادث من هذه الألسنة، ولا تعقد هوى ضميرك على ما تحسبه أملا من حيث لا يكون إلا حسدا للناس، ولا يعقب إلا نكدا لنفسك، وما تظنه عزما منك وهو طمع في الله ومخادعة للقدر.
وحسبك من المتاجرة مع السماء بضاعة صالحة من الإيمان الذي لا غش فيه، ومن المتاجرة مع الأرض بضاعة طيبة من النية التي لا دنس فيها؛ فإن ربحك من هذه البضاعة التي لا تكسد في أسواق السماء والأرض، أن يلقي الله عليك محبة منه وتأييدا وسكينة، وإن رأى الناس أنك خسرت شيئا من الغنى أو الجاه أو متاع الدنيا، فإنما تعلم أنت يقينا أنك لم تخسر إلا الهم والشقاء والتعب بالدنيا وأهلها.
ويومئذ يكون لك من حسن الإيمان، وحسن النية، وحسن الأخلاق، ما تعرف منه كيف يكون «حسن الحظ».
هوامش
الفصل التاسع
الحرب1
رقعة من الأرض كأن فيها شيئا من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله، فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه؛ ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتلقيه على صدرها ميتا أو جريحا كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتها الرءوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!
بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر إلى مسرحها الناس ليمثل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة!
أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على «الفتح» بني على «الكسر»، وما منهم إلا من يحمل رأسا كأنه لا يملكه، على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه؛ فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.
وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه «الطرح» أم أخذه «الضرب»، وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار؛ فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على «النار»، فثم المكان ولو في جوف البركان. وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن، بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من «خفة الروح» بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.
وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضيا، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكما على الحياة ماضيا؛ فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويتكلم بألسنة الروح، من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل «ضرب»، ويجري الحياة مجرى «الاستعارة» في «بيان» الحرب.
وقد تواقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض؛ فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنة، أو نوازع من السحاب بروقها الصوارم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب، وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكأن العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان، حتى لم يعد من الإنسان، فإذا صاح بقرنه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا ماجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.
وقد ثار الغبار كأنه طريق يمد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه أرض ثامنة بدأت تتخلق مبعثرة في الفضاء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيرا بالهواء من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم
2
فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار إلى السماء ينظر ماذا دهى الغمام.
وقد رمت الأرض تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صورا من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفة إذا استطار فيها الحريق، وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من الجحيم، وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.
تحمل في بطونها أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتنحني القلاع مخافة منها على أولادها،
3
ولها صوت بعيد كأنما تنادى به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة.
وهي القارعة، وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش،
4
وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور، فإنه يوم تحصيل ما في الصدور،
5
وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور، فإنه يوم يبعثر الناس في القبور.
وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله - عز وجل:
فيه بأس شديد ، وحسبه رعبا أنه شكل «عصري» من عذاب الخسف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد. فكم من حصن منيع اعتز به أهله اعتصاما، فتركهم فيه ترابا وعظاما، وكم من قلعة شامخة اغتر الجند بقواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها.
6
وأما الرصاص فهو من سماء الموت حب غمامه، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره، ولا حملت من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاه وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر فكأن في السماء نجما تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوج
7
من ذباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها.
وكأنه زفرات غير أنها لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه، وهو أوقع في الرءوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكايد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ. •••
وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصوير كيف تجمله، فليس يعرف القلم كيف يفصله؛ ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان.
قوة المعجزات التي أركبت هذه الذبابة الإنسانية على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت «الطيارة» خفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها،
8
وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وما هذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جاشه،
9
والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه، وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالنور على الأرض
10
ليطلع نصفه الآخر كالليل؟
وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر، وقد ضجر من هذا العلم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه؛ فزفر زفرة أيقظت الموت وكان نائما، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعدا أو قائما، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيبا، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيبا، وجعلت من البيوت قبورا لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها؛ فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم. •••
قال «الشيخ علي»: تلك هي الحرب القائمة اليوم، ولكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش، وكل كلمة أمة، ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت، ولو أن لهذا الكون مرضا يعتريه كما تعتري الناس أمراضهم، لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفالج،
11
فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس؛ لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت؛ فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعا؛ إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعبا من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه؛ لأن أكثر حقيقته الإنسانية فيه، ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها، وليس له في الأرض خال ولا عم، ولا يعرف شيء يقول للعلم «يا بني.» ويقول له العلم «يا أبت.» إلا التاريخ الإنساني.
ولهذا سفر بين أمم الأرض كل ما يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده، واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها، فما إن يقع الاضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها، من هزة ترجف، إلى زلزلة تهدم، إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.
وإني باسط لك شيئا من الرأي في كلمات قليلة، ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها النصر، فتكون هي تاريخ الحياة، ولا يكون ما سبقها إلا تاريخا للموت.
ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سببا في كل حادثة، وما صارت كل حادثة سببا فيه؛ لأثبت يقينا أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حينا ثم ينعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب، فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم.
فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه، ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها، ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.
فالحرب شر لا بد منه؛ لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه، وهل يبتغي الإنسان أن تضرب العصور والدول كما تضرب الدنانير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ، وكنا في عمر محدود، فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله آلات البناء، ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفر أو يكسر أو يرض.
إنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يطير لها في كل أرض صوتا
12
بالذم والسوء، أنها لا تأتي إلا بغتة، ولا تطبق إلا في غفلات العيش، وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت، وتطلع في خصب النعمة سوداء من لون القحط، وتنبثق بالشر من حيث يكون الشر مأمونا، وتصب المحنة على من لا يطيقها، ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفا، وهي في كل ذلك البلية المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث،
13
وتضرب فيها الألسنة، وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفا وشدة، وخوفا وطمعا، وبخلا وكرما، وحذرا واندفاعا، بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت، أو بالخوف من الموت، أو بالخبر عن الموت، أو بما يشبه الموت، أو بما يكون الموت خيرا منه!
وإلا فكم يترضرض الناس
14
كل يوم، وكم يجدون من صنوف الدمار في الأعمار، ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها، ولأظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب، وإن لم يصرخ به صوت الموت.
وما البغي والظلم والكيد والفتنة والاستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي، وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت، ولكن ذهب بإثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة، وأنها لا تنالهم إلا فردا فردا، وكأن باطل الأمم غير باطل الأفراد؛ لأن الاجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع، وأن يكون الفرد مظهر العقاب، ولكن ليت شعري لم يكون الفرد كذلك من الأمة، ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها؟
فالحرب هي عقاب الجماعات، وهي كذلك ضرورة اجتماعية، ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واحدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب، ليزهد الناس في جنة الله، ولا يدع للأديان محلا على الأرض، ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها، فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية، وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحيانا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة.
وإذا كان الله لم يخلق إنسانا من النور فلا تظلم نفسه، ولا من الثلج فلا يحمى دمه، ولا من الصخر فلا يهن كاهله، ولا من الحق فلا يحيف على غيره، ولا من الرضا فلا يطمع في سواه، ولا من الكتمان فلا تخرج أضغانه، ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع؛ فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟
ألا إن الإنسان لا يولد ساكنا ولا نظيفا، وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تنفجر من حوله ههنا وههنا؛ وما أرى الحرب أكثر ما تكون لا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب، فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الحيوان في ثورة من الدم، ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.
قال «الشيخ علي»: والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة، بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان؛ فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويطغى الماء وتثور العواصف وتنفجر البراكين، يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها؛ لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة، وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه.
15
فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية، وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقائه اللازمة له، لما قامت في الأرض حرب قط، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين القتال، لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حرب قائمة بين مذاهب الحياة.
وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين، تجتمع الأمم المتحاربة لتنقيح الطباع والعادات، وما أعجب أن يكون القتل تنقيحا في قانون الحياة!
16
فلا تنظر من الحروب إلى هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين؛ فذلك كله إلى نهاية، ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم إلى آثار الهدم، ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده، وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله.
ولكن متى تكون الحرب حقا، ومتى تكون باطلا؟ فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالا آخر، وهو: متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن يتحرف ليتبع مجراه من الغيب؟
أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحيانا يكون أول من ينهزم في الحرب كما تراه اليوم،
17
فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولا هم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوما ودفاعا، وترى الصلوات والأدعية والتسابيح تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار والغازات، كأنها قنابل صنعت من العواطف؟
وقد يقول بعضهم: إن في الحرب إسرافا اجتماعيا بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى. ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانا على شكل مخترع!
فلا ترين يا بني هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سببا في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم، وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة، فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنسانا!
وأنا يا بني في خاصة نفسي أكره الحرب؛ لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوث الحياة بدماء الرجال ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكمة مما تبغضه، وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخر!
وأكبر شخص اجتماعي وهو الأمة، كأصغر شخص اجتماعي وهو الطفل؛ كلاهما يبكي ويتألم حين يضرب لتأديبه.
قال «الشيخ علي»: وهذا آخر قول الشيخ علي.
على الكوكب الهاوي
حسناء أفقرتها الحرب، وكيف تتلقاها الحقيقة؟
طريدة بؤس مل من بؤسها الصبر
وطالت على الغبراء أيامها الغبر
تنكرت الدنيا لها ورمت بها
على الكوكب الهاوي حواه فضا قفر
وكانت كما شاءت وشاء جمالها
كما اشتهت العليا كما وصف الشعر
تلألأ في صدر المكارم درة
يحيط بها من عقد أنسابها در
وما برحت ترقى السنين وتعتلي
وكل المعالي في طفولتها حجر
فكانت كزهر نضر الفجر حسنه
ولما علت كالنجم أطفأها الفجر •••
رمى الدهر أهليها بحرب ولم يرد
بها الشر لكن الحروب هي الشر
ومن يحطم الكأس الروية وحدها
فقد ذهب اثنان الزجاجة والخمر
تقاسمت الحسن الإلهي وانثنى
يقاسمها فالأمر بينهما أمر
فللشمس منها طلعة الحسن مشرقا
وفيها من الشمس التوقد والجمر
وللزهر منها نفحة الحسن عاطرا
وفيها ذبول مثلما ذبل الزهر
وللظبي منها مقلتاها وجيدها
وفيها من الظبي التلفت والذعر
وما قيمة الحسناء يقبح حظها
وتذوي بروض الحب أيامها الخضر
من الحسن معنى يهلك الحسن عنده
كما أهلك الأزهار أن يؤخذ العطر
فما الحسن فخر للحسان وإنما
لخالقه فيما يريد به سر •••
ضعيفة أنفاس المنى بعدما غدت
رقاب أمانيها يغللها الفقر
وبين خطى أيامها كل عثرة
يزلزل أقدام الحياة بها العسر
وزجت بها الأحزان في بحر دمعها
وليس لبحر الدمع في أرضنا بر
يقاذفها موج الليالي وما لها
سوى زورق واه يقال له العمر
وما التمست رأس الرجا عند صخرة
فكان سوى رأس الردى ذلك الصخر
إذا استنبئوها أرسلت من دموعها
لآلئ حزن كل لؤلؤة فكر
وإن سألوها لجلجت فكأنما
عرا اللفظ لما مر من فمها سكر
مشردة حيرى تنازع نفسها
فريقان ذل لم تعوده والكبر
وما قتل الذل امرأ من عبيده
وكم من فتى يرمي بهامته الفخر
ولو أنصف الإنسان في قدر نفسه
رأى قدرها أن لا يهون لها قدر
فلا تتساءل كيف تقعد وادعا
ولكن تساءل كيف يسعى بك الذكر
وكن رجلا كالضرس يرسو مكانه
ليطحن لا يعنيه حلو ولا مر
ولا تتوقع أي جنبيك واقع
إذا انطبقت يوما حوادثها النكر
ولكن تلق الدهر غير مفزع
بصدرك ولتعر الخطوب كما تعرو
فعز الحسام الهندواني صدره
وذل العصا أن العصا كلها ظهر
ولن يهن الحر انتضى عزماته
وصال بها من صبره الخلق الحر
وإن تغلب الأبطال في كل حومة
فما عرفت حرب بها غلب الصبر •••
وليلة هم ما يطير غرابها
ولا انحط من وكر الصباح له نسر
تطل عليها الشهب أعين نقمة
تطاير فيما بينها النظر الشزر
ويزفر فيها الليل زفرة مارد
تطير لها من برقه الشعل الحمر
ويخفق في أحنائها كل عاصف
خفوق فؤاد بات يسلمه الصدر
ويغضب من آثامها الموت غضبة
يرج لها في كل ناحية قبر
دخانية هوجاء لو مد نقعها
لقام على وادي الجحيم بها جسر
وأهون ما في أرضها وسمائها
على الناس هاتيك الحزينة والبدر
18
ثوت تحتها تلك الفتاة عليلة
تئز كما أزت على نارها القدر
وفي غرفة مما بنى الله لا الورى
فليس على من حل ساحتها أجر
جوانبها شرق الظلام وغربه
وفي سقفها ضاءت كواكبه الزهر
ممددة كالسطر في صفحة المنى
وأطمارها تبدو كما «شطب»
19
السطر
فإن يك أهل الأرض أرقام حاسب
فتلك وراء العالمين هي الصفر •••
رمت عينها يمنى ويسرى فلم تجد
على الأرض خلقا ليس في جنبه غدر
رأت كل مخزاة من الشر تلتوي
ويهرب ذعرا من جنايتها العذر
رأت أثرا تدمي به الأرض والسما
وليس سوى الإنسان في جرحه ظفر
رأت ذلك الإنسان يطغى بعلمه
ويجهل أن العلم عن جهله زجر
أليس يرى الإنسان في القرد شبهه
فهل ذاك إلا من تكبره سخر؟
كما عاقب الله الأسود لكبرها
فجاء لنا في صورة الأسد الهر
رأت هذه الحرب الضروس كأنها
مراحل يطويها من الزمن الحشر
وما حمد الشيطان للناس مثلها
ولا كان للشيطان في مثلها شكر
وما الحرب إلا رجفة الأرض رجفة
يموت بها عصر ليحيا بها عصر
وما الحرب إلا مطرة دموية
إذا دنست روح الورى فهي الطهر
وما الحرب إلا غضبة الله لامست
مخازي هذا الدهر فانفجر الدهر
فيا رب جلت هذه الحرب محنة
على الناس لا الإيمان منها ولا الكفر
ففي كل نفس غصة ما تسيغها
وفي كل قلب كسرة ما لها جبر
وبين شفاه الناس للناس لعنة
إذا لم يثرها الحق ثار بها الخسر
وما لوت الأسياف في الأرض عروة
من البغض إلا والرءوس لها زر
فلا تخدعوا الإنسان عن نزغاته
فما الناس إلا ما أساءوا وما سروا
وكم قيل «إنسانية ومحبة
وعلم وتمدين» وأشباهها الكثر
فيا قدرا يجري دماء ويلتظي
سعيرا أذاك الحب أنت أم الهجر؟
ويا هذه لا تجحدي إنما الورى
كما خلقوا والمكر بعد هو المكر
وأين من الناس الكمال ولم نزل
نرى السود سودا ليس يغسلهم بحر
ولا بد من ضدين في كل حالة
وبينهما إما النجاة أو الأسر
بذلك يجري الغيب إن طار أو هوى
فإن جناحيه المنافع والضر
فلا تطمعي أن تغفل الأرض أهلها
ولا مد فوق الأرض إلا له جزر
ولا تطمعي أن «يرفع» المال أنفسا
يحركها من ذل مطمعها «الجر»
ولا تأملي الأيام خضرا على المدى
ففي كل حين يسقط الورق النضر
ولا تسألي الزلزال ترقيص طفلة
وأصغر ما في كفه الجبل الوعر •••
ألا إنما الدنيا سلاليم يرتقي
بها الناس تغريهم أواخرها الغر
تذروا علاها للكمال وعندهم
من العلم أسباب يقر لها السحر
فما برحوا يرقون كل بعيدة
ولم يعلموا أين الكمال ولم يدروا
فلما علوا واستحمقوا وتتابعوا
وغرهم بالله ذلك فاغتروا
تهاووا على أعناقهم وتحطمت
بهم درجات كان من فوقها النصر
كذاك سلاليم الحياة فكلنا
طموح لأعلاها وفي الوسط الكسر
هوامش
الفصل العاشر
الجمال والحب1
وكأنما أنظر الآن في قلب رجل لا في وجهه؛ إذ تهلل على السحاب وجه «الشيخ علي» شيخ المساكين.
أراه كما كنت أعرفه، ضاحكا غير الضحك الذي يلبس وجوه الناس، فلا يضحك لشيء إنساني، بل ما هو إلا أن تراه قد تهلل فرفع وجهه إلى السماء، وأرسل من فمه مثل نور التسبيح في إشراق جميل، حتى لقد كان يخيل حين أبصره على تلك الهيئة أنه لا يضحك، ولكن قلبه يرتعش بعضلات وجهه.
لو أراد الله بالناس خيرا لوضع في أبصارهم أشعة تنبث في أطواء القلوب، فتعرف ألوان العواطف وتميزها لونا من لون، ولكنه جعل الوجه غطاء على معاني القلب، ثم سلط الفكر على معاني الوجه ومعارفه يصور فيها ما شاء مما له أصل في الحس وما لا أصل له، حتى ليختبئ الإنسان عن الإنسان وهو مكشوف لعينيه! وإذا كان الله سبحانه قد أوجد الخير والشر صريحين، فقد أوجد الإنسان ثالثا لهما وهو تلبيس أحدهما بالآخر، وأراد الخالق ذلك ويسره للإنسان فجعل فيه آلة واحدة للصدق وهي القلب، وآلتين للكذب: وجهه ولسانه. •••
كان «الشيخ علي» يشبه إنسانية قائمة بغير إنسانها، على حين ترى أكثر الناس كأنه إنسان قائم بغير إنسانيته،
2
وكانت الدنيا كأنما نسيت أنه فيها، فتركت له روحه صافية منطلقة تتطعم الحياة غير مستقرة في شيء، كما يتطعم النسيم رائحته من ورق الزهر، فهو يتسحب عليه ولا يستقر فيه ولو أنه ورق الزهر.
وما زلت روح هذا الرجل مني منذ عرفته كأنها نضاحة عطر
3
تمج رشاشها على حياتي روحا وعبيرا وندى، وكأن الرجل طفل عزيز من أطفال قلبي يملأ ما حوله ابتساما وطفولة ورقة، ولو أن أحدا خلق من عيني الطفل الضاحكتين لكان هو «الشيخ علي» رحمه الله، على أنه كان رجلا من سوسه القوة معصوبا متكدسا،
4
يملأ جلده كأنه جذل من أجذال الشجر.
5 •••
وانقبضت نفسي انقباضة شديدة إذ تغير الرجل في خيالي،
6
فنظر إلي نظرة ينقدح منها شرر الغيظ، فلو أبصرت عيناك طائرا ضعيفا أراغه نسر فاستطرد في نواحي الجو هكذا وهكذا،
7
ثم أهوى له بمخالبه، ثم سدد إليه نظرة غرزت هذه المخالب وانفجرت بآلام لحمه ودمه؛ فاعلم أن تلك هي كنظرة «الشيخ» إلي.
ولقد تبعثرت لها شياطين نفسي، فانطلقت يحاول كل شيطان منها مهربا، وكانت توسوس في صدري أن أستمد من روح «الشيخ» قولة في الحب، هذا الحب الذي مهما اعتبرته لم تجده إلا كإحياء الخيالات بقتل حقائقها، ثم ما لبث أن استضحك وأطلق لي نفسي، وجاشت عيناه بنظرتهما الحكيمة، فقلت: ويحك يا نفس! إن عين «الشيخ» ترى من الجمال غير ما نرى، ثم تعلم علمها مما نظرت فيه، ثم تقدره على حساب ما تعلم منه؛ فما يدريك لعل هذا الرجل الروحاني لا يرى إلا ما وراء تلك البشرة الجميلة التي تكسو وجوه النساء الجميلات، كما نبصر نحن من وجوه الموتى، وقد تأكل جلدها وتناثر لحمها وبرزت عظما كسائر العظم من كل حيوان، فلا موضع قبلة ولا سحر نظرة ولا إشراق بسمة، وما هو إلا تركيب من العظم صنع هذه الصنعة تيسيرا لما خلق له، ولعله يا نفس لو حشر الله لعينيك أجمل الجميلات في صعيد واحد، وحشر معهن إناث البهائم صنفا صنفا، ثم نزع من تلك الوجوه كلها، ذلك الطراز من الجلد وما وراءه من اللحم مزعة بعد مزعة،
8
حتى لا يبقى إلا الوضع في بناء العظام وهندستها؛ فما يدريك لعل أجمل الجمال عندنا هنا لا يكون حينئذ إلا أقبح القبح هناك!
أفمن جلدة على وجه امرأة يجيء الشعر والجنون معا ويجتمعان في هذا الخيال الذي يسمى الحب، ويستنزلان معاني التقديس من أعلى السموات إلى عين تلحظ لحظة، وشفة تبسم بسمة؟
9
إنه القلم الإلهي المبدع الحكيم هو الذي صور ولون وافتن ما شاء؛ فإن رزقت امرأة جلدة جميلة مشرقة كأنما تجري فيها الشمس، وألبست أخرى جلدة قبيحة سفعاء
10
تجول فيها رهبة الظلمة؛ فكلتاهما صورة من صنع الله، وكلتاهما تظهر لونا من ألوان الحكمة، وكلتاهما جاءت لمعنى، وكلتاهما بعد غشاء زائل على وضع ثابت لا يختلف في هذه ولا في تلك؛ وضع الحقيقة الجسمية التي تحمل الحياة بأدواتها الكثيرة، والحياة لا تعرف البشرة إلا غطاء على ما وراءها اسود وابيض، وكان من لون المرمر أو من هيئة الطين.
ولو أن كل وجه في نساء الدنيا خلق دميما نافرا على أبشع ما نتصوره من القبح، لكان كل نساء الدنيا جميلات؛ إذ يألف الطبع الإنساني تلك الصورة الواحدة، ويتقرر بها الذوق في الجمال، وتستمر بها العادة فلا يستبين وجه من وجه آخر في صفة، ولا يخالف مذهب مذهبا في حالة.
ولكن هذا الإنسان كتب عليه الشقاء؛ فخلق وخلق معه ما يطغيه وما يستفزه وما يخرجه عن طوقه، كما خلق له ما يزهده وما يطمئن به وما يحصره في إنسانيته؛ فالجميلات والقبيحات كلهن سواء في أنهن نساء هذه الإنسانية، لا تقصر في ذلك واحدة عن واحدة، وإنما يتفاوتن في أسباب الشقاء الإنساني الذي يبتلي الرجل بالمرأة ويمتحن المرأة بالرجل.
ولو سما عقل الرجل إلى الغاية العليا من كماله لرأى المرأة الجميلة الفاتنة في نصف جمال المرأة القبيحة، ولبانت الواحدة عنده من الأخرى بأن الدميمة مهيأة في نفسها لمعالي الأخلاق، والجميلة مهيأة لسفسافها،
11
ولرأي مع هذه من بعض طباعها ونزغاتها شرا مما تقدم بها من جمال وجهها، ومع تلك من أكثر طباعها وصفاتها خيرا مما قصر بها من حسن صورتها.
بيد أن من شقوة الطبع الإنساني أنه سخط القبح فأحاله فسادا، وعبد الجمال فأحاله فسادا من نوع آخر؛ إذ كان في نفرته وحبه لا يعتبر المنافع والحقائق، ولكن الأهواء والشهوات، والمنفعة والحقيقة كلتاهما لا تكون إلا في قيودها، أما الأهواء والشهوات فهي دائما لا تقع إلا متخطية حدود العقل؛ إما إلى النقص وإما إلى الزيادة، ولا تغرى بشيء إلا أوقعت به السوء؛ إذ لا يستوي في القصد ما خرج عن الحقيقة وما هو مقيد بالحقيقة. •••
كان هذا وحي «الشيخ علي» في نفسي، غير أني رددته عليه، وأزلني شيطان الحب مرة أخرى فقلت: أفترى الشوهاء على ما بها مما ركع للدهر وسجد،
12
ثم تلك المرأة التي سمج تركيبها فتحامتها العيون، ثم الأخرى التي قمعت في بيتها تختبئ فيه من القبح،
13
فصارت سرا في صدر الحيطان، ثم تلك التي تلوح في النساء كالسطر المضروب عليه أفسده الخطأ، ثم المهزولة التي أدبر جسمها
14
وتقبضت أعضاؤها، وأصبحت جلدة تمشي وتتكلم؛ أفترى هؤلاء أو إحداهن كتلك الغانية المتشكلة في ألوان الثياب كأنما تلبس بدنها الجميل بدنا معنويا يدل على معانيه، أو الأخرى التي تظهر في جمالها الفتان عاطلة من كل حلية، ومع ذلك ترف على حسنها روح الياقوت والألماس واللؤلؤ مما عليها من البريق والشعاع، أو المطوية الممشوقة المسترسلة سلة كأنها في قوامها ووجهها غصن الجمال وزهرته، أو الحسناء اللعوب المزاحة كأنما اجتمعت طباعها من نور القمر، أطل في ليلة من ليالي الربيع يداعب أوراق الورد النائمة، أو ... أو تلك
15 «يا شيخ علي» ...؟
قال «الشيخ علي»: فيا ويلك! إني والله بك من رجل لخبير،
16
أفمن أجل واحدة؟ أما إنه لعل الذي جعلها حقا عندك هو الذي يجعلها باطلا عند سواك، ولعله ما حسنها في عينك إلا أن طبعا من الجد فيك استملح طبعا من الهزل فيها، كما ترى معنى مكدودا في إنسان يستروح إلى نقيضه في إنسان آخر.
ولعل من أمتع اللذات وأبهجها لقلب المهموم أن يتصور في همه من يعرفه طروبا فرحا، وإن كان كلا الرجلين لا يسكن لعشرة الآخر لو تعاشرا واختلطا، وهذه القلوب لا تؤتى من مأتى هو أدق وأخفى من توهم ما فيه اللذة؛ فإن النفس ترجع عند ذلك بكل حقائقها إلى نوع واحد من الوهم ينصرف بها إلى تمثل هذه اللذة التي استشرفت لها وطمعت فيها؛ فإذا طعمها في الدم يهيج لها سعار
17
الجوع العصبي، وما هي السرقة مثلا إلا أن يضع اللص عينه على المال أو المتاع ويتذوق طعم اليسر والفائدة؛ فتجن أعصابه جنون الحاجة، فلا يرعوي إلى شيء من الرأي يزجره أو يمنعه أو يكفه، ويكون في الحقيقة سارقا من قبل أن يسرق. وكذلك يكون الفاسق متى نظر إلى المرأة واشتهاها ونبه معانيها في معانيه، وقل مثل هذا في كل من طار قلبه أو طار صوابه.
اله عن وهمك يا بني، وضع الأمر على قاعدته، وسدد نظرك إلى حقيقته، ودعني من حبل الباطل الذي تجر فيه شيطان هواك أو يجرك هو فيه، وما نتكلم عن اثنين من الخليقة أنت وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما وفنيت بالحب فيها؛ لكانت هي الكون كله، ولو فنيت هي فيك؛ لكنت أنت ذلك الكون، وهذا حرسك الله موضع النقص في النفوس العاشقة؛ إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى، وهو نقص أشبه بجنون المجانين بل هو متمم له، فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبل هو نصف الجنون الإنساني ، أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.
نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلا الحاضر. إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل إلا يأمل هذا ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية، بل بغير عمر. وكذلك ليس للعاشق مع الحبيب شخص آخر ممن مضى وممن يأتي ما دام الحب قائما؛ فالحبيب هو الحبيب وكل الناس بعده أدوات، وشخص واحد هو الألف واللام والحاء والباء، والناس جميعا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط.
قال «الشيخ علي»: ثم يبرأ المجنون ويثوب إليه عقله فيعرف أنه كان مجنونا، ويبغض المحب أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونا؛ أفلا يكفي هذا ويحك في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما! وأن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس، لا يجوز أن نأخذ بواحد منهما إلا إذا أخذنا بالآخر وأقررناه في باب الصواب والعقل؛ إذ كلاهما حاصل من حالة متى هي تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون، وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها ووصفها غير الأخرى؟ ويلمه وصفا من العاشق لو كان مع صاحبه رأي!
18
وويلمه رأيا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل!
قال «الشيخ علي»: سئل الحلاج
19
وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى. فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب؛ وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه، وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبا من النار، وتركته على عوده ممدودا تتساقط نفسه كما ينشر الثوب الذي بلي وانسحق، فهو يتمزق من كل نواحيه؛ على هذا البلاء كله لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل، ولا فسد موضعها في نفسه، ولا رأى ما يكرهه الناس من الألم مكروها في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبا فيميل إليه، ولا تسحب قلبه حركة واحدة في السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي أو اغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله، فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلا غرا، جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه، فخذني إليك طفلا عاقلا جعله العقل لا يملك مع أحد ولا صياحه.
واذكر الطفل يا بني فرب معضلة من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها، وهي محلولة من أولها، وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يعلموننا وهم يتعلمون منا، غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح، ويأخذون عنا فيفسدون. أفرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلا في وجه سواها، أو يحن إلى غير طلعتها، أو يسكن إلى صدر غير صدرها، حتى كأن الله لم يخلق وجه حبيب لقبلات محبه إلا وجهها هي لقبلاته؟
إنه في ذلك ينظر من ناحيتين: الأولى ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميا منعكسا أشرق صفاؤه فيما حوله، فلا يرى إلا خيرا، ولبست المرئي صفة الرائي فلا ينظر إلا جمالا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس، كما يصل الشعاع الذي يلقى على حائط من المصباح، بين هذا الحائط وبين المصباح فيغشيه النور، وإن كان الحائط نفسه من الطين.
فإذا كان القلب بهيميا زائغا عن الإنسانية إلى حيوانيته، استفاضت ظلمته وشهواته على ما حوله، فلن يشهد من صفات الجمال شيئا بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو، حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم بعض المرضى، ومثل هذا يعشق أجمل النساء فلا يرى فيها جمالا البتة، وإن هو خدع نفسه في ذلك واختدع الناس، وإنما يرى فيها شهوات؛ شهوات جميلة ليس غير .
أما القلب البهيمي غير المنعكس - وهو ذاك الذي تحمله البهائم - فلا يحتفل فيه عقل ولا يحتشد فيه خيال، وما هو إلا أن ينصب الحيوان به على محض المنفعة؛ لأنه عامل في الطبيعة يعد من عمالها لا من شعرائها، فليس عنده جمال يقع في ظاهر الروح، وآخر يقع في باطنها، وثالث متوهم لا يقع ولا يمتنع أن يقع،
20
وليس يعرف من معنى القبح إلا أن تكون الأنثى قد طاش بها المرض فما تستقل إعياء وضعفا، وبذلك سلمت إناث البهائم من شر كثير يملأ لغة الحياة النسائية بمعانيه، وتجمعه كلمتان: الجمال والقبح.
والناحية الأخرى التي ينظر منها الطفل لأمه الدميمة الشوهاء، ناحية الصفات الإلهية؛ فإن الحب الصحيح الذي يمكن أن يسمى حبا، لا يكون فيما ترى من لون وشكل وتركيب وتناسق وغيرها مما يظهر البشرية على أتمها وأحسنها في الشخص المحبوب كما يظن الناس خطأ، بل هو في عكس ذلك، أي فيما يخفي البشرية بمحاسنها وعيوبها جميعا، ويظهر في أمكنتها خصائص الروح المحبوبة وحدها؛ فمن ثم يبدو لك شخص المحبوب على أي أشكاله وهيئاته كأنه تمثال سماوي وضع لروحك خاصة، فهو مجبول من مادة واحدة هي مادة الفتنة، ولو كان في أعين الناس كافة تمثال الأرض السفلى، يصور كل ما تشتت فيها من القبح.
فإذا لم تظهر لك خصائص روح المرأة ظهورا يستفيض على وجهها وجسمها، ويجعل كل شيء فيها ذا معنى منه، وكل معنى منه ذا معنى فيك، فما أنت من حبها في شيء، ولو ذهبت من جمالها بعقول الناس، ولا هي عندك من الجمال في شيء ولو كانت في النساء كليلة البدر في الليالي؛ ومن أجل ذلك لا يخلو الحب من بعض معاني الوحي، ولا تخلو الحبيبة من بعض المادة الملائكية
21
في النفس التي تعشقها؛ وهل ملك الوحي إلا قوة المزج السماوي في نفوس الأنبياء؟ وهل روح الحبيبة إلا على قدر من مثل هذه القوة في نفس محبها؟ ولعل هذا يفسر لك سرا من أسرار الاحتراق في بعض الأرواح العاشقة التي تيمها الحب، فإن تلك القوة المزجية متى أفرطت على نفس رقيقة حساسة أذابتها واشتعلت فيها فأكلتها أكل النار للهشيم، وتركتها تحترق أسرع ما تحترق لتنطفئ أسرع ما تنطفئ.
قال «الشيخ علي»: تلك هي الحقيقة يا بني، فلن يأتي لكائن من كان أن يقسم النساء إلى جميلات وقبيحات إلا إذا طوى في ذلك معنى القسمة إلى شهوات جميلة وشهوات قبيحة، ومتى انتهينا إلى هذا فقد خرجنا إلى المخاطبة بلغة لا هي من لغة البهائم، ولا هي من لغة الإنسانية.
أفرأيت قط ألفاظ الجمال والقبح تشيع في أمة من الأمم، وتعلو بالأعين عن النساء وتنزل وتمتد
22
بها وتتقبض، إلا أن تكون أمة ضعيفة القوة قد اختلت أجسامها، أو ضعيفة الدين قد اختلت أرواحها.
23
انكشف القمر ذات ليلة لرجل اسمه «من عباد الله المقربين»،
24
فإذا البدر أسود كالحبر، وإذا هو مكتوب في وسطه بالنور «أنا وحدي»؛ فالقمر نفسه لم يمنعه كل ضياء الشمس عليه أن يسود في عين الرجل الذي ينظر لروحه، فما الذي يمنع من ينظر لروحه وخصائصها أن تصير المرأة القبيحة في عينه كالقمر الأزهر؟ •••
في البدر ظهرت كلمة الألوهية «أنا وحدي».
وفي وجه الحسناء تقرأ كلمة الألوهية «أنا وحدي».
فهل يمكن أن تقع الدميمة من الحسناء أقبح ما يقع ظلام القمر من نوره، فلا تكون في وجهها هي أيضا كلمة الألوهية «أنا وحدي»؟
لم يبق في البدر مع الحكمة العليا شيء يسمى الجمال.
ولا المرأة الحسناء يكون فيها شيء أجمل من القمر، فهي مثله ليس فيها مع تلك الحكمة شيء اسمه الجمال.
أفيمكن أن يكون مع الحكمة نفسها في وجه القبيحة شيء اسمه القبح؟ •••
للقمر طالع مشرق كما كان.
والجميلة الحسناء لا تزال فاتنة.
والدميمة ظاهرة كما هي.
لم ينقص الكون من ثلاثتها شيء.
ولكن أين عين الرجل الكامل؟
هوامش
الفصل الحادي عشر
الدين ولادة ثانية1
«قال صاحب المساكين»: عرفت فيمن عرفت من أصناف الناس أربعة تجري أمورهم في نفسي على غير مجاريها في أنفسهم، وأرى من طبيعتهم موضع الغفلة والحمق فيما يرونه أو يحسبونه موضع السداد والحكمة.
فالأول:
رجل ملحد أديب معني بجمع الكتب يتعلق بكل نفيس منها، وهو يزعم أنه تأمل الأديان فلم يجد طائلا في شيء، وأن له في كل دين ظنة على ريبة، ونقدا على مسألة، وثانية على أولة،
2
وأنه تبدل الدين بالخلق،
3
فما خسر شيئا وربح الحقيقة، ثم يحذو بعد على هذا الحذو كما يفعل الملحدون في صفة أنفسهم، وهم دائما لا يأخذون من الكلام إلا بملء اليدين؛ إذ من العجيب أن لا تقع لهم الكلمة الصحيحة المفردة.
هذا الذي خرج من الأديان ومن نهيها وأمرها إلى الأخلاق وعهدتها وأدبها، قال لي ذات يوم وقد خضنا في أمر الكتب: إني لأمقت السرقة والغصب والخديعة، ولا أبيح منها شيئا ولا أمرها لأحد! غير أني إذا وجدت كتابا نفيسا وعجزت عنه أو ضاقت به ذات يدي، ثم أمكنتني فرصة من الغفلات لم أتورع أن أسرقه، ولو غصبت ولو خدعت.
قال هذا فلم أفهم من كلمته شيئا، إلا أن لقب «اللص» يكون من الشرف أحيانا بحيث يسمو كثيرا على الرجل الملحد.
والثاني:
رجل، متفلسف انقلبت عقيدته إلى زيغ، فله رأيان في أمور الحياة: واحد ينزع فيه إلى طبيعته فيستمتع ما وجد متاعا في حرام أو حلال وفي معروف أو منكر، والآخر يرجع به إلى ضميره الإنساني، وما هو الأشبه بعلمه وعقله وفلسفته فيألم ويتململ إذ يرى أنه لا يزن من لذاته لا بمقادير الخير ولا بمقادير الشر، وأنه يبيح لنفسه ويحرم على غيره؛ فإنما الرأي والحق والعدل أن لا ينطلق في كل إنسان تاريخه الوحشي كما يفعل هو ليقوم النظام على أصوله، وتتحقق الإنسانية في أهلها، ولو فعل الناس ذلك فوسعتهم الفلسفة لما وسعتهم الطبيعة، بل هي تسرع حينئذ فتطلق لكل حيوان مع أكيلته التي يغتذي بها آكله الذي يغتذي به.
لم أفهم من فلسفة الرجل أنه فيلسوف، بل عرفت من علمه أن الرجل من الناس قد يكون سافلا حتى من الجهة العالية فيه، وقد يكون فاسدا حتى من بعض جهاته الصالحة.
والثالث:
رجل يزعم عند نفسه أنه مصلح، ويتولى أمور الناس فيداورها ويلتمس لكل شيء مأتى يتسبب منه إلى إصلاح فيهم، حتى إذا وثق الناس به واستكانوا إليه وصاروا في حال الغرة وفي قياد الأمن، صدعهم في أديانهم وأخلاقهم، وركبهم بمزاعمه وخرافاته، وبث أوهامه في مذاهب أقدارهم وتصاريف أمورهم، وظن الدين كلمة يضع في موضعها كلمة غيرها، وحسب اليوم من أيامه في عمل الدهر كاليوم من أيام الله في خلق السموات؛ فهو يطرد الأزمنة، ويمحو العادات، ويغير الطباع، ويسن لفروع الشجرة سنة جذورها، فلا يذهب الفرع طالعا بل يغور نازلا، ثم يريد أن يقيم على طريق التاريخ مجازة أو قنطرة ليمشي بالناس فوق التاريخ، فيقطع بهم ألف سنة في ألف يوم، وكأنه زاد في الطبيعة ناموس نهيه وأمره.
أنا لا أقول في مثل هذا إنه مصلح، بل أقول يا عجبا لسخرية الأقدار من القوة، ألا يرتفع النسر في الجو إلا ليبحث أين تكون الجيفة؟
والرابع:
ذاك الذي جعلته الكتب عالما، وقسمت ما شاء، ولكن الله تعالى لم يقسم له شيئا من كرم الضريبة وشرف العرق، ولا ألقى معاني الذهب في سلسلة آبائه،
4
فهو رثة
5
لا يجيء في معاني الناس بطباعه وأخلاقه إلا كالثوب الخلق من فتوق ورقع، ويغطي عليه العلم كما تغطي القشرة النضرة على الثمرة المرة، فإذا كتب للناس ارتطم في طباعه ونزع إلى مأخذه وتجاذب داخل نفسه وخارجها؛ فيذهب ينكر ويعترض ويسفه ما عليه الناس من دين وخلق، وينزو بهم في نوازيه ودواهيه، ويرد كل ما في الطبيعة من الجمال وكل ما في النفس من الحق إلى تأويل مادي بحت، كأن الزهرة الخارجة من الطين هي طين مثله، ويسقط عنده كل ما عمل الشعاع والماء في الذرة الأزلية التي انبثقت منها النبتة، فخرجت توحي عن السماء وحي النور واللون.
أنا لا أفهم أن مثل هذا عالم، ولكنه في الناس كبعض النبات في النبات يرزق من النمو قوة يفسد بها ما حوله، فإذا هي ظهرت فيه لم تنبه على قيمته بأكثر مما تنبه الناس إلى وجوب اقتلاعه واستئصاله.
لا ثقة لي بمتخلق لا دين له؛ فإن الخلق يصله بحظ نفسه أكثر مما يصله بواجبات الناس، ولا بفيلسوف ملحد؛ لأن الفلسفة تمزجه بالمادة أكثر مما تمزجه بالإنسانية، ولا بمصلح ينسلخ من الدين؛ لأن إصلاحه صور من غروره، ولا بعالم جاحد؛ لأن علمه كهندسة الشوكة كلها من أجل آخرها ... أولئك لا يدرون أنهم من هذا العالم في حدود أغراضهم الصغيرة الفانية، إذا كان كل منهم يتناول الكون من حيث يحب هو لا من حيث يجب عليه، ثم يفسم الأشياء في جزء منها لا في مجموعها، ويعتبر الزمن عمرا كعمر الفرد وهو تاريخ لا يموت، وينظر إلى الغاية من الوجود كأنها داخلة في الحد، مع أنها لو حدت لبطلت أن تكون غاية.
كل منهم صحيح في ذاته لكنه فاسد بموضعه من أغراضه أو من أغراضنا، وما أشبههم بالأشجار في المقابر لا تجد لها في المقبرة ما تجد لها في الحديقة، كأنها لما قامت في موضع الموت قامت حية، ولكن ماتت روح الحديقة فيها.
لا تسمو حياة الفرد إلا إذا كان جزءا من كل، ولا يجتمع الكل إلا إذا كان تاما فيما هو كل به، السبيل أن يدفع الفرد أبدا إلى خارج حدوده الذاتية الصغيرة، وفكرة الكل هذه لا يصورها ولا يستوفي معانيها إلا الدين الصحيح؛ إذ هو خروج بالفرد من شهواته التي تفصله من غيره إلى واجباته التي تصله بغيره، وانتزاع له من ذاتيته إلى إنسانيته، ودفع بالإنسانية نفسها إلى الكل الذي هو أسمى؛ فكأن الإيمان في حقيقته إن هو إلا دربة لهذا الإنسان على الدخول في اللانهاية، فهو من أجل ذلك يقضي على الفرد أن يتسع ويمتد في إنسانيته لا في شخصيته، فيتخلق بالأخلاق التي تعم دون التي تخص. وهذه صورة صغيرة من جعل المحدود في ذاته أعظم من ذاته ، ودفع ما ينتهي في سبيل ما لا ينتهي.
فإذا عمل الفرد على أن يقفل حدوده عليه ويستغلق بها ويمتنع من ورائها، صار كالقلعة المحصنة لا تصلح إلا حربا لما حولها ودفاعا عما فيها، فلن يضع هو أمره إلا على هذا المعنى؛ ومن ثم فلن يكون له ممن يصادمونه إلا حكم واحد، وهو تخريبه وهدمه واقتحامه، فإذا كانت الحياة غير باقية على فرد من الناس، فمن الحمق أن تكون هذه هي صورة الإنسانية فيها، وإذا كان ذلك حمقا فالحمق ولا جرم بعض المعاني التي يقوم الإلحاد عليها. •••
ليس في الأرض إنسان لا أجداد له، فمن ثم ليس على الأرض إنسان في نفسه بل إنسانية فقط، إنسانية متصلة مفرغة إفراغا ليس للفرد بينهما موضع لذاته، بل موضعه لاتصاله بسائرها كمنزلة الخلية الواحدة بين الملايين من الخلايا المتلازة في جسم واحد قائم من جميعها، صالح للوجود بصلاحها وفسادها معا.
أما إنها لعجيبة أن تلقي بسؤالين متناقضين لا يلتئمان، ثم لا تجد ولن تجد عليهما إلا جوابا واحدا لا يختلف، سل الحكمة: لم صلح هذا؟ فالجواب: ليكون شيئا ضروريا في الوجود. وسلها: لم فسد ذاك؟ فالجواب كذلك: ليكون شيئا ضروريا في الوجود. هي الحلقة المفرغة، لما غاب طرفاها صار كل موضع فيها طرفا، وعلت كلها ونزلت كلها.
فليس إلا النوع لا الفرد، والكل لا الجزء، والإنسانية لا الإنسان، وإنما يقع كل شيء في الحياة - بل في الوجود كله - تدريجا لتحقيق هذه الوحدة كيلا ينفصم أحد منها، فهي أبدا ذاهبة بالجسم والعقل والمعرفة والعمر من جزء إلى جزء، من الأصغر إلى الصغير، إلى الكبير إلى الأكبر، إلى الأوسع إلى الأسمى؛ لأن تلك هي علامتها في حركتها وتسحبها، وهي طريقة برهانها بالنهاية على أنها لا نهاية.
بيد أن خطأ الغريزة في الإنسان يظهر في اعتبار الفرد نفسه كلا تاما وشيئا متميزا، فلا يريد لنفسه إلا أمرا تاما ووجودا يتميز فيه، وبذلك يقتحم سواه ويستبيح وجوده، فيقع المنزاع والعدوان، وكأنه يضيق بمقدار ما لا يستطيع أن يتسع ؛ لأن دفعه لكل ما حوله مردود عليه بدفع مثله مما حوله، فتتبدل صورة الإنسانية في شكل دخله الغلط من كل جهاته، وههنا موضع الدين الصحيح، فما هو إلا الناموس القائم من كل إنسان على الواقع في ذاته، والواقع في غيره؛ ليصل بين الواقعين المختلفين بنظام مختلف متحد يكون له في النفس ما يكون لنظام المد والجزر.
وبهذا كان واجبا حتما أن تكون العقوبة جزءا من نعيم الدين، وأن يكون القيد شقا من حرية العقيدة، وإلا بطلت في الإيمان قوتا الجذب والدفع معا ببطلان إحداهما؛ لأن مدا بلا جزر هو أفحش الغرق من ناحية، وجزرا بلا مد هو أفحش الغرق من الناحية الأخرى.
تعجبني كلمة في الإنجيل لا أعرف أحدا أحسن تأويلها وبلغ حقيقتها. قال: «يجب أن تولدوا ثانية.» ووضعها في هذا المقال هو تفسيرها؛ فإن الفرد يولد من الفرد، ولكنه لا يصلح على ذلك، بل يجب أن يولد في صفاته وأخلاقه من المجموع الإنساني لتقع الملاءمة، ثم إنه من أبويه يخرج من الحيوانية بغرائزها، ولن يفلح بها إنسانا، فيجب أن يولد مرة أخرى من جنسه الاجتماعي بغرائز مكتسبة، ثم إنه يولد مهيأ للإقرار بنفسه وحدها، فيجب أن يولد الثانية مهيأ لإنكارها وحدها.
على هذه الأرض، إما الإقرار بالنفس وإيثارها والاعتداد بها، ومع كل ذلك الحيوانية والشيطان، وإما إنكارها والإيثار عليها والمهاونة بها، ومع كل هذه الإنسانية والله.
لن تطاق الحياة إلا إذا تبدلت فاتخذت لها أسلوبا غير أسلوبها الآتي من تركيب المادة، وإنما صراع الأرض كله حول إقامة هذا الأسلوب الجديد أو هدمه أو ترميمه؛ أسلوب الأخلاق والطباع الشديدة التي لا تطيقها الحيوانية فتسميها إنسانية، وتكبرها الإنسانية فتسميها الإيمان. بالأسلوب الأول تكونون بالحياة في موضعها، وبالثاني تسمون بالحياة عن موضعها؛ «فيجب أن تولدوا ثانية». •••
كل ما يراد به أن يسد في الإنسانية مسد الدين ويغني عنه، فإنما هو في رأيي كطعام أهل الجحيم، لا يطعمون فيها كما يطعمون في «نزل» لشبع وسمن، بل طعاما كما جاء في القرآن الكريم:
لا يسمن ولا يغني من جوع
أي لإحداث الجوع وكلبه واستمراره.
6
والطبيعة نفسها تهيئ الإنسان للدين بأسلوب غريب، هو هذا الحب الذي يخلق فطرة على أنواع مختلفة متعددة، حتى لا يخلو منه أحد، فلا معدل عنه ولا محيص، وإنما هو في مظاهره - أيها كان - دربة للنفس الإنسانية تصعد به درجات من الفضائل؛ كالإخلاص، والإيثار، والاتصال الفكري، والانبعاث الروحي، والشوق الخيالي، ونحوها مما هو في الحقيقة إيجاد للحياة النفسية في أعمالنا، وفيض بالقوة الروحية على مظاهر المادة لإحداث الملامسة بين الأرواح والأشياء، والترابط بين الجاذب والمنجذب؛ وكل ذلك تهيئة للدين وعمله في النفس ليكون قائما على أساسه في الطبيعة. فالحب دين على أسلوب خاص ضيق؛ ولذلك يشتد فيه التعصب كما يقع في الدين من المؤمن به على وتيرة واحدة؛ إذ لا يرى القلب في هذا ولا هذا غير رأي واحد، فكيفما قلبنا الحياة رأينا في كل جهة منها وجها من وجوه الإيمان، وباعثا من بواعثه، وحكمة من فلسفته؛ فالمصلحون الذين يحاولون تجديد الأمم بصور ملونة من الغرائز تطمس على الدين، هم الذين يرجعون بهذه الأمم في عالية الأمر إلى الحيوانية؛ لأنه ليس في طبيعة النفس إلا شيئان: هوى هي دائما أعظم منه، وإيمان هو دائما أعظم منها.
هوامش
نامعلوم صفحہ