فإذا خرج إلى العالم وتبادل مع الناس المعاملة ورأى حاجته إلى معونتهم وأدرك أنه لا يعيش سعيدا بينهم إلا بمراعاة قوانين وتقاليد اتسع عنده مجال الحكم الأخلاقي، فإذا هو تقدم في العلم ساعده علمه على إضاءة السبيل له ليميز بين الحق والباطل، فكثير من الأعمال الضارة أو الخرافية سببه الجهل بالقوانين الطبيعية، فاستقبال العامة للخسوف والكسوف بالضرب على الأواني النحاسية أو الحديدية مثلا سببه الجهل بأسباب الخسوف والكسوف، ومعرفتنا بشيء من الجغرافيا الطبيعية أو الهيئة يبين أن هذا العمل وأمثاله خرافة لا أساس لها، ومعرفتنا بشيء من قوانين الصحة يغير نظرنا إلى كثير من الأعمال، وانتشار العلم عن النبات والحيوان والمرض والصحة في أية أمة يجعل كثيرا من أفرادها يخرجون على العرف المألوف الذي لا يتفق ونظريات العلوم، والعلم يزيد الإنسان شعورا بشخصيته وبأن له قوة على الحكم على الأشياء، وأنه ليس أسيرا للعرف والتقاليد.
كذلك دراسة علم الأخلاق، واستعراض النظريات التي ينبني عليها الحكم الأخلاقي، ونقدها، وبيان ما يصح منها وما لا يصح، وبيان ما كان الناس عليه أيام بداوتهم في عرفهم وتقاليدهم، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وما وصلوا إليه من الرقي، وكيف تغير نظرهم إلى الأشياء برقيهم. كل هذا يجعل الإنسان أصح حكما وأصدق نظرا.
الفصل الرابع
مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
أشرنا في الفصل الماضي إلى أن الناس في أحكامهم على الأشياء يراعون مقياسا خاصا، فيحكمون على الشيء بأنه طويل أو قصير ويحتكمون في ذلك إلى «المتر» مثلا، ويحكمون على الشيء بأنه خفيف أو ثقيل ويحتكمون في ذلك إلى «الأقة» أو «الرطل» أو نحوهما، فما الذي نراعيه في أحكامنا الأخلاقية؟ إنا نقول: الصدق خير والكذب شر فما هو المقياس الذي عرفت به ذلك؟ وإذا عرض موقف حرج وأردت أن أعرف أأصدق فيه أم أكذب، وتجادل المتجادلون فيه بين محبذ للصدق ومحبذ للكذب فإلى أي المقاييس نحتكم؟ والناس يقولون: إن الصدق والعدل والشجاعة والعفة فضائل، وأضدادها رذائل، فما الشيء الذي فيها حتى جعلها فضائل أو رذائل؟ وبأي مقياس قاس الناس حتى حكموا هذا الحكم؟
هذا الموضوع هو الذي يسمى «المقياس الأخلاقي» ولم يتفق الباحثون فيه ولم يجيبوا عن الأسئلة الماضية جوابا واحدا، بل تعددت فيه المذاهب، ونحن نذكر أهمها: (1) مذهب السعادة
1
لما بحث العلماء في مقياس الخير والشر بحثا علميا ذهب كثير منهم إلى أن هذا المقياس هو «السعادة» وقالوا: إن السعادة هي الغاية الأخيرة للحياة، وهي التي تحرك جميع الناس للعمل، فإذا حللت عمل أي إنسان رأيت أنه إنما يطلب بعمله «السعادة» فالطالب يتعلم، ومحب المال يجمع، والرجل يتزوج، والعالم يؤلف، والكاتب يكتب، والقاضي يقضي، والصانع يصنع، وكل هؤلاء لو حللت أغراضهم من أعمالهم وجدت أن الغاية الأخيرة التي يرمون إليها هي تحصيل السعادة.
ولكن السعادة كلمة غامضة، وإنما يعني بها أصحاب هذا المذهب «تحصيل اللذة وتجنب الألم» فهم يقولون: إن الإنسان في أعماله: من سعى لتحصيل الرزق، وتحصيل العلم، ومداواة مرض، وأكل وشرب، وتأليف، ونوم، ورياضة، إنما يطلب أحد شيئين: إما تحصيل لذه، أو تجنب ألم، ولا يمكن أن يخرج عمل يعمله عن هذين الغرضين.
واللذة هي مقياس العمل، فالعمل يقوم بحسب كمية اللذة التي ينتجها، فيقال: إن هذا العمل خير وذاك شر لأن الأول ينتج من اللذة أكثر من الألم، والثاني ينتج ألما أكثر من اللذة.
نامعلوم صفحہ