بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم يا من أضاء على مطالع العقول والألباب وأنار عليها بسواطع السنة والكتاب، فأحكم الفروع بأصولها في كل باب، ونصلي على أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله الطاهرين الأطياب، سيما المخصوص بالاخوة سيد أولي الألباب.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول وآل الرسول فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا سوء الحساب، واللعنة على أعدائهم من اليوم إلى يوم الحساب.
وبعد: فالعلم على تشعب شؤونه، وتفنن غصونه، مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعية إلى السلطان، ونافذ حكمه عليها بالوجدان، ولا سيما العلوم الدينية، وخصوصا الأحكام الشرعية، فلولا الأصول لم تقع في علم الفقه على محصول.
فيه استقرت قواعد الدين، وبه صار الفقه كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين، فلذا بادر علماء الأمصار، وفضلاء الاعصار - في كل دور من الأدوار - إلى تمهيد قواعده، وتقييد شوارده، وتبيين ضوابطه، وتوضيح روابطه، وتهذيب أصوله، وإحكام قوانينه، وترتيب فصوله.
لكنه لما فيه من محاسن النكت والفقر، ولطائف معان تدق دونها الفكر، جل عن أن يكون شرعة لكل وارد، أو أن يطلع على حقائقه إلا واحد
صفحہ 3
بعد واحد، فنهض به من أولي البصائر كابر بعد كابر، فلله درهم من عصابة تلقوا وأذعنوا، وبرعوا فأتقنوا، وأجادوا فجادوا، وصنفوا وأفادوا، أثابهم الله برضوانه وبوأهم بحبوحات جنانه.
حتى انتهى الامر إلى أوحد علماء العصر، قطب فلك الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، الطود الشامخ، والعلم الراسخ، محيي الشريعة وحامي الشيعة، النحرير الأواه، والمجاهد في سبيل الله، خاتم الفقهاء والمجتهدين، وحجة الاسلام والمسلمين، الوفي الصفي، مولانا الآخوند (ملا محمد كاظم الهروي الطوسي النجفي) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام، وعمر بوجوده دوارس شرع الاسلام، فقد فاز - دام ظله - منه بالقدح المعلى وجل عن قول أين وأنى، وجرى بفكر صائب تقف دونه الأفكار، ونظر ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالابصار، فلذا أذعن بفضله الفحول، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفا هي المنتهى في التبيان، ذوات نكت لم يطمثهن قبله إنس ولا جان، ويغنيك العيان عن البيان، والوجدان عن البرهان.
فما قدمته لك إحدى مقالاته الشافية، ورسائله الكافية، فقد أخذت بجزأيها على شطري الأصول الأصلية، من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية، وأغنت بالإشارة عن المطولات، فهي النهاية والمحصول، فحري بأن يسمى ب (كفاية الأصول)، فأين من يعرف قدرها، ولا يرخص مهرها، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال أدام الله ظله [بعد التسمية والتحميد والتصلية] (1):
صفحہ 4
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
وبعد فقد رتبته على مقدمة، ومقاصد وخاتمة.
صفحہ 5
أما المقدمة ففي بيان أمور:
الأول إن موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية - أي بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عينا، وما يتحد معها خارجا، وإن كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده، والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة، جمعها اشتراكها في الداخل في الغرض الذي لاجله دون هذا العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخل في مهمين، لاجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين.
لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما.
فإنه يقال: مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه تارة لكلا المهمين، وأخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد - في جملة مسائلهما المختلفة، لاجل مهمين، مما لا يخفى.
صفحہ 7
وقد انقدح بما ذكرنا، أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم، علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لان يكون من الواحد.
ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا.
وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول، هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة (1)، بل ولا بما هي هي (2)، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجية خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلة، ورجوع البحث فيهما - في الحقيقة - إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، في مسألة حجية الخبر - كما أفيد - (3) وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال غير مفيد فان البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد كان التامة، ليس بحثا عن عوارضه، فإنها مفاد كان الناقصة.
لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي، وأما الثبوت التعبدي - كما هو
صفحہ 8
المهم في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.
فإنه يقال: نعم، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى.
وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان منها، إلا أنه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا.
وأما إذا كان المراد (1) من السنة ما يعم حكايتها، فلان البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلا أن البحث في غير واحد من مسائلها، كمباحث الألفاظ، وجملة من غيرها، لا يخص الأدلة، بل يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.
ويؤيد ذلك تعريف الأصول، بأنه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية )، وإن كان الأولى تعريفه بأنه (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل)، بناء على أن مسألة حجية الظن على الحكومة، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول، كما هو كذلك، ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.
الامر الثاني الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني، كما لا يخفى.
صفحہ 9
ثم إن الملحوظ حال الوضع: إما يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له تارة، ولافراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلا وضع اللفظ له دون العام، فتكون الأقسام ثلاثة، وذلك لان العام يصلح لان يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة وجه الشئ معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يكون وجها للعام، ولا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها - أصلا - ولو بوجه.
نعم ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاما، كما كان الموضوع له عاما، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الافراد - لا يكون متصورا إلا بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشئ بوجهه، وتصوره بنفسه، ولو كان بسبب تصور أمر آخر.
ولعل خفاء ذلك على بعض الاعلام (1)، وعدم تميزه بينهما، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصا، مع كون الموضوع له عاما، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل.
ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع (2) الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام، وكذا الوضع (3) العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهم (4) أنه وضع الحروف، وما ألحق بها من الأسماء، كما توهم (5) أيضا ان المستعمل فيه فيها (6)
صفحہ 10
خاص (1) مع كون الموضوع له كالوضع عاما.
والتحقيق - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء، وذلك لان الخصوصية المتوهمة، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول (2) إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما ترى. وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث أنه لا يكاد يكون المعنى حرفيا، إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره، فالمعنى، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا، كما لوحظ أولا، ولو كان اللاحظ واحدا، إلا أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذا في المستعمل فيه، وإلا فلا بد من لحاظ آخر، متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الألفاظ، وهو كما ترى. مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها، حيث لا موطن له إلا الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء (3) الخصوصية، هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.
صفحہ 11
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء - مثلا - إلا الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته، فليكن كذلك فيها.
إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفين، صح استعمال كل منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.
قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث [أنه] (1) وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الإشارة إليه غير مرة، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع، يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته.
ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه، فتأمل.
ثم إنه قد انقدح مما حققناه، أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام، وأن تشخصه إنما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث أن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا
صفحہ 12
بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب به (1) المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإن الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه، غير مجازفة.
فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات، لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا - كما في مثل أسماء الإشارة - أو ذهنيا - كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما - من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر، (2) ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره، من خصوصيات الموضوع له، أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه، لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمل في المقام فإنه دقيق، وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.
الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه، والظاهر أن صحة الاستعمال
صفحہ 13
اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله، كما يأتي الإشارة إلى تفصيله (1).
الرابع لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل:
ضرب - مثلا - فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: (زيد) في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله ك (ضرب) في المثال فيما إذا قصد.
وقد أشرنا (2) إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.
وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول (3).
بيان ذلك: أنه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذ - لزم الاتحاد، وإلا لزم تركبها من جزءين، لان القضية اللفظية - على هذا - إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.
قلت: يمكن أن يقال: إنه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا، وإن اتحدا ذاتا، فمن حيث أنه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، ومن حيث أن
صفحہ 14
نفسه وشخصه مراده كان مدلولا، مع أن حديث تركب القضية من جزءين - لولا اعتبار الدلالة في البين - إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الامر أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.
وعلى هذا، ليس من باب استعمال اللفظ بشئ، بل يمكن أن يقال:
إنه ليس أيضا من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك (1)، وقد حكم عليه ابتداء، بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه - بما هو مصداق لكلي (2) اللفظ، لا بما هو خصوص جزئية.
نعم فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، اللهم إلا أن يقال: إن لفظ (ضرب) وإن كان فردا له، إلا أنه إذا قصد به حكايته، وجعل عنوانا له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان - حينئذ - كما إذا قصد به فرد مثله.
وبالجملة: فإذا أطلق وأريد به نوعه، كما إذا أريد به فرد مثله، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فردا منه، وقد حكم في القضية بما يعمه، وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلية ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته، فليس من هذا الباب، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا
صفحہ 15
ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).
الخامس لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.
هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرف في ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) - مثلا - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع.
وأما ما حكي (1) عن العلمين (الشيخ الرئيس (2)، والمحقق
صفحہ 16
الطوسي (1)) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الأفاضل (2)، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال، ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصورية، أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.
إن قلت: على هذا، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شئ، ولم يكن له من اللفظ مراد.
قلت: نعم لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه - واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلا عمن هو علم
صفحہ 17
في التحقيق والتدقيق؟!.
السادس لا وجه لتوهم وضع للمركبات، غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها، كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة، غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة على وضع كل منهما.
السابع لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه - وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه، بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر.
ولا يقال: كيف يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له، كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.
فإنه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإن العلم التفصيلي - بكونه موضوعا له - موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به، لا التفصيلي، فلا دور.
هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى.
صفحہ 18
ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه، لا إليها - كما قيل (1) - لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد، لا الاستناد.
ثم إن (2) عدم صحة سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك - عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.
والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما، علامة كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية (3).
كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وإن التصرف فيه في أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي (4)، واستعلام حال اللفظ، وأنه حقيقة أو
صفحہ 19
مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه، بالاجمال والتفصيل أو الإضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيدا.
ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة) (1)، وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا أنه - حينئذ - لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا (2)، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة، لا يبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره.
الثامن انه للفظ أحوال خمسة، وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والاضمار، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي، إلا بقرينة صارفة عنه إليه.
وأما إذا دار الامر بينها، فالأصوليون، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، إلا أنها استحسانية، لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.
صفحہ 20
التاسع إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بد - حينئذ - من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز، فافهم.
وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا (1)، أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى. هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.
وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
صفحہ 21
قبلكم) (1) وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج) (2) وقوله تعالى (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (3) إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية، لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق - فضلا عن القطع - بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه، ومنه [قد] (4) انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه، ومع الغض عنه، فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل.
وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع، لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالأصل المثبت، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل.
صفحہ 22
العاشر أنه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات، أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منها؟
وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين، يذكر أمور:
منها: إنه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.
وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: إن النزاع وقع - على هذا - في أن الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل كلامه (1) عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر.
وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك.
وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع - على ما نسب (2) إلى الباقلاني (3) -
صفحہ 23