فالتفت الملك إلى القواد وقال بعزم: أيها القواد، اذهبوا إلى جنودكم وقولوا لهم إن مليكهم الذي فقد في سبيل مصر جده وأباه، ومن لا يتردد عن الجود بنفسه في سبيلها ، يأمرهم بالهجوم على سور طيبة المدرع بأكبادنا والاستيلاء عليه مهما كلفنا ذلك من بذل.
وذهب القواد سراعا ونفخ في الأبواق، فتقدمت صفوف الجند شاكي السلاح مكفهري الوجوه. وصاح الضباط بأصوات مدوية: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وبدأت في الحال أبشع معركة خاض غمارها الإنسان، وأطلق الرعاة السهام فرد عليهم المصريون، وانطلقت نبالهم تشق صدور نسائهم وتمزق قلوب أطفالهم وتسيل الدماء غزيرة، ولوحت النسوة برءوسهن للجنود وصحن بأصوات رفيعة مبحوحة: اضربونا ينصركم الرب وانتقموا لنا.
فجن جنون المصريين وهجموا هجمة وحوش كواسر قست قلوبها وتعطشت إلى الدماء، ودوى صراخهم في جنبات الوادي كعزيف الرعد وزئير الأسود، واندفعوا لا يبالون الموت المنصب عليهم كأنما فقدوا الشعور والإدراك وانقلبوا آلات جهنمية، وحمي وطيس القتال واشتد الطعان، وسالت الدماء كأنها ينابيع تتفجر في الصدور والأعناق، وأحس كل هاجم أن في قلبه غمزا جنونيا لا يسكن حتى يدفن رمحه في قلب واحد من الرعاة، وتمكن الجناح الأيمن قبل أن ينتصف النهار من أن يسكت عدة مواضع دفاعية، فبادر رجال إلى إقامة أدراج الحصار وصعدوا عليها بقلوب لا تخشى الموت، فنقلوا القتال من الميدان إلى أعلى السور الحصين، وقفز بعضهم إلى سطح السور الداخلي واشتبكوا مع العدو بالرماح والسيوف وتوالت الهجمات بعنف وبسالة، وكان الملك يرقب القتال بأعين يقظى، ويرسل النجدات إلى المواقع التي يشتد عليها العدو، وقد شاهد جنوده تصعد إلى السور في مكان الوسط ومكانين في الميسرة وقد أخذت الشمس تتوسط في كبد السماء، فقال: إن جنودي يبذلون جهد الجبابرة، ولكني أخشى أن يلحقنا الظلام قبل أن نستولي على السور جميعه، فنستأنف غدا من جديد!
وأصدر الملك أوامره إلى فيالق جديدة بالهجوم، فاشتد ضغط رجاله للمدافعين عن السور المنيع، وصنعوا لأنفسهم طرائق جديدة إلى أعلاه، والظاهر أن اليأس أخذ يستولي على الرعاة بعد أن أنزل المصريون بهم خسائر فادحة، وبعد أن رأوا سيلهم لا ينقطع وهم يصعدون أدراج الحصار كجماعات النمل الزاحفة على سيقان الأشجار، فانهارت مواضع دفاعية بسرعة لم يكن يتوقعها أحد، واحتل جنود أحمس نقطا كاملة من السور، وبدا سقوط السور أمرا محققا لا يحتاج إلا لوقت، وكان أحمس لا ينفك عن إرسال الإمدادات القوية، وجاءه في المعسكر ضابط من قوة الاستطلاع المتوغلة في الحقول المحيطة بطيبة يطفر البشر من وجهه، فانحنى للملك وقال: أخبار جليلة يا مولاي .. إن أبوفيس وجيشه يغادرون أبواب طيبة الشمالية كالفارين.
فعجب الملك وسأل الضابط قائلا: أواثق أنت مما تقول؟
فقال الرجل بثقة وإيمان: رأيت بعيني ركب ملك الرعاة وحرسه يتبعهم جموع الجيش المدججة بالسلاح.
فقال أحمس إبانا: لقد أدرك أبوفيس عبث الدفاع عن سور طيبة بعد ما رأى من هجمات جنودنا وجيشه في المدينة لا يحسن الدفاع عن نفسه، ففر هاربا.
فقال حور: والآن أدرك على غير شك أن الاحتماء بنساء المحاربين وأطفالهم شر وبيل.
وما كاد حور يتم كلامه حتى جاء رسول جديد من الأسطول فحيا الملك وقال: مولاي .. لقد شبت نيران الثورة في طيبة، وشاهدنا من الأسطول عراكا عنيفا يقع بين الفلاحين والنوبيين من ناحية، وأصحاب القصور وحرس الشاطئ من الناحية الأخرى.
فبدا القلق على أحمس إبانا وسأل الضابط: وهل قام الأسطول بواجبه؟ - نعم يا سيدي، لقد دنت سفننا من الشاطئ وأطلقت السهام بكثرة على الحرس حتى لا تمكنهم من التفرغ لقتال الثائرين.
نامعلوم صفحہ