كلمة إلى القارئ
1 - مقدمة في جبال أذربيجان
2 - القضاء في بلاد أذربيجان
3 - العواصف
4 - الحطام
كلمة إلى القارئ
1 - مقدمة في جبال أذربيجان
2 - القضاء في بلاد أذربيجان
3 - العواصف
4 - الحطام
خسرو وشيرين
خسرو وشيرين
تأليف
محمد فريد أبو حديد
كلمة إلى القارئ
أرجوك العفو أيها القارئ عما يمكن أن تتحمله في قراءة هذا ال... (ماذا أسمي هذا؟ أظن خير تسمية أن أسميه المطبوع)، وإنك إن قرأت منه كلمة واحدة أو سطرا واحدا ثم رميته كارها كنت عندي معذورا فهذا ما توقعته، ولا عجب في الأمر إذا كان متوقعا. ولست عندي معذورا فحسب بل إنك جدير بشكري؛ إذ إنك قرأت منه شيئا في حين أن كثيرا من الناس إذا وقع لهم مثل هذا المطبوع لا يقرءون منه حرفا، بل يقلبون صفحاته تقليبا سريعا ثم يرمون به إلى أقرب موضع، ولكنهم مع ذلك لا يترددون في أن يبدوا رأيا في عيوبه أو في محاسنه إن تكرموا. وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ فقرأت سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع ثم قذفت به حيث أردت، لم تكن في ذلك بالمعذور بل كنت متفضلا مضحيا من أجل مجاملتي مع أنك لا تعرف من أنا وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع. وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكاره بحيث استطعت أن تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور، إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلا من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى، وإن بلغت في ثورتك مبلغا مخيفا لأني قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تنحرج فيما تفعل، فلعلي إذا أظهرت لك شخصي بدوت لك صديقا أو ممن يمتون إليك بسبب، فتجاملني أو تكظم غيظك علي فيكون في ذلك أذى لك لا أرضاه. فافعل ما بدا لك أيها القارئ ولا تتورع فإن أحجارك أو سهامك لن تصل إلي.
وأما إذا كنت يا أخي - ولا مؤاخذة - ممن في ذوقهم شذوذ عن المألوف مثلي فاستحليت من هذا القول ما يمر في الأذواق أو أعجبك منه ما يقبح في الأنظار فلك رثائي وعطفي، فالمريض يعطف على مثله. ومن آية رثائي لك وعطفي عليك أنني أنصحك نصيحة أرجو أن تقبلها إذ إنها صادرة عن قلب خلص لك، حدب عليك. فقد تعرضت قبلك من جراء شذوذي عما ألفه الناس لكثير من الألم والفشل وأحذرك من إظهار رأيك أمام أحد من الناس ولو كان من أعز أصدقائك. فالصداقة قد لا تقوى على الثبوت مع الشذوذ في الرأي والذوق. وإذا شئت أن تفسح لنفسك فرجة تظهر بها ما قد يكون في نفسك من السرور الشاذ فادخل في مخدعك وتحقق من أنك فيه منفرد، ثم أغلقه محكما، ثم توار في جانب أمين منه واهمس همسة خفيفة لا يستطيع أن يسمعها من البشر سواك - أقول من البشر فإن الله تعالى لا بد سامعك ولو همست أخفى همس تستطيعه - وقل في همسك ما تشاء فقد يغفر الله لك ما قد يكون في رأيك من خطيئة، ولكن الناس لا يستطيعون الغفران.
المؤلف
الفصل الأول
مقدمة في جبال أذربيجان
(خسرو أمير إيران وولي عهدها جالس على صخرة في زي بعض التجار بقرب عين جارية وسط مرج في الجبال ومعه صديقاه باذان وفيروز في زي التجار مثله وكلهم هاربون خوفا من غضب الملك هرمزد.)
باذان (يهم بالسير) :
لا تجازف بنظرة عجلاء،
واحذر اللفظ فاللسان جواد،
إن كبا لا تقيله الأعذار.
خسرو :
لا تخف إننا بدار أمان.
باذان :
لا تكون الأخطار أفتك إلا
حيثما يشعر المخوف أمانا.
فيروز (بإشارة المستهين بالخطر) :
لو أسود الآجام ثارت إلينا
ما فزعنا من ثورة الآساد.
باذان :
نحن نسعى مخافة من مليك
باعه كالشعاع في الآفاق،
فحذار الأمان (ينظر لخسرو) يا مولاي!
قد أتاني بالأمس ليلا غلامي
يستحث المطي، قال سيأتي
بعد حين من طيسفون رسول
بكتاب لا يبغي أن يراه
غيرنا نحن؛ فاستعد لتلقى
من سيأتي، وسوف أمضي إليه
عند رأس الشعاب كيما أراه
في خلاء بنجوة من رقيب، وسآتي به بزي صديق
من تجار البلاد.
خسرو :
سر بسلام.
حرس الله واديا أنت فيه.
باذان (يحيي خسرو ويخاطب فيروز) :
قم معي، قد يجد أمر خطير؛
وحري بمن يسير لأمر
ذي جلال أن يستعين رفيقا. (فيروز ينهض وينظر إلى خسرو مستأذنا.)
خسرو (يأذن له) :
جعل الله كوكب السعد يعلو
ما تسايرتما وعودا بيمن. (يخرجان بعد التحية.) (لنفسه حزينا)
كيف أهنا وفي فؤادي هموم
تتوالى به كموج البحار؟!
إن تلك الحياة سعي وكدح
في مسير إلى سراب. (يدخل الراهب سرجيس وهو يعرف خسرو على أنه التاجر بنداد.)
سرجيس :
صحيح،
قد عرفت الحياة من جانبيها. (ينظر خسرو مبغوتا إلى الراهب.)
خسرو :
أنت سرجيس؟ مرحبا بصديقي (يبتسم له).
سرجيس :
قد عرفت الحياة من جانبيها (يجلس).
وخبرت الأيام حلوا ومرا،
ما تدوم الآلام إلا لحين،
ويلوح السرور مثل السراب.
لم تبقى هنا وحيدا؟
خسرو (بتعجب) :
وحيدا؟!
أنا في الجمع قد أكون وحيدا،
فإذا ما انفردت كنت بجمع.
سرجيس :
يا صديقي بنداد، لم أر يوما
مثل تلك الهموم عند الشباب.
خسرو (بنداد) :
من يذوق الحياة صرفا يعاني ما أعاني ...
ما الهم إلا وليد.
سرجيس :
لخيال الأشباح يا بنداد.
خسرو :
أيها الشيخ لا تحير فؤادي
في ثنايا المقال.
سرجيس :
ليس عجيبا
أن نخاف الذي يخاف، ولكن
نحن نخشى ما تخلق الأوهام.
خسرو :
كل ما في الوجود هم وخوف،
وكفى أننا أسارى المنون.
سرجيس (ضاحكا) :
ليس في الموت ما يخيف، ولكن
خشية الموت خشية المرء مما
ليس يدري ما تحتويه ستوره.
خسرو :
لست تخشى من الممات؟ نفاق ...
أي حي لا يرهب الآلام؟
سرجيس :
ليس خوف الممات من آلامه.
لن يحب الأنام ريح المنايا،
ولئن هب في عطور الزهور.
قد يعاني المريض وقع السيوف،
ويلاقي في السقم طعم الحتوف،
ألم دونه الممات، ولكن
سورة البرء باسم الآلام.
خسرو :
كم بهذي الحياة من آلام!
ليس خوف الممات كل الهموم.
سرجيس :
قد تذوقت كل حلو ومر،
ولبست النعماء والبأساء ،
وعرفت الورى بغير غطاء،
يخدع الناظرين باللألاء،
فرأيت الهموم بنت الأماني،
لا يرى الهم زاهد في الحياة.
خسرو :
أي قلب خلا من الآمال؟
سرجيس :
إن من طالع الحقيقة يوما،
ورأى نورها بغير غطاء،
لم يجد في الحياة شيئا جديرا بالتمني.
خسرو :
أرى الحياة جحيما،
إن تجردت من أماني فؤادي.
سرجيس :
يا بني استمع لقصة شيخ ...
كنت أرعى في السهل يوما، فلاحت
لي رءوس الجبال مثل اللآلي،
تتلألأ في كل لون بهيج،
في سنا الشمس أو ظلال الأصيل،
فأثارت في القلب شتى شجوني
كي أراها.
خسرو :
فأنت مثلي شجي،
ليس يخلو من الأماني فؤادك.
سرجيس :
صبر النفس واستمع لحديثي؛
فدعاني الشباب والجهل يوما
لأروي أوام قلب فتي؛
فعلوت الجبال أسعى حثيثا،
كلما دب في عروقي كلال
لاح لي رأسها يضيء بهيجا.
وإذا بي من بعد لأي وجهد
قد بلغت الذرى، ولم ألق حولي
غير صخر مهشم وثلوج.
خسرو :
أنت في العلم موبذ يا صديقي.
أي دين ملأت منه فؤادك!
سرجيس :
علمتني الحياة، لم ألق علما
من رجال لهم من الدين رزق.
خسرو :
أي بأس إن كان في الناس قوم
من هداة للدين؟
سرجيس :
للناس عين
تبصر الكائنات. حسبي بعيني
من دليل على إلهي. ولكن
هؤلاء الأولى تسمي هداة،
علموا الناس أن في النار سرا؛
لينالوا من معبد النار رزقا.
خسرو :
قد كرهت النيران إذ كنت ممن يعبدون
المسيح يا سرجيس.
سرجيس :
أنا لا أعبد المسيح، ولكن
أنا عبد الإله رب المسيح،
وسواء من ضلل الناس عندي
أن يكونوا موابذا أو قسوسا.
خسرو :
هكذا نحن لا ندين لنار،
ليست النار للأنام إلها.
هي رمز لقدرة الله فينا،
والإله المعبود في الكون فرد.
سرجيس :
هو هذا. لقد سجدنا جميعا
لإله مدبر للوجود.
ألسن عدة ومعنى وحيد،
كاختلاف الثياب والشخص فرد.
خسرو :
أنت أفسحت لي المقال، وما لي
في مجال الكلام من مقدار.
أنا من أهل سلعة وشراء،
ومجالي في ضجة الأسواق.
سرجيس :
لا أرى فيك تاجرا يا صديقي.
لا، فما هكذا يكون التجار .
أنت في القول لوذعي، وتعطي،
وخفيف على ظهور الجياد.
أنت لا شك من جدود قدامى.
لست من أهل سلعة وشراء.
خسرو (بشيء من الارتياع) :
أيها الشيخ أخطأتك عيون
لم تر الناس.
سرجيس (مطمئنا) :
لن تراع؛ فإني
لا أبيع الصديق بالأموال،
لا تحاول إخفاء ما أظهرته
نسمات الأنفاس اختلاسا. (يهم منصرفا.)
خسرو (فازعا) :
أي شيء تظن؟ (يتكلف الابتسام.)
سرجيس :
لا تخش شيئا.
وسلام عليك مني (يخرج).
خسرو :
إلهي!
أكتم السر ما استطعت، وتأبى
نظرات العيون إلا اطلاعا. (تدخل شيرين بخفة كمن يريد أن يفاجئ الجالس، ومعها حمل صغير ترمي به قريبا منها.)
شيرين (تصيح مقلدة للحمل) :
ماء! ها أنا أرعى بين
المروج وحيدا (يلتف خسرو مسرعا ثم يهم مرحبا بسرور).
خسرو :
زهور تلك أم عيناك إذ تبدين في طهر؟
وصفحة وجهك اللألاء لاحت أم سنا البدر؟
وأنفاسك أم يسري نسيم ساعة الفجر؟
شيرين :
لم تكن أمس ها هنا.
خسرو :
كان عندي
بعض صحبي، وجئت بعد الغروب.
شيرين :
جئت حينا هنا فألفيت أرضا
غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي.
كان لون الزهور غير بهيج،
وخرير المياه غير جميل.
خسرو (يمسك بيدها) :
يا حياتي لأنت روح حياتي.
إن زهر الربى يهز فؤادي؛
إذ أرى لون وجهك الوضاء،
وخرير المياه أسمع منه
همس نجواك في الحديث البريء.
شيرين (بمرح) :
أصبح اليوم صاحيا بساما.
خسرو :
ما أحب الزهور والقطر فيها
مثل حب البلور يبعث نورا،
ونسيم الربيع يحمل منها
نفحات الفردوس في أنفاسه!
شيرين :
هل بإيران مثل تلك المروج؟
خسرو :
كان فيها مراتع وجنان،
يمرح القلب بينهن ويلهو.
شيرين :
كان فيها؟ واليوم؟ أرض يباب؟
خسرو :
إن أرضا تكون منك خلاء
لا تكون الجنان فيها حسانا.
شيرين (ضاحكة) :
أي قول بنداد؟ هل ذاك صدق؟
خسرو :
لا تشكي فيما أقول.
شيرين :
ولكن،
كم بإيران من بلاد عظام،
وقصور فيها العجيب العجاب!
خسرو (يفكر قليلا ثم لا يتمالك أن يظهر التأثر) :
كم بها من عجائب!
شيرين (بشغف) :
بنداد!
أصحيح هناك قصر لكسرى
قد بناه من جوهر؟
خسرو (بتأثر ) :
قصر كسرى؟
شيرين :
أنت أبصرته؟
خسرو :
لقد كنت فيه.
شيرين :
كيف؟
خسرو :
أهديت مرة أهل كسرى
بحرير مذهب وعطور،
من بلاد الخاقان.
شيرين (بمرح) :
أنت سعيد.
ليتني كنت تاجرا.
خسرو (ضاحكا) :
شيرين،
ليس كل التجار مثلي، فإني
كنت ذا حظوة وحظ كبير.
شيرين (بسرور وحماسة) :
هل رأيت الملوك في المهرجان؟
خسرو :
سرت يوما في مهرجان الملوك.
شيرين :
أنت أبصرت كل شيء بديع.
آه لو لم أكن فتاة!
خسرو :
لماذا؟
شيرين :
لأرى هذه البلاد العجيبة.
خسرو :
أتحبين أن تعيشي بقصر
شامخ في حدائق غناء؟ (تفكر قليلا ثم تقول):
شيرين :
هل أرى فيه مطلع الشمس صبحا،
وتهب الرياح فيه شدادا؟
خسرو :
لا، فما دونها حجاب منيع.
شيرين :
هل يبل الغما شعري إذا ما
نزل الطل في مساء الربيع؟
خسرو :
لا.
شيرين :
وهل فيه عين ماء ومرعى
لشياهي؟
خسرو (ضاحكا بحماسة) :
لا، ليس في القصر مرعى.
شيرين (مظهرة عدم الرضا) :
لست أهوى سوى حياة جبالي،
وسط ما اعتدت من رياح وغيم.
إن تلك القصور مثل قبور
عاليات البناء فوق رفات.
خسرو (يضغط على يدها ضاحكا) :
أنت شيرين من وعول الجبال،
غير روح خلابة وذكاء.
شيرين (تغير مجرى الحديث) :
يا صديقي بنداد، قلت ستبقى
ها هنا. لا تسير مثل التجار.
خسرو (مفكرا) :
همتي للمسير تدعو، ولكن
ها هنا يمسك الفؤاد عناني.
شيرين :
في بلادي تجارة وشراء.
يا إلهي! لكن أراني برغمي
لا أحب الشراء في الأسواق.
فابق في هذه الجبال مقيما،
ثم كن راعيا معي في بلادي.
خسرو :
حبذا أن أعيش قرب حبيبي،
وسط تلك الجبال أرعى سواما.
شيرين :
لم يكن لي أخ، وشيخي كبير
أقعدته السنون يا بنداد.
خسرو :
ليت أني ملكت أمر قضائي.
شيرين :
إن قلبي يحس شيئا عجيبا.
لست أدري بنداد ماذا أقول.
خسرو :
أي شيء يحس، شيرين.
شيرين :
إن قلبي يراك أبعد مما
تدعيه في ظاهر الأقوال.
أنت هذا أراك مني قريبا،
غير أني أحس بعدك مني.
خسرو :
إن هذي أوهام قلب صغير،
لا تخافي مما يحدث شيئا.
شيرين (بحزن ) :
ونذير الأحلام ماذا تراه؟
خسرو :
قد تكون الأحلام رؤيا خيال،
خبريني ما هذه الأحلام؟
شيرين :
كلما أغفت العيون أراني
في جنان فسيحة وظلال،
وحبيبي بنداد قربي يغني،
ويشم الزهور في إطراق،
وإذا بي أراه طار بعيدا،
بجناحين مثل لون السماء،
ثم يلقي إلي زهرة آس،
وأناديه كي يعود فأصحو.
خسرو :
هو حلم البشرى بعد قريب،
واجتماع لا يعتريه فراق.
شيرين :
حبذا لو يكون. قل بنداد (تقرب إليه).
لست مثل التجار يا بنداد.
خسرو (بارتباك) :
أنا منهم.
شيرين :
رباه! إنك تعطي
كعطاء الملوك غير ضنين،
وإذا ما ركبت كنت خفيفا،
لا كما يركب التجار ثقالا.
خسرو (متظاهرا بالخفة) :
كنت في أول الصبا عند قوم من رعاة،
نشأت فيهم صغيرا،
فتعلمت منهم كيف أنزو،
وتعلمت كيف أرمي بقوسي؛
فدعي ذاك. (يجعل يده حولها بخفة.)
وانظري العشب يكسو
حاليات الربى بوشي الربيع.
شيرين :
ما أحب الربيع! عشب وزهر،
ونسيم وجدول وطيور.
خسرو :
نعم وصف الربيع! لكن أراه
وصف جسم وليس فيه حياة.
وحياة الربيع قرب حبيب
يدرك القلب كل حسن بقربه. (يسمع صوت الحمل بعيدا وتقوم شيرين جارية نحوه.)
شيرين :
حملي!
خسرو (ضاحكا) :
لا تسر بعيدا، حذارا
من ذئاب الفلاة. (يدخل فيروز مسرعا.)
فيروز :
خسرو، أميري. (يركع فيروز وينظر للأرض.)
أرهف السمع! أي لفظ مريع!
أر بهرام سيد الملك غصبا،
وغدا الملك أكلة للذئاب. (تعود شيرين وتقف مبهوتة وهي ترى فيروز مطرقا وتتكئ على جذع شجرة قريب.)
خسرو :
هكذا قد صحوت، من أي حلم! (يدخل باذان مع الرسول بفزع وغضب.) (يركع باذان ويسجد الرسول.)
باذان :
شاه خسرو (مطرقا) قد شاءت الأقدار.
خسرو (بحزن) :
ما جنى والد على مولود
مثلما قد جنى علي مليكي؛
قد رماني إلى الحياة وليدا،
قد رماني إلى الفيافي كبيرا.
أنا بالملك في سلاسل قيد،
كنت لولاه مثل هذا الأنام.
غير أني نسيت (يلتفت باحثا عن شيرين فيراها واقفة).
مهلا رفاقي (يلتفتون نحو شيرين بفزع)
لا تراعوا؛ فإنها شيرين.
أنظروني حتى أعود. (يقوم إلى شيرين) تعالي،
لا تراعي شيرين. ماذا دهاك؟ (تبقى شيرين واقفة ويظهر الجماعة التعجب ويغضب باذان.)
شيرين (بيأس) :
يا إلهي! تحقق اليوم حلمي.
لست بنداد صادق الأنباء.
خسرو (برقة) :
أنا هذا شيرين، هيه تعالي.
شيرين :
أنت خسرو ولست من أندادي.
خسرو :
لست خسرو. خلعت ثوبا قديما
كنت فيه بذلك العنوان.
باذان (بغضب) :
شاه خسرو!
خسرو :
باذان دعني وحيدا،
واغربوا بالغرور والملك عني،
وتعالي إلي شيرين.
شيرين (باكية) :
يا أعز المنى وأقصى رجائي!
أفلتت من يدي منية نفسي.
كنت في جنة وكانت خداعا،
ثم زالت كجنة في منام (تهم بالسير).
خسرو (يسير وراءها) :
لا تسيري بحق حبي وقلبي.
شيرين :
أنا أهواك راعيا لا أميرا،
وفقيرا مثلي يكد ويسعى.
خسرو :
لست أبقي على غناي وملكي.
شيرين :
كان أقصى المنى حياتك قربي،
وأحب الأوقات ساعة لقيا،
وألذ النسيم ما هب حلوا
حاملا منك طيب الأنفاس.
خسرو :
لا تسيري شيرين عني، فإني
لست أحيا إلا على آمالي.
شيرين (تسير باكية) :
سأقيم الحياة أندب حظي،
ثم أقضي حق الهوى من بكائي،
وسميري في كأس دمعي خيال
منك لا أستطيع منه فراقا (تخرج). (يرتمي خسرو على صخرة يائسا.)
خسرو :
ذلك الملك مثل نار حريق،
تحرق الأقربين قبل البعيد.
فدعوني فلا أريد دماء
مهدرات، ولا حياة غرور.
باذان :
أي قول تقول؟ أين دماء
من جدود بواسل أبطال؟
خسرو :
وسموا الصخر بالصلابة حتى
جعلوه لكل قاس مثيلا،
وأرى الماء نابعا منه يجري
في صفاء النسيم عند الأصيل،
ولكم في الصدور صخر صليب
لا ترى فيه قطرة من معين!
فيروز :
شاه خسرو أجب، وإلا فمن ذا
غير خسرو يجيب عند الخطوب!
خسرو :
قد ألاقي العدو بالسيف حتى
يحكم السيف بين بعض وبعض؛
وأعاني الحرمان والفقر، حسبي
ما يقيم الحياة من أزواد.
غير أن الجوى الممض إذا ما
خاب قلب في والد أو صديق.
قد رماني أبي فلما رماني
ضاع منه حسامه البتار،
وإذا ما أضاع ملك جدودي،
عاد لي كي أقيم صرحا صديعا.
باذان :
لم تكن يا بني يوما طليقا،
كنت للملك مذ ولدت رهينا.
ليس حمل التيجان زهوا لعمري،
أثقل الحمل فوق رأس الملوك.
خسرو :
ليتني كنت راعيا في جبال،
أبعد الناس عن هموم الملوك.
باذان :
لا تقل قالة السقيم إذا ما
أجهضته الأوجاع.
خسرو (غاضبا) :
يا باذان،
ليس للملك في فؤادي مكان،
قد كرهت الغرور.
باذان (غاضبا) :
وا ذلاه!
إن تكن بالهوى قنعت، فجرد
من دماء الملوك مجرى عروقك،
وتقنع بالذل مثل فتاة
حولها كل حولها في البكاء. (يقف خسرو غاضبا.)
خسرو :
قدك باذان، لو سواك رماني
لم أجبه بغير حد حسامي.
باذان (يقف عالي الرأس غير متردد) :
قد تعرضت للهلاك بنفس
تجد الموت أهون الأخطار.
لم أكن أفتديك بالروح لولا
نصرة الحق.
خسرو (يقل غضبه) :
مثل هذا خطابي؟ (يغير لهجته إلى تودد.)
أترى يوم أدركونا بشعب
في ثنايا الجبال بين الفيافي؟
قد تعرضت للعدو بصدري،
باذلا في الولاء مهجة نفسي.
خسرو (تتغير لهجته إلى المسالمة) :
لست أنسى ما كان منك، ولكن
يفسد المن بالغ الإحسان.
باذان :
لم يكن ما أقول منا لعمري.
أنا أفديك في الخطوب بنفسي.
ليس لي مطمع سوى أن سيفي
ينصر الحق ما بدا في جهاد.
خسرو (يفكر قليلا صامتا ثم يقول لنفسه) :
هي تلك الحياة، ما دمت فيها
فاضطرب في خضمها الفوار (يمد يده إلى باذان).
أي صديقي، تناس ما كان مني.
باذان :
أنا مولى الأمير، ليس بقلبي
غير ما يحمل الولي المحب.
خسرو :
ما بهذا شككت يوما، ولكن
غلب الهم همتي فاعتذارا،
ستراني من بعد غير كليل.
باذان :
يا مليكي، أثلجت قلبي بقول
فيه عزم الملوك. (ينظر لصحابه بصرامة) هيا رفاقي!
خسرو :
أسرعوا واركبوا الخيول؛ فليست
تستحب الأناة عند الكروب. (يسرعون بالاستعداد ويخرجون بعد التحية.)
خسرو (بحزن) :
أنا هذا في عدتي ولباسي،
وسأمضي لكي أبل أوامي
من وداعي، ولا يلمني صديق.
باذان :
لا يلوم الصديق لكن يواسي. (يقوم خسرو ويركع باذان.)
خسرو :
موعدي ساعة لأقضي حقوقا
لفؤادي من مدمعي ونحيبي (يخرج).
باذان (ينادي في أصحابه الذين في الخارج) :
أسرجوا، والبسوا، وهموا سراعا! (نهاية الفصل الأول.)
الفصل الثاني
القضاء في بلاد أذربيجان
(نفس المكان الذي فيه حوادث الفصل الأول. يظهر كوخ سرجيس وإلى مسافة منه صليب منصوب على الأرض.) (جماعة من جنود الروم يمرون وينظرون في الجبال ثم يسيرون.)
الأول (ناظرا حوله) :
لا أرى غير هذه الآفاق.
الثاني :
إنها نزهة لمن شاء.
الثالث :
سيروا.
إن فسطاطنا أحب إلينا (يخرجون). (يبقى اثنان من الضباط ويلوح أنهما متعبان فيجلسان للراحة على بعض الصخور.)
قيدروس :
ليس في هذه الجبال أنيس (يذهب الآخر إلى الماء ويشرب).
هي حقا منازل للذئاب.
فيدوس (يعود بعد الشرب) :
آه! إني رويت. ماء لذيذ.
إنه بارد جميل صاف.
قيدروس (يرى الكوخ والصليب) :
آدمي هنا؟ فذلك كوخ.
فيدوس :
ليته لم يكن هنا آدمي.
إنني إن رأيت ذئبا بأرض
لم يرعني بمكره. ليت شعري
ذلك الكوخ كم رأى من قتيل!
قيدروس :
ليس هذا بكوخ لص مريع،
إن في جنبه صليبا، وظني
أنه كوخ ناسك أو عجوز.
فيدوس :
ألقهم في الجحيم طرا (يستلقي على الصخرة متعبا) لماذا
يحشر الروم مثل هذا بأرض
وعرة توحش النفوس يباب؟
أنا لا أشتري يبابا كهذا
باذلا فيه درهما.
قيدروس :
نحن جند.
ليس للجند أن يقولوا لماذا.
فيدوس (ساخرا) :
ليس للجند أن يقولوا لماذا!
أصبح الروم سلعة ذات سعر.
قيدروس :
ويك فيدوس!
فيدوس :
لا أبالي. لعلي
جئت تلك البلاد أسعى لحتفي.
ما أبالي من خوف قولي. فإني
فوق جرف على شفير الهلاك.
أنا إن مت ما عزاء صغاري
إن أكن قد هلكت في نصر كسرى؟
لست آسى إذا قتلت دفاعا
عن بلاد الرومان أهلي وقومي.
غير أني أرسلت أنصر كسرى
كي يكون الغداة ملكا عظيما.
فإذا ما غدا مليكا مهابا
وخلا جوه وذلت عداه،
وهزمنا بهرام حتى يراه
تحت أقدامه أسيرا ذليلا،
حشر الفرس ثم أقبل يغزو
دولة الروم كي يزيد فخارا.
قيدروس :
إن هذا هو الهراء البليغ.
سوف يضحي كسرى صديقا حميما.
فيدوس :
ليس قولي الهراء يا قيدروس.
إن موريق قيصر الروم شيخ
يعبد المال، لا يضن بشيء
إن رأى من ورائه أموالا.
فأتاه كسرى بكنز عظيم
يشتري منه أنفس الرومان.
فلنحارب حروب كسرى فإنا
باعنا قيصر الشحيح لكسرى. (تسمع ضجة في أسفل الجبل فينظر الضابطان نحوها فيريان اضطرابا عظيما.) (يدخل فرهاد وهو راع فقير تلوح عليه البساطة فيرى الجنديين ويتوارى.)
قيدروس :
أترى ذاك: ضجة واضطراب!
فيدوس :
أسرعوا للقتال. ليس عجيبا
أن يثوروا إلى القتال سراعا.
إن رأيت الجنود يوما وقوفا
في مجال القتال وجها لوجه،
فتيقن أن سوف تنشب حرب.
لم نبقى هنا؟
قيدروس (ينهض متثاقلا) :
هلم إليهم.
فيدوس :
ليت شعري ماذا يكون المصير (يخرجان). (يظهر فرهاد يلتف فيما حوله.)
يا إلهي من شر تلك الجنود!
فرهاد :
هم وحوش حياتهم في دماء. (يذهب نحو الصليب.) (ينادي) يا أبانا سرجيس!
سرجيس (من الداخل) :
من ذا؟
فرهاد :
يا أبانا سرجيس أنعم صباحا. (يخرج سرجيس من الكوخ.)
يا أبانا لا تنسنا في الدعاء. (باسما، يقبل يد سرجيس.) (يذهب سرجيس إلى الصليب وراءه فرهاد فيركعان بجواره يصليان.) (الصلاة):
سرجيس :
كلما لاح ضوء شمس الصباح،
خرج الطير ساعيا من وكوره،
يحمد الله كل ما في البطاح،
وتصلي على الهواء طيوره.
يا إلهي غمرتنا بنعيم. (تدخل شيرين أثناء الصلاة وتركع وراءهما وتصلي.)
لا نوفيه شكره بلسان.
رب فاقبل دعاء قلب سقيم،
وأغثنا برحمة الغفران.
سرجيس (بعد الخروج من الصلاة يرى شيرين) :
أنت شيرين؟ كيف أمسى أبوك؟
شيرين :
يا أبانا أمسى طريحا ضعيفا.
جئت من أجله أصلي وأرجو
منك خير الدعاء.
سرجيس (رافعا يده بالدعاء) :
يا مولاي،
أنت رب الأنام فاشف أباها. (بخشوع) يا إلهي آمين.
شيرين :
يا إلهي آمين.
فرهاد :
يا إلهي آمين (لشيرين) أسأل ربي
بخشوع شفاء ضعف أبيك.
شيرين :
لك شكري. رب استجب. آمين. (تهم قائمة) يا أبانا لا تنس. مثلك ممن
بارك الله قولهم في الدعاء.
سرجيس :
يا ابنتي أسلمي القياد إليه،
لا يرد الدعاء مجرى القضاء.
أسلمي الأمر للذي يتولى
أمر هذا الوجود بالتدبير. (تتوجه ذاهبة من ناحية المكان الذي فيه الجيوش.)
شيرين (بخشوع) :
يا إلهي أسلمت أمري إليك.
فرهاد :
لا تسيري هناك. دونك جيش.
ملأ الرحب بين خيل ورجل. (لسرجيس) أرأيت الجيوش؟
سرجيس :
هبت إلينا
نسمات في الليل تحمل صوتا
كان في رهبة الظلام رهيبا.
ما لنا نحن والجيوش، فإنا
قد لجأنا إلى سلام الإله.
يا إلهي هبنا السلام ...
شيرين : ... ... ... ... إلهي!
فرهاد :
ضل أهل الحروب والعدوان. (لشيرين) لا تعودي من الطريق وسيري
فوق تلك الجروف (يشير للناحية الأخرى من الجبل)،
فالسير فيها
آمن من جنود تلك الجيوش.
أرأيت الطريق يا شيرين؟
أرأيت الطريق فوق الجروف؟
شيرين (لا تفهم قصده) :
لست أدري ما ذاك يا فرهاد. (يذهب سرجيس إلى الصليب ويجلس بجواره يصلي.)
فرهاد (ببساطة) :
أنسيت الجروف يا شيرين؟
هل نسيت العجوز يوم تردت
فوقها إذ تسير يا شيرين؛
فتألمت أجلها بدموع،
ثم ناديتني وقلت: عجوز
نالها في السقوط جرح دام؟
شيرين :
قد تذكرت. منذ حين طويل.
فرهاد :
منذ هذا نهضت أبغي رضاك،
فقطعت الربى الصلاب فخرت
عن جلاميدها، ومهدت جسرا
من جذوع الأشجار والأوتاد،
ثم أوثقتها وثاقا شديدا
بحبال كأنها من حديد. (مظهرا السرور العظيم.)
شيرين :
شكر الله ما صنعت صديقي.
فرهاد :
كل هذا ابتغاء نيل رضاك.
شيرين :
كافأ الله ما صنعت فإني
ليس عندي سوى الصلاة لأجلك.
فرهاد (بخشوع) :
يا نسيم الحياة أنت رجائي وجزائي.
شيرين (بطيبة) :
فرهاد، أمسك لسانا
غلب الجهل والضلال زمامه.
ما جزائي وما رضائي؟ إلهي،
لا تؤاخذ فرهاد، واغفر لعبد
زل منه اللسان يا رحمن (بخشوع المصلي). (تسير نازلة من جهة الطريق الجديد.)
فرهاد (متألما) :
جئت أرجو رضا الحبيب جزاء،
فتولى وعدت بالآثام.
هل قضى الله أن أعيش طريدا
وبقلبي لواعج من سقامي؟
كان قطع الصخور عندي شهيا
إذ توقعت أن أنال رضاها،
فإذا بي من بعد كدي وجهدي
لم أفز عندها بغير العبوس. (يذهب نحو سرجيس.)
يا أبانا، في القلب جرح، وإني
أحسب الجرح طبه الاعتراف.
سرجيس (ينهض إليه) :
إن ترد الاعتراف عندي تجدني
لك خدنا مواسيا وصديقا.
فرهاد :
قيل إن الذنوب تمحى إذا ما
هتك المرء سترها باعتراف.
سرجيس :
لا تقل لي مقال أهل دهاء
تخذوا الناس لعبة أو تجارة.
لا أرى الاعتراف يمحو ذنوبا
عن قلوب تلوثت بالذنوب.
هذه قولة لمن شاء حسوا
في ارتغاء.
فرهاد (بألم) :
سرجيس يا أبتاه،
إن قلبي به جروح فخفف
من سقامي برقوة أو دعاء.
سرجيس :
سأواسيك يا بني بقلبي.
فاشك لي ما أصاب قلبك. إني
لذوي النائبات خدن مواسي. (يذهب بفرهاد إلى الكوخ.) (يدخل خسرو صاعدا من أسفل الجبل من ناحية الطريق الجديد لابسا ملابسه الحربية وعليها أثر مجهود شاق ويرتمي متعبا.)
خسرو :
لا أرى في الأنام أحرى بسخر
من معنى بكاذبات الأماني.
من يكن همه التماسا لرزق،
لم يجد في طلابه إسقاما.
قد يهيم الفقير بين الفيافي
في التماس الأحطاب والأعشاب،
فإذا فاز بعد جهد جهيد
برغيفين لم يعكره هم.
غير أن الذي يحاول مجدا،
يدع النوم والسلام ويأبى
ثغره الابتسام، حتى إذا ما
طالعته المنى رآها سرابا. (ينظر إلى الكوخ ويذهب إليه فينادي)
صاحب الكوخ أنت، من ذا هنا؟
سرجيس (من الداخل) :
من ينادي؟
خسرو :
أما بكوخك مأوى؟
سرجيس (مطلا من الباب) :
مرحبا بالنزيل إن كان كوخي
لائقا للنزول. (يخرج سرجيس وفرهاد.)
خسرو (بدهشة عظيمة) :
من؟! سرجيس؟! (ينظر سرجيس إلى خسرو نظرة فاحصة ثم يتبين ملامحه بعد قليل، ويتسلل فرهاد أثناء ذلك كالهارب.)
سرجيس :
أنت بنداد؟ (مترددا)
شاه خسرو؟ ...
خسرو :
لست إلا بنداد. بالله أقبل
وتناس الألقاب والأسماء (يتعانقان).
سرجيس :
أي سعد بني يا بنداد!
خسرو :
يا صديقي سرجيس أي لقاء!
سرجيس :
غيرتك السنون يا بنداد. (يتردد) شاه خسرو ...
خسرو :
سرجيس أقصر، فإني
قد كرهت الألقاب، فاجعل ندائي
بأحب الأسماء عندي.
سرجيس :
ولكن ما وراء الستار؟ هل كان حرب؟
قد سمعنا في الليل صوتا رهيبا،
في سكون الظلام بين صليل
وصهيل ودعوة وغناء. (بحزن) أي صديقي، قد كان حرب، ولكن
لست أدري مصيره، ويل نفسي!
عجب هذه الحياة، أراها
مثل كأس مريرة غير أني
لا أرى شاربا يمل شرابا.
سرجيس :
حكمة الله فوق درك العقول.
خسرو :
كان كسرى قباذ ملكا عظيما،
ملأ الأرض عزة وجلالا،
ناشئ في الشباب يزهى جمالا،
وبيمناه معقد الآمال،
فإذا الحسن بعد حين مشيب،
وإذا المجد صائر للزوال.
سرجيس :
قد علمنا أن الحياة غرور،
ثم لا نستطيع غير الغرور.
جعل الله في النفوس نزوعا
لاضطراب الحياة رغم العقول.
خسرو :
أنت لازلت موبذا يا صديقي.
سرجيس :
غير أني أرى عليك اكتئابا،
فأجبني، ما كان؟
خسرو :
إني طريد،
وكفى أن أقول إني طريد.
سرجيس (بحزن شديد) :
أي صديقي!
خسرو :
نازلت قرنا عنيدا
سمع الناس باسمه: بهرام،
باسل فاتك، فظيع اللقاء.
فظللنا ما بين كر وفر،
وبعدنا إلى شعاب الجبال،
فإذا بي وقد كبا بي جوادي،
وعلت بين أضلعي أنفاسي،
وأتاني العدو يعدو ويرغي
بسنان تلوح فيه المنايا.
سرجيس :
يا إلهي من هول تلك الخطوب!
خسرو :
فتوغلت في الجبال طريدا،
وعلوت الصخور أطلب منجى،
فإذا الشعب دون جرف منيف،
ليس فيه مفازة من سبيل.
سرجيس :
أي كرب؟!
خسرو :
لكن أراد إلهي،
فإذا بي أرى على البعد شخصا
في ثياب خضراء لاح مشيرا،
فتوجهت نحوه، فمضى بي
في طريق بين الصخور خفي،
جانباه جلامد وجذوع
وحبال متينة وغصون،
ورآني العدو أرقى عليها
مثل طير معلق في الهواء.
سرجيس :
يا إلهي! هذا قضاء عجيب.
خسرو :
فإذا ما بلغت أمنا، إذا بي
أبصر الشخص قد تباعد عني،
فتوجهت نحوه كي أراه،
فاختفى في الشعاب مثل خيال،
ثم نادى في الجو صوت جميل،
قال: «أبشر فقد نصرت عزيزا.»
عند هذا ناديت: «من أنت؟ قل لي،
ملك أنت؟» قال: «إني رسول
بعث الله بي إليك لأمر
خطه في القضاء فاعدل وأحسن.»
سرجيس :
تلك بشرى. فالسعد إن جاء يوما
كانت المعجزات من إقباله.
خسرو :
غير أني هنا طريد شريد.
سرجيس :
يا صديقي، ما أنت بالمخذول.
خسرو :
لا أبالي بما يكون، ولكن
قد أطلنا الحديث في غير قصد،
ونسيت الذي أردت ابتداء:
أين شيرين؟ قل وحدث طويلا.
سرجيس :
في سلام. كانت هنا منذ حين،
ومضت من هناك منذ قليل. (مشيرا إلى جهة الطريق الجديد.)
ويقيني لو كنت أسرعت سيرا،
كنت لاقيتها هناك.
خسرو :
ولكن،
لم يكن ها هنا من الناس فرد.
سرجيس (باسما) :
غير ذاك الذي لقيت.
خسرو :
ولكن،
لم يكن ذاك آدميا.
سرجيس :
صديقي،
قلت ذاك الرسول لاح بعيدا
في ثياب من سندس خضراء؟
خسرو :
هو هذا.
سرجيس :
إذن فقد سخرتها
لك تلك الأقدار عن تدبير.
خسرو (متأثرا) :
يا إلهي! لقد أحس فؤادي.
ويح قلب المحب كيف يحس!
يا صديقي إني مدين بنفسي
وحياتي لها. (يدخل جماعة من الجنود الرومان: نياطوس ومرقص ويلاجوس، ويهم كسرى إليهم.)
نياطوس (بصوت عال تظهر فيه الدهشة) :
وكيف! إلهي!
نحمد الله إذ نجوت سليما (يعانقه).
خسرو :
أين جندي؟ وأين جيشك؟
نياطوس :
ساروا إثر بهرام.
خسرو (بتعجب) :
هل مضى بهرام؟
نياطوس :
قد مضى مسرعا بخيل ورجل.
خسرو :
إنها حكمة القضاء، وإنا
في بنان القضاء نسعى لأمر.
نياطوس :
عندما سرت في الشعاب جزعنا،
ورأينا بهرام يعدو جريئا؛
فيئسنا من النجاح وجئنا
نتوقى القتال فوق الجبال،
ورأينا العدو يقفو سريعا
بعد بهرام صائحا منصورا.
غير أنا من بعد حين رأينا
هيعة في العدو ثم اضطرابا،
ورأينا بهرام عاد وحيدا
كاسفا مبطئا، فعدنا سراعا
وهبطنا على العدو غريرا،
فمضى هاربا كسرب وعول.
خسرو :
كيف أبدي ما في فؤادي، وأنى
أجد اللفظ كي أصيغ ثنائي؟ (يسجد خسرو.) (يركع سرجيس بجوار الصليب يصلي ويرتل أنشودة.)
سرجيس (منشدا) :
مولاي رب البرايا
مصرف الحدثان،
ما شئت كان وأنى
تسمو إليك المعاني،
ضعوا الجباه سجودا
للمالك الرحمن. (يسجد ويسجد الجميع.)
لك الثناء ولكن
يضيق عنه بياني. (يقومون.)
خسرو (للروم) :
يا رفاقي جزاكم الله عني،
قل عندي جزاء هذا الصنيع.
فاذهبوا الآن واستعدوا، ولموا
شعث الجند بعد تلك الخطوب.
إنما الحرب فرصة فاغنموها،
سيرانا الصباح إثر العدو.
ودعوني هنا لأقضي حقوقا
من ثناء لله عند صديقي؛
ذلك الراهب المبارك.
نياطوس (يحيي ويهم سائرا مع الروم) :
سمعا. (مناديا مع إخوانه.)
شاه خسرو برويز، يا منصور. (يخرجون.)
خسرو (لسرجيس) :
لا أحب الرحيل قبل لقاها،
فالتمس لي وسيلة للقاء.
كنت من قبل موثقا بفؤادي
من هواها، واليوم أصبحت ملكا.
سرجيس :
أنا هذا مولاي مرني.
خسرو :
صديقي،
سر معي كي تكون عني لسانا
عندما تعقد الشجون لساني.
سرجيس :
سر بنا يا بني. (يهم ثم يقف فجأة إذ يبصر شيرين راجعة.)
قف، ما دهاها،
هي هذي تعود، لكن أراها
في خطاها ثقيلة. قم سريعا
وادخل الكوخ كي أراها وحيدا،
ففؤاد المحزون يزداد نارا
إن تراه العيون في أحزانه. (يسرع خسرو ذاهبا إلى الكوخ، وتدخل شيرين.) (لشيرين)
أقبلي يا ابنتي إلي، تعالي.
شيرين (باكية) :
يا أبي، لم يصر لشيرين أهل.
كان شيخي علالتي فتولى،
وقلاني لوحشتي في الحياة.
سرجيس (متأثرا ويحاول تسكينها) :
قد مضى الشيخ في السبيل مطيعا
لقضاء يطيعه كل حي.
شيرين :
قد مضى تاركا حماي مباحا،
ودياري لوحشة وانفراد.
سرجيس :
اذكري الله، إنه خير جار،
هو يحمي حماك يا شيرين.
شيرين :
يا أبي هذه الحياة عذاب،
ليس لي بغية بتلك الحياة. (تزيد بكاء.)
ما الذي أبتغيه منها وقدما
لم أجدها سوى دموع وحزن.
سرجيس :
أنت تنسين يا ابنتي. لا تسيري
في سبيل الأحزان نحو الضلال.
شيرين :
غفر الله لي. فإن فؤادي
مزقته سهام دهر عات.
سرجيس :
نعم الله حولنا تتوالى،
وأرى الناس قل منهم شكور.
فاصبري يا ابنتي إذا حل يوما
بعض ما تكرهين. كم لإلهي
من أياد عليك: رزق حلال،
وشراب من سلسل، وقلوب
تتولاك رحمة وحنانا.
شيرين :
يا أبانا جزيت خيرا، فإني
لا أحس السلام إلا بقولك.
سرجيس :
إن في الناس من يفديك حبا
بدماء القلوب.
شيرين :
أحمد ربي
إذ أرى في الحياة بعد صديقا.
سرجيس :
لك رب يفوق كل صديق.
شيرين :
أحمد الله أنه هو حسبي،
وكفاني في الناس قلب صديق.
سرجيس :
أنت تنسين. هل نسيت زمانا
كان فيه النسيم يسري عليلا،
وتفوح الزهور فيه فتحيي
أملا في الفؤاد غير بعيد،
وتضيء النجوم ليلا فتعلو
بالأماني إلى سماء النعيم؟
شيرين (بحزن) :
كان هذا، وقد مضى بي كحلم،
فإذا بي صحوت للأحزان.
سرجيس :
اذكري ذلك الزمان وقولي
رحم الله عهده في العهود،
واسألي الله أن يعيد الليالي
باسمات كما مضين.
شيرين :
وأنى يبعث الله ما مضى؟
سرجيس :
شيرين،
ليس هذا إيمان قلب وفي.
شيرين :
قد تولى زمان سعدي وأنسي.
سرجيس :
إن من كان للعهود وفيا،
لا تموت الآمال بين ضلوعه.
أنسيت الصديق بنداد؟
شيرين :
ربي!
سرجيس :
ليس في قلبه سوى شيرين.
شيرين :
يا أبي ما عهدت منك حديثا
باطلا.
سرجيس :
لم يكن حديثي لغوا.
إن بنداد ها هنا، آه خسرو.
شيرين (بدهشة) :
كيف تدري؟
سرجيس :
قد كان عندي وأفضى
لي بما كان من أمور عجاب.
كان في مأزق الهلاك طريدا،
ثم لاحت له فتاة هدته
لطريق بين الشعاب خفي.
أعرفت الفتاة يا شيرين؟
شيرين :
يا إلهي!
سرجيس (باسما) :
هو القضاء، وإنا
في سبيل القضاء نسعى بأمر.
بعثتك الأقدار كيما تكوني
آلة في نجاة هذا الصديق.
شيرين :
يا إلهي لك الثناء الجميل.
سرجيس :
أتحبين أن أسير إليه؟
إنه كان يبتغي أن يراك. (تسكت شيرين مطرقة ثم تبكي.)
شيرين :
يا إلهي رحماك!
سرجيس (ناهضا ينادي) :
بنداد أقبل! (يفتح الكوخ ويخرج منه خسرو مسرعا.)
شيرين (إلى جانب) :
هو في القلب لم يزله بعاد.
خسرو (لشيرين) :
يا هوى القلب ما نسيتك يوما. (يمسك يديها بشدة ويقبلها.)
شيرين (تبكي) :
أسعفي يا دموع إن فؤادي
كاد من هذه الشجون يذوب.
خسرو :
كنت في الهالكين حتى بدا لي
ملك في ثيابك الأطهار،
فإذا بي على جناحيه ناج،
وإذا بي بيمنه منصور.
شيرين :
أحمد الله.
خسرو :
أقبلي. إن قلبي
مثل طير ظمآن في أسر سجن
أبصر الماء ليس يسطيع شربا. (يمد لها ذراعيه.)
أقبلي أنت نشوتي وهيامي،
أنت زادي ونسمة الأنفاس.
شيرين (مترددة) :
يا إلهي! غالبت قلبي، ولكن
لم أطق في غلاب قلبي انتصارا.
كنت أهوى بنداد، لكن فؤادي
ظل يهوى بنداد في شاه خسرو. (تندفع بين ذراعيه.)
خسرو :
أقبلي للمحب، ماذا يبالي
خالص الحب باسم من يهواه.
أقبلي ملكتي لقد شاء ربي
أن تكوني شريكتي في انتصاري.
أنت للعرش زينة فهلمي،
ذلك التاج باسم في انتظار. (انتهى)
الفصل الثالث
العواصف
(إيوان كسرى. جماعة من قواد الدولة يتناجون.)
تخوار :
أول الحرب نشوة وفخار
يخدع الجاهلين مثل السراب،
فإذا ما ذكت بهم واستحرت،
جزعوا من جراحها ولظاها.
أسفاذ :
ويل من يسعر الحروب لمجد
يتخطى له ألوف الضحايا!
تخوار (متحمسا) :
إنهم يسعرونها لينالوا
من دواهي الورى مراما دنيئا.
إن هذا الوزير يقصد منها
دمنا نحن بعد قتل بنينا.
جراز (محذرا) :
احذروا العين واجعلوا القول همسا.
تخوار :
وا فؤاداه يا بني! أقاموا
في بطون الثرى بقفر البلاد،
في شطوط الجيحون نصف، ونصف
في صحارى الشآم.
جراز :
لم يك منا
من نجا سالما، فقد فجعتنا
هذه الحرب في ثمار القلوب.
أسفاذ :
فيم نرمي إلى الهلاك بنينا؟
كي يصير المليك ربا ويعلو
فوق عرش الملوك حتى إذا ما
بلغ النجم في علاه تجنى
وعتا في قضائه في العبيد؟
تخوار (ساخرا) :
أم لكي يكبر الوزير ويعلو
فوق أشلائنا؟ وما ذاق يوما
طعم وخز القنا وضرب السيوف،
لا، ولا فجعة الأب المحزون.
جراز :
إن هذا الوزير أصل البلايا،
ومثير الحروب والأهوال.
أسفاذ :
هو هذا الوزير أصل البلايا،
إنه لا يطيق رؤية حر
قرب كسرى، فلا يزال كسيفا
ثائر القلب حين يبصر حرا
عالي الرأس، ليس يهدأ إلا
أن يراه معفرا في شباكه.
لست أدري ما ميل كسرى إليه؟
جراز :
مثل كسرى تقوده بخداع،
وبلفظ منمق معسول.
تخوار :
فلنهاجر. وكيف نرضى مقاما
في بلاد يهون فيها الكرام؟
جراز :
ليس هذا بالرأي يا تخوار.
أسفاذ :
فلنقاتل إذن ونمضي كراما.
جراز (ضاحكا) :
ليس حكم السيوف في كل حال،
قد تكون السيوف أوهى سلاح.
من رمانا بمكره فأجبنا
بسيوف عدنا بشر انهزام.
أسفاذ :
وإذن كيف نتقيه وننجو؟
جراز :
أسهل الصيد صيد حر نبيل،
صادق في مقاله مقدام.
إن تثره يثر، وإن تعترضه
بشباك يقع بغير عناء.
تخوار :
لن تراني ما عشت أخدم قوما
ليس فيهم من عارف لجميل.
كان بهرام في الحروب حساما
لا يمل الصدام، أبلى بلاء
في حروب الخاقان حتى تجلت
غمرات الهلاك عن إيران،
فماذا جزوه؟ ذلا وخسفا.
ثم بندي، كم من أياد لبندي
عند خسرو، فكيف جازاه خسرو؟
أسفاذ :
لن تراني كذاك أخدم ملكا
لا يجازي الإحسان إلا بشر.
جراز :
ما الذي تبتغي؟ أذلك قول
خارج عن حجى وعقل سليم؟
كيف نأبى أمر المليك وإنا
هامة الجيش؟ ليس هذا برأي.
أسفاذ :
أنا لا أبتغي من العيش شيئا.
زهدتني مصائبي في حياتي.
جراز :
ليس في اليأس حيلة أو خلاص،
لم يضق عاقل بأمر جليل.
لا يحب البروز للأخطار،
وهو اليوم يدفع الملك دفعا
نحو حرب الخاقان، يرجو خلاصا
من رجال يخافهم، ويقيني
أننا قصده بتلك الحروب.
تخوار :
كيف نبقى إذن بهذا البلاء؟
جراز :
صبر النفس يا صديقي قليلا،
إننا نستطيع مكرا بمكر،
واحتيالا في أمره باحتيال،
فلنجرد في حرب هذا خداعا،
ولننازله في الوغى بسلاحه.
فدعوني أدبر الأمر. إنا
إن زججنا به إلى الحرب أقعى
وأبى الحرب. فاجعلوني لسانا
ناطقا عنكم، وإني كفيل
أنه يبدل الحروب سلاما.
أسفاذ :
لست تدري ما مكر هذا المرائي. (يسمع صوت مقبل.)
جراز :
حاذرا قد أتى! (يدخل الوزير زاذ فرخ.)
زاذ فرخ :
سعدتم صباحا.
تخوار وأسفاذ :
مرحبا سيدي. صباح سعيد.
زاذ فرخ :
قد أتيتم مبكرين.
جراز :
أتينا
نسرع الخطو كي نسر قلوبا
تائقات إلى لقاء المليك.
زاذ فرخ :
بارك الله خطوكم. ما رأيتم
في حروب الخاقان أمر المليك؟
هل فحصتم طريقها ورأيتم عدة الحرب؟
جراز :
قد كشفنا الخبايا،
وبحثنا الأمور من كل وجه.
زاذ فرخ :
ذاك رأي المليك فيكم، وأنتم لجسام الأمور أهل.
جراز :
رأينا
أن للملك جانبين، فجنب
في فيافي الجيحون شرقا، وجنب
في بلاد الرومان.
زاذ فرخ :
هذا بديع.
جراز :
ورأينا جيوشنا مشرفات
فوق شط الخليج لو كان فيها
قائد ثابت الجنان لفازت،
وغدا الروم للمليك عبيدا.
زاذ فرخ (ببرود) :
وبلاد الخاقان؟
جراز :
نحن عبيد
للمليك العظيم، نفدي حماه
بدماء النفوس، نمضي بجيش
طاعة الأمر ناشرين لواه،
فوق أرض الخاقان شرقا وغربا.
زاذ فرخ (محبذا) :
ذلك الرأي يا جراز.
جراز :
ولكن،
قد رأينا الرومان أهل دهاء،
لا يولى لحربهم غير شهم
ذي دهاء وصولة وثبات.
زاذ فرخ (ببرود) :
من؟
جراز :
أيعني سوى يمين المعالي؟
من لحرب الرومان غير الوزير؟
زاذ فرخ (بدهشة) :
أنا للروم؟ يا إلهي! ولكن،
قائد الروم ذاك شهر براز.
جراز :
إن جيش المليك أسد، ولولا
ذلك القائد الجبان لفازوا.
فإذا أنت قد ذهبت إليهم
ورأوا عزمك القوي استماتوا،
مستمدين منك قلبا جريئا
وثباتا عند اصطدام الحروب.
زاذ فرخ :
غير أن المليك يقصد حربا،
في بلاد الخاقان لا الرومان.
جراز :
أصبح السلم سبة وانهزاما
بعد ما كان من عناد هرقل.
أنا عبد المليك آبى عليه
وصمة العار. لن أذوق سلاما
قبل أن أبتغي من الروم ثأرا.
تخوار :
إنني لو أبى الأنام جميعا
أن يثوروا معي، لقمت وحيدا
أطلب الثأر للمليك.
جراز (بحماسة متكلفة) :
ولكن،
أي عبد يأبى القيام لحرب
في دفاع عن المليك السعيد؟
قد أرى الموت في سبيل انتقامي
لمليكي فرضا علي لزاما.
زاذ فرخ (برفق وهدوء) :
يا رفاقي هذا ولاء كريم،
غير أني أرى التهور شرا.
إن حربا في دولتين بلاء،
أنعادي الرومان والخاقان؟
جراز :
قد أشرنا بما رأينا، ولكن
أحكم الرأي ما يراه الوزير.
زاذ فرخ :
إن هذا هو الولاء.
جراز :
أنمضي
لنعد الجيوش للخاقان؟
زاذ فرخ :
أجلوا ذاك، واستعدوا لحرب
في بلاد الرومان فامضوا لهذا
وذروني هنا. فإني قطب
لأمور البلاد. لست ضنينا
بدمائي في نصر ملكي، ولكن
لا تسير الأمور إلا بمثلي
قائما في صلاحها. فهلموا
واعرضوا رأيكم إذا جاء كسرى.
سيكون المليك بعد قليل
ها هنا فامكثوا لتلقوا ركابه.
وسأمضي في خدمتي. (يخرج.)
جراز :
سر كريما. (ينظر خلفه بحقد.)
أيها الثعلب الدنيء المرائي! (لصديقيه)
هل رأيتم هروبه وارتباكه؟
ذلك الأحمق اللئيم الجبان! (ساخرا)
هو قطب الأمور في الأرض طرا!
أسفاذ :
هل تيقنت أنه لا يبارى
في مجال الخداع؟
جراز :
لكن أرانا
قد رمينا إليه أول حبل،
وسنلقيه بعد حين صريعا.
تخوار :
كيف هذا؟ أراه فاز وخبنا.
جراز :
يا رفاقي لقد بدا لي رأي.
أسفاذ :
أسلم الرأي أن نسير لأرض
غير تلك البلاد.
جراز :
نترك أرضا
في ثراها جدودنا أسفاذ؟
تخوار :
ما الذي نستطيع؟
جراز :
كن مثل كسرى.
أسفاذ :
كيف؟
جراز :
لما غدا طريدا شريدا
يوم أضحى بهرام رب البلاد.
أسفاذ :
نقصد الروم؟
جراز :
ليس عارا علينا
لو خطبنا مودة الرومان. (صمت طويل ووجوم.)
أي بأس في أن أخلص قومي
وبلادي بنصرة الرومان؟
أتسام البلاد ذلا وخسفا
ثم نرضى ولا نهم لشيء؟
إننا كالسوام، لسنا نبالي
بسوى الزاد، لا نبالي بعز
أو بذل إذا وجدنا طعاما.
قد فقدنا أولادنا في حروب،
وجنوها مغانما وفخارا.
تخوار :
قول صدق.
أسفاذ :
لقد صدقت جراز.
جراز :
فهلموا إذن، وهذا سبيل
واضح للأولى أرادوا نجاحا.
إن ذهبنا للروم كان يسيرا
أن نلاقي هرقل فيها، ونمضي
أمرنا إذ يكون كسرى غريرا.
تخوار :
ذلك الرأي يا صديقي.
أسفاذ :
هلموا.
غير أني أخشى افتضاح الأمور.
جراز :
لا تخف. إننا جميعا سواء
في عداء الوزير. لكن حذارا
من قصور في خدمة أو دعاء.
تخوار :
ستراني أعلى الحضور دعاء
ومديحا وسرعة في السجود.
أسفاذ :
ستراني حفظت كل مقال
في مديح الملوك قبل ذهابي.
إن يكن في مقالة الحق شر،
كان خيرا لنا نفاق وكذب. (يسمع صوت.)
ها لقد جاء. (يظهر الاضطراب عليهم.)
جراز :
حاذروا واستعدوا! (يدخل مهمند الشاعر.) (ضاحكا)
أوه! مهمند؟ كيف حال الزمان؟ (يعودون إلى الهدوء.)
مهمند :
مثلما كنت دائما، أتغدى
ثم أغفو، وبعد ذلك أصحو
ثم أغفو، وبعد ذلك أصحو. (يضحكون.)
جراز :
سرك الله. نعم تلك حياة! (لتخوار)
يا صديقي تخوار، نعم الحياة!
هل سمعتم مقال مهمند يوما؟
تخوار :
أنا بالحرب عالم، غير أني
لست بالشعر عالما يا صديقي.
جراز (لمهمند) :
قل لنا من بديع شعرك شيئا.
مهمند :
لست يا سيدي أحب كلامي. (يشير إليه جراز إشارة عدم التصديق.)
لا تكذب فإنما هو رزقي،
وسبيل الأرزاق غير حبيب.
بائع الزهر ذاهل عن شذاها،
لا يرى في الزهور إلا بضاعة.
جراز :
غير أن الزهور لم تك يوما
غير محبوبة الشميم. أعد لي
ذلك الشعر إذ خرجنا لنلهو
يوم عيد النيروز.
مهمند :
كان جميلا
ذلك اليوم. كم ضحكنا! ولكن ... (يهز رأسه كمن يتذكر شيئا يأسف على فواته.)
جراز :
كم ضحكنا! أعده يا مهمند.
مهمند (ينشد) :
من أراد الصدق فليسمع ومن شاء السرور،
ذقت ما في الدهر من حلو ومن مر مرير،
وعرفت الناس عند اليسر والأمر العسير،
كنت أبكي إن بكى لهفان ذو قلب كسير،
ولكم ضل فؤادي في فتون وغرور،
فإذا بي بعد أن شيبني مر الدهور،
لا أرى في الناس ذا حظ سوى الفدم الغرير.
كن إذا شئت حمارا مرحا بين الحمير،
وإذا شئت فأسرج راكبا فوق الظهور،
ساخرا منها إذا أعجبها السرج الحرير،
فأضل الخلق عقل فوق رجلين يسير.
جراز (يضحك بصوت عال) :
كن إذا شئت حمارا مرحا بين الحمير. (يضحك الشاعر.) (لتخوار) أترى أن تكون هذا، صديقي؟
تخوار (ضاحكا) :
لا أرى أن أكون هذا.
جراز :
فأسرج
راكبا فوق ظهرها يا صديقي.
تخوار (ضاحكا) :
لا أرى في الركوب بأسا إذا ما
كان لا بد من ركوب الحمير.
جراز (لأسفاذ) :
ليت شعري ماذا تحب؟
أسفاذ (متكلفا الضحك) :
أراني
لا أحب الحمير.
مهمند :
لم أر يوما
سيدا طيبا تواضع حتى
رضيت نفسه بهذا، ولكن
كلنا يرتضي الركوب. وعندي
أن أحلى الحياة عيش الحمير. (يضحكون.)
جراز :
كيف هذا مهمند؟
مهمند :
نعم الحياة
كل أرض خضراء مرعى مباح
لم يعكر هم الحياة صفاها،
حيث سارت ترى محلا ومأوى،
وإذا شاءت النهيق وصاحت،
لم توار النهيق خشية بطش!
جراز :
أنت مهمند أحكم الشعراء.
كم من الناس من يود نهيقا،
ثم يخشى فيكتم الأنفاس! (تسمع ضجة مقبلة.)
أنصتوا. هذه المواكب جاءت.
فاستعدوا لكي نلاقي المليك. (يقومون سراعا للاستعداد.) (يدخل الحراس مصطفون ويدخل الملك من بينهم فيحييه الجميع بالسجود ويجلس الملك على عرشه ثم تدخل الحاشية ومعهم رسول من الروم.)
زاذ فرخ (مخاطبا الملك) :
أشرق التاج منذ لحت مليكي،
وتجلى البهاء في الإيوان.
جراز :
دمت للملك يا مليك البرايا.
تخوار :
يا مليكي بقيت رب المعالي.
أسفاذ :
دمت مولاي سيد الآفاق.
خسرو :
يا سيوفي وعدتي وجنودي!
إنني كلما نظرت إليكم،
فاض قلبي من غبطة وارتياح.
ليس ملك البلاد يثلج صدري
كطلوعي على وجوه بلادي.
زاذ فرخ :
يا مليكي السعيد أنعم بملك
راسخ المجد شامخ الأعلام. (يتقدم الشاعر مهمند.)
مهمند :
يا مليكي وسيدي
وملاذي ومقصدي
دمت للعز والعلا
تفضل اليوم بالغد
سطوة منك في العدا
بحسام مهند
بسطة منك للندى
في ولي ومجتدي
ولقد جئت صائدا
بمقال مسدد
خسرو (مرتاحا) :
جئت للصيد في حمانا؟ أبحنا
لك ما لا يباح يا مهمند.
مهمند :
دام للملك ربه
فوق عرش ممجد
طالعا في سمائه
بين يمن وسؤدد
فاجز مدحي بنفحة
من كريم معود
وا جرح من الزمان
وقد لج يعتدي
خسرو (لزاذ فرخ) :
كيف يشكو مهمند عند جواري؟
قد كفينا مهمند كيد زمانه.
زاذ فرخ :
أمر مولاي لا يزال مطاعا،
وسيحميك من عداء الزمان. (يشير إلى مهمند بالخروج.) (يخرج مهمند وينشد وهو خارج.)
مهمند :
زدت مجدا بخادم
أحمد الفعل أصيد (يشير إلى زاذ فرخ.)
زان أفعاله ألوفا
وإشراق مسعد (يخرج.)
خسرو (مرتاحا) :
قد بسطنا بنودنا خافقات،
وبعثنا جيوشنا فاتحات،
وألفنا مذاق طعن وضرب،
فكرهنا مذاق كأس السلام.
زاذ فرخ :
هو يمن المليك فوق لوائه. (يتقدم رسول الروم.)
الرسول :
أنا مولى أتيت أسعى بأمر
من مليكي هرقل ذخر المعالي.
زاذ فرخ :
يا مليكي ماذا يقول؟ أيعلو
في رحاب المليك ذكر هرقل؟
خسرو (للرسول) :
أيها العبد ما عرفنا مليكا
باسم هذا. فإنما هو عبد
من عبيدي يطاول الملك بغيا.
الرسول :
يا حكيم الملوك لا زلت تعلو
وتسامي الجوزاء. جئت رسولا
هاتفا بالسلام باسم مليكي.
إن مولاي قيصر الروم يهدي
للمليك العظيم ما هو أسمى
من هدايا الملوك: قلبا صديقا
يتمنى لك الخلود، وملكا
لا تزيل الأيام بهجة عزه.
خسرو :
قل لمولاك إن أراد سلاما،
فليكن عند أمرنا ورضانا.
ها هنا فليقم كعبد مطيع،
وسنحبوه بعد هذا بعفو.
الرسول :
يا عظيم الملوك لا زلت خدنا
للمعالي. إني رسول مليكي
قيصر الروم ذي العلا والجلال.
خسرو :
لا تعدها في حضرتي.
زاذ فرخ (بشدة) :
لا تعدها.
ليس في حضرة المليك ملوك.
هو ملك والناس طرا رعايا.
الرسول :
إن تلك الأيام ذات صروف
غير مأمونة، فبينا تراها
قد أناخت بكلكل إذ تراها
طلعت بالسعود والإقبال.
ولئن كان قيصر الروم يسعى
بسلام، ما كان ذلك عارا.
فلقد طالما استعان مليك
بأخيه على قراع الخطوب.
زاذ فرخ (لخسرو) :
أي جو لم يعل فيه لواؤك؟
أي أرض لم تسع فيها جنودك؟
ما الذي يبتغي هرقل بصلح،
وجيوش المليك عند الخليج؟
خسرو (للرسول) :
أيها العبد عد ذميما إليه.
ليس للعبد أن ينيب رسولا.
الرسول :
ليس من يخطب السلام بعبد،
يخطب السلم من يثير الحروب.
فتذكر مولاي إذ جئت يوما
تخطب الود من مليك عظيم،
كان موريق عند ذلك ملكا
بين جنبيه همسة للملوك.
خسرو (يثور غضبه) :
أيها العبد لا بقيت لقول
بعد هذا. ما أنت عندي رسول،
إنما تبعث الرسول الملوك! (لزاذ فرخ)
إنه مجرم بذيء اللسان؛
فخذوه، لا يبق حيا، هلموا! (يقبض عليه جنديان.)
زاذ فرخ :
ألقياه في السجن! (يخرج الجنديان بالرسول.) (للملك)
مولاي هدئ
ثورة النفس. سوف يلقى جزاء
فيه درس وعبرة للعبيد. (يقوم باذان وهو شيخ ضعيف ويخاطب الملك.)
باذان :
يا مليكي لا زلت باليمن تعلو،
وعلى العدل يستقر بناؤك. (يلوح الكره على وجه زاذ فرخ.)
يا مليكي، قد صرت شيخا ضعيفا،
بلغ السن من عظامي ولحمي،
وخبا نور ناظري، وأضحى
مسمعي دونه غطاء ثقيل.
غير أني عركت أحوال دهري.
خسرو :
قد عرفنا فيك الولاء، وإنا
سرنا اليوم أن نراك معافى.
باذان :
يا مليكي، في البغي شؤم، وأحرص
بسليل الملوك حفظ جواره.
إن هذا الرسول جاء يؤدي
قالة من مليكه، ليس يبغي
غير هذا. فإن بطشتم فتكتم
بضعيف قد جاء يحمل سلما.
خسرو (بعد صمت) :
أيها الصاحب الوفي، وهبنا
لك هذا البذيء. (لزاذ فرخ) إنا عفونا.
زاذ فرخ (كارها) :
أمر مولاي. (يستمر باذان واقفا يريد الكلام.)
خسرو :
هل لباذان قول؟
باذان :
يا مليكي قد جئت أسعى لأمر،
وولائي وسيلتي في رجائي.
لي صديق هفا، وأنت جدير
بسماح القدير.
خسرو :
أي صديق؟
باذان :
هو خال المليك: بندي صديقي.
إن بندي ما كان إلا حساما
ذا غناء إذا سطا في الأعادي.
جئت أجثو مستوهبا لدماه
ساجدا خاضعا. (يسجد للملك.)
خسرو :
لقد جئت ترجو
في أثيم ملوث بالذنوب.
باذان :
لن ترى في الأنام من لم يقارف
في سبيل الحياة بعض الذنوب،
وقلوب العظام لن تتناسى
سابق الفضل عند وزن العيوب.
يا مليكي حاشاك تنسى لبندي
وقفة الدير إذ يعرض نفسا
لهلاك محقق في فدائك.
ثم حاشاك تنكر اليوم فضلا
قد تغنت به البرايا جميعا.
زاذ فرخ (بحقد) :
كان بندي ذا سطوة وصنيع،
فأزاغته ضلة عن سبيله.
باذان :
ذلك الملك مثل نسر عظيم
يملأ الجو روعة واقتدارا،
بجناحين يبسطان ظلالا
مثلما يبسط السحاب الظلالا،
فإذا ما نزعت عنه الخوافي،
أثقلته عن صوله في السماء.
خسرو :
كيف أغفو وتحت أقدام عرشي
نمر رابض بناب وظفر،
ذاق طعم الدماء، ضار مريع،
شرس الطبع ليس يعرف مولى؟
زاذ فرخ :
إن من يعف عن عدو مدل،
يعف عن أرقم محيط بجسمه.
باذان :
حسبه بالمشيب قيدا، وأنى
يستطيع الشيوخ خوض الخطوب.
زاذ فرخ :
يلجأ العاجزون للزهد عجزا،
فإذا قيدهم تحطم ثاروا.
ليس بالفضل أن تعف إذا ما
كنت لا تستطيع إلا عفافا.
باذان (جاثيا بتذلل) :
يا مليكي هب لي دماء صديقي.
خسرو (بغضب) :
قد أريقت دماؤه!
باذان (صارخا) :
أي نحس!
قد سفكتم دماء خل وفي.
خسرو :
وقطعنا يديه كيما يلاقي
ربه ناقصا جزاء ذنوبه.
باذان (بحزن شديد) :
يا إلهي أردت ما كان حتى
ينفذ الأمر طاعة لقضائك.
لو تبدت لنا الغيوب لسرنا
في سبيل الحياة غير غواة.
يهرع الناس للورود خفافا،
وقليل من يصدرون سراعا.
فإذا تمت الأمور وبانت،
عرف الناس غبها، فإذا هم
كلهم يدعون رأيا وعلما.
خسرو (بغضب) :
أنت باذان منذري؟ بئس قول!
أي نقص في دولتي إن قتلنا
خائنا مجرما ببعض ذنوبه؟
باذان :
لا تبذر في الناس، واذكر زمانا
كان فيه الأبطال حولك عقدا.
ليس في الأرض جوهر يتحلى
بسناه الملوك مثل القلوب.
فدع التاج والزخارف تعشي
نظر الناس، واحترس من سناها،
فطريق الملوك وعر السلوك.
خسرو :
أبذكر الأخطار تفزع قلبي؟
كيف أخشى وما خشيت حياتي
من صدام المنون والأهوال؟
باذان :
بسطة الملك في السلام، وليست
في صدام الحروب والأهوال.
خسرو :
من أراد الحياة سلما وديعا،
ترك الملك هاربا من نضاله.
قد سلكنا للملك وعر الفيافي،
وعلمنا أن سوف نسلك وعرا.
زاذ فرخ :
لا تثر سخطة المليك، وحاذر
من عثار اللسان. رب مقال
يعجز الطب عن دواء كلومه.
باذان (بجفاء) :
لست للملك ناصحا أو أمينا
إن تواريت خوف سخط مليكي.
عشت ما عشت لم أعود لساني
غير صدق المقال. فانصح لغيري.
زاذ فرخ :
لست تخشى سخط المليك؟ إلهي!
خسرو :
لست تخشى باذان سخطي وبطشي؟
باذان :
لا تقرب سوى العبيد إذا ما
كنت تأبى سوى أغاني المديح.
زاذ فرخ :
لست عبدا؟ إذن فأنت قرين؟
باذان :
أنا عبد لواجبي. غير أني
لم يلوث دم العبيد عروقي.
لو جرت في قطرة منه يوما،
لأبى القلب غير أن تهراقا.
زاذ فرخ :
يا مليك الورى، أيجرأ عبد
مثل باذان أن يدل بقوله؟
إن من يبذل الحياة فداء
لمليك البلاد يعطيه حقا.
أفليست حياتنا لك دينا؟
أي فضل لمن يؤدي ديونه؟
خسرو (غاضبا غضبا شديدا) :
هكذا يظهر الخفي ويبدو
ما تضم الصدور يا باذان!
أنا لولا بقية من حفاظي،
لم أحكم في الأمر إلا حسامي.
سر ولا تقترب إلي فبابي
موصد عنك.
باذان (ناهضا بهدوء) :
إن لله أرضا
أجد الرزق من جناها وحسبي.
قد مضى العمر غير سؤر، وهانت
عند باذان طيبات الحياة.
إن تحكم في الحسام فما لي
غير يومين لا يثيران حرصا.
زاذ فرخ :
أيها الشيخ غرك اليوم حلم
من مليك لولاه لم تك شيئا.
باذان :
ما حياتي؟ قد مل قلبي حياتي
بعد أهلي وصفوتي ورفاقي.
غير أني يذوب قلبي هما
أن أرى الأمر في يمين الطفام.
أوشك المجد أن يصير لذل
ما تولى زمامه الأنذال. (ناظرا إلى زاذ فرخ بازدراء.)
زاذ فرخ (لخسرو) :
هكذا يجرح الولي ويؤذي،
وينم اللسان.
خسرو (ثائرا) :
قد جرأته
شعرات بيضاء أخشى عليها
من دماء يصبغنها. أوثقوه
واجعلوه في ظلمة السجن يثوي
في انتظار الهلاك. سيروا!
باذان (يسير هادئا) :
هلموا،
إن بطن الثرى أحب وأرضى. (يخرج بين الجنود.)
خسرو :
إن عرش الملوك لم يك يوما
هبة الناس. إن تاجي تراث
من عطاء الإله، أورثنيه
ما جرى في من دماء جدودي.
خسرو :
طاعة العرش طاعة للإله.
جراز :
يا سليل الأبطال مرنا تجدنا
نبذل الروح في سبيل رضائك.
تخوار :
حفظ الله ملك مولاي خلدا.
أسفاذ :
أنت نور الحياة دمت عزيزا.
خسرو :
ذلك القول سر قلبي، وسرى
عنه ما فيه من حفيظة غيظي.
يا عماد البلاد، أنتم أسودي
وسيوفي.
جراز :
لا زال نجمك يزهو.
إن حب المليك خالط فينا
مهجة النفس. مر فنحن فداء
للمليك العزيز.
خسرو :
أي أبطالي،
قد خرجنا عما قصدنا، وكنا
نقصد اليوم أن يسود الصفاء.
زاذ فرخ :
إن سعد المليك كالشمس يجلو
كل ما في الوجود من إظلام.
خسرو :
أمرائي، ماذا رأيتم؟ فإنا
قد رأينا السلام طال وأعيا.
زاذ فرخ :
يصدأ السيف إن أطال مقاما
بين جدران غمده يا مليكي.
خسرو (لجراز) :
هل صدعتم بأمرنا يا جراز؟
جراز :
رأي مولاي لم يزل ميمونا.
يا مليكي ما شئت شاء القضاء.
زاذ فرخ :
إن جند المليك أضحت وقوفا
عند شط الخليج ملت سلاما،
ونرى الروم قد تعالوا عنادا،
وأبى قيصر الخضوع ذليلا
عند عرش المليك كسرى العظيم.
هذه جرأة يكاد فؤادي
يتلظى منها غليلا وحقدا.
جراز :
إن قلبي يثور بين ضلوعي،
ليس يشفيه غير حرب ضروس.
تخوار :
نحن جند المليك. مرني تجدني.
بدماء الفؤاد أفدي مليكي.
أسفاذ :
أنا عبد مولاي. ليس بقلبي
غير حبي وخدمتي وولائي.
خسرو :
قد شفيتم بذلك القول نفسي،
فأعدوا الجنود للرومان.
زاذ فرخ (ساجدا) :
سوف يأتي هرقل في الأصفاد. (يدخل رسول خاص إلى الملك.)
الرسول (للملك) :
ربة الملك عند باب المليك.
خسرو (بدهشة) :
ملكتي؟! (يشير إلى الجميع فيخرجون، وتدخل الملكة شيرين مع وصيفاتها.) (للملكة)
مرحبا وأهلا وسهلا. (تقترب الملكة من خسرو فيمسك بيدها فتركع عند أقدامه.)
ملكتي تركعين؟
شيرين :
جئت لأجثو
عند أقدام سيدي.
خسرو (بدهشة) :
شيرين؟
شيرين :
سيدي!
خسرو (يضع يده على رأسه) :
إنني أراك بحال
لم أعود رؤياه. أي هموم
تعتري قلبك الطهور الشفيق؟
إن يكن في زوال همك بذلي
ذلك الملك لا أضن ببذله.
شيرين :
حفظ الله ملك مولاي. إني
لا أرى الهم ما بقيت لملكك.
خسرو :
خبريني بما يهمك.
شيرين :
إني
لا أرى في الحياة هما بنفسي،
غير أني إذا أريت أمورا
تبعد الأصدقاء منك، اعتراني
ألم يجرح الفؤاد. مليكي!
لم تسطو بمن عرفت ولاءه؟
خسرو (يعيد وضع يده على رأسه كالمتألم) :
لست أدري ماذا أصاب فؤادي.
أنا بين الأنام كسرى، ولكن
قد أراني بغير عهدي بنفسي.
يعتريني عند الحفيظة غيظ،
فإذا بي في ثورة ثم أسطو،
فإذا ما سطوت عدت لنفسي،
نادما جازع الفؤاد.
شيرين (حزينة) :
إلهي!
خسرو :
ما الذي تبتغين يا شيرين؟
شيرين :
أبتغي ذلك الصديق القديم.
خسرو :
الصديق القديم؟ باذان؟ ويحي!
عندما ثرت قد نسيت صديقي،
وتولت ذكرى ولاء قديم.
سوف آتي به وأصلح منه
ما جنته عليه ساعة نحس. (ينادي)
هيه. نرسي! (يدخل الخصي نرسي.)
نرسي (يحيي ساجدا) :
مولاي.
خسرو :
أسرع بأمري
لوزيري بالعفو عن باذان،
ثم عد آتيا بباذان. أسرع. (يحيي الخصي ويخرج.) (للملكة)
قد أسأنا إليه ساعة نحس.
شيرين (ضارعة) :
لا تلمني مولاي فيما بدا لي،
واغتفر جرأتي.
خسرو (يضغط على يدها بعطف) :
شقيقة نفسي،
ليس للوم في فؤادي مكان،
شغل القلب حبه ووداده.
شيرين :
لي حديث إذا أمرت مليكي.
خسرو :
ما أحب الحديث منك! فقولي
ما تشائين.
شيرين :
سيدي ومليكي!
أنت ظل الإله بين العباد.
فإذا شدة أناخت بقوم،
فزعوا يطلبون عندك مأوى.
أنت للناس موئل وملاذ
إن دهاهم من دهرهم ما يضير.
خسرو :
ملكتي أفصحي فإني سميع.
شيرين :
ليس يرجى فلاح أمر بلاد
قد تولى شراره الأحكاما.
خسرو :
أفصحي ملكتي.
شيرين :
أرى الناس ملوا
عسف هذا الوزير حتى تولوا
يطلبون النجاة منه هروبا،
بعضهم هاجروا، وبعض أقاموا
في شكوك ورهبة من مليك
كان بالأمس قبلة القصاد.
خسرو :
ليس يخلو المليك من أعداء.
إن من قربته مني الأماني
ليس عند الإخفاق إلا عدوا.
شيرين :
كان بالأمس حول عرشك قوم
يبذلون النفوس دونك حبا.
خسرو :
لم يكونوا على ولاء صحيح،
فالولاء الصحيح ليس يحول.
شيرين :
لا يحول الولاء إلا إذا ما
أفسدته سموم أهل الرياء.
لا يقيم الولاء إلا صريحا
في قلوب جياشة بالإباء.
يصدر المدح عن لسان ولفظ،
ومقام الولاء تحت الضلوع.
خسرو :
ملكتي، ملكتي! بقيت لقلبي.
شيرين :
أسأل الله أن يمتع نفسي
بدوام السعود في إيوانك. (يدخل الخصي مع باذان.)
خسرو :
هيه باذان، هل نسيت ودادي؟
باذان :
ليس ينسى الوداد من رام نصحا.
إنما النصح آية للوداد.
خسرو :
قد أسأنا إليك يا باذان.
باذان :
لم تسؤني مولاي، بل سؤت ملكا
يفقد اليوم من بنوه قديما.
خسرو :
لا تعد للملام يا باذان.
باذان :
ليس قولي ملامة، هو دمع
في بكاء على سناء مضيع.
خسرو (يتغير) :
إن قلبي يثور بي.
شيرين :
يا مليكي.
إن جرح النصيح فيه شفاء.
إنما الخوف من سموم الخداع.
باذان :
يا مليكي فداك نفسي. أعدني
لمقامي في السجن آخر عمري.
ليس لي في الحياة بعد رجاء،
بعدما كان من مصاب صحابي.
شيرين :
لا تجدد ما فات باذان، وارجع
لصديق أتى إليك منيبا.
باذان :
ملكتي. قد عرفت ودي ونصحي،
وفؤادي مازال للود مرعى.
غير أني أرى الأمور تهاوى
مسرعات إلى قرار سحيق.
شيرين :
قد وقفتم من قبل جنبا لجنب،
في عراك الأخطار والأهوال.
باذان :
كان هذا والعمر بعد جديد،
ومجاري الأقدار في إقبال.
خسرو :
عد إلى صحبتي، وسوف تراني
مثل عهدي.
شيرين :
باذان، عهد الصديق.
باذان :
إن يكن كل ساعدي مولاتي،
ففؤادي ما زال عندي سليما.
خسرو :
لا تغب عن مجالسي يا صديقي.
ستراني مواتيا لو تشير.
باذان (مستأذنا) :
وفق الله سيدي ومليكي. (للملكة)
ربة الملك دمت في إسعاد. (يحيي ويخرج.)
خسرو (لشيرين) :
ملكتي قد حفظت ذكري وملكي.
لك شكري على نجاة صديقي.
شيرين (بسرور) :
وفق الله سيدي. ليت شعري
هل يظل الوزير سوط عذاب
لهلاك الأنام؟
خسرو :
أي شيرين!
سوف ترضين لا يساورك هم. (يخرجان.) (يدخل زاذ فرخ محترسا.)
زاذ فرخ :
إن قلبي يحس في الأمر شرا.
علها أفسدت علي سبيلي.
قد أعادت باذان وهو عدوي.
أول الغيث قطرة ثم يهمي. (تدخل جارية من خدم الملكة محترسة.) (للجارية)
أسرعي، ما الذي مضى في غيابي؟
الجارية (همسا) :
حدثته بأن حكمك شر
وبلاء على البلاد وخيم،
ورجته في أمر باذان حتى
عاد من سجنه وأقبل يسري
نادما طالبا رضاه ووده. (تخرج مسرعة محترسة.)
زاذ فرخ (يمشي مضطربا) :
قد أعادته سالما منصورا.
أمرها الأمر. كم سعيت لألقى
عندها حظوة فخاب رجائي.
إنني مبصر غمامة شؤم
توشك اليوم أن تغلف سمائي. (بحقد)
لأثيرنها عليهم ضراما،
لا يذوقوا ملذة أو سلاما.
إن مضى الأمر من يدي، فعار
أن أرى آمرا من الناس غيري. (يخرج من جيبه خطابا ويقرؤه)
إن هذا الخطاب قيصر يرجو
فيه ودي ونصرتي. سوف أمضي.
قيصر الروم سوف تبصر مني
نصرة لو رأيتها في منام
لم تصدق بلوغها في المنام. (يخرج مسرعا.)
الفصل الرابع
الحطام
(القلعة التي سجن فيها خسرو برويز.) (جنديان يعملان في الاستعداد لمجلس في بهو بالقلعة.)
الأول :
إن في الفقر سلوة يا صديقي.
الثاني :
فتمتع به وحيدا هنيئا.
إنني لا أراه إلا عذابا.
الأول :
قد أمنا في الفقر غدر الليالي.
الثاني :
هل ترى تلك نعمة أن أمنا
إذ بلغنا الحضيض؟ أي أمان!
الأول :
ليس في الفقر لو علمنا شقاء.
أنا إن جعت كان حسبي رغيف،
وإذا ما تعبت نمت عميقا.
لا أبالي إذا تعريت صيفا،
وشتائي لباسه جلد شاة.
الثاني :
لا تبالي إذ كنت فردا وحيدا،
ليس يبكي الأطفال حولك جوعا.
كن كما شئت، عش فقيرا، فإني
حانق حاقد على إملاقي.
الأول :
يا صديقي أكنت ترضى بعز،
ثم تهوي إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى،
بعد أن ذاق ذلة المأسور.
الثاني :
إن قلبي يسيل هما إذا ما
مر كسرى يختال في الأسر كبرا.
الأول :
حسبه شقوة إذا كان قوم
مثلنا يرحمونه في شقاه.
يا صديقي لا تغترر بلباس
لامع قد يكون سترا لبؤس. (يخطئ الثاني في وضع وسادة.) (للثاني)
لا تضعها هنا. (يشير إلى موضع آخر.)
هناك تمهل. (يأخذ الوسادة ويضعها بنفسه كما يحب.)
هكذا، هكذا فراش الملوك. (يتراجع إلى الوراء وينظر إلى وضعها معجبا.)
الثاني (همسا) :
أترى اليوم ريح شيء جديد؟
عند كسرى؟ فهمت؟ شيء جديد؟ (يشير إلى الخارج.)
مجلس ها هنا وسير طويل
في ضياء النهار.
الأول :
ليس عجيبا
أن نرى الحظ باسما بعد عبس.
الثاني :
أتراه يعود للملك يوما
بعد تلك الخطوب؟
الأول :
إن الليالي
قد يلدن العجيب يا فيروز. (يسمع صوت مقبلا.) (يعود مسرعا إلى العمل.)
هات هذا الغطاء. ويلك أسرع.
ليس في الوقت فسحة. هات. أسرع. (يقبلان على العمل بسرعة.) (يدخل زاذ فرخ وينحني الجنديان.)
زاذ فرخ :
ما الذي تصنعان؟
الأول :
هذا مكان
قد أمرنا بفرشه. (يدور زاذ فرخ حول المكان.)
زاذ فرخ :
أطعام
وزهور! من ذا أباح؟ (بصوت غاضب)
أجيبا!
الأول :
نحن عبدان قد أطعنا.
زاذ فرخ :
ومن ذا
أمر الآمر؟ هل كلينوس يدري؟
الأول :
إنه أمره، وما نحن إلا
خدم ننفذ الأمور.
زاذ فرخ :
تقدم. (بلهجة الآمر الغاضب)
سر إلي. فليأت. أسرع إليه. (ينحني الجندي ويسرع خارجا.) (للثاني)
هل رأيت الذي أتى بالطعام؟
الثاني :
حملته وصيفتان وعبد.
زاذ فرخ :
ومتى كان؟
الثاني :
في بكور الصباح.
زاذ فرخ :
هل مضى بعضهم فكلم كسرى؟
الثاني :
لست أدري، لعل.
زاذ فرخ (يقرب من الجندي) :
أنت ذكي
أيها الخادم الأمين. تقدم. (يعطيه مالا.)
خذ فإني أراك أهلا لبري.
الثاني (فرحا) :
سيدي إنني لأمرك عبد. (يعود الجندي الأول.)
زاذ فرخ (يتجهم) :
أين مولاك؟
الأول (يحيي) :
قال «إني مقيم
في حجاب المليك كسرى وأمره.»
زاذ فرخ (غاضبا) :
حسن. اذهبا. (يحييان ويخرجان.) (يسير غاضبا.) (لنفسه)
يقول «مقيم
في حجاب المليك كسرى وأمره.»
حسن. يدخل الطعام إليه،
ويهيأ له فراش وثير،
ويقضي النهار بين زهور
وثمار وتحت ظل ظليل.
أي سجن ممهد ونعيم!
لست أدري لعل في الأمر سرا.
فكلينوس كان قديما عدوي،
ولشيرين قوة وصحاب،
ولكسرى في كل جيش قلوب
ذات ود، فإن تركناه حيا
أوشك الأمر أن يعود جديدا.
فلنبادر بالأمر قبل الضياع.
ننفذ اليوم ما أراده يمضي
بعد حين. (يمر باذان فيراه زاذ فرخ.) (لباذان بصوت عال)
باذان! سم زعاف. (بسخرية مرة)
أنت هذا هنا؟ مقام سعيد.
باذان (يضحك ساخرا) :
لا أظن المقام إلا سعيدا.
أنا في السجن، غير أن فؤادي
سابح في العلا طليقا سعيدا.
زاذ فرخ :
سوف تقضي ثمالة العمر سجنا،
ثم تمضي إلى الجحيم سجينا.
باذان :
لن يطول المقام بي ثم أمضي
عن ديار يسود فيها اللئام.
زاذ فرخ :
أيها النحس، سوف تلقى رميما
طعمة للكلاب.
باذان :
ماذا أبالي
إن أتى الموت أين تلقى رفاتي؟
زاذ فرخ :
سوف ألقيك جيفة يتولى
من أذاها بنات آوى هرابا.
باذان :
لا توفقت للمكارم يوما.
أنت أهل لمثل تلك الشرور.
غير أني إن مت لست أبالي
ما شميم الرياح. (يخرج متمهلا.)
زاذ فرخ (يسير هائجا غاضبا) :
سوف تعاني
سكرات مريرة في العذاب.
ويل نفسي! (ينادي الخادم) فيروز، يا فيروز! (يدخل الجندي الثاني.)
فيروز (يحيي) :
أمر مولاي.
زاذ فرخ :
جد أمر خطير.
ولقد شئت أن أرى صدق قولك.
فيروز :
أنا عبد مولاي. مرني تجدني
طائعا ما أمرته.
زاذ فرخ (بصوت مخفض) :
تعلم أني
إن أردت العطاء أعطي سخيا،
وإذا ما سطوت أسطو قويا.
فيروز (خاشعا) :
زدت مجدا.
زاذ فرخ :
فاليوم كن عند أمري
مخلصا كي تنال خير الجزاء.
فيروز :
ستراني مولاي عبدا أمينا.
زاذ فرخ (يخفض الصوت) :
تعرف القبو؟ (يشير فيروز بالإيجاب.)
سر إليه، وحاذر
أن تراك العيون، حتى إذا ما
جئت للمدخل الصغير فعالج
خلع قضبانه الكبار، وأسرع
عائدا ها هنا. (يعطيه مالا آخر.)
وسوف تراني
عند وقت الجزاء غير بخيل.
فيروز (مضطربا) :
سوف أمضي للموت إن شئت هذا. (يخرج مسرعا.)
زاذ فرخ (لنفسه) :
سوف أشفي الفؤاد من أعدائي.
وا فؤادي! كأن فيه لهيبا. (يدخل كسرى وكلينوس فيتنحى زاذ فرخ إلى ناحية.)
خسرو (لكلينوس وهو لا يرى زاذ فرخ) :
يا كلينوس! (تلوح عليه أمارات الحزن العميق.)
كلينوس :
شاه خسرو.
خسرو :
أراني
بعد هذا الضحى أسير طليقا.
كلينوس :
إن أمر المليك فينا مطاع.
سر كما شئت آمرا مختارا.
خسرو (يضحك ساخرا) :
كيف يختار ما يشاء سجين؟!
لا يشاء السجين إلا الفرار.
كلينوس :
سر كما شئت سيدي؛ فمليكي
أمر اليوم أن تكون طليقا
في حمى الحصن حيث شئت تقيم.
خسرو (يرى الأشياء الموضوعة) :
ما الذي ها هنا؟
كلينوس :
نعد فراشا
ها هنا مشرفا على البستان.
خسرو (بحزن) :
جلسة ها هنا إذا كنت خلوا
من همومي أحب لي من قصور.
ليتني كنت منذ عشت طليقا
فوق تلك الجبال أرعى سواما.
عشت ما عشت في إسار لتاجي،
وانتهى بي السرى لأسر السجون.
كلينوس :
يا مليكي!
خسرو :
كفى وقل: يا أسير.
كشف الدهر عن عيوني غطاء،
كان يخفي عنهن كنه الأمور. (يلتفت فيرى زاذ فرخ فيرفع رأسه كبرا.)
زاذ فرخ (متشفيا) :
ذقت سجنا كما أذقت أناسا
لست إلا مثيلهم في الحياة،
هم أحسوا كما تحس عذابا،
من ظلام ووحشة وفراق.
خسرو (بكبرياء) :
لا أبالي إذا يقول مليم
قد عرفناه لائما من قديم.
غير أن العجاب من كان يخفي
حقده المر تحت ستر الرياء.
زاذ فرخ (بحقد) :
لم تهذبك ظلمة السجن.
خسرو (بكبرياء) :
أقصر.
لست ممن أجيبه بمقال.
أهون الناس ذو الرياء؛ فهذا
إن وزنا الأنام لم يك شيئا.
زاذ فرخ (غاضبا مضطربا) :
أيها الشامخ المدل تذوق
بعض ما قد أذقت من آلام.
خسرو :
امض عني، فما جراحك عندي
ذات وخز، وليس طعنك طعنا.
زاذ فرخ (بحقد شديد) :
كبرياء ليست تذل لشيء.
أيها الغطرس المدل، تمهل! (يخرج هائجا.)
خسرو (يجلس حزينا) :
ساء ظني بكل ود، وأضحى
ليس يدري سقيمه من صحيحه.
كلينوس :
صبر النفس يدي.
خسرو :
ليت أني
لم أكن عند سقطتي بصبور.
كلينوس :
كيف مولاي؟
خسرو :
إنما الصبر جبن
وفرار سموه صبرا رياء.
ليتني مت قابضا في يميني
قائم السيف، ذائدا عن حياضي.
كلينوس :
يا مليكي لا تأس، ليس بعار
أن نخاف الردى.
خسرو :
هوان وجهل
الردى كائن ، ونحن إليه
في رحيل على سفين القضاء.
ومن العجز كره موت كريم،
ثم نمضي إليه غصبا وكرها.
كلينوس :
أنت كسرى، لا زلت في الأسرى كسرى.
ليس غدر الزمان بالأسد عيبا.
خسرو :
وجميل من مثل كسرى إذا ما
مات ألا يموت إلا مهابا.
ليس مجد الأسود في صيد ظبي،
مجدها إذ تموت وهي غضاب.
يا كلينوس، قد زللنا وهنا. (ينظر إلى الأشياء الموضوعة إلى جانب.)
ما الذي ها هنا؟
كلينوس :
طعام وحلوى
من صنوف مختارة، وثمار،
أمر الملك أن نعد خوانا
لأبيه العظيم.
خسرو (ضاحكا بسخرية) :
بر كريم!
والذي ها هنا؟
كلينوس :
شواء وزهر
بعثته مولاتنا شيرين.
خسرو (بحزن) :
آه رباه! أين شيرين مني؟
جرها الدهر في شقائي ونحسي. (بعد صمت)
أطعموني طعام شيرين، إني
قد أحب الطعام من أجل ريحه.
كلينوس :
لا تثر هذه الشجون مليكي.
خسرو :
يا كلينوس، لو عرفنا لكنا
أبعد الناس عن حياة الغرور. (يأخذ سفرجلة من بين طعام شيرين ويشمها.)
ريحها ينعش الصدور، فيها
نسمات مما يحب فؤادي. (يضع السفرجلة على الوسادة بجواره.) (يدخل حارس.)
الحارس :
جاء مهمند يرتجي الإذن حتى
يتملى بوجه كسرى.
خسرو :
عجيب!
ليت شعري ما يبتغي؟ أدخلوه. (يخرج الحارس.)
ليس عندي ما يرتجي من عطاء.
وا فؤاداه! ليس جزاء. (يدخل مهمند حزينا.)
مهمند :
طالعتني البدور بعد احتجاب،
واستهل السحاب بعد جدوب.
كنت عز الإيوان في التاج يوما،
بين لحظ القنا وخفق القلوب،
فإذا بالإيوان منك خلاء،
وإذا التاج قد دهته الخطوب.
قد تبدلت بالشروق غروبا،
روعة الشمس في ضياء الغروب. (يغلبه البكاء.)
لهف نفسي! أبعد كسرى ملاذ
من صروف الزمان عند الكروب؟ (يحل كسرى منطقته ويعطيها الشاعر.)
خسرو (بحزن وخجل) :
لم أجد غير هذه، فاعتذارا
إن رأيت الجناب غير خصب.
مهمند (متأثرا يرفض أخذ المنطقة) :
كنت آتي إليك أرجو ثوابا
في حمى ذلك الجناب الرطيب،
غير أني زهدت في العيش لما
أن تولى زمان عيش حبيب.
خسرو (يعيد إليه المنطقة) :
لا تعد لي العطاء، ذلك أدمى
لفؤادي من جرح سهم مصيب.
مهمند (يأخذ المنطقة حزينا ويخاطبها) :
سوف أبقيك للمكارم ذكرى،
وتراثا لوارثي وعقيبي.
يا فؤادي ودع طلاب الأماني،
حسب نفسي بزفرة ونحيب. (يسير خارجا.) (يبكي)
أين تلك الجنود؟ أين بنود
عند أبواب قصرك المحجوب؟
لن يراني الزمان أمدح ملكا
بعد كسرى وظله المحبوب. (يخرج.)
خسرو (لكلينوس وهو متأثر) :
يا كلينوس، أي مرء عجيب!
يكثر المدح في النعيم، ولكن
ما عهدنا مع الشقاء مديحا.
كلينوس :
يا مليكي إن القلوب ثمار،
قد ترى الحلو بينها والمرير.
خسرو (بعد صمت قصير) :
يا كلينوس، كنت أطعمت يوما
بعض قومي وكنت فيهم سخيا؛
فأصاب الضيوف من كل لون،
ومضوا بعد أن أصابوا هنيا،
ثم ألفيت بعد أن قمت كلبا
جاء يرتاد فضلة من طعامي؛
فتذممت أن يعود كسيفا،
فرميت إليه بعض العظام،
ثم دار الزمان بي فإذا بي
بعد حين في شقوة وهوان،
ورآني ضيوف عزي ومجدي،
فتولوا بعبسة النكران،
ورآني الكلب الأمين فأدنى
رأسه ذاكرا فتات العظام. (بعطف شديد)
سيدي، سيدي!
رسول عظيم
جاء بالباب راجيا في المثول.
خسرو (بسخرية) :
هل على حضرة السجين حجاب
يطلب الإذن عنده للرسول؟
فليجئ. (يخرج الخادم.) (متنهدا)
يا فؤاد صبرا، وسمعي
لا تثر من سماع قول ثقيل.
كلينوس :
لا تبادر بالظن مولاي.
خسرو :
مثلي
ليس ممن يأتي إليه البشير.
نعم الدهر إن أتت ففرادى،
والدواهي تغير خيلا ورجلا. (يدخل أسفاذ ويحيي.)
أسفاذ :
بسعود المليك.
خسرو :
إن كان خيرا
ما تحملته فإني سميع.
أسفاذ :
قد تحملت قالة من ملام
من قباذ المليك.
خسرو :
إني سميع
لمليكي قباذ. (تتدحرج السفرجلة إلى الأرض.) (يظهر خسرو الجزع.)
أي نذير!
نحن في سيرنا لأمر مضيع.
أسفاذ :
دع غيوب الأقدار تجري لحين
جهلته مطالع الأفلاك.
قد ملكت الأمور دهرا، وكانت
دولة الفرس عند فلك السماك،
فنشرت الفساد والظلم حتى
آل ما كان عاليا للهوان.
خسرو :
ليت هذا مقال غير قباذ،
فلقد كان يومه يوم شؤم.
أسفاذ :
لم تسلط على البرية سوطا؟
لتذيق الأنام ذلا وظلما؟
خسرو :
إنني لو سطوت في بعض قومي،
فبحقي سطوت لم أتعده ،
كنت ظل الإله إن شاء بطشا،
فيميني تقيم في الناس حده.
أسفاذ :
انظر اليوم ما صنعت بملك
كان يوما في دارة الجوزاء.
خسرو :
لو علمنا المكتوم في الغيب ساوى
أحمق الناس أحكم الحكماء.
ليس فضلا ألا تزل لإثم
إن تكن زاهدا بعيد الثواء.
إنما الفضل أن تعد المساوي
عند خبط في معمع الأهواء. (تسمع ضجة في الخارج.)
أسفاذ :
كم بريء قضى بسجنك يدعو
ربه كي يحل فيك انتقاما!
غير أن العذاب حل بقوم
كنت فيهم فكان سخطا عميما.
خسرو :
لو أردت المقال قلت، ولكن
ليس لي أن أجيب فحشا بفحش. (يشير إلى أسفاذ بالخروج.)
قل لمولاك إن تلك الليالي
لا تجابي قباذ إن ذل كسرى،
وأجبه عني «ملكت فأسجح،
وتعفف عن مثلة بالقتيل». (يخرج أسفاذ متألما.) (لنفسه)
سوف تمضي الأيام، مبطئات
أو سراعا، سيان عيشي وموتي. (تزداد الضجة.) (لكلينوس)
أين باذان؟ بي حنين إليه.
كلينوس :
لم يكن في مكانه.
خسرو :
أحضروه.
كلينوس :
أمر مولاي. (يحيي ويخرج.)
خسرو :
كلما ثار قلبي
لم أجد سيان عيشي وموتي. (تزيد الضجة وتقرب.)
هيعة؟ ليتها تكون قضائي.
رب عيش أحب منه الهلاك. (يدخل جماعة من الجنود مع زاذ فرخ.)
زاذ فرخ (لخسرو بحقد) :
أيها الغطرس المدل!
خسرو (بثبات) :
إلهي!
زاذ فرخ (بشماتة) :
ذلت الآن نفس فظ عات.
خسرو :
إنما الذل للذليل، (للجند بغضب) تنحوا!
لم تكن حضرتي حلالا مباحا. (تبعد الجنود بخشية.)
زاذ فرخ (ناظرا إلى الجنود محرضا) :
قد أتيتم تطالبون بثأر
لدماء ضاعت ومجد تولى. (يدخل كلينوس مترنحا من الجهد وهو جريح.)
كلينوس (صائحا في الجنود) :
ما الذي أدخل الجنود؟!
زاذ فرخ :
بأمري.
إنما أنت حارس سجان. (للجند)
أيها الجند أقدموا.
كلينوس (صارخا) :
قف، كفاكم!
قتل باذان. حسبكم قتل شيخ
من بقايا الكرام.
خسرو (بحزن شديد هادئ) :
وا باذان!
عشت ما عشت للمكارم خدنا،
وختمت الحياة حرا كريما.
زاذ فرخ (يخاطب الجنود محرضا) :
أيها الجند قد غضبتم وثرتم
ثورة الأسد. (يهجم الجنود على كلينوس فيقتلونه ثم يهاجمون كسرى.)
أحد الجنود (لكسرى) :
كم قتلت نفوسا !
عدت تشتكي إلى الخلاق. (يضرب كسرى فيدافع دفاعا ضعيفا.)
جندي آخر :
كم ملأت السجون، كم كنت تقضي
بعذاب! (يضرب.)
كم كنت تبطش ظلما! (يضرب.)
خسرو (يضعف عن المقاومة) :
أحسنوا القتل إنها نفس فرد،
حسبكم ضربة تصيب فؤادي.
مهرهرمز (يتقدم من الخارج هائجا) :
أمسكوا، إنني أحق بثأري!
خسرو :
أي ثأر يكون للعبد عندي؟
مهرهرمز :
ليس بالعبد مهرهرمز، إني
نجل مردا نشاه حر لحر.
خسرو (ناظرا إليه) :
يا ابن مردا نشاه قد قلت صدقا. (يتقدم إليه مترنحا.)
خذ فإني أراك تطلب حقا. (يضع يده على عينيه.)
قد جزينا أباك شرا وطابت
لك نفسي بالثأر. (يضرب كسرى في مقتل.)
قد نلت ثأري. (يسقط الملك ويخرج الجنود هائجين.) (يدخل بعد الاضطراب خراد فيجد زاذ فرخ خارجا.) (فيرتد زاذ فرخ مدهشا.)
خراد (لزاذ فرخ) :
لم خالفت ما قضاه المليك؟
زاذ فرخ :
خفت أن تسفك الدماء الزكية.
أوشك الجند أن يثوروا، وكادت
تقع اليوم فتنة ذات عصف،
فتركنا الجنود خوفا، فإنا
أعجز الناس عن غلاب الجنود.
خراد :
بل أردت الخلاص من خوف كسرى،
إنه كان عالما بذنوبك.
زاذ فرخ :
لا تسئ بي الظنون يا خراد.
إن جند المليك هاجوا وثاروا،
قلبوا في الهياج ظهر المجن.
خراد (يتقدم بسيفه مسلولا) :
حسبك الآن ما مكرت.
زاذ فرخ (متقهقرا) :
تمهل،
إنهم يطلبون ثأرا، ومن ذا
يستطيع الثبات وسط السيول؟
خراد (يستمر على المهاجمة) :
أيها الماكر الخبيث تقدم،
قف ودافع إذا استطعت.
زاذ فرخ (هاربا) :
تمهل،
لست أقوى على الدفاع فدعني.
خراد (يحصره في زاوية ويقتله) :
أيها الماكر الخبيث الدنيء! (تدخل شيرين مضطربة.) (يخاطبها بدهشة)
ملكتي!
شيرين (بجزع شديد) :
وا فؤادي من هول هذا المصاب!
أين كسرى؟ (تراه ملقى) أواه! وا حر قلبي!
خراد :
ملكتي!
شيرين (ترتمي على كسرى بلهفة) :
لست ملكة، أنا أنثى
جئت أبكي مصاب زوج حبيب. (لكسرى)
أيها الذاهب الشهيد، بنفسي
ما أصابتك من جروح دوام.
قد أسالوا الدم الزكي، وأنى
تنفع المدنف الدموع الهوامي.
ذهب اليوم صاحب وحبيب،
كان من هذه الحياة نصيبي،
فجعوني به، كيف حياتي
بعد أن غاب عن حياتي حبيبي؟! (يدخل شيرويه الملك مسرعا منزعجا.)
شيرويه (يرى شيرين فيظهر التألم) :
وا أبي! صرعة العظيم قضاء
عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى،
ما احتيالي في الكائن المحتوم؟
وا فؤاداه! والدي! (يخاطب شيرين) أنا أولى
أن أبكي فجيعتي ومصابي. (تنظر إليه شيرين بحزن شديد.)
شيرين (لشيرويه) :
أنا أبكي والدمع حسبي، فما لي
حيلة في المصاب غير دموعي.
ليس لي الصولجان والسيف حتى
أندب الملك بانتقام وجيع.
شيرويه (لخراد) :
كيف هذا خراد؟
خراد (مطرقا يشير إلى جثة زاذ فرخ) :
هذا المرائي،
ذلك الماكر الخبيث!
شيرويه (بدهشة) :
الوزير! (لشيرين بعد صمت)
قد أردنا وقد أراد القضاء،
فجرى الأمر طاعة الأقدار.
لو علمنا عند الدموع شفاء
لبكينا بالمدمع المدرار.
شيرين :
دع لمثلي الدموع فهي دوائي
من شجون لواعج وكلوم.
فجعوني بصبيتي تحت عيني،
وأسالوا دماء قلب سقيم،
ثم ضحوا بصاحبي وحبيبي.
وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى
أجد الطب في الهلاك الرحيم. (تبكي بكاء مرا.)
شيرويه :
خففي عنك، ليس للناس حول
في قضاء مدبر محتوم.
شيرين (تقف ثائرة القلب) :
أنت أولى بثورة الغيظ مني،
إن هذا القتيل يطلب ثأرا.
شيرويه :
إن هذا أبي.
شيرين :
فأين انتقام
هو حق عليك إن كنت حرا؟
شيرويه :
سوف أسطو لكن رويدا رويدا.
عصفة الريح لا تقاوى بعصف.
شيرين :
إن ملكا تكون فيه أسيرا،
تربة القبر منه أولى وأرضى.
شيرويه :
خففي اللوم، واصبري لليالي.
سوف يرضيك في الجناة انتقامي.
أنت في ذمتي مليكة ملك
مثلما كنت غابر الأيام.
شيرين :
لا، فهيهات!
شيرويه :
هل تكونين زوجي
لك أمري وعزتي؟
شيرين (بدهشة عظيمة) :
يا إلهي!
شيرويه :
دونك الملك مثلما كنت يوما،
واطلبي الثأر ما أردت انتقاما.
شيرين (بدهشة واضطراب) :
يا إلهي! ألست أسمع وهما؟
شيرويه (يقرب منها) :
بل هو الحق.
شيرين (تبعد عنه بلطف) :
كنت أحسب أني
خدعتني الآذان في آلامي. (متظاهرة بالفرح.)
يا مليكي هذا قصارى الأماني،
لن تراني من بعد أشكو زماني،
غير أني أرجو السماح مليكي،
بوداع لذلك الجثمان. (تشير إلى كسرى.) (تذهب إلى جوار جثمان كسرى وترتمي عليه باكية ويقف شيرويه متأثرا حزينا.) (تخاطب كسرى)
راقد أنت أم صريع نزيف؟
أين إيماننا وأين الأماني؟
كم وقفنا بين الجبال نناجي
خطرات النسيم في الأغصان!
وأخذنا على المودة عهدا
شهدته ملائك الرحمن!
كيف تمضي عن الأليفة فردا،
كيف أبقى وقد مضى خلاني؟ (تقوم قليلا عنه برأسها.)
يا صديقي، أتيت أختم عهدي. (تمص خاتما في يدها.)
كل عهد في هذه الدار فان،
قد بدأناه في الوفاء كراما،
ارتشفناه سائغا في أمان،
وحري بنا ختام كريم،
وجاءنا الموت في زفاف ثاني. (تصرخ متألمة وترتمي فيسرع شيرويه إليها فيجدها لا تنطق.)
شيرويه (متألما) :
وا فؤاداه! كنت أرجو، ولكن
لم يتح لي الزمان ما كنت أرجو.
إن قلبي يسيل حزنا. سأبقى
مثل غصن مقصف في الرياح
يتهاوى حوالي الكرام، وأبقى
مواحدا موحشا مهيض الجناح. (يرتمي حزينا.) (انتهى)
نامعلوم صفحہ