خلاصة اليومية والشذور
خلاصة اليومية والشذور
اصناف
يبكون موئلهم وكيف رجاؤهم
والأريحي المفضل المقداما
أكان يريد أن يقول: إن زائري قبر الرجل وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء، وفيهم نائب مولاه الأمير ووكلاء الدول وأكابر السراة والوجهاء، أكان يريد أن يقول: إن هؤلاء كلهم ممن كانوا يقصدون من نادي ابن غالي موئلا وكهف رجاء يستعطفون من أريحية ساكنه الجواد ويستدرون من أفضاله؟ أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى فأخطأ التقليد؟ أم لعله كان لا يريد أن يقول شيئا؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعية أعيد ليرثي كل من يموت من خدامها بلا مقابل؟
الحر والخصب ينميان الأديان كما ينميان الأغصان
الحر والخصب كلاهما طبعا الشرقي على الكسل وقلة العمل، وكلا هذين من دأبه أن يطلق للفكر عنان التصور والخيال، ويغري النفس بالاسترسال في الأماني والآمال، فالشرق من قديم الأزمان مهد الأديان ومهبط وحي الوجدان، وليت شعري إذا لم تكن العقائد من نتائج الخيال، فعلام لا ينشأ إلا في الشرق أمثال برهما وبوذا وكونفشيوس وزردشت وموسى وعيسى ومحمد وسواهم من الأنبياء وواضعي الديانات؟
ابن حمديس
شاعر صدت عنه الشهرة بعد أن أقبلت عليه، وطواه الخمول بعد أن طبق ذكره الآفاق.
فلقد نسي الرجل بعد أن ذاع اسمه في العالم العربي، فكان ينشد له في قرطبة ومراكش وصقلية ومسيني وبغداد، استدعاه المعتمد بن عباد من قرطبة إلى إشبيلية، وكان قد اجتباه فلم يزل صديقه ملكا وأسيرا، وذكره أكثر أصحاب التراجم والسير، فأشار إليه ابن الخطيب في نفح الطيب، وشهاب الدين العمري في مسالك الأبصار، وعماد الدين الأصفهاني في جريدة القصر وجريدة العصر، وابن القطاع في الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة، وذكره هذا أيضا في طبقات الشعراء، وأبو الصلت بن أمية الأندلسي في الحديقة، وحاجي خليفة في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، وابن بشرون الصقلي في المختار في النظم والنثر، وابن بسام ولا أذكر أين نقله ابن خلكان في وفيات الأعيان، ونقل له بعض هؤلاء عن بعض، وأطنبوا الثناء عليه بما عرفوا من قدره، ولكن وافق بعده أن اضمحلت دولة العرب في المغرب وانقرضت لغتهم من تلك الأمصار؛ فضرب النسيان على اسمه مع ما ضرب عليه من معالم مدنيتهم هناك.
ولكن هذا الشاعر المجهول قد زاد بديوانه على ثروة اللغة العربية ذخيرة أضاعها التفريط، وأودع ألفاظها من المعاني ما لم يضمنها إياها شاعر عربي آخر، ولقد كان ينبغي ألا نذكر المتنبي والبحتري وابن أبي حفصة وابن هانئ وغير هؤلاء من محترفي الشعر، كان ينبغي ألا نذكرهم مرة إلا ذكرنا ابن حمديس مرارا، هذا الذي لا يذكره قراء العربية إلا كما يذكرون شعراء الفرس والصين، ولولا «ابن» قبل حمديس لما درى أكثرنا إن كان اسم رجل أو اسم مكان.
ولم يأت واحد ممن أشاروا إليه ولا على طرف من سيرته، ولا بينوا مسقط رأسه وتفصيل نشأته، ولعلهم كانوا يجهلون ذلك أو لعلهم لم يستقصوه كعادتهم في إيراد التراجم، فكل ما عرفته من أمره بعد أن تصفحت ما عثرت عليه من المصنفات التي ورد فيها اسمه أنه وفد على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وفي تلك السنة رحل إلى إفريقية وصحب العرب، وأن له كتاب الجزيرة الخضراء من بلد أندلس، وقال ابن بشرون: إن والده عبد الجبار كان شاعرا وفضله على أبيه، وقد اتفق أكثر من واحد على أنه قضى نحبه في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وقال بعضهم كان ذلك في شهر رمضان من تلك السنة، وأنه توفي في جزيرة ميورقة وقيل بيجاية، ودفن إلى جنب ابن اللبانة الشاعر المشهور، وزعم أنه قد عمي في أواخر أيامه. ويظهر من قصيدته في العصا التي يقول فيها:
نامعلوم صفحہ