خصائص النظم في «خصائص العربية» لابن جني
خصائص النظم في «خصائص العربية» لابن جني
ناشر
دار الطباعة المحمدية القاهرة
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م
پبلشر کا مقام
مصر
اصناف
خصائص النظم في (خصائص العربية) لأبي الفتح عثمان بن جني
الدكتور:
حسن إسماعيل عبد الرازق
الدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق أستاذ البلاغة المساعد بكلية اللغة العربية بالزقازيق خصائص النظم في "خصائص العربية" لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ هـ الطبعة الأولى ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م دار الطباعة المحمدية ٣٠ درب الأتراك بالأزهر - القاهرة
الدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق أستاذ البلاغة المساعد بكلية اللغة العربية بالزقازيق خصائص النظم في "خصائص العربية" لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ هـ الطبعة الأولى ١٩٨٧ م - ١٤٠٧ هـ دار الطباعة المحمدية ٣٠ درب الأتراك بالأزهر - القاهرة
الدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق أستاذ البلاغة المساعد بكلية اللغة العربية بالزقازيق خصائص النظم في "خصائص العربية" لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ هـ الطبعة الأولى ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م دار الطباعة المحمدية ٣٠ درب الأتراك بالأزهر - القاهرة
الدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق أستاذ البلاغة المساعد بكلية اللغة العربية بالزقازيق خصائص النظم في "خصائص العربية" لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ هـ الطبعة الأولى ١٩٨٧ م - ١٤٠٧ هـ دار الطباعة المحمدية ٣٠ درب الأتراك بالأزهر - القاهرة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن كتاب "الخصائص"، أو خصائص العربية، لأبي الفتح عثمان بن جنبي المتوفى سنة ٣٩٢ هـ، من المصادر الهامة للغة العربية؛ فكما أنه محل اهتمام النحويين، واللغويين، فإنه يجب أن يكون موضع اهتمام البلاغيين والمتأدبين.
فليس ما تضمنه هذا الكتاب القيم خاصًا بعلم النحو، أو علم التصريف، أو علم أصول اللغة وفقهها؛ بل إنه ليتجاوز هذا الحد. إلى أن يكون معينًا، لا ينضب من خصائص النظم. أو القيم البلاغية التي أفصح عنها ابن جني، والتي يمكن أن يفصح عنها أولو الألباب من البلاغيين؛ من خلال مناقشاته المفيدة، لأساليب الفصحى؛ من أسعار القدماء، والمحدثين، ومن أقوالهم المأثورة، لاستنباط العلل النحوية، أو التصريفية: أو لإقامة الدليل على صحة القضايا، اللغوية، أو النحوية، أو النقدية، أو التعبيرية.
وليس هذا تقديرنا نحن فحسب، بل إن ابن جني نفسه ليفصح عن هذا المعنى الذي نقدره، إذ يقول: "فإن هذا الكتاب ليس مبنيًا على حديث وجوه الإعراب؛ وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ، وإلام نجى؛ وهو كتاب يتساهم فيه ذوو النظر من المتكلمين،
1 / 3
والفقهاء، والمتفلسفين. والنحاة، والكتاب، والمتأدبين التأمل له، والبحث عن مستودعه، فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده، ويأنس به، ليكون له سهم منه، وحصة فيه" (١).
فهو إذن كتاب يخاطب كل إنسان بما اعتاده، وألفه من حجج كلامية، أو فقهية، أو فلسفية، أو نحوية، أو بلاغية.
ومما أورده من الحجج البلاغية: قوله: "من ذلك (أو)، إنما أصل وضعها: أن تكون لأحد الشيئين، أين كانت، وكيف تصرفت، فهي عندنا على ذلك، وإن كان بعضهم، قد خفى عليه هذا من حالها، في بعض الأحوال، حتى دعاه إلى نقلها عن أصل بابها، وذلك أن الفراء، قال: إنها تأتي بمعنى (بل) وأنشد بيت ذي الرمة:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها، أو أنت في العين أملح
وقال: معناه: بل أنت في العين أملح، وإذا أرينا أنها في موضعها، وعلى بابها؛ بل إذا كانت هنا على بابها كانت أحسن معنى وأعلى مذهبًا، فقد وفينا ما علينا، وذلك أنها على بابها من الشك - لأنه إذا قطع بيقين: أنها في العين أملح كان في ذلك سرف منه، ودعاء إلى التهمة في الإفراط. وإذا أخرج الكلام مخرج الشك، كان في صورة المقتصد غير المتحامل، ولا المتعجرف، فكان أعذب الفظة، وأقرب إلى تقبل قوله، ألا تراه نفسه قال:
أبا ظبية الوعساء بين جلال ... وبين النقا؛ آأنت أم أم سالم؟ !
_________
(١) الخصائص ١/ ٦٧.
1 / 4
فكما لا يشك في أن كلامه ههنا خرج مخرج الشك، لما في قوله، من عذوبته، وظرف مذهبه فكذلك ينبغي أن يكون قوله: (أو أنت في العين أملح) (أو) فيه باقية في موضعها، وعلى شكها" (١).
على أن ابن جنى قد نبه البلاغيين، إلى أن فائدة هذا الكتاب، ليت قاصرة على معرفة قواعد النحو، وأحكامها؛ من رفع، أو نصب، أو جر، أو جزم، لأن هذه أمور، قد تقررت وعرفت، وانتهى من أمرها المتقدمون، من النحاة، وأصبح الحديث عنها ضربًا من التكرار، الذي لا يأتي بعائد ما، وإنما تتعدى فائدته إلى إثارة المعاني من مكانها، وبيان أحوالها" في أوضاعها، وأغراضها، ومقاصدها وبيان أثرها في نفوس سامعيها.
واستمع إليه وهو يتحدث - أيضًا - عن فائدة كتابه، وذلك حين يتحدث عن معنى: (طرائف الحديث) من قول مالك بن أسماء:
أذكر من جارتي ومجلسها ... طرائفًا من حديثها الحسن
فيقول: "وإنما أفضى بنا إليه ذرو، من القول، أحببنا استيفاءه، تأنسًا به، وليكون هذا الكتاب، ذاهبًا في جهات النظر، إذ ليس غرضنا فيه: الرفع، والنصب، والجر، والجزم، لأن هذا أمر قد قرع في أكثر الكتب المصنفة فيه منه، وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع، والمبادئ، وكيف سرت أحكامها، في الأحناء والحواشي" (٢).
وإذا كانت "الخصائص" أو "خصائص العربية" - كما يفسرها
_________
(١) الخصائص ٢/ ٤٥٩.
(٢) الخصائص ١/ ٣٢.
1 / 5
بعض أولي الفضل من المحققين - كلمة عامة، فإنها تشمل الخصائص اللغوية، والنحوية. والتصريفية، والبلاغية.
والخصائص البلاغية هي خصائص النظم التي أفصح عنها ابن جنى في عديد من المواقف التي عرض لها وتحدث فيها حديث العالم بخفايا اللغة، وأسرار التعبير فيها.
وإذا كانت البلاغة - وهي النظم عند عبد القاهر - نتبع معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يساق لها الكلام، فلقد تتبع البلاغيون من أمثال عبد القاهر الجرجاني، وابن سنان الخفاجي، وابن الأثير، والخطيب القزويني، معاني النحو التي أبان عنها ابن جنى، في "الخصائص"، فكانت لهم معينًا عذبًا، عل منه القوم ونهلوا، حتى نمت رياض البلاغة، وأخضو ضربت، واستوت على سوقها، وآتت أكلها ضعفين!
وعلى الرغم من أن كتاب "الخصائص" لابن جنى كان موردًا عذبًا من موارد البلاغيين؛ فإنهم لم يدرسوه دراسة بلاغية وافية، بل إنهم أفادوا منه ما أفادوا وتركوه، على أنه كتاب في علم اللغة، أو في علم النحو والتصريف، وكأنه لا يعنيهم إلا بمقدار ما أخذوا منه وأفادوا!
على أن من أخذ منه، أو أفاد، من البلاغيين، لم يشر إليه إلا في القليل النادر، بل إن منهم من نقل أبوابًا كاملة من الخصائص - كأبن الأثير - دون أن يشير إلى المصدر الذي نقل عنه!
وإذا ما أشار إلى ابن جنى، فلكي بوسعه نقدًا وتجريحًا!
وقد تجد من العلماء، وسط هذا النكران للجميل، من كان يجل ابن
1 / 6
جنى، ويثنى عليه في كتبه وهو سعيد بأنه قد قرأ عليه، وأخذ عنه، وهو الشريف الرضى، فقد أثنى عليه في كتابيه: "تلخيص البيان في مجازات القرآن، و"المجازات النبوية" أكثر من عشر مرات، يقول فيها: "قال شيخنا".
ومن ذلك قوله: "وكان شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى، ﵀، يقول: معنى قولهم في القسم لعمر الله ما فعلت ذلك، أو لأفعلن ذلك، إنما يريدون به القسم بحياة يحيى الله بها، لا بحياة يحيا بها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .. فكنت أستحسن هذا القول منه حدأ، وله نظائر كنت أسمعها منه عند قراءته عليه، وكان، عفا الله عنه، كثير الإستنباط للخبايا، والإستطلاع للخفايا" (١).
ومن قوله، أيضًا، في حذف ما هو معلوم للمخاطبين: "وكان شيخنا أبو الفتح النحوي، ﵀، يسمى هذا الجنس شجاعة الفصاحة" لأن الفصيح، لا يكاد يستعمله، إلا وفصاحته جرية الحنان، غزيرة المواد" (٢).
ولهذا كله فإني أقدمت على بحث "خصائص النظم" في خصائص العربية، لأبي الفتح عثمان بن جنى المتوفى سنة ٣٩٢ هـ، متبعًا في ذلك ما يلي:
_________
(١) تلخيص البيان ١٢٢، وانظر صفحات ٧٤، ١٥٤، ١٥٥، ٢١٣.
(٢) المجازات النبوية ٢٦، وأنظر صفحات: ٥٩، ٩٧، ١٢٢، ١٦٤، ١٧١. ٢٥٥، ٢٨٣.
1 / 7
أولًا: مهدت لهذا البحث بموجز عن أبي الفتح عثمان بن جنى تناول أصله، ونشأته وصحبته لأبي علي الفارسي، وللمتنبي، وحبه لشعر المتنبي، وتقدير المتنبي له وأنبعث ذلك بذكر نماذج من شعر، ثم بتاريخ ولادته ووفاته، ثم تلاميذه، وكتبه ثم وصفه لكتابه ثم ذكرت مواطن الإفصاح عن خصائص النظم في كتاب الخصائص.
ثانيًا: جمعت ما تفرق من خصائص النظم، أو من مسائل البلاغة، في كتاب: الخصائص ووضعته تحت عناوين بلاغية مناسبة، لكل موضوع "حتى يستطيع الإفادة منها باحث البلاغة في سهولة ويسر، وذلك لأن ابن جنى قد وضع تلك الخصائص - في الأعم الأغلب - تحت عناوين لغوية، وأحبانًا تحت عناوين نحوية.
ثالثًا: نظمت ما جاء تحت تلك العناوين تنظيمًا بلاغيًا مناسبًا، بحيث قسمت الفكرة الكلية إلى أفكار جزئية، وأردفتها بالتحليلات البلاغية المناسبة.
رابعًا: بينت إفادة البلاغيين من كل موضوع، من تلك الموضوعات، التي أثارها ابن جنى، في كتاب "الخصائص"، وأرجعت إليه كثيرًا مما أخذ منه، ولم ينسب إليه مبينًا مكان الأخذ منه، وبخاصة ما وجدته من الخصائص في دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة لعبد القاهر، أو في المثل السائر، لابن الأثير.
خامسًا: رددت على ابن الأثير، في ما أثاره من اعتراضات على ابن جنى ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
سادسًا: أبديت رأيي فيما يمكن أن يكون للرأي فيه مجال.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب،
حسن إسماعيل عبد الرازق
1 / 8
التمهيد:
(١) أبو الفتح عثمان بن جنى (١)
هو أبو الفتح عثمان بن جنى؛ كان أبوه مملوكًا روميًا؛ وربما كان اسمه: (جنى) معربًا عن لفظ يوناني. هو (جنايس)؛ فقد قال ابن ماكولا في كتابه في المؤتلف والمختلف؛ وحكى لي إسماعيل بن المؤهل، أن أبا الفتح، كان يذكر أن أباه، كان فاضلًا، بالرومية؛ ويبدو من هذا: أن ابن جنى أراد تفسير اسم أبيه جنى الرومي، وأن معناه في العربية فاضل، فاللفظ اليوناني (جنايس)؛ معناه: كريم، نبيل، جيد التفكير عبقري، مخلص.
ومن هنا يبدو صدق تفسير ابن جنى لاسم أبيه (٢).
وفي نزهة الألباء لابن الأنباري: أن أباه "جنى" كان مملوكًا لسليمان ابن فهد الأزدي الموصلي (٣).
_________
(١) ينظر في ترجمة ابن جنى: التيمية ١/ ٧٧، ونزهة الألباء لابن الأبباري ٤٠٧، ٤٦٩، تاريخ بغداد للخطيب ١١/ ٣١١، ابن خلكان ٣٨٥، الإرشاد لياقوت ٥: ١٥ - ٣٢، ودمية القصر للباخرزي ٩٧، شذرات الذهب لابن العماد ٣: ١٤٠، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي (حونبول) ص ٥٤٨، (دار الكتب ٤/ ٢٠٥ بغية الوعاة للسيوطي ٣١٢، ومرآة الجنان ١/ ٤٤٥، ومعجم الأدباء ١٢/ ٨١، وإنباه الرواة ٢/ ٣٣٥، وتاريخ أبي الفداء ٢/وفيات ٣٩٢ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ٢/ ٢٤٤، تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ٣٠٣.
(٢) الخصائص (المقدمة) ١/ ٨.
(٣) نزهة الألباء ٣٢٠.
1 / 9
وقد كان سليمان بن فهد يكتب في حداثته بين يدي أبي إسحاق، الصابئ الذي توفى في سنة ٣٨٤ هـ. ثم انتقل إلى الموصل، فأقتنى بها ضياعًا؛ ونظر فيها، لقرواش أمير بني عقيل، وهو، معتمد الدولة، أبو المنيع، قرواش بن المقلد أحد أمراء العقيليين. وقد ولى الموصل سنة ٣٩١، إلى سنة ٤٤٢ هـ.
ثم غضب عليه قرواش؛ فقتله سنة ٤١١ هـ.
ومما يدلك على أن سليمان بن فهد صاحب قرواش هو مولى (جنى) أن ابن الزملدم الذي هجا ابن جنى قد هجا سليمان بن فهد صاحب قرواش في شعر، ذكره ابن الأثير، في باب (التخلص. والإقتضاب).
يقول ابن الأثير، ومما استطرف من هذا النوع في الشعر: قول ابن الزملدم الموصلي، وهو:
وليل كوجه البرقعيدي مظلم ... وبرد أغانيه، وطول قرونه
سربت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه النفات؛ كأنه ... أبو جابر، في خبطه وجنونه
إلى أن بداضوء الصباح، كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
ثم يذكر ابن الأثير قصة هذه الأبيات فيقول: وهذه الأبيات لهما حكاية. وذاك أن هذا الممدوح - وهو شرف الدولة قرواش -، ملك العرب، وكان صاحب الموصل، فاتفق أنه كان جالسًا مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر.
1 / 10
وكان البرقعيدي، مغنيًا، وسليمان بن فهد وزيرًا، وأبو جابر حاجبًا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر، أن يهجو المذكورين، ويمدحه فأنشد هذه الأبيات ارتجالًا، وهي غريبة في بابها، لم يسمع بمثلها، ولم يرض قائلها بصناعة التخلص وحدها، حتى رقي في معانيه المقصودة إلى أعلى منزلة.
فابتدأ البيت الأول بهجو البرقعيدي، فجاء في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها، وهي الظلمة والبرد والطول، ثم إن هذه الأوصاف الثلاثة جاءت ملائمة لما شبهت به مطابقة له وكذل البيت الثاني والثالث
ثم خرج إلى المديج بألطف وجه، وأدق صنعة، وهذا يسمي الاستطراد وما سمعت في هذا الباب بأحسن من هذه الأبيات (١)
كما أنك نجد تلك الأبيات في الكامل؛ لابن الأثير، وهي - أيضًا - في قرواش، وابن فهد، البرقعيدي، وأبي جابر، كما تجدها في معجم الأدباء، وأن الأبيات في هجاء سليمان بن فهد، الموصلي، ومدح قرواش ابن المقله، أمير بني عقيل مع تغيير يسير.
ولما لم يكن ابن جنى منتسبًا إلى أصل عربي، فقد أحس بأن عليه أن يعوض هذا النقص (٢)، فانكب على العلم يرتوي من معينه، ويأخذ بأسبابه حتى علت مكانته، وعظم قدره، مما جعل الثعالبي يقول: هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب. وكان الشعر أقل خلاله (٣) لعظم قدره، وارتفاع حاله.
ولهذا يقول ابن جنى من قصيدة طويلة (٤)
_________
(١) المثل السائر ٢٨٠
(٢) معجم الأدباء ١٢/ ١١٥
(٣) يتيمة الدهر ١/ ١٠٨
(٤) نزهة الألباب ٢٢٠
1 / 11
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسى
على أني أؤول إلى ... قروم، سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرم الدهر، ذو الخطبب
أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفًا دعاء نبي
وقد نشأ ابن جنى بالموصل، وتعلم النحو بها، وممن أخذ عنهم في النحو أحمد بن محمد الموصلي الشافعي المعروف بالأخفش، وقرأ الأدب في صباه على أبي علي الفارسي وصحبه أربعين عامًا، وكان سبب صحبته لأبي على أن أبا علي قد سافر إلى الموصل، فدخل إلى الجامع، فوجد أبا الفتح عثمان ابن جنى يقرأ النحو وهو شاب، وكان بين يديه متعلم، وهو يكلمه في قلب الواو ألفًا نحو: قام، وقال، فاعترض عليه أبو علي فوجده مقصرًا، فقال له أبو علي: زببت قبل أن تحصرم، ثم قام أبو علي ولم يعرفه ابن جنى، وسأل عنه فقيل له: هو أبو علي الفارسي النحوي، فأخذ في طلبه فوجده ينزل إلى السميريه، يقصد بغداد فنزل ممه في الحال ولزم وصاحبه من حينئذ إلى أن مات أبو علي، وخلفه ابن جنى، ودرس النحو ببغداد، وأخذ عنه.
وكان تبحر ابن جنى في علم التصريف، لأن السبب في صحبته لأبي علي، وتغربه عن وطنه، ومفارقة أهله، مسألة تصريفية (١)
ويبدوا أن ذلك اللقاء كان في سنة ٣٢٧ هـ وهي السنة التي أغار فيها معز الدولة بن بويه على الموصل، ولعل أبا علي الفارسي كان في ركبه في تلك الغزوة
_________
(١) نزهة الألباء ٢٢٢
(٢) تاريخ الأمم الإسلامية ٣٨٣
1 / 12
كما أخذ ابن جنى بعد ذلك عن كثير من رواة اللغة والأدب كأبي بكر محمد بن الحسن المعروف بابن مقسم، وهو من القراء وكان راوية ثعلب، وقد روى ابن جنى عنه أخبار ثعلب، وعلمه، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني المتوفى ٣٥٦ هـ وأبي بكر محمد بن هرون الروباني عن أبي حاتم السجستاني، ومحمد بن سلمة عن أبي العباس المبرد.
وممن أخذ عنهم من الأعراب، ممن لم تفسد لغتهم: أبو عبد الله محمد بن العساف العقيلي التميمي.
وقد كانت له رحلات في طلب العلم، يدل عليها ما يقوله في إجازة أثبتها ياقوت في ترجمته "وما صح عنده - أيد الله - من جميع رواياتي، مما سمعته من شيوخي ﵏، وقرأته عليهم بالعراق، والموصل، والشام، وغير هذه البلاد التي أتيتها، وأقمت بها"
ومن رواياته التي انتفع بها ابن منظور؛ ما قاله ابن جنى أخبرنا أبو صالح السليل، بن أحمد بن عيسى بن الشيخ، قال:
حدثنا عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن ريان، قال أخبرني رجل عن حماد الراوية، قال: أمر النعمان، فنسخت له أشعار العرب في الطنوج - قال: وهي الكراريس، - ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار ابن عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة (١)
_________
(١) لسان العرب مادة (طنج)
1 / 13
لقاؤه بالمتنبي:
كان ابن جنا محبًا لشعر أبي الطيب المتنبي، إذ هو يستشهد به كثيرًا في خصائصه، على المعاني والأغراض؛ فقد التقى به، في حلب عند سيف الدولة الحمداني، وفي شيراز عند عضد الدولة بن بويه.
وقد قرأ ابن جنى على المتنبي ديوانه؛ يقول البديعي: قال أبو الفتح ابن جنى: كنت قد قرأت ديوان المتنبي عليه، فلما وصلت إلى قوله:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب
وقوله:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى علي وأكتب
إذا ترك الإنسان أهلًا وراءه ... ويمم كافورًا فما يتغرب!
فقلت له: يعز علي أن يكون هذا الشعر، في ممدوح غير سيف الدولة، فقال حذرناه، وأنذرناه؛ فما نفع فيه الحذر، ألست القائل فيه:
أخا الجود: أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنا قائل؟
فهو الذي أعطاني لكافور بسوء تدبيره، وقلة تمييزه (١)
وواضح أن قراءة ابن جنى على المتنبي ديوانه كانت بعد هروبه من مصر وهجائه لكافور.
ويورد البديعي قصة تدل على إعجاب ابن حنى بشعر المتنبي فيقول:
_________
(١) الصبح المنبي ١٠٠
1 / 14
كان أبو علي الفارسي بشيراز، وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارس، وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء؛ وكان لابن جنى هوى في أبي الطيب، كثير الإعجاب بشعره، لا يبالي بأحد يذمه، أو يحط منه، وكان يسوؤه إطناب أبي علي في ذمه؛ واتفق أن قال أبو علي يومًا: أذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه؛ فبدأ ابن جنى وأنشد:
حلت دون المزار؛ فاليوم لوزر ... ت لحال النحول دون العناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى؛ فقال ابن جنى للذي يقول:
أزورهم، وسواد الليل يشفع لي ... وأنثنى، وبياض الصبح يغري بي
فقال: والله هذا حسن، بديع جدًا؛ فلمن هذا؟ قال للذي يقول:
أمضى إرادته، فسوف له قد ... واستقرب الأقصى، فثم له هنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال: لمن هذا؟ فقال ابن جنى: للذي يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
فقال: وهذا حسن والله؛ وقد أطلت يا أبا الفتح؛ فأخبرنا من القائل؟
قال: هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويشتقبح زيه، وفعله،
1 / 15
وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قلت: نعم، قال: والله لقد حببته إلي، ونهض، ودخل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيب؛ ولما اجتاز به استنزله، واستنشده، وكتب عنه أبيانًا من الشعر (١).
قوله عن المتنبي: شاعرنا:
يقول ابن جنى - وهو يتحدث عن صحة الطبع العربي، وصغائه، ولطفه: وحدثني المتنبي شاعرنا - وما عرفته إلا صاقًا - قال: كنت عند منصرفي من مصر في جماعة من العرب، وأحدهم يتحدث .. فذكر في كلامه فلاة واسعة، فقال: يحير فيها الطرف، قال: وآخر منهم يلقنه سرًا من الجماعة بينه وبينه فيقول له: يحار، يحار، أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إلى الصواب؟ (٢).
وفي موضع آخر من الخصائص يقول: وذاكرت المتنبي شاعرنا نحوًا من هذا، وطالبته في شيء من شعره (٣).
ويقول في باب التراجع عند التناهي: "وأبلغ من هذا قول شاعرنا (٤).
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى؛ ومن السرور بكاء
_________
(١) الصبح المنبي ١٦٢
(٢) الخصائص ١/ ٢٣٩
(٣) " ٢/ ٤٠٣
(٤) " ٣/ ٢٤١
1 / 16
تقدير المتنبي لابن جنى:
كان المتنبي يعرف قدر ابن جنى، ويجله، ويقول عنه: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره، يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح، وكان إذا سئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب، حصل فيه إعراب، دل عليه، وقال: عليكم بالشيخ الأعور، ابن جنى فسلوه فإنه يقول ما أردت، وما لم أرد (١).
وفي هذه الرواية ما يدلك على تقدير المتنبي لابن جنى، وعلى سعة علمه وتبحره في اللغة العربية، ومعرفته الواسعة بأساليبها، وأحاطته بمذاهب العرب في استعمالها.
وقد يفهم من قول المتنبي: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس: أن ابن جنى على سعة علمه، واحترام أولى الفضل له، واعترافهم بتقدمه، قد كان كثير من الناس لا يعرف له هذا الفضل، وربما كان عدم التقدير من هؤلاء راجعًا إلى أنهم كانوا ينفسون عليه مكانته التي وصل إليها بعلمه وفضله، وساعدهم على هذا، ما كان من طريقته وهو يتحدث، فقد كان من عادته - كما يقول ياقوت - أن يميل بشفتيه، وقد كان هذا موضع تندر من بعض الكتاب في ديوان آل بويه في بغداد بأبي الفتح؛ فقد أبصره، وهو يتحدث، ويفعل ما تعوده مما ذكرت فأثار فيه الكاتب النظر، فسأله أبو الفتح في ذلك فقال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا، يقر درايته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطئ دجله يفعل مثل ما يفعل مولاي الشيخ، فامتعض أبو الفتح،
_________
(١) مسالك الأبصار ٤/ ٢٠٦
(٢ - الخصائص)
1 / 17
وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين - أعزك الله -: ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي أو أمجن فتمجن بي؟ ! فلما رآه أبو الحسين قد حرد، واستشاط وغضب قال: المعذرة أيها الشيخ إليك وإلى الله تعالى عن أن أشبهك بالقرد، وإنما شبهت القرد بك، فضحك أبو الفتح، وقال: ما أحسن ما اعتذرت! وعلم أبو الفتح أنها نادرة تشيع، فكان يتحدث بها هو دائمًا (١).
نماذج من شعر:
يذكر الثعالبي أن الشعر كان أقل خلال ابن جنى لعظم قدره وارتفاع حاله، ويورد من قوله في الغزل (٢):
غزال غير وحشي ... حكى الوحشي مقلته
رآه الورد يجنى الورد ... فاستكساه حلته
وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريقه الصهبا ... ء فاختلسته نكهته
ومن شعره ما يورده صاحب نزهة الألباء في العتب على صديق له (٣):
صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسدة
وقد - وحياتك - مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة
_________
(١) معجم الأدباء (ترجمة أبي الفتح).
(٢) يتيمة الدهر ١/ ١٠٨
(٣) نزهة الألباء ٢٢١
1 / 18
ولولا مخافة ألا أراك ... لما كان في تركها فائدة
ويذكر البديعي أن أبا الفتح قد رثا أبا الطيب المتنبي بقصيدة مطلعها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب ... وصوحت بعدري دوحة الكتب
ومنها يقول:
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه ... كما تخطف بالخطية السلب
ما زلت تصحب في الجلي إذا نزلت ... قلبًا جميعًا، وعزمًا غير منشعب
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره ... تخطو بهمة لأوان ولا نصب
من للهواجل يحيى ميت أرسمها ... بكل حائلة التصدير والحقب؟ !
ومنها:
باتت وسادي أطراب تؤرقني ... لما غدوت لقى في قبضة النوب
غمرت خدن المساعي غير مضطهد ... ومت كالنصل لم يدنس ولم يعب
فأذهب عليك سلام الله ما تلقت ... خوص الركائب بالأكوار والشعب (١) ...
_________
(١) الصبح المنبي ١٧٧
1 / 19
تاريخ ولادته وتاريخ وفاته:
لم يعين أحد ممن ترجم لابن جنى سنة ولادته، ويكتفون بقولهم: إنه ولد قبل الثلاثين والثلاثمائة، إلا أبا الفداء، الذي يذكر أن ولادته كانت ٣٠٢ هـ، ولكنهم يتفقون على سنة وفاته، وهي سنة ٣٩٢ هـ.
وقد قالوا: إن ابن جنى قد صحب أستاذه أبا علي الفارسي أربعين عامًا" على أثر معرفته به في مسجد الموصل، وقد كان ذلك في سنة ٣٣٧ هـ.
وقد قال ابن قاضي شهبة - في طبقات النحاة - إنه توفى وهو في سن السبعين ومعنى هذا: أن ولادته كانت في حوالي سنة ٣٢٣ هـ
وإذا كانت ولادته في هذه السنة، فإن معرفته بأبي علي الفارسي في مسجد البصرة قد تمت وهو في سن الخامسة عشرة، ونروي قصة لقائه بأبي علي: أن أبا علي مر عليه، وهو يدرس العربية، ومن القليل أن يتعرض المرء للتدريس في هذه السن المبكرة، وهذا يرجح رواية أبي الفداء في تاريخ ولادته.
غير أن رواية لقائه بأبي علي - وهي التي يذكرها ابن الأنباري في نزهة الألباء - ربما توحي لنا بأن ابن جنى - وهو يدرس العربية بمسجد البصرة - كان في هذه السن المبكرة لأنها تقول، وكان سبب صحبته إياه: أن أبا علي الفارسي كان قد سافر إلى الموصل فدخل إلى الجامع فوجد أبا الفتح عثمان بن جنى، يقرأ النحو، وهو شاب، وكان بين يديه متعلم وهو يكلمه، في قلب الواو وألفًا، نحو قام، وقال، فاعترض عليه أبو علي، فوجده مقصرًا، فقال له: تزببت وأنت حصر (١)!
_________
(١) الخصائص ١/ ١٠ من المقدمة، وانظر نزهة الأنباء ٤٠٨ (الطبعة الأولى).
1 / 20
فقول أبي علي: تزييت وأنت حصرم، تدل على أن ابن جنى - وهو يدرس العربية في مسجد الموصل - كان في سن مبكرة.
وقد توفى ابن جنى في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة، في خلافة القادر (١)، وتولى الصلاة عليه الشريف الرضى، وكان بينها صداقة وكيدة - كما في ديوان الشريف الرضى -.
وقد رثاه الشريف الرضى بقصيدة، منها:
ألا بالقوم، للخطوب الطوارق ... وللعظم يرمي كل يوم بعارق
وللدهر يعرى جانبي من أقاربي ... ويقطع ما بيني وبين الأصادق
وللنفس قد طارت شعاعًا من الجوى ... لفقد الصفايا، وانقطاع العلائق
لها كل يوم موقف من مودع ... وملتفت في عقب ماض مفارق
نجوم من الإخوان يرمى بها الردى ... مغاربها فوت العيون الروامق
ومنها:
لتبك أبا الفتح العيون بدمعها ... وألسننا من بعدها بالمناطق
إذا هب من تلك الغليل بدامع ... تسرع من هذى الغرام بناطق
شقيقي إذا التاث الشقيق وأعرضت ... خلائق قومي جانبًا عن خلائقي
_________
(١) نزهة الألباء ٢٢٢
1 / 21