الخطابة العلمية
هي إن شئت أقل الخطب بلاغة لا تستنزل الدموع، ولا تثير العواطف، ولا توقد نار الغضب والحماسة، ولا تحرك عوامل البغض أو الرحمة. كلام علمي صناعة وبحثا، وتركيب بسيط يقرب منال الحقائق العلمية من الأذهان، على أن البلاغة الحقة لا تعرف لها حدا، فهي تتدفق من القلب والفكر أيا كان الموضوع، والخطيب البليغ يعرف أن يخلع حتى على الموضوع الجاف لمحة من الجمال والرونق والجاذبية فتزداد بساطته تأثيرا.
وأول ما ظهرت الخطابة العلمية في فرنسا لعهد الكردينال رشليو مؤسس المجمع الشهير المؤلف من أربعين عضوا يسمونهم الخالدين، وينتخبونهم من بين أرباب السيف والقلم ورجال الدنيا والدين.
وهي تتناول المحاضرة والمدح والتأبين وما شاكل.
المحاضرة - ويسميها الإنكليز قراءة أخذا عن الروائي الشهير دكسون الذي كان يتلو مؤلفاته في حفل من الناس - هي ضرب من الدرس يلقى على الجمهور كما يلقي المعلم درسه على تلامذته ومريديه، وقد لا تخلو من مسحة خطابية حسب الموضوع والكاتب، وغايتها الإقناع بمعالجة الموضوع الفلسفي أو التاريخي على نمط واضح الأسلوب سهل المأخذ، وكثير من الذين لا قبل لهم بالخطابة يستطيعون أن يفلحوا في المحاضرة ولا سيما المرأة التي قلما يساعدها الصوت وتركيب بنيتها على الخطابة بدون تعب.
ويدخل في المحاضرات السمر وأحاديث الأسر والأندية الأدبية، وقد كان للسمر مقام في العصور الغابرة، وبلغ أوجه في القرن السابع عشر في فرنسا، فكانت أوتل رمبوليه مجتمع السادة الأدباء والنساء الشهيرات بالحسن والظرف والذكاء والصبابة، وقد كان لاجتماعاتهم وما يدور فيها من حلو الحديث أثر عميق في أخلاق ذلك الجيل وآدابه، ثم أنشأت نينون ده لانكلو ناديا للسمر في منزلها، كان كالمعبد يحج إليه خيرة القوم، وكان فن الخطابة محترما، يعتبرونه مدرسة الأدب والحياء وحسن الذوق وطيب الشمائل ورقة الشعور.
أما اليوم فقد عصفت حمى الحياة بكل هذا، غير أنك تجد حينا بعد حين بعض الحفلات الخصوصية يقيمها نفر من العلماء أو المتأدبين في دورهم فيتجاذبون أطراف الحديث فيما يعرفون من علم أو فن، كما كانت تفعل فلاسفة اليونان حينما كانوا يجتمعون تحت ظلال الأشجار في حدائق غناء، تعبق أزهارها وتشدو أطيارها.
وربما كان للعرب شيء مما ذكرنا غير ما يروى عنهم من اللهو والعبث والمجون، وفيما حفظ عنهم من الأجوبة التي كان يحملهم عليها المقارعة في الحديث والجدل ما يجعلنا نعتقد ذلك.
المدح والتأبين؛ التأبين هو مدح الميت خاصة، يلقى يوم المأتم أو يتلى في حفلة التذكار التي تقام له، ويراعى فيه عمر الميت وقدره وخدماته، ثم يستطرق منه إلى التعزية وذكر الحكم الخالدة التي تخفف أحيانا من لوعة المصاب، ويختم باستمطار الرحمة والسلام على الفقيد، وحث الناس على الاقتداء به. ومجال الكلام في هذا الباب واسع للخطيب القدير الذي يتلاعب بالألفاظ والمعاني دون أن يهوي في المبالغة أو الإطالة والتكرار.
وأما خطب المدح وما يتصل بها من الشكر والتهنئة والتكريم فهي تتشابه موضوعا، وتختلف حسب الأقدار والأعمار وقيمة العمل أو الخدمة التي أداها المحتفى به لقومه وبلاده. وقد أفرط القوم فيها في كل مكان حتى صار من الصعب طرق هذا الباب على من أراد أن يكون مجددا لا مقلدا. على أن التكريم الصحيح - أي الذي يكون لأعمال جليلة القدر حقيقة النفع - يعطي الخطيب من الموضوع نفسه مصدرا للوحي فيجمع الإخلاص في البيان إلى فصاحة اللسان.
نامعلوم صفحہ