الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
في إطار التوجه المزدوج للتغير الخطابي الذي ناقشته من قبل (في أواخر الفصل الثاني في قسم منفصل) ينصب تركيزي في هذا الفصل على التغير المستمر في نظم الخطاب لا في الأحداث الخطابية، وسوف أحدد اتجاهات عامة معينة في التغير الخطابي ذوات تأثير في النظام المجتمعي للخطاب، وأرجع هذه الاتجاهات إلى الدروب الأعم التي يسير فيها التغير الاجتماعي والثقافي، ونوع التغير الذي سوف أشير إليه يتسم في جانب منه بطابع دولي أو على الأقل عبر وطني، على نحو ما أشرت إليه في المقدمة. وأنا أعجب لضآلة الاهتمام بأمثال هذه الاتجاهات إلى التغيير في نظم الخطاب؛ ومن ثم فينبغي النظر إلى هذا الفصل باعتباره مدخلا استكشافيا إلى مجال بحث واسع يعاني من التجاهل إلى حد كبير، وسوف أناقش ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول إضفاء الديمقراطية على الخطاب، والثاني «تسليع» الخطاب، والثالث اكتسابه الطابع التكنولوجي. فأما الاتجاهان الأولان فيتعلقان بتغييرات موضوعية في الممارسات الخطابية، وأما الثالث فيقول إن التدخل المتعمد في الممارسات الخطابية من العوامل التي تزداد أهميتها في إحداث التغيير. ولهذه الاتجاهات تأثير شامل متغلغل في نظم الخطاب المعاصر، وإن كان تأثيرها يتسم بالتفاوت، وتوجد مظاهر تضاد شديد فيما بين نظم الخطاب المحلية المرتبطة بمؤسسات أو مجالات معينة.
ومن شأن التركيز على اتجاهات معينة أن يمهد لنا الطريق إلى تحديد أنساق محددة داخل العمليات المركبة والمتناقضة للتغير الخطابي الجاري، ولكن هذا طريق بالغ التجريد في النظر إلى التغيير، ويحاول القسم الأخير من هذا الفصل تصحيح ذلك إلى حد ما، وذلك بأن ننظر كيف تتفاعل الاتجاهات مع بعضها البعض، وكيف يمكن أن تظهر هذه الاتجاهات في عمليات الصراع على الهيمنة على هيكلة نظم الخطاب. وأنا أقدم تفسيرات مختلفة لهذه الاتجاهات من حيث اختلاف نماذج الممارسة الخطابية، وأسوق الحجة على أن نموذج الهيمنة الذي أدعو إليه قادر على تقديم تفسير أكثر إقناعا من نموذج «الشفرة» أو نموذج «الفسيفساء» (أي النموذج «التفاوضي»). (1) إضفاء الديمقراطية
أعني بإضفاء الديمقراطية على الخطاب إزالة مظاهر عدم المساواة وعدم التناظر في الحقوق الخطابية واللغوية، وفي التزامات المجموعات البشرية وصيتها، ولقد كان إضفاء الديمقراطية على الخطاب، مثل الأخذ بأسباب الديمقراطية بصفة عامة، من المعايير الأساسية للتغيير في العقود الأخيرة، ولكن العملية في الحالتين كانت تتسم بالتفاوت الشديد (ففي بريطانيا على سبيل المثال، اكتسب الناطقون باللغة الويلزية حقوقا أكبر من الناطقين باللغة الجوجوراتيه (لهجة هندية رئيسية))، وفي كلتا الحالتين ترددت تساؤلات عن مدى صدق التغيير ومدى كونه ضربا من التجميل الظاهري. وسوف أستعرض خمسة مجالات شهدت إضفاء الديمقراطية على الخطاب؛ الأولى هي العلاقة بين اللغات واللهجات المحلية، والثانية إمكان المشاركة في أنماط الخطاب ذوات المكانة الرفيعة، والثالثة التخلص من علامات السلطة السافرة في أنماط الخطاب المؤسسي المتسمة بتفاوت علاقات السلطة فيها، والرابعة الاتجاه نحو اللغة غير الرسمية، والتغييرات في الممارسات الخاصة بالجنسين في اللغة.
فمن الصحيح بصفة عامة أن بعض اللغات المختلفة عن اللغة الإنجليزية، وبعض اللهجات الاجتماعية المختلفة عن الإنجليزية المعيارية، إلى جانب طرائق نطق منوعة للإنجليزية، أصبحت تتمتع بالقبول أو بعدم الاعتراض عليها في شتى المناسبات العامة على نطاق واسع، بل إن هذا الاتجاه ازداد اتساعا منذ الحرب العالمية الثانية عما كان عليه قبلها، ولكن هذا لا يعني الزعم بأن عهد اليوتوبيا اللغوية قد أشرق، فلقد كانت هذه من منجزات الكفاح الاجتماعي، كما أنها واجهت بعض المقاومة ولا تزال تتعرض للمقاومة. أضف إلى ذلك أنها متفاوتة المستوى، إذ تعاني أشد الأقليات حرمانا، مثل شتى الجاليات الآسيوية في بريطانيا، من وجوه ظلم عنصرية في هذا المجال وفي غيره. ومع ذلك فقد كانت الديمقراطية ولا تزال تمثل قوة حقيقية في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن جانبا كبيرا من الجدل لا يزال يدور حول الحالات التي لا يزال التعصب وعدم المساواة يتخذان فيها صورة صارخة، فإن مستوى الجدل وبروزه يشيران إلى أن أمثال هذه القضايا تشغل الأذهان فعلا. ومن الأمثلة التي يكثر إيرادها مثال الإذاعة، حيث أصبح بعض الأشخاص من ذوي اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية يشاركون فيها بصورة غير مسبوقة، وإن كان ذلك لايزال في حدود ضيقة إلى حد ما. فعلى سبيل المثال لا تزال إجادة الإنجليزية المعتمدة وطرائق ما يسمى ب «النطق المقبول» شرطا تقتضيه التقاليد لمذيعي نشرات الأخبار القومية، وعلى الرغم من أن المرء قد يصادف مذيعين من ذوي طرائق النطق (الإقليمية) الذين يقرءون، مثلا، الأخبار الإقليمية على الشبكات القومية للتليفزيون والإذاعة، فلن يصادف المرء أشخاصا ذوي طرائق نطق عمالية. وطرائق نطق الطبقة العاملة لا توجد إلا في برامج المسابقات وفي المسلسلات الدرامية. وعلى غرار ذلك نجد أنه إذا كانت الإذاعة تقدم برامج كثيرة باللغة الويلزية، فإن اللغات الآسيوية وغيرها من لغات الأقليات لا تحظى إلا باهتمام هامشي. فالواقع أن الإذاعة تبدي قدرا من الاحترام للمستويات غير المعتمدة من اللغة الإنجليزية ولغات الأقليات في مجال الحياة العامة، وإن يكن ذلك في القطاعات ذوات المكانة المتواضعة في ذلك المجال.
وتثير هذه الاتجاهات التساؤل عما إذا كانت هيمنة اللغة الإنجليزية المعتمدة التي تميزت بها الفترة الحديثة (ليث، 1983م) توشك الآن على الانتهاء، ترى هل نحيا اليوم في عصر ما بعد اللغة المعتمدة؟ (انظر جيمسون، 1984م.) ويوجد كذلك البعد الدولي لهذا السؤال، فإذا كان موقع اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة عالمية غير رسمية يزداد قوة، فإن أنواعا مختلفة من اللغة الإنجليزية، مثل الإنجليزية الهندية والإنجليزية الأفريقية، التي لم تحظ إلى الآن بالقدر اللازم من الاعتراف بها، قد بدأت تظهر بقدر أكبر من المساواة مع الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية (وإن كان علينا ألا نبالغ في هذا الصدد، فما زالت الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية هما اللتين يتعلمهما الملايين في مدارس اللغات في شتى أرجاء العالم). وإذا صح وجود ابتعاد حقيقي عن المعايير الموحدة على المستويين القومي والدولي، فهل يمثل ذلك شرخا حقيقيا في الهيمنة داخل المجال اللغوي، أم إن الهيمنة تتخذ أشكالا جديدة وحسب؟ سوف نعود إلى أمثال هذه القضايا في المناقشة التالية للتغير الخطابي في سياق المناظرة بين الحداثية وما بعد الحداثة.
ويرتبط بهذه الصورة الأولى للديمقراطية نوع معين من ديمقراطية المشاركة في أنماط الخطاب ذات المكانة الرفيعة، ومواقع الذوات المتسمة بالرفعة والسلطة في داخلها، للمتحدثين بأنواع غير معتمدة من اللغة الإنجليزية، وللمرأة، وللسود وللآسيويين. ومن الأمثلة ازدياد عدد النساء اللاتي استطعن الحصول على مهن في سلك القضاء (وإن كانت مناصبهن تقتصر على قضاة الصلح والمحامين الذين يعدون المذكرات ولا يترافعون في المحاكم، ولا تشمل وظائف كبار المحامين أو قضاة المحاكم العليا) أو في سلك التعليم، أو في أجهزة الإعلام. والقضية الأساسية هنا، بطبيعة الحال، قضية الالتحاق بمؤسسات معينة والحصول على مواقع داخلها، وما المشاركة في الخطاب إلا جانب من جوانب هذه القضية. وكان من نتائج ذلك أن أصبحت اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية مقبولة، إلى حد ما، بما يتفق مع الممارسات الخطابية التي كانت تعتبر من قبل غير متسقة مع المناصب المذكورة، إذ أصبح من الممكن في هذه الأيام إلقاء محاضرة جامعية بلهجة سكان مدينة ليفربول (وإن لم تزل الإشكالية المرتبطة بذلك قائمة).
ومن ظواهر التغيير الملاحظ بصفة عامة ظاهرة ترتبط ارتباطا جوهريا بموضوع هذا الكتاب ألا وهي التخلص من العلامات السافرة على المراتب والتباين في السلطة في أنماط الخطاب المؤسسي الذي تتفاوت فيه علاقات السلطة. والتضاد بين المقابلة الشخصية القائمة على الطب المعتمد والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل في العينتين السالف إيرادهما أعلاه يمثل ذلك؛ ففي الأولى كان الطبيب هو الذي يتحكم في تناوب أدوار الكلام وموضوعاتها من خلال سيطرته على دورات السؤال والجواب والتقييم، وأما في الأخيرة فقد غابت مظاهر هذا التفاوت. ويمكن العثور على حالات تضاد مماثلة بين الممارسات التقليدية والممارسات «الحديثة» في التفاعلات ما بين المحاضر والطالب، وما بين المعلم والتلميذ، وما بين المدير والعامل، وما بين أحد الوالدين وطفله. ومن بين أنماط العلامات الكثيرة التي يشيع التخلص منها: ألقاب المخاطبة غير المتناظرة؛ والتوجيهات المباشرة (بأفعال الأمر مثلا)، والاستعاضة عنها بأشكال غير مباشرة تحفظ للسامع ماء وجهه (براون ولفنسون، 1978م)؛ وكذلك عدم التناظر في الحق في المشاركة بطرائق معينة مثل تقديم موضوعات جديدة، وطرح الأسئلة؛ واستخدام ذوي السلطة من المشاركين مفردات لا يعرفها الآخرون، ومع ذلك فقد يستطيع المرء، بطبيعة الحال، أن يجد هذه المعالم جميعا إلى الآن في أنماط تفاعل معينة.
وقد يكون لنا أن نقول أيضا إنه في الوقت الذي أصبحت العلامات السافرة أقل ظهورا فيه، فإن قوة العلامات الخفية الدالة على عدم التناظر في السلطة تشتد، وهو ما يؤدي إلى ازدياد صعوبة إدراك عدم التناظر في السلطة بدلا من اختفائه. فإذا كنت، على سبيل المثال، الشخص المكلف بصوغ مفاد ما قلناه في مناقشة ما أو بتلخيصه (ومن ثم أقدم باستمرار مفهومي لما حدث) فإن هذا نهج يمثل عدم التناظر في السلطة، وصعوبة إدراك ذلك أكبر من تمتعي وحدي بالحق في الكلام دون أن يدعوني أحد. ومع ذلك فإن عدم التناظر هنا قوي إلى حد ما، ويستطيع المرء أن يستغله في التحكم في مجرى التفاعل. ويقول هريتدج (1985م) على سبيل المثال: إن من يجرون المقابلات الإذاعية يستخدمون حقوقهم في الصياغة باعتبارها أسلوبا لممارسة السيطرة، وتقييم ما قاله ضيوف المقابلة، من دون انتهاك التزامهم بعدم التعبير عن أحكامهم على ما قيل.
ويتمثل أحد طرائق تفسير أمثال هذه الحالات في القول بأن التخلص الظاهر من العلامات السافرة على وجود السلطة وعدم التناظر في التمتع بها، من باب التجميل في الحقيقة وحسب، وأن أصحاب السلطة و«حرس المداخل» بشتى أنواعهم يقتصر عملهم على استبدال آليات سيطرة خفية بالآليات السافرة، وفي هذا الرأي بعض الصدق، ولكنه يقدم نصف الحقيقة فقط. فأسلوب إضفاء الديمقراطية المذكور قد يكون من باب التجميل وحسب، ولكنه يمكن أن يكون حقيقيا، وأن يكون معناه مثار صراع، كما أقول أدناه.
نامعلوم صفحہ