كنت قد استخدمت في الفصل الثالث مثالا لإيضاح استناد ترابط المعنى إلى الافتراضات التي يستعين بها المفسرون في عملية التفسير، ومن بينها افتراضات ذات طبيعة أيديولوجية. إذ نجد مثلا أن النص الذي يقول «سوف تترك عملها يوم الأربعاء القادم. إنها حامل» نص يقوم معناه على افتراض أن النساء يتوقفن عن العمل عند إنجاب الأطفال (وعند الحمل). وكنت قد ذكرت أن منتجي النصوص يتوجهون إلى الذوات المفسرة «القادرة» على الاهتداء إلى الافتراضات المناسبة وإقامة الروابط التي تكفل «قراءات» مترابطة المعنى. ومن الممكن توسيع نطاق هذه النظرة إلى ترابط المعنى ودوره في التوجه الأيديولوجي بحيث تتضمن التناص، بمعنى أن النصوص تفترض وجود ذوات مفسرة، وتهيئ لها مواقع تفسيرية مضمرة، باعتبار أنها «قادرة» على استخدام افتراضات مستمدة من خبراتها السابقة، لمساعدتها في إقامة الروابط بين العناصر التناصية المختلفة في نص من النصوص، وبذلك تنجح في توليد تفسيرات مترابطة المعنى. وينبغي ألا يعني ذلك ضمنا أن المفسرين ينجحون دائما في التوفيق الكامل بين المتناقضات في النصوص؛ بل إن المفسرين قد يأتون بتفسيرات تقاوم ما في النص (انظر أدناه). ويجوز أن يصل المفسرون إلى توفيق جزئي أو توفيق مصطنع يكفي لتلبية أغراضهم المباشرة، ولكن إذا نجح المفسرون في التوفيق بين المتناقضات في تفسيراتهم فإنهم يكونون بذلك قد شغلوا مواقع الذوات المركبة التي أنشأتها النصوص (أو اكتسبوا الدعم من النصوص لمواقعهم القائمة).
وتتولد التفسيرات القائمة على ترابط المعنى ما بين العناصر التناصية المنوعة في نص من النصوص لشتى أبعاد معناها في وقت واحد، أي البعد الفكري، وبعد العلاقة ما بين الأشخاص (وينقسم الأخير إلى معان فكرية ومعان خاصة بالهوية). فنجد على سبيل المثال أن العينتين الأولى والثانية أعلاه تتضمنان معاني علائقية مركبة ترتبط بالطرائق التي تمزج بها بين الأساليب والأنواع غير المتجانسة. والمفسرون هم الذين يجدون طرائق مقبولة للجمع بين هذه المعاني العلائقية المنوعة. ففي حالة العينة الأولى نجد أن الجمع بين المعاني العلائقية يتوسل بالتوفيق بين العلاقة القائمة بين مصدر المعلومات ومقدمها، وبين المتلقي السلبي للمعلومات، من جانب، ونجد من جانب آخر العلاقة بين المشاركين في الانتماء إلى عالم الحياة. وأما في العينة الثانية فإن ما يحتاج إلى الجمع هو العلاقة بين المعلن والمستهلك، والعلاقة بين المؤسسة بصفتها مصدر سن القوانين وبين أحد أفراد الجمهور باعتباره الذات (كالعلاقة بين البنك والعميل). ومن الأمثلة على النصوص التي تتضمن معاني مركبة متماثلة نص المقابلة الإذاعية مع السيدة مارجريت ثاتشر الذي سبق لي تحليله في فيركلف (1989م، أ). ويتكون موقع الذات المركب الذي يشغله القارئ من نطاق متنوع من العناصر (من بينها البريطاني الوطني، وربة المنزل الحريصة، والوالدان القلقان، والمقاول) ونقول مرة أخرى: إن على المفسر أن يجمع بين هذه الهويات المتناقضة في كيان مترابط المعنى. ويعلق هول (1988م) تعليقا مماثلا على خطاب ثاتشر، ومفهوم «التكثيف» عند لاكلاو (1977م)، يتناول عملية الجمع تفسيريا بين العناصر من حيث آثاره الأيديولوجية، وكل منهما يضع هذه القضايا داخل إطار نظرية للهيمنة. وأما ما يفتقر إليه تناولهما فهو وجود نصوص فعلية خاصة.
والمعنى المضمر فيما قلته إلى الآن يقول بوجود مفسرين طيعين، بمعنى أنهم يقبلون المواقع التي أعدت لهم في النصوص، ولكن المفسرين ليسوا جميعا طيعين. فبعضهم يتسم - إلى حد ما، وبصراحة متفاوتة المقدار - بالمقاومة. ولا يقتصر تعريف المفسرين، بطبيعة الحال، على كونهم «ذوات خطابية» في «عمليات خطابية معينة»، بل إنهم ذوات اجتماعية ولديهم خبرات اجتماعية متراكمة، ويتمتعون بموارد ذات توجهات منوعة إلى الأبعاد المتعددة للحياة الاجتماعية، وهذه المتغيرات تؤثر في طرائق تفسيرهم لنصوص معينة. ومن المتغيرات الأخرى إجراءات التفسير الخاصة المتاحة لهم، والتي يستفيدون بها، في ذلك المجال الخاص من مجالات الممارسة الخطابية؛ فالقدرة على القراءة النقدية، على سبيل المثال، ليست موزعة بالتساوي بين جميع المفسرين في جميع الظروف التفسيرية.
وقد تجنح القراءات «المقاومة»، إلى حد ما، إلى الفصل بين عناصر التناص المترابطة في نص من النصوص، فقد يبدي المفسر، على سبيل المثال، اعتراضا على العناصر الإعلانية في العينة الثانية، فيقرؤها قائلا: إن بطاقة «باركليكارد» «تحاول أن تبيع لي شيئا». وفي غمار هذه العملية يضيف المفسر بعدا آخر للتناص إلى النص باستحضار نصوص أخرى للتأثير في تفسيره، وقد تنتمي في هذه الحالة إلى تحليلات علم الاجتماع أو البحوث السياسية النقدية للنزعة الاستهلاكية. وتمثل «القراءات المقاومة» إحدى طرائق الصراع على الهيمنة فيما يتعلق بالترابط بين العناصر التناصية. وإذا كانت تؤدي في العادة إلى عمليات إنتاج نصوص تصور الصراع على الهيمنة بأشكال أشد صراحة، فإن ذلك ليس بالضرورة هو الحال دائما، ومن المهم أن ننظر في طرائق تفسير المفسرين للنصوص حتى نستطيع التوصل إلى التقييم السليم لفاعليتها السياسية والأيديولوجية. (ولك أن ترجع إلى انتقادي للغويات النقدية الذي يتبع نهجا مماثلا في الفصل الأول عاليه، وانظر استعمال مفهوم «القراء المقاومين/القراءات المقاومة» في كريس (1988م).)
الفصل الخامس
تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
يركز الفصلان الخامس والسادس على تحليل النصوص وما يرتبط به من الجوانب «الصغرى» للممارسة الخطابية، بحيث يطوران - على أسس انتقائية محضة - معالجة الفئات التحليلية التي سبق تقديمها في الفصل الثالث (باستثناء التناص الذي عولج في الفصل الرابع)، وهي المفردات، والنحو، والتماسك، والبناء النصي، والقوة، وترابط المعنى. والاختلاف بين الفصلين الخامس والسادس اختلاف في التأكيد؛ إذ يركز الفصل الخامس أساسا على الخصائص التحليلية للنصوص، وهي التي ترتبط خصوصا بوظيفة العلاقة ما بين الأشخاص من زاوية اللغة والمعاني، ويتناول الفصل السادس بصفة رئيسية جوانب تحليل النصوص، وهي الجوانب التي ترتبط خصوصا بالوظيفة الفكرية والمعاني الفكرية.
قلت في الفصل الثالث: إن الوظيفة الخاصة بالعلاقة ما بين الأشخاص يمكن تقسيمها إلى وظيفتين مكونتين لها أسميتهما الوظيفة «العلائقية» والوظيفة الخاصة ب «الهوية». وتتعلق هاتان بالطرائق التي تمارس بها العلاقات الاجتماعية، وتتجلى بها الهويات الاجتماعية في الخطاب، ولكنهما تتعلقان أيضا بكيفية بناء العلاقات الاجتماعية والهويات في الخطاب (وإعادة إنتاجها، والطعن فيها، وإعادة هيكلتها). وأريد أن أركز في هذا الفصل على بناء الهويات الاجتماعية، أو على بناء «الذات» في الخطاب، وبصفة أخص على الطرائق التي يسهم بها الخطاب في عمليات التغيير الثقافي، وهي التي تتعرض فيها الهويات الاجتماعية أو «الذوات» المرتبطة بمجالات ومؤسسات معينة لإعادة التحديد وإعادة التكوين. وأريد تأكيد هذا هنا؛ لأنه جانب خطابي بالغ الأهمية من جوانب التغيير الثقافي والاجتماعي، ولكن هذا الجانب لم يلق حتى عهد قريب الاهتمام الجدير به في تحليل الخطاب.
وسوف ينصب تركيزي على الخصائص التحليلية التالية للنصوص: التحكم في التفاعل (بما في ذلك تناوب أدوار الكلام، وبناء التبادل، والتحكم في الموضوع، والتحكم في البنود ، والصياغة) والنوعية، والتأدب، والجو الخلقي. وفي إطار الفئات التحليلية الواردة في الفصل الثالث عاليه، يعتبر التحكم في التفاعل بعدا من أبعاد بناء النص، وتعتبر النوعية بعدا من أبعاد النحو (وإن يكن مفهوم النحو هنا موجها بشدة نحو المعنى، مثل مفهوم هاليداي، 1985م) ويعتبر التأدب جانبا مما أسميته «القوة». وأما الجو الخلقي فيتجاوز هذه الفئات، كما سوف أشرح أدناه، ودافعه التركيز على الذات. وليس اختيار هذه الموضوعات المحددة للفحص اختيارا تعسفيا، إذ يمثل كل منها أساسا حافلا للنظر في جوانب التغيير ذات الدلالة الاجتماعية والثقافية في وظائف الخطاب العلائقية والخاصة بالهوية.
وكما فعلت في الفصل الرابع أبدأ بمناقشة عينات خاصة من الخطاب، وقد أخذت عينتين من نمط خطاب واحد، وهو نمط المقابلات الشخصية الطبية، لأنهما يظهران أسلوبين متضادين لبناء العلاقات بين الطبيب والمريض وبناء الهوية الاجتماعية للطبيب، «الذات الطبية» في المجتمع المعاصر. وأما العينة الثالثة فمن محادثة غير رسمية، وقد أدرجتها لأؤكد تضادا آخر بين العينتين الأوليين يرجع بنا إلى الفصل الأخير، أي الفوارق بين طرائق التناص.
نامعلوم صفحہ