ويشير لابوف وفانشيل إلى مدخلهما باعتباره تحليلا «شاملا» للخطاب، ولا شك أن طابعه الشامل باهر، وإن كان أيضا يستغرق وقتا بالغ الطول، على نحو ما يقران به. وهما يحددان في الواقع عددا من المشكلات التي تكتنفه، فالمفاتيح شبه اللغوية عسيرة التفسير، وهو ما ذاع فعلا عنها، والتوسع قد يستمر بلا نهاية، حيث لا توجد نقاط توقف واضحة الدافع، ومن شأن التوسع طمس الاختلافات المهمة بين العناصر المقدمة والمؤخرة في الخطاب، لكنني أريد التركيز في مناقشتي على فكرتين مهمتين في مدخلهما ولا بد من زيادة النظر فيهما.
تقول الأولى إن الخطاب قد يكون متغاير الأساليب؛ أي غير متجانس بسبب التناقضات والضغوط الناشئة في الحالة التي يجري الكلام فيها. ففي حالة الخطاب العلاجي مثلا، يقال إن استخدام أسلوب «الحياة اليومية» و«الحياة العائلية» يمثل جانبا من استراتيجية المريض؛ لجعل بعض أجزاء الكلام محصنة أمام الخبرة النفاذة للمعالج. وسبق لي أن ذكرت أن هذا شبيه بمفهوم جوفمان عن الأطر. ومبدأ عدم تجانس الخطاب عنصر رئيسي في مناقشتي للتناص. وسوف أقتصر هنا على الإشارة إلى اختلافين اثنين وحسب بين موقفي وموقف لابوف وفانشيل. الأول: هو طي أسلوب داخل أسلوب، كما هو الحال في النموذج الوارد أعلاه، وهو شكل واحد وحسب من أشكال عدم التجانس، وكثيرا ما يتخذ أشكالا أكثر تركيبا وتعقيدا، حيث يصعب الفصل بين الأساليب، وأقول ثانيا: إن نظرتهما إلى التغاير أو عدم التجانس تقوم على أكثر مما ينبغي من الثبات، فهما يريان أن الخطاب العلاجي يمثل تركيبا ثابتا من الأساليب، ولكنهما لا يحللان التغاير بأسلوب دينامي باعتباره يمثل تحولات تاريخية في المركبات الأسلوبية. فالواقع أن القيمة الأولى لمبدأ التغاير تكمن، فيما يبدو، في البحث في التغير الخطابي داخل إطار التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق (انظر أواخر الفصل الثالث، حيث ترد تفاصيل هذا المنظور).
وأما الفكرة الثانية فتقول: إن الخطاب يبنى على مقولات مضمرة يسلم المشاركون بصحتها دون مناقشة، وتعتبر الأساس اللازم لترابط معناه، وهذا مبدأ مهم آخر لا ينظر لابوف وفانشيل في إمكانياته الكامنة وما يترتب عليه من آثار، وأقول إنهما، بوجه خاص، لا يلتفتان إلى الطابع الأيديولوجي لبعض هذه المقولات، مثل دور الالتزامات المرتبطة بالأم، أو الأيديولوجيا «الفردية» للذات في مقولة «على المرء أن يعتني بنفسه»، أو إلى الوظيفة الأيديولوجية التي يقوم بها العلاج في إعادة إنتاج هذه المقولات دون طعن فيها، وهو ما يذكرنا بالبحوث النقدية في العلاج باعتباره آلية لإعادة تكييف الأشخاص ؛ للقيام بأدوارهم الاجتماعية التقليدية. وأقول بعبارة أخرى إن لابوف وفانشيل يحجمان عن إجراء تحليل نقدي للخطاب العلاجي، بالرغم من تقديمهما موارد تحليلية قيمة لإجراء مثل هذا التحليل. (4) بوتر ووذريل
والنموذج الأخير للمدخل غير النقدي لتحليل الخطاب الذي أناقشه هنا استخدام بوتر ووذريل (1987م) تحليل الخطاب منهجا في علم النفس الاجتماعي، وهذا مهم في السياق الحالي، أولا: لأنه يبين كيف يمكن استخدام تحليل الخطاب في دراسة قضايا ربطتها التقاليد بمناهج أخرى، وثانيا: لأنه يثير السؤال القائل: هل يرتبط تحليل الخطاب في المقام الأول ب «الشكل» أم ب «المضمون» في الخطاب؟ (انظر نقد طومسون (1984م، 106، 8) لسنكلير وكولتارد لأنهما «شكليان» ويتجاهلان مضمون خطاب قاعة الدرس.)
ويستند دفاع بوتر ووذريل عن تحليل الخطاب باعتباره منهجا لعلماء النفس الاجتماعي إلى حجة واحدة يطبقها المرة تلو المرة على العديد من المجالات الرئيسية للبحث في علم النفس الاجتماعي. وتقول الحجة: إن علم النفس الاجتماعي التقليدي قد أساء تصور خصائص أساسية للمادة اللغوية التي يستخدمها بل و«تكتم عليها»؛ وإن الخطاب بناء ومن ثم فهو يشكل الأشياء والفئات؛ وإن ما يقوله المرء لا يظل متسقا في جميع المناسبات بل يتغير وفقا لوظائف الحديث. وتطبق هذه الحجة أولا على البحث في المواقف، إذ إن البحوث التقليدية كانت تفترض أن لدى الناس مواقف متسقة تجاه الأشياء، مثل «المهاجرين الملونين»، ولكن تحليل الخطاب يبين أن الناس يصدرون تقييمات مختلفة، بل ومتناقضة لشيء ما، وفقا للسياق، ليس هذا وحسب، بل يبين أيضا أن مفهوم الشيء نفسه يتغير وفق تقييمه (ولذلك فإن «المهاجرين الملونين» تركيب يرفضه الكثير من الناس). وتطبق الحجة بعد ذلك على دراسة أساليب استخدام الناس للقواعد، وكيف يقدم الناس «روايات» توضيحية (ذرائع، مبررات ... إلخ) لسلوكهم وما إلى هذا بسبيل، مؤكدة في كل حالة تفوق تحليل الخطاب على المناهج الأخرى، مثل المناهج التجريبية.
ويبين بوتر ووذريل أن إيلاءهما الأولوية للمضمون في مدخلهما مضاد لإيلاء الأولوية للشكل في «نظرية تطويع الكلام» النفسية الاجتماعية، وهي نظرية تتعلق بطرائق تعديل الأشخاص لكلامهم حتى يلائم من يكلمونهم ، ومن ثم فهي تثبت تغيير الشكل اللغوي وفقا للسياق والوظيفة، وأما في مدخلهما فهما يركزان على تغير المضمون اللغوي. وفي بعض الحالات يقع التركيز على مضمون مقولات الكلام المنطوق - في مجال البحث في المواقف مثل ما يقوله من أجابوا على الأسئلة من أبناء نيوزيلاندا بصدد وجوب إعادة المهاجرين البولينيسيين (أي أبناء جزر المحيط الهادي الشرقية) إلى بلادهم - وعلى أنواع الحجج التي «تعمل» فيها هذه المقولات، وفي حالات أخرى يقع التركيز على المفردات والاستعارة، كأن يتعلق مثلا بموقع الخبر في الجملة (من أفعال وصفات) والاستعارات المقترنة بالمجتمع المحلي فيما نشرته أجهزة الإعلام عن الاضطرابات التي وقعت داخل المدن الكبرى في بريطانيا عام 1980م.
والواقع أن التمييز بين الشكل والمضمون ليس واضحا بالصورة التي قد يبدو بها، فللمضمون جوانب تدخل بوضوح في قضايا الشكل، فقد تكون الاستعارة مسألة صهر مجالات معان مختلفة، ولكنها أيضا تتعلق بنوع الألفاظ المستخدمة في النص، وهو جانب من جوانب الشكل الخاص بها، والعكس بالعكس؛ فبعض جوانب الشكل تدخل في قضية المضمون، ومزج الأساليب في الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل يعتبر - على أحد المستويات - مزجا للأشكال (فهما يشيران مثلا إلى ملامح النبرات التي تميز الأسلوب «العائلي») ولكن له دلالته من حيث المضمون، وليكن مثلا من حيث بناء صورة المريض باعتباره نوعا خاصا من أنواع «النفس» أو الذات.
ويعتبر الإطار التحليلي عند بوتر ووذريل فقيرا إن قورن بالمداخل الأخرى، فالمضمون عندما يقتصر على جوانب محدودة من المعنى «الفكري» أو التصوري للخطاب، وهو ما يتجاهل أبعاد المعنى الأخرى (الخاصة بالعلاقة بين الأشخاص بصفة عامة) وما يرتبط بها من جوانب الشكل (والشرح الوافي للمعنى الفكري والخاص بالعلاقة بين الأشخاص وارد في بدايات الفصل الثالث). وتبدو أوجه القصور التحليلي في أنصع صورها في معالجة بوتر ووذريل لقضية «النفس»، فعلى عكس المعالجات التقليدية للنفس في علم النفس الاجتماعي، يتبنى هذان موقعا تركيبيا يؤكد التغير في بناء النفس في الخطاب، ومع ذلك فإنهما يعجزان عن تطبيق هذه النظرية في تحليل الخطاب، وذلك (كما أقول في الفصل الخامس) لأننا نرى ملامح نفوس مختلفة موحى بها من خلال الصور المجتمعة لمعالم لغوية (وجسدية) وسلوكية شتى، ونحتاج في وصفها إلى جهاز تحليلي أشد ثراء مما يقدمه إلينا بوتر ووذريل.
ويتسم مدخل بوتر ووذريل، مثل المداخل الأخرى المشار إليها، بأنه غير ناضج بالدرجة الكافية في توجهه الاجتماعي للخطاب، فهما يركزان في تحليلهما للخطاب تركيزا فرديا منحازا على الاستراتيجيات البلاغية للمتكلمين، وتعتبر مناقشتهما للنفس استثناء واضحا من ذلك، لأن النظرية التركيبية للنفس تؤكد الأيديولوجيا والتشكيل الاجتماعي للنفس في الخطاب، ولكن هذه النظرية لا تتفق مع التوجه العام للكتاب، كما أنها غير مطبقة في تحليل الخطاب. كما نجد أخيرا اتجاها نحو وصف النشاط الاستراتيجي أو البلاغي للنفس باستخدام الفئات والقواعد وما إليها بسبيل، باعتبارها بديلا عن إخضاع النفس، لا رؤية هذا وذاك معا في تركيب جدلي (انظر الفصل الثالث حيث يرد هذا الرأي مفصلا). (5) علم اللغة النقدي
علم اللغة النقدي مدخل وضعه فريق من الباحثين في جامعة إيست أنجليا في السبعينيات (فاولر وآخرون، 1979م؛ كريس وهودج، 1979م)، إذ حاولوا الجمع بين منهج للتحليل اللغوي للنص وبين نظرية اجتماعية عن وظيفة اللغة في العمليات السياسية والأيديولوجية، استنادا إلى نظرية اللغة الوظيفية المرتبطة باسم مايكل هاليداي (1978م، 1985م) والمعروفة باسم علم اللغة المنهجي (أو اللغويات المنهجية).
نامعلوم صفحہ