لم تكن تعرف شيئا سوى أنها تنتظر دورها، ولم تكن تعرف أيضا ما هو دورها، لكنها كانت تنتظر، لم تكن في حياتها شيئا آخر فأصبح الانتظار حياتها، ترتدي الرداء الأسود القديم وتجلس في الركن وتنتظر، لم تعد تظن أن أباها سيظهر وأن اسمها سيرن، فأبوها لم يظهر واسمها لم يرن وربما لن يرن، بل إنها أصبحت تعتقد أنه لن يرن أبدا، ومع ذلك كانت تنتظر كهذا الذي ينتظر الموت وفي نفس الوقت لا يحس أنه سيموت يوما.
وجاء اليوم الذي رن فيه اسمها، كانت تجلس في ركنها المعتاد وآلام شديدة تنبعث من إليتيها وجفناها ثقيلان يسقطان من تلقاء نفسيهما لكنها سرعان ما تشد عضلات وجهها وتفتحهما، ورن اسمها في الجو فانتفضت واقفة وقلبها يخفق بما يشبه الفرحة، لم تكن فرحة عادية كتلك التي يحسها الناس وإنما هو إحساس طاغ بالخلاص، كانت تريد أن تتخلص من الانتظار، وأصبح جسمها خفيفا لا تكاد قدماها تلمسان الأرض، وكادت تسبق أباها خارج الباب، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن ينتظرها وراء الخيمة لكنها كانت تريد أن تنطلق إليه وإن كان هو الموت.
ولم يكن الموت هو الذي ينتظرها، وإنما شيء آخر ربما أشد من الموت، فالموت هو الموت؛ الكل يعرفه والكل مدركه بغير استثناء، ولكن أن تستثنى هي من جميع البشر لتعيش حياتها مع هذا «الكائن»؟ ولم يكن في إمكانها أن تقول عنه سوى «كائن»؛ فهو ليس إنسانا وليس شابا وليس عجوزا وليس رجلا وليس امرأة، لم تكن تعرف تماما ما هو، ولولا قدرته على النطق وكونه حين يمشي يسير على قدمين اثنتين لحسبته من غير البشر. •••
وفي الليل كان يزحف إلى جوارها وهي نائمة ويبدأ يخلع ملابسه فتغمض عينيها، كان الظلام كثيفا ولن ترى من خلاله شيئا لكنها كانت تشد جفنيها وتغلقهما بإحكام، ويمزق سكون الليل صوت أنفاسه، لم تكن أنفاسا بمعنى الأنفاس ولكنها حشرجة غليظة يعقبها سعال حاد طويل كالصفارة يمتد في الأنفاس، كأنما الهواء كان يدخل إلى صدره كتلة واحدة ثم يخرج ببطء شديد ومن خلال ثقب ضيق جدا يكاد يكون مسدودا، وتمتد يده الغليظة الطرية كخف الجمل تتحسس جسمها، لم تكن تعرف تماما أهي يده أم قدمه، لكنها كانت دائما طرية مرتخية ومبللة بالعرق.
وفي النهار كان يظل راقدا فوق ظهره في الخيمة، وحينما يفكر في أن ينهض يخرج من تحت الغطاء ساقين ضامرتين معوجتين ترتعشان، وينادي عليها بصوت حاد ممطوط كأنه عواء، فتمسك قدمه لتلبسها الحذاء، لكن قدمه ترتخي وترتعش وتنثني في عجز، ويزمجر بصوت غليظ ويسب أباها وأمها، وتحاول مرة أخرى لكن قدمه تظل ترتعش وتنثني ولا تدخل في الحذاء، فإذا ما استطاعت أن تمسكها بيديها الاثنتين وتدسها في الحذاء عادت فانزلقت خارجه وهي تهتز، وهنا ينفد صبره بقدمه ليبعدها عنه، لكنه سرعان ما يناديها مرة أخرى لتعيد المحاولة.
وحينما يرتدي الحذاء يقف على قدميه الاثنتين ويمشي، لم تكن تظن أنه قادر على المشي لكنه كان يمشي، لم تكن مشيته سريعة بالطبع وكانت أقرب إلى الزحف منها إلى المشي، لكنه كان ينتقل من ركن إلى ركن بل إنه أحيانا ما كان يخرج من الخيمة ثم يعود بعد فترة طويلة أو قصيرة وهو يلهث ويسعل ويسب. •••
وكان من الممكن أن تعيش «عين» هذه الحياة إلى الأبد، لم تكن تعرف حياة غيرها، وكانت تأكل وتشرب وتنام وتستطيع بعد عدة رفسات ولعنات أن تدخل القدم المرتعشة في الحذاء، لم تكن الرفسات تؤلمها فهي رفسات قدم مرتخية عاجزة، ولم يكن السباب ينصب عليها وإنما على أبيها وأمها، ربما كان ينتابها أحيانا إحساس غريب لا تعرف تماما ما هو، فهو إحساس غامض تدركه بجسمها فحسب، كأنما هي عجزت فجأة عن التنفس، ومن حول عنقها يدان قويتان تضغطان، وقد تنهض بسرعة من مكانها وتفتح فمها عن آخره ليدخل الهواء أو تصرخ صرخة خافتة خوفا من الاختناق، لكنها لم تكن تختنق، وحينما كانت أنفاسها تعود إلى دقاتها المتتابعة المنتظمة تحس شيئا يشبه السرور؛ كانت تسر لأنها لم تختنق.
وكان من الممكن أن تظل «عين» على هذا النحو لولا تلك المرأة، لم تكن تعرف من هي لكنها كانت تعيش في البيت المجاور، ليس مجاورا بمعنى الجوار فهو بعيد وربما تفصله عنها خيام كثيرة وبيوت وبحيرة أو قناة، ربما كان في منطقة أخرى لكنه لم يكن بعيدا إلى حد الاختفاء، كانت تستطيع أن ترى سطحه العالي يطل من فوق الأسطح الأخرى.
وفي كل صباح تظهر المرأة فوق السطح ، كان شعرها الأصفر يلمع في الشمس وعيناها الواسعتان بلون الزرع تنتقلان هنا وهناك كجرادتين خضراوين، ثم تستقران في النهاية في عيني «عين»، لو كان الأمر يقتصر على ذلك ربما من الممكن ألا يحدث شيء، لكن المرأة كانت تبتسم، ولم تعرف «عين» أول الأمر أن هذه الابتسامة لها هي بالذات، لم يحدث في حياتها قط أن ابتسم أحد لها أو أن ابتسامة وجهت لها هي بالذات، حينما كانت ترى ابتسامة على وجه أمها وتظن أنها لها سرعان ما تكتشف أنها ليست لها وإنما لواحدة من الجارات أو الزائرات.
لكن هذه الابتسامة كانت لها دون غيرها، فهي تقف على باب الخيمة ولا أحد عن يمينها أو يسارها أو أمامها أو خلفها، كانت تعرف أنها وحدها تماما في الخيمة، ومع ذلك كانت تلتفت خلفها لتؤكد لنفسها أن أحدا لا يقف وراءها، وأن هذه الابتسامة ليست له وإنما لها هي بالذات.
نامعلوم صفحہ