كنت أظن أنني سألتقط العصا وأنهض واقفة ككل مرة، لكني لم أستطع أن أتكئ على القدم الأخرى وعجزت عن النهوض، ظللت جالسة أتابع الطريق من تحت الضباب الكثيف، وكأنما انقشع الضباب لحظة فلمحت ظهرا كظهره، أذناه عرفتهما بلونهما الأحمر والحسنة السوداء لمحتها فوق رقبته من الخلف، وانتفضت واقفة على قدمي الاثنتين لكني سرعان ما سقطت على الأرض وسمعت صوت عظام رأسي ترتطم بالرصيف.
اتخذ جسدي وضعا أفقيا وأصبح ظهري فوق الأسفلت تسري فيه رطوبته، ووجهي ناحية السماء تسقط زرقتها فوق جفني كشعاع دافئ.
واستطعت أن أرفع جفني من فوق عيني لحظة، لم تكن الزرقة هي زرقة السماء، كانت أمامي عيناه الواسعتان يشف سوادهما من تحته الزرقة المترقرقة كسطح البحيرة، وفتحت فمي لأقهقه بالضحك لكن شفتي لم تنفتحا، ومددت ذراعي لأحوطه وأقبض عليه لكن ذراعي لم تتحرك، ومن خلال الضباب الكثيف رأيته يقترب مني ويقترب حتى أحسست أنفاسه الساخنة فوق جفني وأصابعه الناعمة الطويلة تنزلق من فوق وجهي لتتحسس عنقي وتدور حوله في نعومة الحرير، كان الضباب أمام عيني يشتد ويشتد وأصابعه تلتف وتلتف كخيط يشد.
كانت الزرقة تختفي ببطء شديد، وفجأة أصبح كل شيء من حولي أبيض، أبيض تماما بلون الورق غير المكتوب، وانطلق في الجو صوت حاد رفيع كتغريد عصفور.
عين الحياة
قصة من الأردن
كانت عربة الإسعاف قد حملت الجريح من جوار النهر، وانطلقت بنا في الأغوار تشق طريقها نحو السلط، حينما رأينا شبحا غريبا يجري خلفنا وكأنما انشقت عنه الأرض.
واتضح لنا بعد لحظات أنه امرأة تجري وراء العربة، وطلبت من السائق أن يتوقف، فاندفعت المرأة نحو العربة دون أن تحدثنا أو تلتفت إلينا، ونظرت متفرسة في وجه الجريح ثم بأصابعها النحيلة الطويلة راحت تقلب في يديه وقدميه، وأمسكها الفدائي برفق وأبعدها عن الجريح، وكنت على وشك أن أسألها عن أي شيء تبحث حين قال لي السائق بصوت حزين: «إنها لا تسمع أحدا ولا ترد على أحد. بالنهار كثيرا ما نراها تتجول بين الخيام تتلفت حولها، وفي الليل نرى جسمها مرتخيا ممدودا بحذاء النهر، وحينما تلمح جريحا أو غريقا تهب واقفة تجري إليه، تفتش في ملامحه وفي يديه وفي قدميه كأنما تبحث عن شخص تعرفه.»
وقد رأيت هذه المرأة كثيرا خلال الفترة التي عشتها في السلط، كانت تندفع أحيانا وراء عربة الإسعاف، وفي أحيان أخرى كنت أراها راكعة بين الصخور في الأغوار تنبش بيديها الأرض أو جالسة شاخصة بعينيها إلى النهر.
ولم أكن قد رأيت عينيها بعد، لكني التقيت بها مرة وهي تتجول بين الخيام وجها لوجه، ورفعت إلي عينين واسعتين غائرتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع، وتحت حاجبها الأيسر ندبة. •••
نامعلوم صفحہ