خواطر الخيال وإملاء الوجدان
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
اصناف
وافتني «ماريون دولورم» باسمة الثغر، بادية البشر، وجلست إلى جانبي تلاطفني قائلة: «أما يهدأ بالك وترفأ عبرتك مما رأيته من نعيم مقيم، وفرح عميم، فأولى لك بعد ما شاهدته أن لا تتأثر مما تقرؤه من سطور شقائنا وصور بؤسنا وآلامنا، فقد أنستنا هذه السعادة الدائمة جميع ماضينا التعس المنكود.»
وبينا أنا منتعش بهذا الحلم اللذيذ، إذ دوى في أذني صوت مزعج كأنه استغاثة مكروب أو صراخ ملهوف: «خبازي يا ورق العنب.» فانتبهت من سباتي وأسفت لمبارحة هذا النعيم المقيم، والملك الفخم العظيم. (8) جمال الأزهار
تباركت مبدع الكائنات، وبارئ المخلوقات، ومجمل الغبراء بالجنات الغناء، والغابات الغلباء، ومرصع النبات بشائق الأزهار، وفاتن النوار، لقد تجلت قدرتك، وظهرت عظمتك في الزهرة مثال الجمال، ونموذج الحسن والجلال، وآية البهاء واللطف، ومنبع الرشاقة والظرف، كيف لا وقد سقاها الندى بطله المنعش، وحملت إليها الصبا عبيرها الأريج، وأرسلت إليها الشمس من أشعتها العسجدية ألوانا شتى تسر الناظرين.
إنها لنعيم الدنيا والآخرة عند أولي الألباب وفتنة الشعراء؛ إذ هي مبددة أحزانهم، ومسرية أشجانهم، وطاردة وحشتهم، ومفرجة كروبهم، ومفرحة قلوبهم، وأعظم ذكرى لجليل صنع الخالق.
لحا الله فظا غليظ القلب عبث بهذا الجمال، ولم يشفق على تلك الرقة وذاك اللطف، فقطع أعناق الزهر وشد عليه بيد جافية قاسية، ودس أنفه فيه ليشمه فهشمه وأحرقه بأنفاسه المتأججة بنار الشره، ثم يطرحه في مواطئ النعال حينما يسلم روحه إلى الصبا، وجماله إلى الشمس، ونضارته إلى الندى.
مجد الأقدمون الزهر حتى قال اليونان: إن بعضا من العظماء في الميتولوجيا استحال إلى أزهار، إذ رووا أن النرجس كان شابا رشيقا غض الشباب، وهب جمالا ساحرا، وحسنا نادرا، يدعى «نارسيس» فافتتنت به الأرباب الأقدمون والحور، وفي ذات يوم امتد فوق العشب ليشرب من ماء عين رائقة ساكنة، فأبصر نفسه على صفحات الماء، فحاول أن يتملك شخصه الآخر المرتسم على الماء فلم يستطع، فطفق يتخبط من الغيظ حتى مات واستحال إلى نرجسة.
كما أنهم أطلقوا اسم كثير من حسان الحور على بعض النباتات الجميلة مثل: «أماريلليس» و«نيرين»، وكانتا من حاشية «ديان» ربة الصيد، واشتهرتا بحسنهما الفتان. •••
رحت ذات يوم إلى داري بعد انقضاء أعمالي، وكان يوما عصيبا التهب فيه الجو فأصبح كتنور أكلبه السجر وأسعده الوقود، وفرت الصبا من بطش الهاجرة، وأرسلت الغزالة سهاما محترقة صائبة، فرأيت أزهار حديقتي وقد مالت أعناقها، وانقبضت وريقات تويجها، وكاد يكمد زهاء ألوانها، تستغيث وهي صامتة بعبرات استعارتها من قطر الندى، واختلطت برحيقها المعسول، ثم علقت بأهداب الأزهار كأنها أقراط من ماس متدلية من أذن تزري بالورود، فهرولت إليها واقتطفتها بسوق طويلة ووضعتها في آنية بلورية ملئت زلالا باردا، نسيت غذائي وجلست متلهفا بجانبها إلى أن انتعشت وعادت إليها نضارتها وزهاؤها وتصوبت أعناقها، فناجيتها بهذا النجاء:
لبيك أيتها المخلوقات الرقيقة، سعديك أيتها الأجسام الرشيقة، لقد رجعت إليك من أقصى المدينة مسرعا لأنقذك من شر القيظ، إنني أغار على جمالك الفتان فلا ألمسك، ولا أقرب أنفاسي المحرقة من جسمك اللطيف ، بل أقنع بإطالة النظر إليك والإعجاب بمحاسنك الخلابة، وأرضى بما ترسلينه إلي من شذاك مع نفحات الصبا لأمد في حياتك، ويطول نعيمي وهناءتي، وعسى أن يقتدي بي قومي ويرأفوا بهذا البهاء واللطف؛ فإن الزهر لحري بالعناية والحنان، والرحمة والرضوان. (9) الأمل
ألفت النفس منذ طفولتها أن تخلد إلى الدعة والسكون، وتنفر من جلبة الجماعات، وتستبشع هرج الناس ومرجهم في مواسمهم وأعيادهم، وما فتئت تصبو إلى العزلة مؤثرة أن تسامر كتابا قيما أو تناجي زهرة جميلة حتى أصبحت تعد الدار جنتها الفيحاء ونعيمها المقيم.
نامعلوم صفحہ