بسم الله الرحمن الرحيم
[شرح الحديث الأخير من الترمذي]
حدثنا محمد بن بشار، نا أبو عامر العقدي، ثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس ينو آدم، وآدم خلق من تراب». وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس هذا حديث حسن.
صفحہ 47
-حدثنا هارون بن موسى بن أبي علقمة الفروي المديني، حدثني أبي عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أذهب الله عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب» هذا حديث حسن، وسعيد المقبري قد سمع من أبي هريرة، ويروي عن أبيه أشياء كثيرة عن أبي هريرة، وقد روى سفيان الثوري وغير واحد هذا الحديث عن هشام بن سعد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أبي عامر عن هشام بن سعد".
هذا الحديث أخرجه أبو داود في الأدب من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبيه فقال: حدثنا موسى بن مروان الرقي، ثنا المعافى ح، وحدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، أنا ابن وهب -وهذا حديثه- عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد، والطريق الأولى انفرد بها الترمذي.
والجعل: حيوان معروف كالخنفساء، والجمع: جعلان، كصرد وصردان.
صفحہ 48
ودهدهته: دحرجته، وفي الحديث أيضا: [كما] يدهده الجعل خير من الذين ماتوا في الجاهلية، والمراد: الذي يدحرجه من النجس.
عبية الجاهلية: بضم العين المهملة وكسر الموحدة المشددة وفتح المثناة التحتية المشددة: الكبر والنخوة. قال في النهاية: "وتضم عينها وتكسر، وهي فعولة أو فعيلة فإن كانت فعولة فهي من التعبية، لأن المتكبر ذو تكلف وتعبية خلاف من يسترسل على سجيته، وإن كانت فعيلة فهي من عباب الماء وهو أوله وارتفاعه، وقيل: إن اللام قلبت ياء كما فعلوا في تقضي البازي".
وقوله: إنما هو، أي: الأمر والشأن مؤمن تقي، وفاجر شقي. قال الخطابي: "معناه أن الناس رجلان: مؤمن تقي فهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه، وفاجر شقي فهو الدنيء وإن كان في أهله شريفا رفيعا". انتهى.
والحديث وإن كان واردا في الآباء الكفار لكن النهي لا يتقيد بذلك، والأحاديث والآثار متظافرة على النهي عن التفاخر بالأنساب مطلقا؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب، ثم ذكر الحديث في تحريم الأموال والدماء والأعراض. رواه البيهقي، وقال: في إسناده بعض من يجهل.
صفحہ 49
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟».
رواه الطبراني في الأوسط والصغير، والبيهقي مرفوعا وموقوفا.
وفي حديث أبي هريرة الطويل: «ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى»، رواه أحمد.
صفحہ 50
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أنسابكم هذه ليست بسباب على أحدكم، وإنما أنتم ولد آدم طف الصاع لن تملؤوه، ليس لأحد فضل على أحد إلا بالدين أو عمل صالح، بحسب الرجل أن يكون بذيا بخيلا».
وفي رواية له: «ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو تقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا».
وقوله: طف الصاع، أي: قريب بعضكم من بعض، يقال: هذا طف المكيال وطفافه وطفافه، أي: ما قرب من ملئه، والمعنى، كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام. وشبههم في نقصانهم بالمكيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال، ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب، ولكن بالتقوى.
ولابن لال والعسكري: الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعاقبة، أي: كلهم متساوون في الصور، وإنما يتفاوتون في الأعمال، فلا تصحبن أحدا لا يرى لك من الفضل ما ترى له.
صفحہ 51
ولأبي يعلى وغيره: «كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه».
وقال عمر رضي الله عنه: "المفتخر بآبائه بقوله: أنا ابن بطحاء مكة كديها وكدائها إن يكن لك دين فلك كرم، وإن يكن عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مال فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء".
وروى الطبراني: «إن أهل بيتي يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك، إن أولى الناس بي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا».
وروى الشيخان البخاري ومسلم: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين».
قال الإمام النووي: معنى الحديث: إن وليي من كان صالحا وإن بعد نسبه مني.
صفحہ 52
قال الشيخ ابن حجر الهيثمي: وهذا يؤيد ما ورد "آل محمد كل تقي"، ومن ثم لما قال هاشمي لأبي العيناء: تغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، قال له: إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم.
ورئي أنصاري في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: بالنسبة التي بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: أنت شريف؟ قال: لا، قيل: فمن أين النسبة؟ قيل: كنسبة الكلب إلى الراعي. قال راوي ذلك: فأولته بانتسابه إلى الأنصار . وقال غيره: أولته بانتسابه إلى العلم خصوصا علم الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم: «أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة»، إذ هم أكثر الناس عليه صلاة صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} إلى قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من الذاكر فلانة؟» فقال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال: «انظر في وجوه القوم» فنظر، فقال: «ما رأيت يا ثابت؟» قال: رأيت أبيض وأحمر، قال: «فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى»، فنزلت في ثابت هذه الآية.
صفحہ 53
وقال مقاتل: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا؛ فدعاهم وسألهم عما قالوا: فأقروا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. فقال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}، يعني: آدم وحواء، أي: أنكم متساوون في النسب {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}: ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا ليتفاخروا، ثم أخبر أن أرفعهم منزلة عند الله أتقاهم، فقال: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
قال قتادة في هذه الآية: أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور.
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسب المال والكرم التقوى».
صفحہ 54
قال ابن عباس: "كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى".
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه، فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله»، ثم تلا: «{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}» الآية، ثم قال: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
صفحہ 55
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الاستعانة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحمد لله الذي خص أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصحيح الإسناد، وأسكن أهل الحديث الفردوس الأعلى فبلغوا المراد، ونور قلوب العلماء بمصابيح أبواب جوامع الإيمان، وزين مقالتهم بالأحاديث الصحاح والحسان.
أحمده على اتباع الكتاب والسنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لقائلها طريقا إلى الجنة، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله ونبيه وحبيبه وخليله، صاحب الشفاعة والولاية والمنقول شرعه بصحيح السند والرواية، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الكرام، وأصحابه الأئمة الأعلام، ما نطق ناطق بحرف ورمق رامق بطرف.
وبعد:
فإن جامع الإمام الحجة المتقن الورع الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي من أجل المصنفات في السنن، وأجمع ما حوته الكتب من الصحيح والحسن، وقد اعتنى الناس به قديما وحديثا، وأكبوا على دراسته والأخذ منه قراءة وتحديثا.
صفحہ 56
قال القاضي أبو بكر بن العربي في أول شرح الترمذي: "اعلموا -أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي -أي البخاري- هو الأصل الثاني في هذا الباب والموطأ هو الأول هو واللباب وعليهما بنى الجميع كالقشيري والترمذي فما دونهما ما طفقوا يصنفونه.
وليس في قدر كتاب أبي عيسى مثله حلاوة مقطع، ونفاسه مترع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علما فوائد: صنف، وهو أقرب إلى العمل وأسند، وصحح وأسقم، وعدد الطرق، وجرح وعدل، وأسمى وأكنى، ووصل وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، وفرد في نصابه، فالقاري له لا يزال في رياض مونقة، وعلوم متفقة متسقة".
صفحہ 57
قال: ووجدت بخط الشيخ أبي الصبر أيوب بن عبد الله أبياتا في مدح مصنف الترمذي غير منسوبة، وهي:
كتاب الترمذي رياض علم ... حكت أزهاره زهر النجوم
به الآثار واضحة أبينت ... بألقاب أقيمت كالرسوم
فأعلاها الصحاح وقد أنارت ... نجوما للخصوص وللعموم
ومن حسن يليها، ومن غريب ... وقد بان الصحيح من السقيم
فعلله أبو عيسى مبينا ... معالمه لطلاب العلوم
(وطرزه بآثار صحاح ... تخيرها أولو النظر السليم)
من العلماء، والفقهاء قدما ... وأهل الفضل والنهج القويم
فجاء كتابه علما يقينا ... ينافس فيه أرباب الحلوم
ويقتبسون منه نفيس علم ... يفيد نفوسهم أسنى الرسوم
كتبناه رويناه لنروى ... من التسنيم في دار النعيم
وغاص الفكر في بحر المعاني ... فأدرك كل معنى مستقيم
فأخرج جوهرا يلتاح نورا ... فقلد عقده أهل الفهوم
ليصعد بالمعاني للمعالي ... بسعد بعد توديع الجسوم
محل العلم لا يأوي ترابا ... ولا يبلى على الزمن القديم
فمن قرأ العلوم ومن رواها ... لتنقله إلى المغنى المقيم
صفحہ 58
فإن الروح تألف كل روح ... وريحا منه عاطرة النسيم تحلي من عقائده عقودا ... منظمة بياقوت وتوم
وتدرك نفسه أسنى ضياء ... من العلم النفيس لذي العلوم
ويحيي جسمه أعلى لذاذ ... محاباة على الخير الجسيم
جزى الرحمن خيرا بعد خير ... أبا عيسى على الفعل الكريم
وألحقه بصالح من حواه ... مصنفه من الجيل العظيم
وكان سميه فيه شفيعا ... محمد المسمى بالرحيم
صلاة الله تورثه علاء ... فإن لذكره أذكى نسيم
وعن أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي، قال: قال أبو عيسى: صنفت هذا الكتاب يعني الجامع فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب -يعني الجامع - فكأنما في بيته نبي يتكلم".
صفحہ 59
قال الحافظ السيوطي: وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد: الذي عندي أن الأقرب إلى التحقيق، والأجرى على واضح الطريق، أن يقال: إن كتاب الترمذي تضمن الحديث مصنفا على الأبواب، وهو علم برأسه، والفقه علم ثان، وعلل الأحاديث علم ثالث، والأسماء والكنى علم رابع، والتعديل والتجريح خامس، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه سادس، وتعديد من روى ذلك الحديث سابع، هذه علومه الجملية، وأما التفصيلية فمتعددة بالجملة، فمنفعته كبيرة، وفوائده جمة كثيرة". انتهى.
وقال الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: "ومما لم يذكره ما تضمنه من الشذوذ وهو نوع ثامن، ومن الموقوف وهو تاسع، ومن المدرج وهو عاشر، وهذه الأنواع مما تكثر فوائده التي تستجاد منه، وتستفاد عنه، وأما ما يقل فيه وجوده من الوفيات والتنبيه على معرفة الطبقات، أو ما يجري مجرى ذلك فداخل فيما أشار إليه من فوائده التفصيلية". انتهى.
وقال الحافظ قطب الدين القسطلاني:
أحاديث الرسول جلاء الهموم ... وبرء المؤمن من ألم الكلوم
فلا تبغي بها أبدا بديلا ... وعرف بالصحيح من السقيم
وإن الترمذي لمن تصدى ... لعلم الشرع مغن عن علوم
صفحہ 60
غدا خضرا نضيرا في المعاني ... فأصبح روضه عطر الشميم فمن جرح وتعديل حواه ... ومن علل، ومن فقه قويم
ومن أثر، ومن أسماء قوم ... ومن ذكر الكنى لصدر فهيم
ومن نسخ، ومشتبه الأسامي ... ومن فرق، ومن جمع بهيم
ومن قول الصحاب وتابعيهم ... بحل أو بتحريم عميم
ومن نقل إلى الفقهاء يعزى ... ومن معنى بديع مستقيم
ومن طبقات أعصار تقضت ... ومن حل لمنعقد عقيم
وقسم ما روى حسنا صحيحا ... غريبا فارتضاه ذوو الفهوم
ففاق مصنفات الناس قدما ... وراق فكان كالعقد النظيم
وجاء كأنه بدر تلالا ... ينير غياهب الجهل العظيم
فنافس في اقتباس من نفيس ... بأنفاس، ودع قول الخصيم
فإن الحق أبلج ليس يخفى ... طلاوته على الذهن السليم
وفضل العلم يظهر حين ينأى ... عن الأرواح مألوف الجسوم
فمأوى العلم مرقى الثريا ... ويبقى في الثرى أثر الرسوم
وليس العلم ينفع من حواه ... بلا عمل يعين على القدوم
كتاب الترمذي غدا كتابا ... يعطر نشره مر النسيم
وإسنادي له في العصر يعلو ... أساوي فيه ذا سن قديم
فربي الله أحمد كل حين ... على إيلاء إفضال عميم
وصل مد الزمان على رسول ... يفوح لذكره أرج النسيم
صفحہ 61
قال ابن الصلاح في "علوم الحديث": "كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي تفرد باسمه، وأكثر من ذكره في جامعه ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه، والطبقة التي قبله، كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما، وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله: هذا حديث حسن، وهذا حديث حسن صحيح، ونحو ذلك، فينبغي لك أن تصحح أصلك بجماعة أصول وتعتمد على ما اتفقت عليه".
وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح: "قد أكثر علي بن
المديني من وصف الأحاديث بالصحة وبالحسن في مسنده، وفي علله، فكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح، وعنه أخذ البخاري، ويعقوب بن أبي شيبة وغير واحد، وعن البخاري أخذ الترمذي؛ فاستمداد الترمذي لذلك إنما هو من البخاري، ولكن الترمذي أكثر منه، وأشاد بذكره، وأظهر الاصطلاح فيه؛ فصار أشهر به من غيره".
[شرط الترمذي وموازنته بشرط غيره]:
واعلم أن الحافظ أبا الفضل بن طاهر قال في كتاب "شروط الأئمة": "لم ينقل عن واحد من الأئمة الخمسة أنه قال: شرطت في كتابي هذا أن أخرج على كذا، لكن لما سبرت كتبهم علم بذلك شرط كل واحد منهم؛ فشرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، وأما أبو داود والنسائي فإن كتابيهما ينقسم على ثلاثة أقسام:
الأول: الصحيح المخرج في الصحيح.
صفحہ 62
والقسم الثاني: صحيح على شرطيهما، وقد حكى أبو عبد الله بن منده: أن شرطهما إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركها، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال فيكون هذا القسم من الصحيح إلا أنه طريق لا يكون طريق ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما بل طريق ما تركاه من الصحيح؛ لما بينا أنهما تركا كثيرا من الصحيح الذي حفظاه.
والقسم الثالث: أحاديث أخرجاها من غير قطع عنهما بصحتها، وقد أبانا علتها بما يفهمه أهل المعرفة، وإنما أودعا هذا القسم في كتابيهما لرواية قوم لها واحتجاجهم بها، فأورداها وبينا سقمها لتزول الشبهة وذلك إذا لم يجدا له -أي لما في الباب مثله- طريقا غيره لأنه أقوى عندهما من رأي الرجال.
وأما أبو عيسى الترمذي فكتابه على أربعة أقسام: قسم صحيح مقطوع به، وهو ما وافق البخاري ومسلما، وقسم على شرط أبي داود والنسائي كما بينا في القسم الثاني لهما، وقسم آخر كالقسم الثالث لهما أخرجه وأبان عن علته، وقسم رابع أبان هو عنه، وقال: ما أخرجت في كتابي إلا حديثا قد عمل به بعض الفقهاء، فعلى هذا الأصل كل حديث احتج به محتج أو عمل بموجبه عامل أخرجه سواء صح طريقه أم لم يصح، وقد أزاح عن نفسه فإنه تكلم على كل حديث بما فيه، وكان من طريقه أن يترجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه.
وأخرج حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا يكون الطريق إليه كالطريق إلى الأول: إلا أن الحكم صحيح ثم يتبعه بأن يقول: وفي الباب عن فلان وفلان ويعد جماعة منهم الصحابي الذي أخرج ذلك الحكم من حديثه، وقل ما يسلك هذا الطريق إلا في أبواب معدودة". انتهى.
صفحہ 63
وقال الحازمي في شروط الأئمة: "مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه، وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات.
قال: وهذا باب فيه غموض وطريق إيضاحه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم، فلنوضح ذلك بمثال وهو أن يعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها؛ فالأولى في غاية الصحة نحو مالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن عمرو، ويونس، وعقيل ونحوهم وهي جل مقصد البخاري، والثانية شاركت الأولى في التثبت غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري حتى كان فيهم من يلازمه في السفر والحضر، والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه فكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهذا شرط مسلم نحو: الأوزاعي، والليث بن سعد، والنعمان بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وابن أبي ذئب، والثالثة: جماعة لزموا الزهري كالطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح فهم بين الرد والقبول وهم شرط أبي داود والنسائي نحو سفيان بن حسين، وجعفر بن برقان، وإسحاق بن يحيى الكلبي، والرابعة: قوم شاركوا أهل الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري؛ لأنهم لم يصاحبوا الزهري كثيرا وهم شرط الترمذي.
قال: وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفا أو من أهل الطبقة الرابعة فإنه يبين ضعفه وينبه عليه فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات، ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة، ومن هذه الطبقة: زمعة بن صالح، ومعاوية بن يحيى الصدفي، والمثنى بن الصباح.
صفحہ 64
والخامسة: قوم من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج لهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه، فأما عند الشيخين فلا، كبحر بن كنيز السقا، والحكم بن عبد الله الأيلي، وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب، وقد يخرج البخاري أحيانا عن أعيان الطبقة الثانية كالأوزاعي، والليث، وابن أبي ذئب، ومسلم عن أعلام الثالثة كجعفر بن برقان، وسفيان بن حسين؛ قال في "التقريب": "سفيان بن حسين ثقة في غير الزهري باتفاقهم، وأبو داود عن مشاهير الرابعة وذلك لأسباب تقتضيه".
وقال الذهبي في "الميزان": "انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديث المصلوب والكلبي وأمثالهما.
وقال أبو جعفر بن الزبير: "أولى ما أرشد إليه ما اتفق المسلمون على اعتماده وذلك الكتب الخمسة والموطأ الذي تقدمها وضعا، ولم يتأخر عنها رتبة، وقد اختلفت مقاصدهم فيها، وللصحيحين فيها شفوف، فللبخاري لمن أراد التفقه مقاصد جليلة، ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره ، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك وأجلها". انتهى.
صفحہ 65
[جمع الترمذي بين وصفي الحسن والصحة للحديث الواحد]:
وقد استشكل قول الترمذي في جامعه كأئمة حفاظ سبقوه لذلك: هذا حديث حسن صحيح، حيث جمع بين هذين الوصفين المتنافيين، فإن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين الوصفين إثبات لذلك القصور ونفيه.
وقد أجيب عنه بنحو ستة أجوبة: أحسنها ما أجاب به شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرح النخبة، وهو أن المجتهد تارة يقول ذلك؛ للتردد الحاصل عنده في الناقل هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها إذا حصل التفرد بتلك الرواية؟
ومحصله: أن تردد الأئمة في حال ناقله اقتضى لذلك المجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين فقط فيقول فيه حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند آخرين، وغاية ما فيه أنه حذف ما فيه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح، وهذا كما حذف حرف العطف من الذي بعده.
وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح، دون ما قيل فيه: صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد، وتارة يقول ذلك إذا لم يحصل التفرد، فإطلاق الوصفين حينئذ يكون باعتبار إسنادين: أحدهما صحيح والآخر حسن، وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح، فوق ما قيل فيه: صحيح فقط إذا كان فردا؛ لأن كثرة الطرق تقوي.
قال شيخ الإسلام: فإن قيل قد صرح الترمذي بأن شرط الحسن أن يروى من غير وجه، فكيف يقول في بعض الأحاديث: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟
صفحہ 66