Khasa'is al-Tarakib Dirasah Tahliliyya li-Masa'il 'Ilm al-Ma'ani
خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
ناشر
مكتبة وهبة
ایڈیشن نمبر
السابعة
اصناف
مقدمة
...
وليست رسالتهم أن يغرسوا أفكار أخرى من علوم أخرى في هذا العلم أو ذاك، لأن ثمة مشابهة بين ما كتبه الآخرون، وما كتبه علماؤنا، وكأن رسالتنا نحن الأساتذة ليست هي صناعة المعرفة من داخل علومنا كما صنع علماؤنا الذين سبقونا؛ وإنما صارت رسالتنا هي قراءة مختصرات من كلام الآخرين، ومختصرات من كلام علمائنا، والبحث عن الأشباه، والنظائر ثم نرى هذه الأشباه النظائر مسوغا يسوغ لنا غرس ورزرع كلام الآخرين في علومنا، وبذلك تفتقد العلوم طابعها، وجوهرها، بهذا الغرس الغريب، ويصبح الذي في أيدينا علما آخر، لا هو عربي ولا هو أعجمي، وإنما خليط من هنا، ومن هناك، ليس، هذا عمل العلماء، وإنما عملهم أن تحيا علومهم في عقولهم، وأن يداخلوا أدق مسالك هذه العلوم، وأن يدركوا منها مواطن الثراء التي لا تزال مضمرة في مطاويها، وأن يثيروها، ويمدوها بخبرتم، وطلو تأملهم، وطل مراجعاتهم، ولا شك أن العلم تزكو به عقول العلماء، ولا شك أنه هو أيضا يزكو بعقول العلماء، ولا يكون هذا إلا بالانقطاع، والصدق، والتجرد، الرضا والغبطة بخدمة العلم، وفرق بين من يجد لذة وغبطة بخدمة العلم، ويجعله مطية يصل بها إلى ما يريد، الصنف الأول يزدري هذا التهجين، وهذا العجز، ويرى في قرارة نفسه أنه قادر على أن يقول بلسانه، وبفكرة، وخبرته، ويأنف ويزدري مسالك التهجين، والخلط، وإن سماه الناس أصالة، ومعاصرة، ويرى ذلك عجزا وذلا وخسة، وكان ﷺ يستعيذ بالله من العجز والذل.
وعلم البلاغة الذي لم يكثر التهجين في علم كما كثير فليه؛ له خصوصية تجعله عند من له بصيرة ف يالعلم أبعد علومنا عن أن يغرس فيه كلام من خارج سياق العربية وعلومها وآدابها، هذه الخصوصية هي أنه من
1 / 2
رأسه إلى قدمه مقتبس من استقراء كلام العرب، وتتبع خواص تراكيبها، وأن كلام العرب "هو الجحهة التي منها يطلب"، كما قال علماؤه، ومعنى هذا أنه تحليل لطرائق العربية، وسننها في الإبانة عن المعاني، والعربية هي التي في لساني، ولسانك، هي عربيتنا نحن الذين يعيشون على الأرض، وليست عربية الذين ماتوا، لأن من مات لا يمتلك، وقد كانت ملكا لهم ثم صارت إرثا لنا نحن. قلت البلاغة علم تأسس كل شيء فيه على طرائق هذا اللسان، وتأمل كل سطر تقرؤه في أي كتاب من كتب البلاغة. التي كتبت في زمن الجاحظ، إلى يومنا هذا، لن تجد في أي سطر من سطورها خروجا عن شرح وتحليل سنن الكلام العربي، فالتنكير في لسان العرب يفيد كذا، والتعريف باسم الإشارة يفيد كذا، ومجيء الواو يفيد كذا، و"إن" تفيد كذا، والعل يفيد كذا، والاسم يفيد كذا، كل قاعدة وكل سطر في البلاغة شرح لطبيعة هذا اللسان، ومذاهبه، ومسالكه، وقدراته، وطاقاته في الإبانة.
وما دمنا نحرص على لغتنا التي هي ذات نفوسنا، فلا يجوز لنا إلا الحرص على هذه العلوم التي تتناول طرائق هذه اللغة وتحوطها من الاختلال، والفساد، وإنما نتخلى عن هذه العلوم يوم نتخلى عن هذه اللغة، وهذا الذي لا أشك فيه هو الذي يجعلني شديد الحرص على نقاء هذه العلوو، والرفض القاطع لأقل صور الخلط والاقتباس من كلام الغرباء عنها وعن آدابها وطرائقها والذين لاي ضمرون لها ولأصحابها إلى كل زراية.
وطول تصفحي لكلام علمائنا دلني على أنهم كانوا في اللغة يأخذون بشدائد عمر؛ مع أنهم في الفقه كانوا كثيرا ما يأخذون برخص ابن عباس رضوان الله عليهم جميعا، لأني لم أجد واحد من علمائنا أدخل فيها شيئا من ألأوشاب اللغات الأخرى، ولا أشك في أن أبا علي الفارس كان
1 / 3
عالما بنحو اللغة الفارسية، وأن عبد القاهر كان عالما ببلاغة اللغة الفارسية، وغيرهم كثير ممن كانوا علماء في علوم لغات أخرى كما ذكر ابن جني وغيره، ومع ذلك لم أجد في كلام أبي علي سطرا واحدًا من نحو الفارسية، ولم أجد في كلام عبد القاهر حرفا واحدا من بلاغة الفارسية، إلا بيت شعر ترجمه عن الفارسية، وجعله شاهدا في المعاني التخييلية، ولو أن كل جيل من علمائها الذين سبقونا تسامح وأضاف كل عالم منهم سطرا واحدا من لعوم الآخرين لكان الذي بين أيدينا الآن شيئا آخر هجينا فاسدا كالذي نكتبه.
وإني لأرى هذا التشدد في أن لا يدخلوا على أصول العربية وأقيستها إلا ما هو من صميمها في كلام كثير اقرؤه لهم.
ودونك واحدة اختصرها لك اختصارا؛ ولعلك ترجع إلبيها في مصدرها.
اجتهد أبو الفتح ابن جني ورأي أن تقديم المفعول على الفاعل أصل ثان متفرع عن أصل أول ونو تقديم الفاعل على المعفول، وعليه يكون قولنا ضرب غلامه زيدا مقيسا لأن زيدا متأخر لفظا متقدم رتبة، لأن رتبته التقديم بناء على ما قدر، ثم قال إن هذا القياس الذي يصير فيه الفرع أصلا تقبله اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه، واستشهد لذلك بكلام لسيبويه؛ لأن سيبويه قاس الجر في "هذا الضارب الرجل" على الجر في "هذا الحسن الوجه" وبذلك يكون الضارب الرجل وصير الفرع أصلا، لأن الفرع لما كثير وتمكن رجع الأصل الذي أعطاه حكما من أحكامه واستعاد منه هذا الحكم، وبذلك يصح لأبي الفتح أن يعتبر تقديم المفعول أصلا لأنه كثر وتمكن.
1 / 4
ثم قال أبو الفتح وهذا هو مقصدوي "فإن قلت إن هذا ليس مرفوعا إلى العرب ولا محكيا عنها أنها رأته مذهبها، وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولا له ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره، في هذه العلة ولا غيرها" انتهى كلام أبي الفتح "ص٢٩٨" الخصائص" والذي يعينني أن أبا الفتح رفض أن يدخل قياسا في العربية مستأنسا بسيبويه الذي ذكر أبو الفتح أنه يحتج بلغته، ورأى ضرورة أن يكون أي قياس أو فكر أو أصل علمي، يداخل اللغة مستأنسا باللغة نفسها، وطرائق أهلها، وليس بطرائق علمائها، وإن كانوا في طبقة سيبويه، أليس هذا أشد في التحرج والتصون من شدائد عمر؟
وبهذا التحرج وهذا التشدد بقيت العربية تحوطها هذه الأصول المؤسسة على على استقراء كلام العرب في ألسنتنا كما كانت في ألسنتهم؛ لو قرأت لي كلمة مكرفوعة وقياسها الجر لأنكرت على فعلي؟ ماذا يقول أبو الفتح لو بعث ورآنا ندخل فيها أصولا غريبة عنها وعن علمائها ولا ترطبها بها رابطة؟ وندير درسها على كلام من لم يعرف منها حرفًا؟
لا أشك في أن ضعف مستوى طلاب أقسام اللغة العربية راجع إلى أنها يدرسون اللغة بغير طرائقها وبغير أصولها المنتزعة من لحمها ودمها. كما كان الحال في تاريخها كله.
قرأت منذ زمن كلاما يقول صاحبه إن البلاغة بلغت حد اليأس وتجمدت، وعقمت، وأصبحت كالجذع القديم، ويجب أن تموت، وأن يرثهنا علم الأسلوب، ولما قرأت هذا الكلام طرحته ولم ألفت إليه، لأنه في تقديري لم يكن أكثر من "بلونة" يلعب بها طفل يحب أن يلفت الناس إليه، لأننا لم ننشيء علم الأسلوب ولم نستخرجه من لغتنا، حتى يصح أن يكون بديلا لعلم من علومنا، وبديهة العقل تقول أن الذي يسد مسد علم
1 / 5
لابد أن يكون مستوعبا لمسائل هذا العلم، ومستخرجا من اللغة التي استخراج منها هذا العلم، ومؤديا الوظائف نفسها التي كان يؤديها هذا العلم، وأن نطمءن على قدرته على شرح طرائق العربية، وتحليل سننها في الإبانة عن معانيها قبل أن تئد هذه البلاغة التي قامت بهذه المهملة هذا الزمن الطويل، وإذا جاز لمن استخرجوا علم الأسلوب من لغاتهم وعلومهم، أن يقولوا هذا بناء على رؤيتهم، وأنهم حراص على لغاتهم، فلا يجوز لنا أن نقوله في بلاغتنا، وليس عندنا علم أسلوب، نعم يجوز لنا أن نقول هذا إذا قبلنا أن نكون ببغاوات تردد وتحكي ولا تعقل.
قلت أنني قرأت هذه وطرحته ثم فوجئت بهذا الكلام الفارغ يتكرر في كتب يدرسها أبناؤنا في جامعتنا.
والذي أعلمه ويعلمه كل من له عقل أن شأن الذي يحمل القلم ألا يكون متهورًا؛ وأنه يجب أن يكون حذرًا مترددا، وأن الأصل فيه أن يكون خبيرا بمفردات العلم الذي يتكلم فيه، وإذا رأى مفردة من هذه المفردات لا تيعن على فهم سر من أسراراللسان الذي هو منأهله عليه أيضا أن يتردد في الحكم على هذه المفردة بوجوب الإعدام، لاحتمال أن تكون لها فائدة غابت عنه، أما أن يحكم على علم كامل من ألفه إلى يائه، بالوأد فهذه ليس من شأن من يحمل القلم، لأن هذاالعلم كما قلت مستخرج من أوهامهم، وأو فسفاتهم، وإنما هو التقاط لوجود الدلالات، بعد وعي ومراجعة، لنصوص كثيرة وسياقات كثيرة وغير ذلك مما ساعد العلماء على وضع هذه القوانين واستخلاصها، والناظر في الكتب بعين باحث يرى سعة نظرهم ودقة ملاحظتهم، وطول مراجعتهم عند استنباط كل مسألة.
ثم إن هذا العلم وإن كان يراه لا يصلح في دراسة ما هو مشغول به
1 / 6
فعليه أن يراجع حقول المعرفة الأخرى التي تعتمده، وتقوم عليه، كحقل التفسير الذي أكد علماؤه أنه لايجوز الخوضش في إلا باستصحاب علمي المعاني والبيان، وأن كل العلوم الأخرى لا تغني غناءه إذا غاب، وكحقل الفقه واستنباط الأحكام الشرعية من كلام الله وكلام رسوله. واعتماد الفقهاء على هذا العلم أمر لا يجوز الاستشهاد له، لأنه أعرف وأشهر، وكحقل أصول الدين الذي ترجع خلافات علمائه فيما اختلفوا فيه إلى هذه الأصول البلاغية، ودلالات الصيغ والتراكيب، وكل ذلك يجعل العالم والجاهل لا يقدم على على القول بضرورة موته وإعدامه، ولهذا قلت إنه أقرب إلى عبث العابثين منه إلى كلام أهل العلم، إلا إذا كان المراد إطفاء الأضواء في هذهالحقول كها، يعني طمس الطريق الواصل إلى التفسير ومعرفة التأويل، وطمس الطريق الواصل إلى استنباط الأحكام الفقهية، وأيضا وأد علوم القرآن المؤسسة كلها تقريبا على هذا العلم، ونحن محتاجون إلى أن نتخلى عن عقولنا لنقتنع بأن هذا تجديد وتطوير، وأن علم الأسلوب المنتزع من غير العربية يمكن أن يكون أداة المفسر، والفقيه، والأصولي، وعالم العقائد، وأننبسط سلطانه أيضا على علوم القرآن، والمدهش أن هذا الهزل الفارغ يجد من يقبلونه، ويكررونه، بدلا من أن يردوه أو يسكتوا عنه، وأنا لم أرده قبل ذلك لأنه لا يرضاه إلا من لا قيمة لرضاه، ثم اضطرت إلى أن أنبه بهذا الكلام الظاهر تبرئة للذمة أمام هذا الجيل الذي تدمره أقلام لا تدري مغبة ما تكتب.
ولا يجوز أن أدع هذه المسألة من غير الإشارة إلى أمر يذهل ويضحك أيضا هو أن الذين يقولون إن البلاغة يجب أن تدفن في التراب، وتغرس شجرة علم الأسلوب في رفاتها، يطيلون ذيل الكلام في إكبار فكر
1 / 7
كيف يستقيم هذا في عقل الطالب الذي ذهب إلى الجامعة ليدرس علوم أمته وعلوم لغته؟ وأي تدمير يدمر هذه النفس الذاهبة لتتعلم حين يداخلها هذا التناقض العجيب، والازراء باللسان الذي هو لسانه، والإزراء بالميادين العريقة التي يفتح هذا العلم العريق أبوابها؟ أي شيء يبقى في هذه النفس من الإحساس بالانتماء إلى هذا العلوم التي هي جوهر وحقيقة هذه الأمة وحضارتها؟!
إن القول بوأد البلاغة مع شناعته وبشاعته وجاهليته وغشمه أكرم من القول ببقائها لأنها تشبه في بعض أطرافها علما صاغه غرباء من لغة غريبة وآداب غريبة ثم هو العدو الألد.
بقي كلامان كنت قرأتهما أيضا منذ زمن بعيد للمرحوم أمين الخولي ثم طرحتهما لأنهما يخالفان ما أعلم مخالفة ظاهرة ثم رأيتهما يطلان من جديد.
الكلام الأول القول بأن البلاغة انحصرت في الجملة ولم تتناول النص الكامل. والذي أعلمه أن النص مجموعة منالجمل وتدقيق الدرس البلاغي في تحليل الجملت يضع في يدي مفتاح دراسة النص الكامل لأنني أنتقل بهذه الأداة المدققة في بناء الجملة من جملة إلى جملة إلى جملة، حتى أصل إلى نهاية النص، والذي يشرح لي قاعدة في النحو أو في البلاغة لا يتحا له أن يجعل شاهده النص الكامل، وإنما هو يشرح لي مثلا تركيب الجملة مع همزة الاستفهام فيدور بهذه الهمزة على مفردات الجملة، ويقول لي إن دخول الهمزة على الفعل، يفيد معنى لا يفيده إذا أدخلنا الهمزة على الفاعل، أو المفعول وهكذا؛ وحسبه أن يعلمني كيف أستخرج دلالة التركيب من الجملة.
ثم القول بأن البلاغة وقفت عند هذا كلام يضيع كثيرا من المسائل
1 / 9
كما تكلموا في مناسبة المطالع للمقاصد والخواتيم سواء في القرآن أو في غير القرآن وهذا لا يتحقق إلا بدراسة النص كاملا.
وكل هذا جعلني لا ألتفت إلى هذا الانتقاد الذي وجهه الشيخ أمين للدارسة البلاغية، ولا أعرف أحد ذكره قبله لا من القدماء ولا من المحدثين، ثم رأيت هذا الكلام يطل علينا مرة أخرى من كتب كان يجب أن تراجع قبل أن تردد. والذي أغرى الشيخ أمين بهذا هو أنه اعتمد في درسه للبلاغة على شروح التلخيص كما قال هو، وحقل الدراسة البلاغية ومادتها أوسع مما في كتب شروح التخليص بل أن علم المناسبة وهو علم يدل لفظه على أنه يعني بالكليات سواء في العلاقت داخل السورة أو في العلاقات بين السور هذا العلم ذكر علماؤه أنه لا يستطيع الخوض فيه إلا من كان له حظ وافر في علم المعاني.
قلت هذا مع أنني أرفض هذه الطريقة التي تطالب أوئلنا بالوفاء بحاجاتنا وإلا كان ذلك مبررا للأخذ منالأخرين، والذي يجب أن يقال هو أن علماءنا وضعوا هذه اللبنة وعلينا نحن أن نضع لبنة فوق لبنتهم من خلال حاجاتنا وأن تكون هذه اللبنة صورة لنا. وأن نكون نحن اللبنة كما قال سيدنا صلوات الله وسلامه عليه "وأنا اللبنة" ولم يقل أحد له عقل إن على الأجيال السابقة أن تكتب لحاجات الأجيال اللاحقة؛ لأن الأجيال اللاحقة ليست هملا معطلا؛ ولم يخلقهم ﷾: "عالة" على غيرهم فإذا لم يجدوا شيئا يريدونه في كلام وأئلهم بحثوا عنه عند غيرهم، فإذا لم يجدوا شيئا يريديونه في كلام أوائلهم بحثوا عنه عند غيرهم، وكأن عقولهم هؤاء مغسولة. وإنما خلقهم سبحانه كما خلق غيرهم، وغرس فيهم العقول التي غرسها في غيرهم، لأنه سبحانه لم يظلم أحدا من خلقه ولم يخلق جيلا هملا لا يستطيع الكسب بعقله، وإنما جعلنا سبحانه خلفاءه في أرضه، والخليفة لا يكون هملا، هذا هو موقفي
1 / 11
أما هذه الطريقة الهابطة والتي تقوم على أساس أننا إذا لم نجد ما تحتاجه من فكر ومعرفة عند سلفنا نطلبه عند الآخرين فلا أراها إلا فلسفة الهمل، والعالة، وأهل العجز، وإنما سماها الهمل، والعجزة، والعالة، تنويرا وتحديثا، ومعاصرة.
والقول الثاني هو القول بأن البلاغة لما شغلت بموضوع الإعجاز تخلت عن رسالتها، وهي البحث في بلاغة الببيان،أو "جمالياته" كما يحب أصحابنا أن يقولوا. وذلك لأنه داخلها المنطق والفلسفة المسيطران على قضية الإعجاز، ومن المقرر عند الشيخ أمين الخولي ﵀ أن المنطق والفلسفة عدوان لدودان للبلاغة، وكنت أتابع ما يكتب بدقة لأني كنت أدد في كتابته شيئا افتقده عند كثير من الناس وهو سيطرة عقل قوى متمكن على كل ما يكتب، وإنك لترى هذا العقل آخذا بأزمة أفكاره باقتدار، وكان هذا ولا يزال يروقني سواء وافقت على النتائج التي سنتهي إليها أو خالفت، وأكره تلك العقول التي ترزح تحت وطأة ما تحفظه الذاكرة. وأحب العقل الذي ينتقي ويسيطر بعلم يتسع ووعي يدرك.
والقول بأن البلاغة فسدت لما داخلت موضوع الإعجاز كان من أعجب ما قرأت، لأننا لو تصورنا وجود بلاغة بعيدة عن الإعجاز وهي عندنا بلاغة صالحة، ثم لما داخلت الإعجاز فسدت نكون قد تصورنا وهما محضا؛ لأن البلاغة لم تولد إلا تحت عنوان "دلائل الإعجاز" الذي كتبه عبد القاهر، وهو المؤسس لهذا العلم، لأن مابحث البلاغة التي نقصد إليها حين نتحدث عن البلاغة، لم توجد قبل كتاب دلائل الإعجاز، وإذا كانت قد أنشئت وولدت من رحم الإعجاز، فكيف يتصور القول بأنها لما شغلت بالإعجاز فسدت؟ هذا كلام لا يلتئم أبدا وهو محض وهم، ولم أعرض لبيان فساده فيما كتبت لظهور هذا الفساد وإنما أنا الآن مضطر لبيان
1 / 12
فساده، لأني وجدته يعاد من جديد، في مؤلفات كثيرة وفي بحثو علمية، وهو يستشري، ويتسع، مع الغفلة، وخلو الوفاض من العلم بأوليات العلم، وتربي عليه أجيال.
ثم إن قضية الإعجاز لها جانب يعالجه علماء العقائد ويغلب عليه علم الكلام؛ ولا شأن للإعجاز البلاغي به، لأن الإعجاز البلاغي يخوض في الشعر وبلاغة البيان من ألفه إلى يائه؛ ولم يغفل علماؤنا التنبيه إلى ذلك، وإنما كانوا يقوولون أنهم يدروسن الإعجاز على طريقة أهل الأدب، وليس على طريقة المتكلمين، وتخلو كتبهم خلوا تاما من مسائل علم الكلام، كالذي تراه في كتابات عبد القاهر في كتابه الأساسي وهو دلائل الإعجاز، وفي رسالته الشافية، وكالذي تراه في رسالة الخطابي وكتاب الرماني، ومن لطائف كلام الشيخ عبد القاهر في هذا قوله في الرسيالة الشافثية، إنك؛ إذا خاطبت بموضوع الإعجاز من ليس له طبع في فهم كلام العرب "كنت كمن يلتمس الشم من أخشم" وكتب الإعجاز فيها أصول في نقد الشعر لا تجدها في كتب النقد الخالصة كالموازنة والوساطة وغيرها.
ولم أقرأ القول بأن اشتغال البلاغة بالإعجاز أفسدها لأحد قبل المرحوم أمين الخولي وقرأت هذه بعده الكثير من الكتاب الذين لم يكلفوا أنفسهم مراجعة ما يقرؤون، وأطقع أن الشيخ أمين لم يقرأ من كتب الإعجاز إلا ما كتبه القاضي عبد الجبار في الجزء السادس عشر من كتابه الكبير المغني في أبواب التوحيد والعدل، وقد حققه الشيخ أمين ﵀ وأثابه، ولو قرأ الباقلاني وأو الخطابي أو الرماني لما قال هذا، وكتاب الخطابي مع صغر حجمه فيه من العلم والبلاغة العالية والفكر النقدي المضمر في طي سطوره الكثير والنافع، والباقلاني يقول إنه لا يدرك الإعجاز
1 / 13
باب المقدمات
مقدمة الطبعة الرابعة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الرابعة
اللهم إرني الوجه الذي ترضى، وخذ بناصيتي فلا أصر فوجهي عنه، وأجعل آخر أيامي كفارة لأولها، واصرف عني لغو هذه الدنيا ولغوبها وارزقني الفهم، وأعني على نفسي، واجعل لي من نورك نورا في حياتي وعند مماتي، وفي قبري ويوم ألقاك، واللهم ارزقني استجابة الرجاء، ولا ترد لي عندك حاجة، وصلى يا رب على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد ...
فكلام البلاغيين ظاهر الدلالة على أن دراسة هذه العلم لا تقوم إلى على ما يجده الدارس في نفسه عند قراءة الشعر والكلام المختار، فإن أستحسن الكلام وستعذبه وراقه وكثر عنده نظر ليتعرف على ما في الكلام من صنعه يرجع إليها ما وجده في نفسه، وإن استهجن الكلام واسترذله نظر في الكلام ليتعرف على الشيء الذي فيه والذي صار به مستهجنا مسترذلا، وهو حين ينظر ليتعرف على سباب الحسن أو الاستهجان يكون قد بدأ العمل البلاغي ويكون قد وضع قدمه على طريق علماء هذ العلم، وشغله حينئذ هو تفلقد اللغة والأحوال والصيغ والخصوصيات والمصور والرموز، وكل ما يتحصل ببنية الشعر واللغة والأدب، ثم إنه لا يقع على هذا الذي وجب به الفضل إلا بمعونة الذوق، وهذا يعني أن هناك مرحلة سابقة للنظر البلاغي يكون الدارس فيها قد هيأ نفسه وأشربها من بيان اللغة وجيد الكلام، وأحيا حسها بما أشربها وأيقظها وشحذها، ونبهها. وإنما يكون ذلك بتفقد الشعر والنظر في صوره ولغته، والوعي برموزه، وإشاراته، والتدقيق في امتلاك خواطره،
1 / 3
وهواجسه والتقاط سوانحه والحس بوقعه ورنينه وأضوائه، ولا يكون شيء من ذلك بالقراءة المتساهلة وإنما يكون ذلك بالصبر والتنظيم والانقطاع.
واعلم أن المادة البلاغية التي هي متون هذا العلم مع فضلها ونفعها، وجلالها لن تفيدك شيئا ما لم تؤسس تناولك لها على هذا الأصل، ما لم تكن قد رضت نفسك على تذوق الشعر وتأمله والحفاوة به، وهذا هو الذي يجعل لعلوم العربية كلها عندك مذاقا غير مذاقها، وأنت تحفظ أصولها وفروعها وليس عندك هذا الرصيد من الفهم للشعر والمصاحبة له، وفرق كبير بين اللغة وعلوم اللغة، واللغة التي هي غايتنا: ما نطق به أصحاب اللسان، وعلوم اللغة هي: العلوم التي استنبطها العلماء مما نطق به أصحاب اللسان ومن كان بمعزل عن الذي نطق به أصحاب اللسان فلن يكون مصولا بعلوم هذها للغى، فإه حفظ متونها وشروحها كان قد حصل علما معلقا في الهواء لا يثبت على قاعدة من بيان أصحاب اللسان ولا يرجع في المدارسة والتدقيق إلى طرائق القوم ومذاهبهم.
وهذا من أهم الأسباب التي جعلت طلاب العلم المبتدئين يشكون من صعوبة علوم العربية ومن جفافها وجمودها على حد ما نسمع منهم.
ومن المستحيل أن يكون لطالب العلم بصيرة في أي باب من أبواب البلاغة وهو عاجز عن قراءة معلقة من المعلقات، وإنما تكون له هذه البصيرة إذا حفظ المعلقات، وعرف مذاهب شعرائها وما بينهم من تقارب أو تباعد وكيف بنى كل منهم معلقته، وكيف سلسل أبياتها، ومذا قال في النسيب، وما مذهبه في وصف الرحلة، وما الفرق بينه وبين نظرائه في وصف الحيوان والخروج إلى الغرض إلى آخر ما هو من أوليات الفهم للشعر. فضلا عن أن يغوص في الدقائق، ويلحظ علاقات الصور داخل المعلقة الواحدة، وعلاقات الصيغ "الأبينة"، وما غلب على الشاعر فيها من ضروب الرصف وعلاقة ذلك ببقية شعره.
1 / 4
والعم أن علماءنا لم يكونوا علماء في هذا الباب إلا بعد أن درسوا الشعر دراسة جعلته مع سعته وعمقه وتراحبه كأنه قد جمع لهم ووضع تحت أبصارهم، يرون أفكاره وصوره وهواجسه وخواطره حتى إنك لترى الواحد منهم يفطن في صورة من الصور إلى لمح لصورة أخرى عند شاعر آخر وينبه فينكر القارئ هذا اللمح في بادئ الأمر ثم لا يزال هذا العالم يكشف عن الوجوه والنظائر حتى يعرف القارئ ما أنكر ويقتنع بما استغرب.
ثم إنك ترى أحدهم يقول إن هذه اللفظة بهذا المعنى لم ترد في الشعر الأول وإن أول من أجرها في هذا المجاز هو فلان، وأن هذا الاشتقاق في الشعر اشتقاق محدث كقول أبي العلاء في قول أبي تمام:
ومقتبل صاف من الثغر أشنب
والاقتبال من التقبيل معدوم في الشعر القديم، وكأن ألفاظ الشعر القديم كلها في أذن أبي العلاء مع أن الثغر وماءه كان من أكثر الصور ورودا في الشعر ويقول في قوله:
حتى إذا مخض السنين لها
مخض البخلية كانت زبدة الحقب
هذه الاستعارة لم ستعمل قبل الطائي أراد مخض السنين وإنما يكون المخض للبن.
ويقول التبريزي: الخرقاء التي لا تحسن العمل من النساء ولم يستعرها أحد للخمر قبل الطائي في قوله:
خرقاء يلعب بالعقول حبابها
وتأمل كلام عبد القاهر تجده يفتح الكلام في المسألة فيتوافى عليه سيل من الصور فيذكر الصورة وبعدها أخرى تقاربها من جهة وتباعدها من جهة ثم ينتقل إلى ثالثة ورابعة وخامسة حتى يبعد عن أصل الموضوع، ثم يقطع الكلام مع تدفقه ويقول: ولنعد الآن إلى الأصل.
1 / 5
وأبو يعقوب السكاكي الذي يقولون عنه إنه جمد على البلاغة يجعل نفقد الشعر والكلام المبين أساس تعريفه لعلم المعاني لأنه عنده تتبع خواص التراكيب وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، وخواص التراكيب هي أحوال مبانيها وما وراء هذه المباني من لطائف المعاني، وقد اعترض عليه العلماء لأن التتبع ليس علما ولا يدخل في حدود العلم، وكان السكاكي كثيرا ما يعول على متعارف أهل البيان يعني ما نطق به الشعراء ودبجه الكتاب وحاكته السنة الخطباء.
ومحمود بن عمر الزمخشري لم يؤلف كتابا في البلاغة، وإنما ألف كتابا سماه أساس البلاغة، والأساس معناه الأصل والجوهر، والكتاب جمل قصار، وتخيرها مما نطق به أصحاب اللسان كأنها حبات الدر، نرى الكلمة فيها تتقلب على وجوه من المعاني في ضروب من الصيغ، وتراها في تقلبها ذات معان تختلف وتأتلف، وتتقارب وتتابعد، ولها في كل ذلك ألق يتميز، والوعي بهذه الشذرات البيانية، وهذه الجمل المتخيرة وتشربها وطول ملابستها هو أساس البلاغةن يعني إعداد النفس وإثرائها حتى إذا سمعت الكلام ميزته وعرفت منزلته من الفضل.
ولعلمائنا مقاصد وأغراض في تسميات كتبهم، ولم يسم الزمخشري كتابه: أساس البلاغة إلا وهو يقصد معنى لفظ أساس، وأن البلاغة لا تبنى إلى على هذا الأساس، وأن هذه الشذرات البيانية المختارة كأنها متن بياني يجب على طالب العلم أن يرتاض به، وأن يرتاض فيه، وأن يصقل به لسانه وعقله ولغته، ونفسه، لأن البلاغة لا وجود لها في نفس ذات حسن غليظ، ولا وجود لها إلا حين يوجد القلب الحي والنفس اليقظي، وأن مراجعة هذا الأساس هو السبيل إلى وجود القلب الحي والنفس اليقظي.
وعبد القاهر سمى كتابه: دلائل الإعجاز يعني هو دليل النبوة، وهذا الكتاب الذي هو من أصل الدين على حد ما تدل عليه تسميته بناه الشيخ على
1 / 6
الشعر، وفي الكتاب أدلة ظاهرة على أن الشيخ ﵀ لم يكتب كل الذي عنده في علم المعاني وإنما كان يفتح باب مسائل ثم يرجع عنها واعدا بوفائها ثم أعجله نداء ربه، والمهم أن كتابه ما دام دليل النبوة فهو من هذه الجهة في أصول الدين، ثم هو مؤسس على الشعر جاء في الكشف عن أسرار الشعر وأحواله ودقائقه ووسائل بيانه، وبهذا نرى كتب أصول الدين تؤسس على الشعر وبتني عليه وتتخذ منا لشعر معدنا لها، ولو قلت أن الشعر أسسا علومنا وأصل من أصول الدين لم تكن قد تجاوزت الحقيقة، وهذا الأمر هو الذي يجعل الزمخشري يجمع ما تراجزت به الأعراب على أقواه القلب وما تماتنت به قراضبة نجد وتهامة، والقراضبة هم اللصوص والفتاك وفصاحتهم أنقى، ويقول إن هذا الذي جمعه من أفواه فتاك العرب ولصوصها وأراجيز ورعاتها هو أساس البلاغة، وعلم الإعجاز الذي هو برهان النبوة وحجة الله القائمة على الخلق، وقد أصاب رحخه الله ورجى على ماجرى عليه علماء السلف رضوان الله عليهم الذين تسلسل إليهم العلم من علماء الصحابة رضوان الله عليهم، والذين أخذوه عن رسول الله ﷺ وانتقل إلينا سلسلا من سلسل حتى أتانا وأتانا به اليقين.
فإذا كنت أقول إن علم الشعر هو أصل علومنا فلا يفزعنك ذلك ولا تستغربه واعلم أن علوم الأمة كلها من نحو وصرف وبلاغة وتفسير وحديث وعقائد وفقه وأصول فقه. كلها مرتكزة على هذا الشعر وقائمة على متونه، لأنه هو اللسان، وكان القرآن بين أيدي علمائنا وهم يستخرجون أصول العربية ولكنهم سلكوا سبيل الهدي لما استخرجوا هذه الأصول من الشعر لأن الغاية هي حفظ اللسان الذي ينزل به القرآن ولن يحفظ القرآن إلا بحفظ لغته، ولو وقف علماؤنا عند القرآن وتركوا الشعر لضاع منهم الكثير لأن كثيرا من صيغ العربية واشتقاقاتها لم قع في القرآن، فالشعر هو الدائرة الأوسع التي إذا حفظناها نكون قد أقمنا حول كتاب الله ثوابت من المعارف المؤسسة على أصول من المنهج الصحيح، تظل بين يدي الذاكر الحكيم تهيء لسماعه وفهمه، وتذوق بلاغته وأسرار بيانه.
1 / 7
واعلم أن الشعر كله في هذا الباب على قدم واحدة. والشرط الذي يجب أن يتوفر فيه أن يكون فيه نفح طاهر من جزالة اللسان ورصانة البيان، يستوي في ذلك شعر الجاهلية وغيره، وإن كان لشعر الجاهلية مزيد خصوص، وكان في مجتمع المسلمين ولا يزال رجال يصرفون الناس عن الشعر لأن الله كما قالوا ذمه في التنزيل، وحدث مثل ذلك في زمن ابن عباس رضوان الله عليهما، وكان يسأل في شيء من هذا فيروي البيت فيه اللفظ لا يكنو عنه ثم يحرم بالصلاة، وقد قوى هذا الاتجاه في زمن عبد القاهر، وكان يستشعر خطره على علوم العربية وعلوم العقيدة وأصول الدين، وناقش هذا بمنهج مستقيم وانتهى به التحليل العقلي إلى أن الصاد عن الشعر صاد عن كتاب الله وهو -أي الصاد- بمثابة من يمنع الناس من قراءة المصحف، وذلك لأن الغرض من التلاوة أن تظل حجة الله قائمة بهذا القرآن، وأن هذا الكلام المتلو ليس من كلام البشر، وأنه قاطع لأطماع البشر ولا يمكن أن تدرك هذا إلا إذا أحكمنا فهم كلام البشر وعرفنا أن له طبقا لا يتعداه، وأن هذا المتلو فوق كل طبق، وهذا وراءه باب متسع من الفهم للشعر وضروبه ومذابه وطبقاته، وهكذا حلل عبد القاهر هذا التيار الشاذ في زمانه وفي زماننا ودل على خطره، ولا يزال رجال يتحرشون بهذا الدين منجهة الشعر وقصة بحث مرجليونث اليهودي الذي ضمنه طه حسن كتابه فيا لشعر الجاهلي لا تزال حية، وقد هاج العلماء لما شكك طه حسين في الشعر الجاهلي نقلا عن مرجليوث لأنهم يدركون خطر هذا الاتجاه.
ولله أمر هذا الشعر الذي تلتقي على رأسه مطارق اليهود مع متنطعي الإسلام، ولا يزال في شبابنا زرع نبت حول بعض الاتجاهات الإسلامية يفسق شعر فلان وفلان ويؤثم روايته ويقسم الشعر إلى بر وفاجر، وأقول لهم إن الشافعي ﵀ كان يحفظ شعر العربية، وقد روى عنه الأصمعي شعر هذيل وهو شعر كغيره، وكان الأصمعي الذي روى هذا الشعر عن
1 / 8
الإمام يخالف في بعض الروايات في أوصاف النساء كما في قصيدة أمية بن أ [ي عائذ التي يقول فيها:
ليلى وما ليلى ولم أر مثله ... بين السماء والأرض ذات عقاص
بيضاء صافية المدامع هولة ... للناظرين كدرة الغواص
كالشمس جلباب الغمائم دونها ... فترى حواجبها خلال خصاص
وروى الأصمعي بدل بيضاء صافية المدامع: صفراء صافية المدامع، ولعله آخذ هذه الرواية عن الإمام، وكان أعرف الناس بلغة قومه، وكانوا يذكرون المرأة التي يشوب بياضها صفرة وإنما يكون ذلك من الطيب والنعمة حتى تكون المرأة كأنها فضة قد مسها ذهب، وكان حسان -رضوان الله عليه- ينشد رسول الله ﷺ من شعر الأعشى، وما كفه صلوات الله وسلامه علبيه إلا عن قصيدة هجا بها علقمة بن علاثة، وكانت له يد عند رسول الله ﷺ وقد أخذت أمنا عائشة ﵂ الشعر عن أبيها وكان أعلم الناس بشعر العرب وكانت رضوان الله عليها تحفظ شعر لبيد.
ولم أعرف واحدا من علمائنا تأثم برواية شعر إلا ما كان من هجاء شعراء قريش لرسول الله ﷺ وذلك إعظاما لمكانه صلوات الله وسلامه عليه، وقد علق الطاهر بن عاشور صاحب التفسير الجامع على ديوان بشار وحققه ودققه وشرحه أحسن شرح، والشيخ الطاهر من أفاضل العلماء.
وإنما ساقنا إلى هذا ما تؤكده هو مؤكد في كلام علمائنا وهو أن دراسة الشعر وتفقده وتذوقه ومعرفة فنونه وطرائق الشعراء كل ذلك أصل وأساس في الدراسة البلاغية لا يقوم شيء منها إلا عليه، وتأمل مثل قول عبد القاهر: إنك لا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تسأ لعن سبب أن راقك إلى آخره تجد أن قدرتك على التذوق هي بداية الطريق في البلاغة فإذا لم توجد هذه القدرة فليس هناك طريق ولا بلاغة.
وقد ذكرت أن أسماء مؤلفات علمائنا لها دلالات وذكرت من ذلك أساس
1 / 9
البلاغة ودلائل الإعجاز وأضم اليهما كتاب مفتاح العلوم للسكاكي والكتاب فيه علوم البلاغة الثلاثة وعلم التعريف وعلم الاستدلال.
وكلمة مفتاح العلوم قد يراد بها أن هذه العلوم الثلاثة مفتاح العلوم الأخرى ولهذا دلالة أو أن يكون ما في الكتاب من هذه العلوم الثلاثة مفتاحا لها فقط وله أيضا دلالة.
أما أن تكون هذه العلوم الثلاثة مفتاحا لبقية العلوم فهذا يعني أن إتقان اللغة إفرادا في علم التعريف وتركيبا في علم البلاغة مع صحة العقل وضبط الفكر "الاستدلال" هو أصل المعرفة كلها ومفتاح أبوابها فلا بد أن تكون لغتك حية حاضرة في عقلك ولسانك حتى تستطيع أن تتفهم محتوياتها الفكرية وودائع علمائها في الفنون المختلفة، وتستطيع أيضا أن تنقل بها ما تعلم يعني أن تعلم ثم تعلم وهذان عملان ومكابدتنا نحن المعلميبن دائرة بين هذين فلابد من بذل المجهود في تحصيل المعرفة ثم بذل المجهود في توصيل المعرفة، وغذا كان تحصيلها بابا شاقا فإن توصيلها باب أشق، ولا قيمة لعلم تكون رؤوسنا مخزنا له وإنما قيمته في أن تحيا به نفسك ثم تحي به نفوس من تعلم فتذيبه في أفئدتهم وتنطق به ألسنتهم ليعلموه كما تعلموه، وهكذا تجد العملية عملية ليست سهلة، ولا غنى لها عن لغة حية طيعة يتمتع بها المعلم وعقل منظم يقود حركته وينظم تعامله مع المعرفة ومع طلاب العلم ويستوي في ذلك من يعلم اللغة والتاريخ والرياضة والفيزياء ومن فقد اللسان المبين والعقل المستقيم فقد أغلق في وجهه باب العلم، وضلت من يده مفاتيحه كما يقول أبو يعقوب.
ونرى ما حولنا من الأمم التي ملكت أمر رشدها وساسها خيارها، وأهل البصيرة منها يقوم الأمر عندهم على ذلك حتى إنه لا يجوز التسامح في خطأ نحوي في كتاب كتب في الكيمياء ولا يسمح لمعلم في أي فرع أن يسمع طلابه لغة ركيكة ولا يسمح لمتحدث يسمعه الناس سواء كان في السياسةن أو في غيرها أن يستخدم لفظه لا تقرها المجامع اللغوية، وقد بعث السكرتير الدائم
1 / 10
للأكاديمية الفرنسية رسالة توبيخ لرئيس الجمعية الوطنية الفرنسية بسبب تكرار الأخطاء اللغوية في أحاديث أعضاء البرلمان واستخدامهم ألفاظا لمتقر الأكاديمية دخولها في اللغة الفرنسية، ووصف سكرتير الأكاديمية في رسالته التي نشرتها صحيفة لوفيجارد هذه الظاهرة بأنها سرطان يهدد اللغة الفرنسية على مشارف القرن الواحد والعشرين.
أقول هذا ما عليه الناس وما كانت علهي أمتنا في زمنها الأول، وقد ذكروا أن هند بنت أسماء بن خارجة لحنت وهي عند الحجاج فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس، اللحن واضطراب اللغة خسيسة تحط قدر الشريف.
هذا شيء من دلدالة الوجه الأول في كلمة مفتاح العلوم.
أما الوجه الثاني الذي يفيد أن ما في هذه العلوم الثلاثة هو مفاتحيها لا غير فهذا يعني أن ما لخصه السكاكي من كلام الأصحاب وأقام كتابه عليه لا يعدو أن يكون مفتاح باب العلم وليس هو العلم والأصحاب الذين لخص كلامهم هم عبد القاهر والزمخشري وابن الخطيب الرازي، وتراث هؤلاء الأعلام الثلاثة في البلاغة مفتاح لا غير أما العلم فهو كما قال تتبع خواص التراكيب، يعني العلم هناك في البيان المصقول والتراكيب الحية ذات الخصوصيات المستحسنة.
وتتبع ذلك ومدراسته ومداخلته والذي في كتابه متن يفتح لك الطريق لتدخل به في ساحات هذا العلم وباحته وهذه الساحات والباحات هي الشعر ومختار الأدب فستخرج من تحت ألسنة الشعراء وأهل البيان دقائق، ما أودعوا، وكتاب المفتاح قواعد أي حرفة لا تكسبك المهارة فيها، وإنما الذي يكسبك المهارة هي الممارسة، والممارسة في هذه العلم تحليل الشعر والأدب لا غير.
وأحسب أن الكساكي استلهم هذا من عبد القاهر رأس الأصحاب لأن عبد القاهر
1 / 11
فتح أبواب مسائل كثيرة ولم يستوف الكلام فيها، ويكتفي بأن يقول وقد نبهناك إلى الطريق يعني: أعطيناك المفتاح.
واعلم وفقني الله وإياك أن للعلماء مع العلم شأنا يجب أن ننبه إليه وهو أن العالم حين يصبر على مسالة من مسائل العلم وتطول ملابسته لها يراها تتسع بمقدار صبره عليها وانقطاعه لها، وأن طول مدة المراجعة وشمول المدراسة وعمق التحقيق والتحرير لا يفضي إلى السيطرة على حدود المسألة كما هو الشأن عند المحصلين وإنما يفضي إلى ستعتها وتباعد أطرافها، وكلما أمعن في الإبحار تباعدت عنه الشطآن، وإنما مرجع هذا إلى خصوصية في العلم الشريف وهي رحابته وعمقه واتساعه، وأن أهله هم الغارقون في محيطاته، وكلما ازدادوا علما ازدادوا معرفة بأنهم لا يعلمون، لأن زيادة العلم تكشف آفاقا من المجهول هي أضعاف المعلوم الذي حصلوه، وأن العقول التي منحت القدرة على كشف الأستار وإزالة الحجب هي التي تفسح لها المجالات تلو المجالات وتتراءى لها الآفاق بعد الآفاق ومن وراء كل ذ لك غيب من ورائه غيب، وهذه هي طبيعة رحلة أهل العلم في مضاربه وآباده، وقد قال سقراط في آخر أيامه التي قضاها في استكشاف الحقيقة: إذا كنت علمت شيئا فهو أني لا أعلم، وقال علماؤنا من ظن أنه علم فقد جهل، ولا معنى لهذا إلا الذي قلته من أن طبية المعرفة أنها تقودك من معلوم تعلمه إلى مجهول لا تعلمه، وإذا لم يتنه بك المعتلوم إلى مجهول فاعلم أن هذا المعلوم خدعك وأوهمك أنك علمته وما علمته.
وأضع بين يديك نصا لعبد القاهر ترى فيه ما أريد أن أقوله بصورة أوضح وقد ذكر هذا النص في صفحة ٢٦١ من "أسرار البلاغة"، وقد شغل هذه الصفحات بالبحث في الفرق بينا لتشبيه والتمثيل والاستعارة، وكأنه قد استطال ما كتب وهو عازم على أن يزيد الكتابة في هذا قال: "ولئك كان الذي نتكلف شرحه لال يزيد على مؤدي ثلاث أسماء، وهي التمثيل والتشبيه
1 / 12