خريطة المعرفة
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
اصناف
شكل 7-3: مخطط توضيحي للفسيفساء في كنيسة مارتورانا (لوحة جدارية) وكنيسة بالاتين (أعمدة).
كان البلاط الإمبراطوري هو الآخر في حراك دائم؛ فمع أن باليرمو ظلت عاصمة إمبراطورية فريدريك، فإنه لم يقض أي وقت يذكر هناك وهو رجل راشد؛ إذ تطلبت الأقاليم الشاسعة التابعة له انتباهه، وعندما كان في الجنوب، كان أسعد حالا في أبوليا، وكان يفضل أيضا نابولي، وكانت الجامعة التي أنشأها هناك هي التي طغت على المدرسة الطبية في ساليرنو. اجتذب بلاط فريدريك أكثر رجال هذا العصر موهبة وطموحا. ومن بين العلماء الكثيرين الذين كانوا حوله، يبرز اثنان؛ مايكل سكوت وليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي.
كشأن أديلار قبل قرن مضى، كان سكوت كثير الأسفار، وكان يترك دياره في اسكتلندا لمتابعة دراسته، ويعتقد أنه درس في دورهام، ثم أكسفورد وباريس. يوجد، لا محالة، كثير من الفجوات في مسار رحلته، ولكن من المؤكد أنه كان في طليطلة في الثامن عشر من أغسطس سنة 1217؛ إذ إنه في ذلك اليوم وقع ترجمته لكتاب «الهيئة» للبطروجي وأرخها. وقد أنتج هذا النص، وتراجم سكوت لكتاب أرسطو «عن الحيوانات»، وتعليق لابن رشد على كتاب أرسطو الرئيسي عن الكوزموغرافيا «عن السماوات والأرض»، كلها في تلك المدينة، وبقيت النسخ هناك. بعد ذلك سافر سكوت إلى إيطاليا، آخذا معه نسخا من عمله، وسرعان ما أصبحت هذه النسخ متداولة هناك أيضا. في ذلك الوقت، كان سكوت قد أتقن اللغة العربية؛ مما يشير إلى أنه أمضى في إسبانيا بعض الوقت، يتعلم اللغة ويدرس مع المستعربين المحليين. لا بد أنه كان على قدر كبير من الإجادة في الرياضيات والعلوم حتى يقدم هذه التراجم، التي اعتمد فيها أيضا على كثير من النصوص التي ترجمت إلى اللاتينية قبل ذلك ببضعة عقود على يد جيرارد الكريموني والمترجمين الطليطليين الآخرين. كان سكوت على صلة وثيقة مع رودريجو، رئيس أساقفة طليطلة، ومن المحتمل أنه كان يعرف الأعضاء الأصغر سنا في دائرة جيرارد؛ رجال أمثال المترجم العظيم لعمل جالينوس، مارك الطليطلي؛ لذلك يعتبر مايكل سكوت قناة رئيسية لحركة الكتب والأفكار من إسبانيا إلى إيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى كونه عضوا مهما من أعضاء جيل المترجمين في طليطلة الذين خلفوا جيرارد وزملاءه.
حسبما يورد البابا جريجوري التاسع، كان سكوت يعرف أيضا العبرية، التي يمكن أن يكون قد تعلمها هي الأخرى في طليطلة، من جماعة الباحثين اليهود هناك. في مرحلة لاحقة في حياته، تبادل أيضا المراسلات مع باحث يهودي في باليرمو. نشأ كثير من القصص الغريبة والرائعة حول مايكل سكوت، وكان الجانب الأكبر منها يعتمد على شهرته بوصفه منجما؛ وهي مهنة كانت تتأرجح بين القبول والرفض؛ إذ كانت تحظى بتقدير وموثوقية لدى الحكام العلمانيين، ولكنها كانت تتعرض على نحو متكرر لتنديد الكنيسة وشيطنتها لها. يحكى أنه تنبأ بموته بضربة على الرأس من صخرة ساقطة من أعلى، وحتى يتجنب هذا المصير، صنع خوذة من المعدن، كان يرتديها طوال الوقت، ولكنها لسوء الحظ لم تحمه عندما سقطت قطعة من حجارة البناء من سقف كنيسة عندما كان يحضر قداسا، فقتلته على الفور. كانت اهتمامات مايكل واسعة النطاق، كما يمكن أن تتوقع من باحث موهوب في هذه الفترة. فكان طبيبا، على إلمام جيد بكل من التعليم الطبي الساليرني والأطباء العرب مثل الرازي. واستخدم هذه المصادر في أشهر عمل له، وهو كتاب «علم الفراسة»، الذي يتناول التسبيب والتكهن، بالاستعانة بالأحلام والتشريح البشري. واعتمد على كتاب «المجسطي» وعلى «جداول طليطلة» في واحد من أعماله في الفلك، ولكن تراجمه لكتابات أرسطو، التي جعلها متاحة باللغة اللاتينية للمرة الأولى، هي أهم إرث نصي خلفه.
وصل سكوت إلى جامعة مدينة بولونيا السريعة النمو نحو عام 1220. يمكننا أن نكون على يقين مطلق بأن أمتعته كانت مملوءة بالكتب، ولكن، فيما عدا ذلك، ليس لدينا أدنى فكرة عن الكيفية التي سافر بها. كان فريدريك الثاني في بولونيا في ذلك الوقت نفسه، ومن المحتمل جدا أن يكون هذا هو التوقيت الذي التقيا فيه لأول مرة، وانخرط سكوت في خدمته. ارتقى سكوت سريعا إلى مكانة مرموقة وعاش بقية حياته في صحبة البلاط الإمبراطوري، مسافرا أينما ذهبوا. وتوطدت علاقة وثيقة بينه وبين الإمبراطور؛ إذ تشاركا كثيرا من الاهتمامات وتناقشا بشأنها مطولا. كذلك أجريا معا تجارب، لاختبار تأثير الفصد عندما يكون القمر في برج الجوزاء وحاولا قياس السماء باستخدام برج. أجبر فريدريك الكنيسة على السماح بإجراء عمليات تشريح البشر لأول مرة منذ عام 150 ميلادية، بينما قدم سكوت دراسات حالة مفصلة عن مرضاه. ثمة أوجه تشابه هنا، وإن كانت على نطاق أكثر تواضعا، مع بيت الحكمة في بغداد. فكشأن الخليفة المأمون، طرح فريدريك الثاني تساؤلات عرف عنها أنه توجه قائمة من الاستفسارات إلى الباحثين والحكام في أنحاء الإمبراطورية والعالم الإسلامي. وقد سجل الفيلسوف العربي ابن سبعين الإجابات التي تلقاها فريدريك في كتاب «المسائل الصقلية». تعد هذه الأسئلة نافذة على عقل إنسان العصور الوسطى؛ إذ تكشف الشواغل الفكرية في ذلك الوقت وحدود المعرفة. ينبع كثير من الأسئلة من الملاحظة المدققة لعالم الطبيعة، ومثال ذلك سؤال مثل: «لماذا يبدو المجداف أو الرمح أو أي جسم مستقيم مغمور جزئيا في ماء صاف، منحنيا (أو بالأحرى: مائلا) نحو السطح؟» ومثل: «سأل الإمبراطور عن السبب وراء أن النجم سهيل (كانوبوس في المجموعة النجمية كارينا) يبدو للعين المجردة أكبر في صعوده منه في حال حضيضه.» وعلى ما يبدو أن بعض الكتاب المسلمين اعتقدوا أن تلك الأسئلة طرحت لاختبارهم، ولكن فريدريك لم يعرف الإجابات؛ إذ كانت بمنزلة محاولات جادة لإثارة حوار فكري. قدم سكوت نفسه بعض الردود في أحد أعماله، موضحا أن الأرض دائرية، مثل الكرة، ولكنها محاطة بالماء، مثل المح في البيضة، منتقلا إلى مناقشة الحركة البركانية، وهي ظاهرة شغلت الحكام الصقليين والزوار والباحثين لقرون.
لم يكن في أوروبا مكان أفضل للباحث من بلاط فريدريك؛ فقد كان مركز التألق الفكري، ولكنه كان مركزا دائم التنقل باستمرار؛ من باليرمو إلى نابولي، ومن بولونيا إلى بيزا، ومن بريشيا إلى بادوا، ومن فيينا إلى فيرونا، ومن فرانكفورت إلى كونستانس، ومن برينديزي إلى القدس؛ مسار من شأنه أن يصيب المسافر الأكثر تمرسا في السفر بالدوار. لأول مرة في هذه القصة، كان مركز الحياة الأكاديمية ثابتا في موضع واحد؛ مما يزيد زيادة هائلة من فرص نقل المعرفة وتوفير شبكة جاهزة يمكن من خلالها للمعرفة أن تتدفق. كان مرحبا بالباحثين من كل العقائد، ما دام بمقدورهم مجاراة الأمر. وكان الأكثر عبقرية بينهم جميعا هو ليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي. تعلم فيبوناتشي، نتاج إمبراطورية بيزا التجارية، على يد أفضل علماء الرياضيات العرب في بوجي (مدينة بجاية الحالية)، على ساحل شمال أفريقيا، حيث كان والده يعمل لحساب غرفة التجارة التابعة لمدينة بيزا. وقد مكنه هذا من مزج العبقرية النظرية لجبر الخوارزمي والأعداد الهندية العربية ونظام الترميز الموضعي مع المتطلبات العملية لتجارة مدينة بيزا. كشأن مايكل سكوت، شق هذا الشاب ذو الموهبة الاستثنائية طريقه إلى بلاط فريدريك، حيث أصدر كتبا أصبحت أساس دراسة الرياضيات في أوروبا الغربية. يحدد كتابه «كتاب العدد» (والمعروف أيضا باسم «كتاب العد»)، المكتوب في الأصل سنة 1202، مبادئ الحساب وساعد على تعميم نظام الأعداد الهندية العربية في أوروبا.
في سنة 1227 أو 1228، أصدر فيبوناتشي إصدارا جديدا من هذا الكتاب، وأملاه على مايكل سكوت، الذي كان قد طلب نسخة منه. في التمهيد، يذكر فيبوناتشي أيضا أنه ألف كتابا يدعى «الهندسة العملية». تركز أطروحته، المستندة إلى أطروحة «العناصر»، تركيزا خاصا على العناصر غير النسبية المدرجة في الكتاب العاشر، مستخدما الجبر بأثر مدمر في التفريق بين جذور المعادلات التكعيبية والمعادلات التربيعية غير النسبية. كانت تلك على ما يبدو مهمة أوكلها إليه باحث آخر في بلاط فريدريك، هو جون الباليرمي، وتناقش الاثنان في هذه المعضلات الرياضية مع الإمبراطور نفسه حينما كان البلاط في مدينة بيزا.
يظهر الحوار بين الباحثين المسيحيين والمسلمين في هذه الفترة الكيفية التي كانوا ينتقلون بها بين عالميهم، ليضع بعضهم تحديات لبعض، وليعملوا معا، ويتشاركوا الأفكار ويوسعوا حدود المعرفة. لم يزد اهتمام فريدريك، الذي نشأ خلال طفولته في باليرمو، بالعالم العربي إلا عندما سافر إلى الأرض المقدسة في 1228-1229 وخاض التجربة بنفسه. تعجب من نمط الحياة المترف، وجرب ابتكارات في الصيد بالصقور، وتعلم لعب الشطرنج، وأعجب بالتركيز على العلم في بلاط السلطان؛ وعندما عاد إلى أوروبا، أخذ معه كثيرا من هذه الإبداعات.
حافظت صقلية على مكانتها بوصفها مركزا للتجارة المتوسطية، ولكن نجمها، في نواح أخرى، كان في طريقه إلى الأفول. وإذ كان «أعجوبة العالم» يسعى إلى السيطرة على مملكته الشاسعة، ترك ديار الطفولة. ولأن النشاط الثقافي في باليرمو كان مركزا، في معظمه، داخل جدران القصر وضمن سيطرة البلاط، فقد تدهور تدهورا كبيرا عندما انتقل البلاط. ضمن تأسيس فريدريك لجامعة في نابولي استمرار التعلم في جنوب إيطاليا، ولكن على حساب كل من باليرمو وساليرنو. في القرن التالي، تعزز وضع نابولي أكثر عندما أصبحت مقر ملك صقلية الجديد، شارل أنجو. أبقى شارل على تقاليد أسلافه فيما يتعلق بالبحث العلمي، وإن كان ذلك بطريقة متواضعة؛ فشجع الباحث نيكولو ريجيو على ترجمة عدد كبير من أعمال جالينوس من اليونانية إلى اللاتينية، متابعا التقليد الصقلي المتمثل في تجاوز النسخ العربية إذا تمكنوا من إيجاد نسخ باللغة اليونانية الأصلية. استبق هذا الجانب من البحث العلمي الحركة الإنسانية بقرون عدة؛ فكما سنرى في الفصل التالي، سيصبح الولع بالعودة إلى مواد المصادر اليونانية الأصلية سمة مميزة للعالم الفكري في عصر النهضة، على حساب إسهام البحث العلمي العربي.
كان اسم آل دي هوتفيل قد أصبح في طي النسيان منذ زمن طويل، ولكن رحلة النورمان المذهلة من سراق ماشية إلى ملوك تعد واحدة من الحكايات العظيمة في حقبة العصور الوسطى. فقد أدى نطاق تأثيرهم، الذي امتد من أقصى شمال إنجلترا إلى شواطئ جنوب إيطاليا، وأبعد من ذلك، إلى الشرق الأوسط وفي قلب القدس نفسها، إلى فتح خطوط اتصال أتاحت تبادل الأفكار على نطاق لم يسبق له مثيل. كان الباحثون الرحالة، الذين ينطلقون نحو المجهول بحثا عن الحكمة والتنوير، بمثابة عوامل رئيسية في نقل المعرفة وتغييرها في هذا العالم الجديد المترابط؛ إذ كانوا يتعلمون ويعلمون وينشرون الأفكار. حول النورمان صقلية إلى قوة كبرى، ومركزا في وسط منطقة البحر المتوسط، حيث كانت الأفكار تنتقل فيما بين الثقافات. وفي بلاطهم الباهر في باليرمو، أدخلوا البحث العلمي في أوروبا إلى النطاق العلماني للمرة الأولى منذ أن أصبحت الهيمنة للمسيحية، وبذلك أنشئوا نموذجا استنسخ في بلاط ملوك أوروبا لقرون. وصلت تقاليد الإمبراطوريات البيزنطية والمسلمة إلى أوروبا عبر وسائل تأثيرها، محدثة تغييرا عميقا في ثقافة البلاط الملكي ووسائل التعبير عن القوة. يقف النورمان جنبا إلى جنب مع الخلفاء الأمويين والعباسيين ضمن المجموعة المبجلة من الحكام الذين وسعت اهتماماتهم الفكرية الشخصية ومواهبهم حدود العلم.
نامعلوم صفحہ