خريطة المعرفة
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
اصناف
2
وهكذا ساعد كاسيودوروس على إدخال دراسة وممارسة الطب إلى عالم الكنيسة، بالإضافة إلى التقاليد القائمة الخاصة بالشفاء بالإيمان وارتياد المزارات المقدسة. الواقع أن الحجاج الذين يسافرون إلى المزارات المقدسة هم الذين سوف يحدثون ابتكارا آخر في الممارسة الطبية في أوائل العصور الوسطى؛ وهو إنشاء نزل صغيرة لرعاية المرضى، والمسافرين وغيرهم من ذوي الحاجة. كانت هذه النزل الصغيرة توفر بالأساس الطعام والمأوى، ولكنها بدأت تدريجيا كذلك في تقديم رعاية طبية أكثر تخصصا، محققة المثل العليا للمحبة المسيحية. أخيرا، وبخاصة في أعقاب الحملات الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، تحولت النزل الصغيرة إلى مستشفيات.
في القرن التالي للقرن الذي كتب فيه كتاب «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني»، تنقل الكتاب عبر سائر أنحاء منطقة البحر المتوسط وفي أرجاء أوروبا الغربية، وكان مصدرا رئيسيا لكتاب الموسوعات في أوائل العصور الوسطى. وباعتباره فهرسا لمكتبات الأديرة عبر القارة، كان هذا الكتاب واحدا من أهم الكتب في نقل المعرفة من العالم القديم إلى عالم العصور الوسطى. بالإضافة إلى ذلك، أرسلت نسخ من النصوص التي أدرجها الكتاب، وفي ذلك مؤلفات طبية عثر عليها في مكتبة دير فيفاريوم، إلى أديرة أخرى، قاصية ودانية. لا يمكننا تتبع رحلات الانتقال الدقيقة لهذه المخطوطات، ولكننا نعرف أن النصوص الطبية المتداولة في جنوب إيطاليا في القرون التالية كانت عادة هي النصوص نفسها التي كانت موجودة في دير فيفاريوم، وأنه من المؤكد أن بعضها انتهى به المآل في المكتبة الكائنة في مونتيكاسينو. ومن هنا، كانت الرحلة قصيرة نسبيا إلى ساليرنو في الجنوب.
كانت مؤسسة القديس بندكت العظيمة قد واجهت وقتا عصيبا منذ بداياتها في عام 529. فموقعها الاستراتيجي على قمة أقصى موضع جنوبي من نتوء صخري في جبال الأبينيني، منتصبة على ارتفاع 500 متر فوق طريق فيا لاتينا، الطريق الرئيسي من نابولي إلى روما، جعلها هدفا واضحا لأي جيوش تمر عبر هذا الطريق. لاذ الرهبان بالفرار إلى روما عندما نهب اللومبارديون الدير في عام 581، ولم يعودوا حتى عام 718. وما إن أعيد بناء الدير والكنيسة حتى أحرقا بالكامل عندما شن العرب هجماتهم في عام 884. هذه المرة، توجه الرهبان إلى مدينة كابوا القريبة، واستقروا هناك لنصف قرن. وعندما عادوا أخيرا إلى مونتيكاسينو، في عام 949، وجدوا المنطقة «مهملة وخربة»، ولكن، إيمانا منهم بقدسية الموقع، الذي اختاره القديس بندكت، إن لم يكن الرب هو الذي اختاره، ثابروا في سبيل ترميم المباني وتشجيع الناس على العودة والعيش في إقليم تيرا سانكتي بندكتي المحيط بالموقع. بل تمكنوا حتى من الحفاظ على بعض مجموعات كتب الدير خلال هذه الفترة المضطربة، وهو إنجاز مثير للإعجاب للغاية، نظرا للعنف، والدمار وسنوات المنفى التي تحملها الرهبان. بقيت مجموعتان من هذه المجموعات - وهما مونتيكاسينو 69 وإم إس مونتيكاسينو 97، وهما مجموعتان صنعهما رئيس الدير برثاريوس (نحو 856-883) واستندتا إلى توصيات كاسيودوروس - في المكتبة إلى يومنا هذا.
كانت النصوص الطبية التي بقيت جزءا من المنهج التعليمي الإسكندري القديم، الذي أسس في أواخر العصور القديمة، والذي، بحلول عام 550، كان قد امتد إلى إيطاليا واليونان والإمبراطورية البيزنطية. تألف هذا المنهج من كتب أرسطو الأربعة الأولى عن المنطق، متبوعة بأربع أطروحات أبقراطية. كذلك استخدم القسم الأخير «الكتب الستة عشر» لجالينوس، مصنفة إلى سبعة مستويات، يركز كل مستوى منها على جانب مختلف من الممارسة الطبية؛ على سبيل المثال، التشريح، والمرض، والتشخيص، وهكذا دواليك. كان من شأن الطلاب أن يحضروا محاضرات (عادة ما كانت تكتب بعد ذلك في صورة تعليقات) عن كل نص من النصوص على الترتيب وهم يمضون قدما في المنهج التعليمي. كانت التعليقات على النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى، «عن المذاهب»، و«فنون الطب»، و«عن النبض»، و«إلى جلاوكون»، وعرفت مجتمعة باسم «للمبتدئين». وظلت هذه التعليقات، التي شرحت المبادئ الأساسية للطب الجالينوسي ووضحتها، سائدة لقرون. ودرست هذه الكتب ونسخت على يد عدد محدود من الناس في بضعة أماكن، بما يكفي لضمان بقائها عبر أواخر العصور القديمة وبداية العصور الوسطى. وكان من هؤلاء، رجل يدعى أجنيلوس، عاش في مدينة رافينا نحو عام 650. وصف المؤرخون أجنيلوس بأنه «طبيب محلي» و«أستاذ في الطب» كذلك،
3
وألقى محاضرات عن النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى وتعليقاتها. وقد دونها أحد طلابه، وهو شاب يدعى سيمبليسيوس، وأعطاها عنوانا هو «بصوت أجنيلوس»، وبقيت المحاضرات في مخطوطة من القرن التاسع اكتشفت في ميلانو، بينما عثر أيضا على نسخ في مكتبات الكارولنجيين في شمال أوروبا.
4
في حين كانت مدن كثيرة في إيطاليا تشهد تدهورا في القرن السابع الميلادي، كانت رافينا تتمتع بفترة تألق وجيزة. فكانت التجارة تشهد تصاعدا في هذه المدينة المزدهرة، وتعبد مواطنوها البالغ عددهم 50 ألف نسمة في كنائس جديدة رائعة ذات أشكال فسيفسائية باهرة. وكان يوجد أيضا نشاط علمي كبير. في الواقع، وصفت رافينا بأنها «بؤرة التعليم الطبي الأكثر تقدما في أواخر العصور القديمة».
5
نامعلوم صفحہ