خريطة المعرفة
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
اصناف
بعد ألفية تقريبا من وفاته، أشرق ضياء كثير من مدن الإسكندر - مرو وحلب والإسكندرية وباكتريا وبعلبك - على خريطة المعرفة، ولأنها كانت كلها حينذاك في أقاليم يحكمها الخلفاء العباسيون، فقد أمدت العصر الذهبي البغدادي بأفكار وباحثين وكتب.
في العقود التي تلت الفتوحات الإسلامية، هاجر آلاف المسلمين نحو الشمال، حيث استقروا في العراق وإيران وإقليم خراسان الشاسع؛ وهي المناطق التي كانت خصبة ومزدهرة وموطنا لمدن طريق الحرير الرائعة مثل بلخ ومرو ونيسابور وسمرقند. ومع ذلك، سرعان ما اكتشف حكام الإمبراطورية الإسلامية الجديدة، مثلما فعل الإسكندر قبلهم، أنه كان من المستحيل فرض الحكم بالقوة؛ إذ كانوا أقل مما ينبغي، وتفرقت أعدادهم تفرقا كبيرا عبر الأقاليم الشاسعة التي كانوا قد غزوها. فتسامحوا مع رعاياهم من غير المسلمين وفرضوا عليهم الضرائب وفقا للشريعة الإسلامية. وشجعوا الاستمرارية كي يبقى السكان المحليون ويزرعوا، واعتمدوا أنظمة قائمة للحكم، ووظفوا وقلدوا وصاحبوا الكثير من المنتمين للصفوة الساسانية.
وكان مفيدا أن الثقافة الساسانية كانت واحدة من أكثر الثقافات تطورا وتأثيرا على وجه الأرض، وأن الثقافة العربية كانت شابة وبدائية نسبيا. فقبل ذلك ببضعة أجيال فقط، كان قوم محمد بدوا، يطوفون صحارى شبه الجزيرة العربية. أما حينذاك، فكانوا أثرياء ثراء يتجاوز أشد أحلامهم جموحا، وأرادوا أسلوب الحياة الذي يتماشى مع ذلك. أكل الساسانيون طعاما فاخرا، وعاشوا في منازل مترفة وأحاطوا أنفسهم بعلماء وموسيقيين وشعراء لامعين. وكان العرب مبهورين بذلك، فاستوعبوا بحماسة كل الأبهة التي تبديها فارس الساسانية، ودمجوها مع تقاليدهم الدمثة ليصنعوا واحدة من أكثر الثقافات التي رآها العالم إسرافا وروعة. أصبحت بغداد هي التعبير المطلق عن ذلك الاندماج، بفضل خلفاء الأسرة العباسية أصحاب الرؤية الاستشرافية.
في السنوات التي سبقت عام 750، حكمت سلالة الأمويين الإمبراطورية المسلمة، ولكن التصدعات الدقيقة التي كانت قد بدأت تشق صف الإسلام ما إن مات محمد كانت آخذة في التعمق؛ لا سيما الانشقاق الديني السني/الشيعي الذي قسم الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. مع تناحر آل بيت النبي بشأن من الأحق بالسلطة، عمل العباسيون (الذين يرجع نسلهم إلى العباس، عم محمد) بهدوء لنشر السخط. في عام 747، نشر زعيمهم، الذي كان يعرف باللقب الدقيق والمعبر، السفاح، راياته السود على مدينة مرو وأطلق العنان لثورة. وبعد أن استولى على السلطة، مضى في مطاردة وإبادة كل فرد من العشيرة الأموية في مذبحة جماعية اتسمت بالوحشية حتى بمقاييس عصرنا الحالي، والتي يزعم أنها بلغت الذروة في نبش القبور وحرق الجثث. ولكن أميرا أمويا شابا، يدعى عبد الرحمن، فر إلى إسبانيا، حيث أسس أسرة حاكمة منافسة. ومضى المنحدرون من نسله في بناء مركز نابض بالحياة في مدينة قرطبة، كما سنرى في الفصل التالي. كان حكم السفاح قصيرا مثلما كان عنيفا. وعندما مات متأثرا بمرض الجدري في عام 754، انتقلت الخلافة إلى أخيه، أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور (نحو 713-775).
لحسن الحظ، كان المنصور مختلفا تماما عن أخيه. كان طويلا، ذا لحية غير كثة وعينين ثاقبتين، وأمضى سنوات حكمه في توطيد السلطة وتحقيق الاستقرار. كان أعظم إنجازاته تأسيس عاصمة جديدة، أطلق عليها اسم مدينة السلام؛ المدينة التي ندعوها بغداد. في إطار إعادة تمركز السلطة بعيدا عن معقل الأمويين العربي في دمشق، عمد المنصور إلى تعزيز صلته بالصفوة الساسانية، عاملا على ترسيخ دعائم مدينته الجديدة لتمتد إلى مجد التراث الفارسي القديم. كان هذا أمرا رسميا وشخصيا على السواء؛ فأقرب أصدقاء المنصور كان فارسيا من خراسان، يدعى خالد بن برمك، الذي قدمت عائلته دعما أساسيا لثورة العباسيين. كان البرامكة، الذين كانوا يتصفون بالغرابة وبالثقافة، من بلخ، في أقصى شمال الإمبراطورية، حيث درسوا أرسطو وتعلموا قراءة اللغة اليونانية؛ فجسدوا، أكثر من أي أسرة فارسية أخرى، روح الثقافة الرفيعة والعظمة التي أبهرت سادتهم العرب. عمل ابن برمك على مساعدة المنصور في إيجاد موقع لعاصمته الجديدة. ومعا، سافرا جنوبا واختارا قرية بغداد الصغيرة، التي تبعد ثلاثين كيلومترا فقط عن العاصمة الساسانية القديمة قطيسفون.
شكل 3-1: خريطة أعيد ترميمها لبغداد في مرحلتها الأولى تظهر المدينة المدورة في المركز وبواباتها الأربع، وقنوات متنوعة تتقاطع مع الأحياء المحيطة بها. إلى اليسار، على الجانب الآخر من نهر دجلة، يوجد حي الشماسية، حيث بنى الخليفة المأمون مرصده.
كما بين المنصور لقادته العسكريين: «هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك.»
5
كانت بغداد ذات موقع مثالي، مع إمكانية الوصول المباشر منها، عن طريق قناتي السرات ونهر عيسى، إلى طرق التجارة الرئيسية؛ الشمال الغربي، عبر نهر الفرات إلى سوريا وما وراءها؛ والشمال الشرقي، على نهر دجلة، عبر الموصل؛ والجنوب، إلى الخليج الفارسي، البوابة إلى الهند، والصين والشرق الأقصى . أيضا تقع بغداد في مركز شبكة شاسعة من الطرق البرية. فكان من شأن المسافرين والتجار أن يهبطوا على طول طرق الحرير بقوافلهم المتعرجة، عبر جبال إيران، في طريقهم إلى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وسوريا، وساحل البحر المتوسط ويمضون من هناك إلى أوروبا.
بدا كذلك أن الظروف كانت مواتية عندما اكتشف المنصور وبرمك أن حتى التقليد المسيحي المحلي كان قد توقع أن ملكا يدعى مقلاصا سيؤسس مدينة عظيمة هناك. تذكر المنصور، وقد غمرته السعادة، أن مقلاصا كان أحد أسماء التدليل التي كان ينادى بها في طفولته، فصاح مسرورا: «أنا والله ذاك!»
نامعلوم صفحہ