خريطة المعرفة
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
اصناف
في القرن الأول قبل الميلاد بدأ التقليد النشط للتعليقات الشارحة لأطروحة «العناصر» - على يد عالم الفلك جيمينوس، الذي عاش في رودس - يقدم دلائل قاطعة على أن نسخة واحدة على الأقل من عمل إقليدس الرائع قد شقت طريقها إلى هناك. ومع تطور الفروع المختلفة من العلم، تزايد تناول الباحثين لأعمال الأجيال السابقة وكتابتهم لتعليقات مفصلة تشرح النص الأصلي وتوضحه، غالبا في أعمدة إلى جواره، وفي بعض الأحيان في كتب منفصلة. وقد أصبحت التعليقات فيما بعد أحد أكثر الأشكال المعتادة للكتابة العلمية، وباعتبارها «الأداة الثقافية المهيمنة»
8
في أواخر العصور القديمة، لعبت دورا حيويا في نقل الأفكار من جيل إلى جيل. فقد كتب ستة رياضيين تعليقات مهمة على أطروحة «العناصر» في الفترة بين عام 300ق.م وعام 600 ميلادية، مبرهنين على مستوى محدود، ولكنه ثابت، من الاهتمام. في الحقبة الهلنستية الأقدم، كان البحث الرياضي يتسم بالابتكار والاكتشاف؛ أما هذه الأعمال فهي على النقيض، تدل على الطبيعة المنهجية للرياضيات في فترة ما بعد إقليدس، وهي فترة اتسمت بالاستيعاب والتنظيم وليس بالإبداع.
كانت أكثر التعليقات تأثيرا تلك التي كتبها ثيون الإسكندري (335-405 ميلادية)، وهو عالم رياضيات شهير آخر، ووالد الفيلسوفة وعالمة الفلك الكبيرة هيباتيا.
4
عندما تمكن ثيون من قراءة أطروحة «العناصر»، كان قد مضى على كتابتها 600 سنة وكان بحاجة إلى تحديث. فعمل ثيون على تنقيح وتوضيح عمل إقليدس، مضيفا إثباتات جديدة، ومطوعا اللغة، بل إنه حذف أقساما كانت لا تبدو منطقية. كانت نسخته المعدلة ناجحة جدا؛ فأعيد نسخها مرات كثيرة وانتشرت في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط. وأصبحت هي النسخة المرجعية، والمصدر الرئيسي الوحيد لكل النسخ المعدلة الأخرى للنص طوال العصور الوسطى وما بعدها، حتى سنة 1808، عندما حدث أمر مذهل. كان باحث فرنسي يدعى فرانسوا بيرار يفرز كومة من الكتب كان نابليون قد «تحصل» عليها من مكتبة الفاتيكان وأخذها عائدا إلى باريس. من بين تلك الكتب كان يوجد مخطوطة لأطروحة «العناصر» يختلف اختلافا كبيرا عن نسخ ثيون المعدلة. وسرعان ما أدرك الباحثون أن هذه النسخة من النص لم تكن تحتوي على تنقيحات وإضافات ثيون؛ إذ كانت نسخة أقدم ولذا كانت أكثر أصالة؛ لذا كانت أقرب إلى نص إقليدس الأصلي. كانت المخطوطة التي عثر عليها بيرار قد نسخت في القسطنطينية نحو سنة 850 ميلادية؛ لذا ظلت مخبوءة لما يقرب من ألف عام، فغفل عنها الباحثون لقرون، وجسدت خيطا جديدا مثيرا يربطنا بإقليدس نفسه. بعد ذلك بثمانين سنة، استخدم جيه إل هايبرج، الذي كان أستاذ فلسفة دنماركيا، المخطوطة، مع نسخ معدلة، وأجزاء من مخطوطات وإشارات أخرى، من أجل إعداد صيغة نهائية للنص. ولا تزال نسخة هايبرج المعدلة الأساس الذي بنيت عليه النسخة المرجعية المعاصرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس.
في القرون التي أعقبت وفاة إقليدس في نحو عام 265ق.م، واصلت الحياة الفكرية في الإسكندرية ازدهارها، لا سيما في العلوم والأدب والطب. وبعد أن توطد حكم السلالة الحاكمة البطلمية، بدأ صفوة اليونانيين يهتمون بثروات الثقافة المصرية القديمة. فاتبعوا بعض العادات المحلية (بما في ذلك تقليد زواج الأشقاء الذي كان مثار جدل)، وترجمت نصوص مصرية إلى اليونانية في المكتبة وامتزجت التقاليد الفكرية. كان يوجد برنامج غير مسبوق من الترجمة اليهودية، مع صدور أول نسخة يونانية من أسفار موسى الخمسة (وهي النسخة المعروفة باسم الترجمة السبعينية) من العبرية على يد مجموعة من شيوخ اليهود اختيرت بعناية.
كما يعلم أي شخص يهتم باقتناء الكتب، لا يلزم أن يكون لديك كثير من الكتب على رفوفك ليصبح إجراء بعض التنظيم أمرا ضروريا. وسرعان ما أدرك أمناء المكتبة الإسكندريون أنهم بحاجة إلى الاحتفاظ بسجل لمجموعات الكتب والنصوص، وإلى وضعها على الرفوف بنوع من التنظيم الذي يمكن القراء من العثور على عناوين بعينها. فصنع كاليماخوس القوريني، وهو شاعر بارع ارتبط اسمه بالمكتبة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، فهرسا تفصيليا باللفائف، يدعى «بيناكيس». لم يبق إلا أجزاء من 120 مجلدا أصليا، ولكنها تكشف عن أن النصوص قسمت إلى القوائم الآتية: البلاغة والقانون والملاحم والتراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي والتاريخ والطب والرياضيات والعلوم الطبيعية وأشياء أخرى متنوعة. وكانت هذه هي أول محاولة جادة لتنظيم المعارف في مخطط شامل؛ ومن ثم، كانت تمثل نقطة تحول في تاريخ الأفكار. أيضا قدم فهرس «بيناكيس» مسردا موجزا بأعمال كل كاتب وأدرج كتبهم في قوائم، فلم ينشئ تراثا علميا فحسب، وإنما أيضا تقليدا بإنتاج مادة تصف كلا من المؤلف والعمل نفسه. بلغ هذا التقليد الشارح لنص بنص آخر (أو التقليد فوق النصي) على درجات التعبير عنه في الميدان المقدس للأدب اليوناني، الذي كان يضم مئات من الباحثين الذين كانوا يدرسون وينقحون ويتجادلون حول المسرحيات وشعر هوميروس ويوربيديس وسوفوكليس وغيرهم، الذين نسخت أعمالهم وبيعت في كل أنحاء البلدان الناطقة باليونانية، وكثير من هذه النسخ هو الأساس الذي بنيت عليه الطبعات التي وصلت إلينا في وقتنا الحاضر عبر الأجيال.
قاد البطالمة بأنفسهم هذه الملحمة الفكرية. فكان أول أربعة من هذه السلالة الحاكمة معروفين باهتمامهم بأنشطة علمية متباينة؛ فأحدهم كان شاعرا، وآخر كان مفتونا بعلم الحيوان. حضر كل الملوك البطالمة، انتهاء بكليوباترا (التي كانت هي نفسها عالمة لغويات)، مناسبات ومناظرات في المتحف (الموزيون)، وكان الاهتمام الفكري سمة بارزة في حكمهم. غير أنه في القرن الأول قبل الميلاد كانت قوة عالمية جديدة آخذة في الصعود، ولم يمض وقت طويل حتى وصلت جيوشها لتحتل المدينة الباهرة. بحلول عام 80ق.م أصبحت الإسكندرية رسميا تحت الحكم الروماني، ولكن سمح لحياتها الفكرية بالاستمرار، دون عوائق. ومع الأسف الشديد، عانت المكتبة من خسارتها الكبيرة الأولى سنة 48ق.م، عندما هاجم يوليوس قيصر المدينة وأحرقت قواته مستودعا ضخما للفائف في الميناء. ليس ثمة شك في أن هذا كان غير مقصود؛ فقيصر، على أي حال، كان معروفا بحبه للكتب وكان مسئولا في السابق عن تعريف إيطاليا بالمكتبات العامة (كشأن أمور كثيرة أخرى في الثقافة الرومانية، كانت المكتبات العامة فكرة مأخوذة من اليونان). وعلى الرغم من اللفائف المفقودة، وعلى الرغم من الاحتلال الروماني، أعقب ذلك فترة ازدهار كبير؛ إذ أمدت مصر سادتها الجدد بالحبوب، واستمرت المدينة المركز الرئيسي للمعرفة اليونانية.
في نهاية القرن الأول الميلادي، كان شاب يسمى كلاوديوس بطليموس واحدا من آلاف من الناس الذين كانوا يعيشون في هذه الحاضرة العظيمة. ويظهر الامتزاج بين اسمه الأول اليوناني-الروماني، كلاوديوس، ولقبه المصري، بطليموس (ولا توجد علاقة بينه وبين الأسرة الحاكمة، كما ظن كثير من الباحثين لاحقا)، القدر الذي قد أصبح عليه التشابك بين الثقافتين في الإسكندرية. لم يترك كلاوديوس بطليموس لنا إلا القليل للغاية من المعلومات عن حياته، ولكن من المحتمل أنه تلقى تعليمه في الإسكندرية وأمضى وقتا يدرس في الموزيون لينمي لديه حصيلة من المعارف التي سوف يستند إليها في عمله. ما نعرفه هو أنه كان مفتونا بعلم الفلك، حتى إنه كان يمضي لياليه يحدق في النجوم، مكرسا حياته لمحاولة تسجيل واستيعاب حركاتها؛ واعتقد أن قيامه بذلك يقربه من الذات الإلهية.
نامعلوم صفحہ