شكر وتقدير
تمهيد
1 - الاختفاء الكبير
2 - الإسكندرية
3 - بغداد
4 - قرطبة
5 - طليطلة
6 - ساليرنو
7 - باليرمو
8 - فينيسيا
عام 1500 وما بعده
قائمة الصور
ملاحظات
المراجع
شكر وتقدير
تمهيد
1 - الاختفاء الكبير
2 - الإسكندرية
3 - بغداد
4 - قرطبة
5 - طليطلة
6 - ساليرنو
7 - باليرمو
8 - فينيسيا
عام 1500 وما بعده
قائمة الصور
ملاحظات
المراجع
خريطة المعرفة
خريطة المعرفة
كيف فقد
العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تأليف
فيوليت مولر
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
هاني فتحي سليمان
إلى بناتي؛ نجماتي الثلاث الصغيرات.
شكر وتقدير
كان تأليف هذا الكتاب رحلة طويلة وممتعة أعادتني إلى الماضي البعيد وفي كل أرجاء منطقة البحر المتوسط. وقد ساعدني كثير من الناس على طول الطريق وأنا ممتنة لهم امتنانا عظيما على توجيهاتهم ودعمهم. أولا وقبل كل شيء، أتوجه بالشكر إلى وكيلتي، فيليسيتي برايان، التي أثنت على فكرة الكتاب وشجعتني على تعقبها؛ وإلى جورج مورلي على تحريرها البالغ الدقة، وعلى توجيهها لي على نحو جنبني كثيرا من الشراك.
كل ما في هذا الكتاب يدور حول العلماء في العصور القديمة والوسطى، ولكن قدرتي على تتبع رحلاتهم والاحتفاء بإنجازاتهم يعود الفضل كله فيها إلى كوكبة من العلماء والباحثين المعاصرين الذين جعلوا هذه المعلومات متاحة، من خلال بحثهم المفصل وتسجيلاتهم الرائعة للتاريخ. لقد كان كثيرون منهم مصدر إلهام لي، وتلقيت توجيهات من بعضهم. كان الأستاذ تشارلز بيرنت سخيا للغاية فيما منحني من وقته وخبرته التي لا نظير لها، وكانت تعليقاته على إحدى المسودات الأولية ذات قيمة عظيمة، مثلما كان العدد الضخم من الكتب والمقالات التي كتبها خلال مسيرته المهنية المتميزة. لقد جعلني أشعر أنني موضع ترحيب كبير في معهد واربورج وكانت مكتبته الرائعة هي الأساس الذي اعتمدت عليه عندما كنت في لندن خلال العامين الماضيين. وتكرم الأستاذ فيفيان نوتون بأن أطلعني على معرفته الموسوعية عن جالينوس وأجاب عن أسئلتي؛ ويمتد الشكر لعلماء آخرين؛ ديفيد جوست ومشروع بطليموس العربي واللاتيني، وجورج وولف، وإريك كواكل، ويوجين روجان، وجيري ديلا روكا دي كاندال، وكريستينا دوندي في المشروع الرائع الذي يحمل اسم «مشروع تجارة الكتب في القرن الخامس عشر»، ونسيمة نجاز وباولو ساتشيت على تصحيحاتهما الممتازة، وجويدو جيجليوني على تعليمه الذي لا ينسى للغة اللاتينية، وسابرينا مينوزي على توجيهها لي فيما يتعلق بمكتبة سان مارك الوطنية وفينيسيا في القرن الخامس عشر، وجون جوليوس نورويتش على تفضله بقراءة فصلي الخاص بصقلية. وأي أخطاء ارتكبتها في تأويل عملهم هي في مجملها أخطائي أنا.
لقد زرت كثيرا من المكتبات والمتاحف أثناء تأليفي هذا الكتاب وأنا ممتنة لكل الأشخاص الذين ساعدوني في تلمس طريقي في أنحائها؛ ماريا لوز كوميندادور بيريز في مكتبة مدرسة طليطلة للمترجمين، ولي ماكدونالد الذي أطلعني على المجموعة الجميلة للأسطرلابات في متحف تاريخ العلوم في أكسفورد، وإليزابيتا شارا في مكتبة سان مارك الوطنية، ود. كارين ليمبر هيرتس في المكتبة البريطانية، والموظفين الذين كانوا عونا لي في مكتبة واربورج، ولكن في المقام الأول أتوجه بالشكر إلى جميع العاملين في مكتبة بودلي، وبخاصة بروس باركر بنفيلد، وكولن هاريس، ونيكولا أوتول، وإرنيستو جوميز لوزانو، وآلان براون، وستيفن هيبرون، ومايكل أثانسون.
لقد منحني نيلي جائزة من مؤسسة جيروود والجمعية الملكية للأدب ببريطانيا في مرحلة مبكرة من مشروعي دفعة هائلة، نفسيا وماديا؛ وأنا ممتنة للغاية لكلتا المؤسستين ولمولي روزنبرج، مديرة الجمعية الملكية للأدب على نصائحها الثمينة.
وأنا ممتنة جدا لأسرتي وأصدقائي على دعمهم غير المنقطع، وصبرهم وقدرتهم على إظهار اهتمام متواصل بالكتاب خلال مراحله المختلفة، عاما بعد عام. وأتوجه بشكر خاص إلى ساشا وآدم لحثهما إياي على مواصلة العمل فيه، وليفي وجيني على تمكيني من متابعة العمل فيه، وجيه جي على كونه مساعدا بحثيا ممتازا وأحيانا حاملا لحقيبتي، وأشكر أيضا دوتي، وكاثرين نيكسي، وروب وتشارلوت، وكاميرون، وألكسندرا، وجوانا كافينا، وتوماس موريس، ولوسي، وجوني، وجينيفيف ولورا، الذين كانوا مصدر إلهام لي وشجعوني طوال الطريق. وأتوجه بالشكر إلى والدي على مشاركتهما لي حبهما التاريخ. وأشكر بناتي على تحملهن لأم غائبة أحيانا، وشاردة الذهن غالبا.
ولكن في المقام الأول أشكر ميكيل، على كل شيء.
تمهيد
في مطلع عام 1509، بدأ الفنان الشاب رافاييللو سانزيو (1483-1520) يرسم مجموعة من الرسوم الجصية (الفريسكو) على جدران مكتبة البابا يوليوس الثاني الخاصة، في عمق الفاتيكان. في الجوار، في كنيسة سيستينا، استلقى منافس رافاييل الكبير، مايكل آنجلو، على ظهره فوق سقالة ضخمة، على ارتفاع مئات الأقدام في الهواء؛ ليرسم على السقف صورة هائلة للرب وهو يهب الحياة لآدم. كان عصر النهضة قد بلغ أوجه في روما، وتحت رعاية البابا يوليوس، كانت المدينة العظيمة تستعيد مجد ماضيها الإمبراطوري القديم. أظهرت لوحات الفريسكو التي رسمها رافاييل على الجدران الأربعة لقاعة التوقيع «ستانزا ديلا سنياتورا» الفئات الأربع للكتب التي كانت موضوعة على الأرفف أسفلها، وهذه الفئات هي علم اللاهوت والفلسفة والقانون والشعر. في لوحة الفريسكو الخاصة بالفلسفة، التي نطلق عليها الآن «مدرسة أثينا»،
1
رسم رافاييل ثلاث أقواس ضخمة مقببة تنحسر مبتعدة، وتمثالي الإلهين الرومانيين منيرفا وأبوللو على الجانبين ودرجا عريضا من الرخام يقود نزولا إلى أرضية مبلطة ببلاط يتخذ شكلا هندسيا.
2
وبالقطع فإن التصميم المعماري روماني؛ فهو يتسم بالجرأة والمهابة والضخامة، ولكن الثقافة والأفكار التي جسدتها الشخصيات الثماني والخمسون التي تجمعت بعناية في أنحاء اللوحة هي، بلا شك وبدون استثناء تقريبا، يونانية؛ فهي احتفاء بإعادة اكتشاف الأفكار القديمة التي كانت محورية لدى الأوساط الفكرية في روما خلال القرن السادس عشر. وقف أفلاطون وأرسطو في المركز تماما، تحت قوس ضخمة، وفي الخلفية السماء الزرقاء، التي يشير أفلاطون إليها رافعا سبابته إلى أعلى، بينما تتجه حركة يد أرسطو نحو الأرض أسفل منه، وهو ما يجسد بإتقان نزعتيهما الفلسفيتين؛ انشغال الأول بالمثالية والقداسة، وإصرار الثاني على فهم العالم المادي من حوله. ويعرض بتفاخر النطاق الكامل للفلسفة القديمة، كما ورثتها النزعة الإنسانية الإيطالية، بلون متألق.
لا أحد يعرف بالضبط هوية كل الشخصيات الأخرى المصورة في لوحة الفريسكو، واستحوذت المجادلات حول هويات تلك الشخصيات على اهتمام الباحثين لقرون. يتفق معظم الناس على أن الرجل الأصلع في مقدمة اللوحة جهة اليمين، المنشغل بإثبات نظرية هندسية بفرجار، هو إقليدس،
3
أما الرجل الذي بجواره والذي يضع تاجا، ويحمل كرة أرضية، فهو بطليموس دون شك ، وكان في ذلك الوقت مشهورا بمؤلفاته في الجغرافيا أكثر من الفلك.
4
عاشت كل الشخصيات التي حددت هويتها في العالم القديم، قبل أن يبدأ رافاييل في رسم لوحة الفريسكو بألف عام على الأقل؛ عدا شخصية واحدة. إلى يسار اللوحة، رجل يرتدي عمامة يميل فوق كتف فيثاغورس ليرى ما يكتبه. إنه العالم المسلم ابن رشد (1126-1198)؛ الشخصية الوحيدة التي أمكن التعرف عليها لتمثل الألف عام الواقعة بين آخر فلاسفة الإغريق القدماء وزمن رافاييل، كما أنه الشخصية الوحيدة التي تمثل تقليد المعرفة العربية الحيوي المفعم بالنشاط الذي ازدهر في هذه الفترة. هؤلاء الباحثون الذين تباينت معتقداتهم وأصولهم، ولكن جمع بينهم تدوينهم باللغة العربية، أبقوا على جذوة علوم الإغريق متقدة، مازجين إياها بتقاليد أخرى ومعدلين لها بعملهم الدءوب وعبقريتهم؛ فكفلوا بقاءها ونقلها عبر القرون إلى عصر النهضة.
لقد درست حضارة الإغريق والرومان القديمة والتاريخ طوال الوقت الذي أمضيته في المدرسة والجامعة، ولكني لم أتعلم في أي مرحلة شيئا عن تأثير العالم العربي في العصور الوسطى، أو في أي حضارة خارجية في واقع الأمر، على الثقافة الأوروبية. فبدا وكأن السرد المتعلق بتاريخ العلم قد سار على هذا النسق: «عاش الإغريق، ومن بعدهم الرومان، ثم كان عصر النهضة.» متجاهلا بكل بساطة الألف السنة التي تفصل بين العصر الكلاسيكي وعصر النهضة. عرفت من مقررات تاريخ العصور الوسطى أنه لم يكن ثمة قدر كبير من المعرفة العلمية في أوروبا الغربية في تلك الحقبة، وبدأت أتساءل عما حدث للكتب الآتية من العالم القديم التي تتناول الرياضيات وعلم الفلك والطب. كيف استطاعت أن تصمد؟ من الذي أعاد نسخها وترجمها؟ أين كانت الملاذات الآمنة التي كفلت الحفاظ عليها؟
عندما كنت في الحادية والعشرين من عمري، سافرت أنا وصديقة لي من إنجلترا إلى صقلية بسيارتها الفولفو القديمة. كنا نجري بحثا عن المعابد اليونانية الرومانية من أجل أطروحتينا للسنة الثالثة. كانت مغامرة رائعة. ضللنا الطريق في نابولي، وكان الجو حارا في روما، وأوقفنا رجال الشرطة وطلبوا مواعدتنا، ووقفنا مشدوهتين في بومبي وأكلنا كرات لبنية من الموتزاريلا المصنوعة من لبن جاموسي في بيستوم، وأخيرا، وبعد أسابيع على الطريق ورحلة عبارة قصيرة عبر مضيق مسينة، وصلنا إلى صقلية. شعرنا على الفور باختلاف المدينة عن بقية إيطاليا؛ إذ كانت ذات جاذبية غريبة، ومعقدة، تستحوذ على الاهتمام. أحاطت بنا طبقات تاريخها؛ إذ كانت العلامات التي خلفتها حضارات متعاقبة باهرة، مثل طبقات على سطح صخري. في كاتدرائية سرقسطة، رأينا أعمدة معبد أثينا اليوناني الأصلي، الذي بني في القرن الخامس قبل الميلاد، لا تزال قائمة بعد 2500 سنة من نصبها. وعرفنا كيف أن الكاتدرائية كانت قد حولت إلى مسجد في عام 878، عندما كانت المدينة تحت سيطرة المسلمين، وكيف صارت كنيسة مسيحية مجددا بعد قرنين من الزمان، عندما أخذ النورمانديون زمام السلطة. كان من الواضح أن صقلية كانت تمثل نقطة التقاء للثقافات على مدى مئات السنين، مكانا كان يحدث فيه تبادل وتبدل للأفكار، والتقاليد والكلمات، حيث كانت العوالم تتصادم. كان محور تركيز رحلتنا هو العلاقة بين دين الإغريق والرومان والعمارة، ولكن إسهامات الثقافات اللاحقة؛ البيزنطية، والإسلامية، والنورماندية، كانت بارزة. وبدأت أتساءل بشأن الأماكن الأخرى التي لعبت دورا مماثلا في تاريخ الأفكار، والكيفية التي تطورت بها تلك الأماكن.
عاودت هذه الأسئلة الظهور على السطح عندما كنت أجري أبحاثي لنيل درجة الدكتوراه عن المعرفة الفكرية في إنجلترا أوائل العصر الحديث، بمنظور مكتبة د. جون دي (الرجل الذي وصفته إليزابيث الأولى بالفيلسوف). كان دي، ذو الشخصية الغريبة والآسرة، رفيقي الدائم لعدة أعوام؛ فقد أخذني في رحلة لا تنسى عبر العالم الفكري لأواخر القرن السادس عشر. أثناء مسيرته المهنية الاستثنائية، جمع أول مجموعة عالمية حقا من الكتب في إنجلترا، وعاون في التخطيط لرحلات استكشافية للعالم الجديد، وأدخل مفهوم الإمبراطورية البريطانية، وأصلح التقويم، وبحث عن حجر الفلاسفة، وحاول أن يستحضر الملائكة وسافر - وبصحبته زوجته وخدمه، والعديد من أطفاله ومئات من الكتب - إلى كل أنحاء أوروبا. كذلك تناول باستفاضة في كتبه مجموعة كبيرة من الموضوعات شملت التاريخ والرياضيات والتنجيم والملاحة والخيمياء والسحر. وكان أحد أهم إنجازاته المساعدة على إعداد أول ترجمة إنجليزية لأطروحة إقليدس، «العناصر»، سنة 1570. ولكن أين كان هذا النص قبلئذ ومن الذي كان يعتني به خلال مدة 2000 سنة بين تدوين إقليدس له في الإسكندرية ونشر دي له في لندن؟ بينما كنت أدرس الفهرس الذي صنعه دي لمكتبته في عام 1583، لاحظت أن عددا كبيرا جدا من كتبه، وخاصة تلك التي تطرقت إلى الموضوعات العلمية، كتبت على يد علماء عرب. وشكل هذا توافقا مع الأشياء التي كنت قد رأيتها في صقلية وأعطاني فكرة عما كان يجري في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، مما بسط رؤيتي للتاريخ وجعلها تتجاوز النهج الغربي التقليدي. بدأت أدرك أن تاريخ الأفكار ليس محصورا بحدود الثقافة أو الدين أو السياسة، وأن ثمة ضرورة لمقاربة أبعد مدى؛ من أجل إدراك الأمر إدراكا كاملا.
ظلت هذه الأفكار في ثنايا عقلي، آخذة في التبلور تدريجيا على شكل خطة لكتاب من شأنه أن يتتبع الأفكار العلمية القديمة في رحلتها عبر العصور الوسطى. ولأنه موضوع ضخم، قررت أن أركز على بضعة نصوص محددة وأرصد تقدمها وهي تمر عبر مراكز المعرفة الرئيسية. وبفضل تركيزي على تاريخ العلم، وبتحديد أكثر «العلوم الدقيقة»، تحددت بوضوح معالم ثلاثة موضوعات هي الرياضيات وعلم الفلك والطب.
5
وفي إطارها، برز ثلاثة عباقرة: في الرياضيات إقليدس، وفي الفلك بطليموس، وفي الطب جالينوس. كتب كل من إقليدس وبطليموس استعراضين شاملين لموضوعيهما، أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي»، إلا أن جالينوس كان مسألة أكثر تعقيدا؛ إذ كتب مئات من النصوص؛ لذا قررت أن أركز على تلك التي شكلت المنهج التعليمي في الإسكندرية، بالإضافة إلى الدوائر العامة المتعلقة بالتشريح والصيدلة. حدد هؤلاء الرجال الثلاثة البارزون جميعهم هيكل الموضوعات الخاصة بهم ومحتواها، وصنعوا إطارا يمكن للعلماء المستقبليين أن يعملوا فيه لمئات السنين. ومنذ ذلك الحين رفض العديد من نظريات بطليموس وجالينوس واستعيض عنها بأخرى، ولكن لا جدال في تأثيرهما وإرثهما. فما زالت نظرية جالينوس عن الأخلاط باقية في الطب التبتي التقليدي وكذلك في الطب التكميلي الحديث. وظلت دراسة بطليموس عن النجوم الثابتة باقية ، وكذلك «فكرته القائلة إن العالم المادي موثوق ويمكن فهمه بواسطة الرياضيات.»
1
على النقيض، صمدت أطروحة «العناصر» لإقليدس أمام اختبار الزمن، بكاملها تقريبا؛ فكانت تدرس في قاعات الدرس في القرن العشرين، وبقيت النظريات الهندسية التي احتوت عليها صحيحة ومناسبة بالقدر نفسه الذي كانت عليه في القرن الرابع قبل الميلاد. وينطبق الأمر نفسه على طريقة إقليدس في البرهنة، التي تستخدم مصطلحات تقنية موجزة، وافتراضات وبراهين (رسوما بيانية)، ظلت نموذجا للكتابة العلمية منذ ذلك الحين. لقد اضطلع إقليدس وجالينوس وبطليموس بدور ريادي في ممارسة العلوم اعتمادا على الملاحظة والتجريب والدقة والصرامة الفكرية والتواصل الواضح؛ أحجار الزاوية لما يعرف باسم «الطريقة العلمية».
عندما بدأت البحث بجدية، فوجئت بقدر التنظيم الذي تكشفت به القصة أمامي. كان عام 500 نقطة انطلاق واضحة؛ إذ كانت فيه التقاليد الفكرية القديمة آخذة في التطور نحو التقاليد السائدة في العصور الوسطى، حينما كان البحث العلمي على وشك دخول حقبة جديدة. يتمحور كل فصل من الفصول التالية حول مدينة مختلفة، عائدين أدراجنا أولا إلى الإسكندرية لنرى الوقت الذي كتبت فيه النصوص والكيفية التي كتبت بها. من هنا، تناثرت تلك النصوص عبر شرق البحر المتوسط وصولا إلى سوريا والقسطنطينية، حيث بقيت هناك حتى القرن التاسع، عندما بدأ الباحثون من مدينة بغداد التي كانت حينها حديثة العهد، وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، يسعون إلى الحصول عليها ليترجموها إلى العربية ويستخدمون الأفكار التي احتوتها أساسا لاكتشافاتهم العلمية. كانت بغداد أول مركز حقيقي للمعرفة منذ العصور القديمة، وبمرور الوقت ألهمت مدنا في أنحاء العالم العربي لكي تبني مكتبات وتمول العلم. كانت قرطبة، التي تقع في جنوب إسبانيا، هي أهم هذه المدن، وكان يحكمها الأمويون، الذين درست تحت رعايتهم أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وفيها نوقشت أفكارهم وحسنت على يد أجيال من العلماء. ومن قرطبة، أخذت هذه النصوص إلى مدن أخرى في إسبانيا، وعندما بدأ المسيحيون في إعادة احتلال شبه الجزيرة الإيبيرية، أصبحت طليطلة مركزا مهما للترجمة والمكان الذي دخلت منه تلك النصوص إلى العالم اللاتيني المسيحي.
كان هذا هو الطريق الرئيسي الذي سلكته النصوص، ولكن كانت توجد أماكن أخرى في العصور الوسطى تلاقت فيها الثقافات الإغريقية والعربية والغربية. كانت ساليرنو، الواقعة في جنوب إيطاليا، مكانا تؤخذ فيه النصوص الطبية (باللغة العربية، وإن كانت مستمدة بالأساس من جالينوس) من شمال أفريقيا وتترجم إلى اللاتينية؛ ونتيجة لذلك، أصبحت ساليرنو، مركز الدراسات الطبية الأوروبية لقرون، لاعبة دورا حيويا في نشر الطب. وبعد ذلك، في باليرمو، تحول الاهتمام من جالينوس إلى بطليموس وإقليدس؛ إذ ترجم العلماء نسخا من «العناصر» و«المجسطي» مباشرة من الإغريقية إلى اللاتينية، متجاوزين النسخ العربية أملا في تحقيق دقة أكبر. اجتمعت المسارات الثلاثة المتفرقة في مدينة البندقية، حيث بدأت المخطوطات تصل في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، لتصبح للمرة الأولى جاهزة للطباعة.
بالطبع كان بمقدوري إدراج مدن أخرى، ولكن الالتزام بتلك المدن التي درست وترجمت فيها نصوص بدا أفضل سبيل كي لا أضل الطريق في هذه القصة الهائلة. وقد طرح اختيارها بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام حول الأشياء التي تشكل مركزا للمعرفة. كانت القسطنطينية مستودعا رئيسيا للنصوص القديمة، ولكن ذلك العلم لم يدرس في أي مكان بأي درجة من الأصالة أو الدقة. كما أنها لم تكن مكانا حدثت فيه ترجمة (ومن ثم نقل) على أي نطاق من أي نوع، وهي، لهذه الأسباب، تبرز فقط في دور مساعد، بوصفها المكان الذي كان يأتي إليه العلماء والخلفاء عند البحث عن نسخ لأعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس. ربما أخذت المدينة الواقعة على القرن الذهبي مكان الإسكندرية من ناحية السلطة والمكانة، ولكنها كانت ظلا باهتا عندما تعلق الأمر بالمعرفة العلمية؛ فهي مركز للحفاظ على النصوص وليست مركزا للإبداع. كانت طليطلة وساليرنو وباليرمو الأماكن التي احتكت فيها الثقافة العربية بأوروبا المسيحية، ولكن أيضا كان ثمة درجة من التبادل في سوريا أثناء الحملات الصليبية. ومع ذلك، لم أناقش هذا بقدر كبير من التفصيل لأنه ليس ثمة دليل على أن أطروحة «العناصر»، أو كتاب «المجسطي» أو أعمال جالينوس الرئيسية كانت ضمن الكتب التي ترجمت هناك .
وبينما كان السرد الأساسي لهذه القصة يسهل اقتفاؤه، فإن إيجاد سبيل خلال تاريخ المخطوطات الكثيف المتشابك لم يكن كذلك. ولأن تلك النصوص كانت بالغة الأهمية، فقد أنتجت نسخ عديدة من كل نص؛ وعادة ما كان استنتاج صلة بعضها ببعض والتوصل إلى طريق واضح خلالها أمرا يمثل تحديا. وحتى ظهور آلة الطباعة، كان كل نص ينسخ باليد. لذا كان كل نص منها مختلفا عن الآخر، بخصائصه وأخطائه. إن دراسة التقاليد النصية المعقدة فرع من المعرفة مستقل بذاته تماما في التاريخ، وهو ليس فرعا يمكنني أن أزعم الخبرة فيه. وحتى أظل ملتزمة بالسرد، كان لزاما علي أن أكون انتقائية وأصنع صيغا مبسطة من سجلات المخطوطات الثرية لهذه الكتب العظيمة.
لطالما كان تاريخ الأفكار بالنسبة لي بمنزلة الجانب الأروع في ماضينا. فاكتشاف الطريقة التي تعاطى بها الناس مع الأسئلة الجوهرية حول كوكبنا والكون، وكيف نقلوا نظرياتهم إلى الأجيال اللاحقة ووسعوا نطاق المعارف الفكرية؛ لهو أمر مثير للغاية. إن قدرا كبيرا من هذا النوع من التاريخ محجوب في كتب زاخرة بالمعرفة على أرفف المكتبات البحثية، ولكن لا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو. وبإلقاء نظرة واسعة والكتابة عن الشخصيات والقصص، بدلا من التركيز على المحتوى العلمي والتفصيلات التاريخية الموجودة في الكتب الأكاديمية، من الممكن بث الحياة في تاريخ الأفكار. على سبيل المثال، لا يسع أحدهم فهم نموذج بطليموس للكون دونما معرفة مفصلة بعلم الفلك، إلا أن إدراك أهميته ومتابعة تطوره هو أمر هادف وجذاب. فالقيام بذلك يأخذنا في رحلة نجوب خلالها العصور الوسطى، مع التركيز على أماكن معينة في أوقات معينة كي نكتشف بالضبط كيف ولماذا جرى نقل وتحويل هذه الأفكار العلمية. بهذه الطريقة، تتسع حدود السرد التاريخي التقليدي الغربي عن طريق تسليط ضوء على الإسهام الكبير لكل من العالم الإسلامي وعلماء العصور الوسطى المسيحيين؛ لتكمل المعلومات الناقصة عن الألف السنة الواقعة بين «الرومان» و«عصر النهضة». وجعل هذا من الممكن إدراج نظريات من ثقافات أخرى وقد انصهرت تلك النظريات تدريجيا في الفكر الرياضي والفلكي والطبي بحيث أضحت جزءا منه. أفكار مثل فكرة الأعداد الهندية-العربية وفكرة الترميز الموضعي اللتين وصلتا إلينا من الهند، عبر الإمبراطورية الإسلامية، تستخدمان في كل أنحاء العالم في وقتنا الحالي.
عندما تتمهل قليلا وتلقي نظرة على التاريخ من زاوية أوسع، تتضح لك جليا شبكة الارتباطات المعقدة بين الثقافات المختلفة، مانحة إياك رؤية أوسع وأدق وأوضح لتراثنا الفكري.
هوامش (1)
ليست مدرسة بالمعنى الحديث، وإنما دائرة فضفاضة من الأفراد ذوي الاهتمامات الأكاديمية المتشابهة، وكذلك، في هذه الحالة، تقليد دراسي دام لعدة مئات من السنين. (2)
من المحتمل أن يكون برامانتي قد نصح رافاييل بالتصميم المعماري، والذي استخدمه رافاييل ليظهر للبابا يوليوس رؤيته لكاتدرائية القديس بطرس الجديدة. (3)
ومع ذلك فقد قيل أيضا إن هذه الشخصية لأرشميدس. (4)
في عصر النهضة، اعتقد الباحثون خطأ أن كلاوديوس بطليموس عالم الفلك والجغرافي كان من أفراد سلالة البطالمة التي حكمت مصر من عام 305 إلى عام 30ق.م. (5)
في العصور القديمة والوسطى، انضوت الموضوعات العلمية تحت مظلة «الفلسفة الطبيعية»؛ ويقصد بها أي بحث في العالم المادي.
الفصل الأول
الاختفاء الكبير
طرد العلماء اليونانيون من العالم اليوناني فكانت النتيجة أن أسهموا في نشوء العلم العربي. وترجمت لاحقا الكتب العربية إلى اللاتينية والعبرية واللغات الأوروبية الحديثة. وقد سلك العلم اليوناني، أو لنقل معظمه على الأقل، ذلك الطريق الطويل الملتف كي يصل إلينا. ويجب علينا ألا نشعر بالامتنان للمبتكرين فحسب، بل علينا كذلك أن نعترف بفضل أولئك الذين لعبوا دورا في نقل التراث القديم إلينا بفضل ما أوتوا من شجاعة وعناد، وبذلك صرنا إلى ما نحن عليه الآن.
جورج سارتون، «العلم القديم والمدنية الحديثة»
بحلول عام 500 ميلادية، كانت الكنيسة اليونانية قد زجت بمعظم رجال العصر الموهوبين إلى خدمتها، إما في نشاط تبشيري أو تنظيمي أو عقائدي، أو نشاط تأملي خالص.
إدوارد جرانت، «العلم المادي في العصور الوسطى»
لو قدر لك أن تلقي نظرة على عالم البحر المتوسط في عام 500 ميلادية، ماذا كنت سترى؟ كنت سترى ملكا قوطيا شرقيا على عرشه في روما ، يبذل أقصى ما في وسعه ليظهر بمظهر الإمبراطور. كنت سترى إمبراطورا في القسطنطينية، يصنع من جديد أمجاد روما الإمبراطورية على شواطئ البوسفور، وبعيدا في الجنوب، في مهد الحضارة نفسه، كنت سترى شاهنشاه فارسيا، يخطط لخطوته التالية في الحرب التي لا تنتهي على حدوده الشمالية. كنت سترى عالما طابعه التغيير، عالما حافلا بالارتباك، عالما كانت تنكمش فيه المدن، وتحرق المكتبات ولم يعد فيه من الأمور ما هو يقيني سوى النذر اليسير على ما يبدو.
لم تكن هذه الظروف مواتية فيما يتعلق بالحفاظ على النصوص أو السعي وراء المعرفة؛ فكلا الأمرين يتطلب استقرارا سياسيا واهتماما فرديا وتمويلا ثابتا من أجل أن يزدهر؛ وكل هذه الأمور كانت نادرة في عام 500 ميلادية، ومع ذلك، صمدت جيوب صغيرة للمعرفة وحفظت كتب كثيرة. لقد ورثنا ثروات عظيمة من أسلافنا القدامى، ولكن الحقيقة هي أن قطاعات عريضة من الثقافات القديمة ضاعت في الرحلة الطويلة إلى القرن الحادي والعشرين؛ فلم ينج إلا جزء يسير؛ سبع مسرحيات من ثمانين مسرحية كتبها إسخيلوس، وسبع مسرحيات من مائة وعشرين مسرحية كتبها سوفوكليس، وثماني عشرة مسرحية من اثنتين وتسعين مسرحية كتبها يوربيديس. واختفى العديد من الكتاب الآخرين تماما، واختزل ذكرهم إلى إشارات عابرة كالطيف في أعمال أخرى. في أواخر القرن الخامس، جمع رجل يدعى ستوبايوس كما ضخما من المختارات الأدبية بلغ 1430 اقتباسا شعريا ونثريا، منها 315 اقتباسا فقط من أعمال لا تزال باقية؛ أما باقي الأعمال فمفقود. أما بالنسبة إلى العلم، فكان أفضل حالا بقليل، ورغم ذلك فإن أعمالا مهمة مثل كتاب جالينوس «عن البرهنة»، وكتاب ثاوفرسطس «عن المناجم»، وبحث أرسطرخس عن نظرية مركزية الشمس (الذي ربما كان سيغير مسار علم الفلك تغييرا جذريا لو ظل باقيا) قد ضاعت كلها عبر الزمن. النصوص التي نجت من الضياع، ومنها أطروحة «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المجسطي» لبطليموس ومجموعة كتابات جالينوس، هي نتاج آلاف من السنين من المعرفة المتراكمة. نقحت الأفكار التي احتوتها بواسطة عقول أجيال من الكتبة والمترجمين، ونقلت وبسطت على يد علماء حاذقين في العالم العربي محيت أسماؤهم تدريجيا، في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، من سجل التاريخ.
ثمة محاولات كانت تبذل في بعض الأحيان لاسترداد الكتب، ورغم أن ذلك كان في أزمنة قديمة، كان الناس على دراية بخطر أنه يمكن ببساطة للمعرفة أن تختفي. وحسب ما أورده سويتونيوس، فإن الإمبراطور دوميتيان (51-96) «كابد متاعب جمة ونفقات كثيرة في عملية إعادة تزويد المكتبات المحترقة بالكتب، والتفتيش في كل مكان عن المجلدات المفقودة، وإرسال كتبة إلى الإسكندرية لنسخها وتصحيحها.»
1
المخطوطات الوحيدة الباقية التي صيغت فعلا في العالم القديم (قبل عام 500 ميلادية تقريبا) هي أجزاء صغيرة من أوراق البردي عثر عليها في مكب للنفايات في مصر وبعض اللفائف من «فيلا البرديات» في مدينة هيركولانيوم.
1
كل شيء آخر هو مخطوطة مستنسخة صنعت في مرحلة أو أخرى في القرون الفاصلة. كان إنتاج الكتب صناعة مزدهرة في العالم القديم، وصاحب ذلك أسواق ومتاجر متخصصة في بلدات ومدن مختلفة في أرجاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذن لماذا لم يبق من ذلك إلا أشياء مادية قليلة؟ حتى القرن الرابع، لم تكن الكتب كتبا بالشكل الذي نعرفه، وإنما لفائف مكتوبة على ورق البردي، الذي كان يصنع من نباتات بوص كانت تنمو في دلتا النيل. كان طولها في المعتاد نحو ثلاثة أمتار؛ لذا، حتى تقرأ إحدى تلك اللفائف، كنت بحاجة إلى أن تحلها من أحد طرفيها ثم تطويها مجددا من الطرف الآخر، مستخدما عصيا خشبية خاصة. كان الطي والبسط المستمر يجعل البردي هشا وعرضة للتمزق؛ لذا احتاجت النصوص إلى إعادة نسخها على لفائف جديدة مرات كثيرة. وكما سنرى، بحلول الوقت الذي صار فيه مجلد المخطوطات الأكثر متانة (المصنوع من الجلد الرقيق والخشب) سائدا، كان العالم قد تغير ولم يعد كثير من الناس يصنعون أو يبيعون أو حتى يقرءون الكتب. وبحلول عام 500 ميلادية، كانت الإمبراطورية الرومانية قد انهارت في أوروبا الغربية، وتقلصت قوتها في الشرق بشدة. كانت ثقافة العالم القديم الوثني المفعمة بالنشاط آخذة في الاختفاء في ظلال قوة جديدة هي الكنيسة المسيحية. وعلى مدى الألفية التالية، سيطر الدين على عالم الكتب والمعرفة في الغرب، بينما وجد العلم ملاذا جديدا في الشرق الأوسط.
كان القرن الخامس صاخبا بالأحداث؛ إذ أفلت النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية من السيطرة الإمبراطورية ليقع في أيدي مجموعة من القبائل من شمال أوروبا. وصارت هسبانيا الرومانية حينئذ تحت حكم القوط الغربيين، مع وجود الجزء الشمالي من شبه الجزيرة مأهولا بقبائل الألان والسويبيين. واستولت قبائل الوندال على القطاع الشمالي من أفريقيا، في الوقت الذي كانت فيه إيطاليا وحتى روما نفسها قد استضافت مؤخرا (بكامل الأبهة الإمبراطورية) تتويج ملك القوط الشرقيين، ثيودوريك. في الوقت نفسه، كان الفرنجة يقومون بتأسيس البلد الذي نطلق عليه الآن فرنسا، وعبر القنال، كانت الجيوش الأنجلو سكسونية تتوغل في بريطانيا. بدأت المجتمعات في أوروبا الغربية، التي لم تعد متحدة تحت سلطان روما، في الانغلاق وأصبحت معزولة بعضها عن بعض؛ وانكمشت المدن مع عودة الناس إلى الريف وإلى أسلوب حياة أبسط، وأكثر ريفية. ومع انهيار نظام السفر والاتصال التابع للإمبراطورية، لم يعد التجار يستطيعون نقل بضائعهم بأمان؛ لذا تراجعت التجارة تراجعا شديدا.
كان ما تبقى من الإمبراطورية، هو الجزء الشرقي، ولكن في شكل مختزل كثيرا. ومن عاصمته القسطنطينية، حكم الإمبراطور أناستاسيوس (431-518) - الذي كان يكنى باسم ديكوروس (ذي الحدقتين) لأنه كان لديه عين سوداء وأخرى زرقاء - ممالكه، التي تألفت من آسيا الصغرى واليونان والبلقان وأجزاء من الشرق الأوسط. في عام 500، كان الانفصال بين الشرق والغرب حديث العهد نسبيا، ولم تكن قد ترسخت بعد التقسيمات الاجتماعية والثقافية التي سوف تتسم بها القرون التالية. كانت الحكومة الإمبراطورية في القسطنطينية لا تزال تأمل في أن تتمكن من استعادة ولو جزء من الإمبراطورية الغربية السابقة؛ وتحديدا روما وما حولها. واتضحت بجلاء هذه الرغبة أثناء حكم الإمبراطور جستينيان الأول (527-565)، الذي كان رجلا قويا، ومفعما بالحيوية، أصاب النخبة البيزنطية بصدمة بزواجه من محظيته، ثيودورا، التي صارت لمدة عشرين عاما نائبته، بالإضافة إلى كونها عاهرته.
كان حكم جستينيان مديدا ومليئا بالأحداث؛ فقد أمر بإصلاح نظام القانون الروماني بكامله ، وبدأ برنامجا ضخما لإعادة بناء عاصمته (وفي ذلك إعادة تصميم كنيسة آيا صوفيا) وشجع إنتاج الحرير، بعد أن هرب راهبان، حسبما يزعم، بيوض دودة القز ويرقاتها عائدين بها من الصين تحت ثياب الرهبنة الخاصة بهما. وبمعاونة قائده البارع، بيليساريوس، تمكن من استرجاع أجزاء من شمال أفريقيا من الوندال، وتحصل على موطئ قدم في هسبانيا، والأهم من ذلك كله، أنه أعاد احتلال صقلية ومعظم إيطاليا. لا بد أن النصر كان أمرا رائعا، ولكنه كان قصير العمر. فلم يتخل القوط الشرقيون بسهولة عن مخططاتهم في إيطاليا ووجد جستينيان نفسه متورطا في حرب مريرة على جبهته الغربية، في حين هاجم الفرس من الجنوب وهاجمت القبائل التركية والسلافية الحدود الشمالية في البلقان. في خلال عقود قليلة من موته، كانت كل مكاسبه الإقليمية قد فقدت وبدأ الانقسام يتعمق بين الشرق والغرب، الذي كان خط الصدع فيه يجري من الشمال إلى الجنوب فيما بين اليونان وإيطاليا.
كانت الحياة اليومية في أواخر العصور القديمة محفوفة بمخاطر بالغة، حتى بالنسبة إلى طبقة الأثرياء التي كانت تمثل 5 بالمائة أو نحو ذلك من تعداد السكان الذين لم يكونوا فلاحين ولا عبيدا. لاحق المرض والموت كل بيت، ودائما ما كان الجوع والكوارث محدقين. أضف إلى ذلك جحافل من البربر المغيرين الذين يدهسون محاصيلك ويقتلون أسرتك وستصبح الصورة حقا قاتمة جدا. ولكن كان ثمة بصيص نور في الظلمة، شرارة خافتة من الأمل وسط الفوضى؛ هي الدين. اعتمدت الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديانة رسمية لها في عام 380، وبحلول عام 500 كانت قد انتشرت، بأشكال عدة، عبر أوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتحل محل طائفة عريضة من الطوائف والمعبودات والعقائد التي تندرج تحت مظلة مصطلح «الوثنية». كانت العقائد الوثنية متنوعة وغالبا محلية؛ إذ آمن الناس بآلهة كثيرة، كانت في كثير من الأحيان ترتبط ارتباطا وثيقا بعالم الطبيعة، وكانت عبادة تلك الآلهة تهدف إلى محاولة التأثير على الطبيعة لتأمين إمدادات غذائية جيدة والصحة والسعادة للمجتمع المحلي. شكل تشديد المسيحية على مسألة الإله الواحد الحقيقي خيارا صعبا؛ بلا حلول وسط، وأخيرا وضعت نهاية لمعظم العقائد الوثنية القديمة. ومع فوز الكنيسة بالنفوذ والشعبية، أصبح قادتها أكثر تصميما على القضاء على النظم العقائدية المنافسة وتنصير العالم كله. وبحلول عام 500 ميلادية، كانت ماضية في طريقها لإنجاز هذه المهمة.
ما يسترعي الانتباه حقا، في هذه المرحلة، قبل قرن من ظهور الإسلام، أنه كان يوجد مسيحيون في الشرق أكثر بكثير مما في الغرب، وأديرة وكنائس في أرجاء سوريا وبلاد فارس وأرمينيا. فقد تعلق الناس بوعد الخلاص. كانت الفكرة القائلة إنك كلما عانيت هنا على الأرض، فسيصبح وقتك في الحياة الآخرة أفضل، درعا قوية في مواجهة حقائق الحياة اليومية البائسة في القرنين الخامس والسادس. وقد لعبت هذه العقيدة دورا محوريا في نجاح انتصار المسيحية على الوثنية، التي كانت عادة ما تحمل لواء السعي إلى تحقيق السعادة وتندد بالألم باعتباره شرا. تجسد انتصار المعاناة على الملذات في أشد صوره تطرفا في أوائل الأديرة. أقيم كثير من الأديرة في هذه الفترة؛ فبحلول عام 600، كان يوجد منها 300 في بلاد الغال وإيطاليا وحدها. في هذه المجتمعات المنعزلة عادة، هيمن الإيمان السائد، على حد تعبير المؤرخ ستيفن جرينبلات، بأن «خلاص البشر لن يتأتى إلا عن طريق الذل.»
2
وتطلب الأمر من ساكني هذه الأديرة جلد الذات وحرمان النفس ونمط حياة قائما على الزهد الشديد. ولكن هذه الأديرة كانت أيضا أماكن للسلام والأمن في عالم مفزع، وتزايد كونها المكان الوحيد الذي يمكن العثور فيه على أي شيء يشبه تعليما أو مكتبة.
كانت الحرب بين المسيحية والوثنية طويلة وعنيفة، وسقط جراءها الكثير من الضحايا. وانتهى الأمر بالمعرفة العلمية إلى الوقوع في دائرة نزاع بين القوتين المتحاربتين؛ إذ كافحت قوى الكنيسة التي كان لها الغلبة لتدمير أو استيعاب فلسفة العالم القديم وعلمه وأدبه، وهي أشياء كانت بطبيعتها وثنية. في عام 529، رجح حدثان حاسمان الكفة أكثر لصالح المسيحية. فقد أغلق الإمبراطور جستينيان الأكاديمية في أثينا، مركز الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والمقاومة الوثنية. وفر الفلاسفة إلى بلاد فارس، حاملين معهم كتبهم وتعاليمهم، محطمين «السلسلة الذهبية»؛ وهي التقليد الأثيني القائم على الاستقصاء الفكري والذي يمتد تاريخه إلى أفلاطون وأرسطو. إبان ذلك، عبر البحر الأيوني، على قمة تلة مونتيكاسينو الصخرية في جنوب إيطاليا، أسس شاب مسيحي ورع يدعى بندكت ديرا، وأسس بداخله طائفة دينية جديدة من شأنها أن تنتشر في أنحاء العالم. وفي القرون التي تلت، أصبحت مونتيكاسينو مشهورة بمكتبتها ومنسخها، وصارت ملاذا مهما للمعرفة والتعليم. مع إغلاق أبواب أكاديمية أفلاطون لآخر مرة، حطم القديس بندكت معبد أبوللو الذي كان قد بقي لقرون واستعاض عنه بدير. كانت الرمزية بالغة الوضوح؛ فقد كانت حقبة جديدة تبعث إلى الوجود.
وعلى الرغم من أنه كان صحيحا أن المسيحية كانت قد انتصرت انتصارا مؤكدا في الصراع على أنفس الناس، احتفظت المعرفة الكلاسيكية المتراكمة (معارف الإغريق والرومان) بسيطرتها على عقولهم؛ فكل شيء متعلق بها كان فائقا، من عبقرية الأفكار ورقي المناقشات إلى جمال اللغة وبراعة قواعدها؛ كانت الكتابات المسيحية الأولى تتسم بعدم الإتقان على نحو سافر، الأمر الذي كان موضع إحراج كبير لرجال الكنيسة. وعلى حد تعبير أحد كتاب القرن السادس: «نحن بحاجة إلى تعليم مسيحي ووثني؛ فمن أحدهما نحقق نفعا للروح، ومن الآخر نتعلم سحر الكلمات.»
3
لكن الاعتراف بقيمة التعليم الكلاسيكي كان أمرا؛ أما حماية المدارس التي كانت تقدمه من اضطرابات عالم آخذ في التغير فكان أمرا آخر تماما. نجت بعض المدارس من الغزو القوطي الشرقي لإيطاليا في القرن الخامس، وكان جستينيان حريصا على تعزيز إعادة احتلاله لروما بإعادة تأسيس التعليم العالي في المدينة. حلم كاسيودوروس (نحو 485-585) بتأسيس جامعة لاهوتية هناك، ولكن هذه الخطط لم تسفر عن شيء. وكان الغزو اللومباردي في عام 568 إيذانا بانتهاء التعليم التقليدي في إيطاليا، والذي لم يكن، على أي حال، متاحا على الإطلاق إلا لقلة قليلة فقط من الأطفال الذكور الأثرياء. علمت القلة المحظوظة التي كان بإمكانها تحمل النفقات أولادها في البيت، ولكن احتكار الأديرة للتعليم كان آخذا في التزايد، مع تركيز لا مفر منه على الأدب المسيحي والعقيدة المسيحية.
لم يختلف الأمر كثيرا عن ذلك فيما يتعلق بإنتاج الكتب، الذي تقلص في أنحاء البحر المتوسط أثناء القرنين الرابع والخامس. استمر بعض الإنتاج التجاري للكتب في مدن كبرى مثل روما، ولكن على نطاق أضيق كثيرا من السابق. نسخت غالبية الكتب على نحو خاص على يد أفراد كان لديهم إمكانية الوصول إلى النصوص التي رغبوا فيها عبر أصدقاء أو شبكات من العلماء. وبحلول عام 500، كان إنتاج الكتب العلمانية يجري على قدم وساق في الخفاء؛ وعلى النقيض، تزايدت إنتاجية مناسخ الأديرة تزايدا كبيرا إثر استحداث أنواع جديدة تماما من المؤلفات الدينية، مثل الهاجيوجرافيا (سير حياة القديسين). وإذ لم يستطع كاسيودوروس إنشاء جامعته في روما، مضى إلى أملاك عائلته وضياعها في بلدة سكيلاتشي، على الساحل الجنوبي لإيطاليا، وأنشأ ديرا، هو دير فيفاريوم، المستوحى من المدرسة الكائنة في مدينة نصيبين، في سوريا، التي كان كاسيودوروس قد سمع عنها وربما زارها حينما كان يعيش في القسطنطينية. كان كاسيودوروس مسيحيا متدينا، وكان أيضا مؤمنا إيمانا شديدا بالمنهج الكلاسيكي، الذي كان مقسما إلى «التريفيوم» (جمع «تريفيا»؛ وتعني الفنون الثلاثة، ويطلق عليها أيضا «المقدمات» ويقصد بها البلاغة والمنطق وقواعد اللغة)، ويليها «الكودريفيوم» (أو «العلوم الأربعة» وهي: علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الفلك وعلم الموسيقى). ملأ كاسيودوروس المكتبة في دير فيفاريوم بنصوص عن هذه الموضوعات وحول اتجاه إنتاج المخطوطات في منسخه عن طريق إنشاء معايير وطرق ملائمة للنسخ. وبكونه واحدا من العلماء القلائل المميزين في عصره، لعب كاسيودوروس دورا حيويا في بقاء الثقافة الكلاسيكية في إيطاليا، بإنقاذ كتب من أطلال مكتبات روما المحترقة، والحفاظ عليها وإعادة إنتاجها، وضمان وصولها إلى الأجيال القادمة؛ فاستمرت تلك الكتب لتشكل هيكل النظام التعليمي في العصور الوسطى. وإذ كان قد أمضى عشرين عاما مقيما في القسطنطينية، كان أيضا واحدا من آخر العلماء الذين عملوا على مد الجسور فوق الهوة المتزايدة بين الشرق والغرب، وعلى إعادة الثقافة اليونانية ولغة بيزنطة إلى إيطاليا في هيئة مخطوطات يونانية عديدة، وضعت في خزانة خاصة في المكتبة في دير فيفاريوم.
في عام 523، عين كاسيودوروس في منصب كبير المستشارين للملك القوطي الشرقي في إيطاليا، ثيودوريك، ليحل محل العالم الكبير الآخر الوحيد في إيطاليا آنذاك، وهو آنسينيوس مانليوس سيفيرينوس بوثيوس (480-524). كان بوثيوس قد قطع شوطا أبعد من كاسيودوروس في تعزيزه للمعارف القديمة. كان كاسيودوروس يراها دوما بمثابة خادمة المسيحية، وأنها يجب أن تدرس فقط من أجل الهدف الأسمى وهو التقرب إلى الرب. على الجانب الآخر، كان بوثيوس يؤمن بقيمة المعرفة الدنيوية غاية في حد ذاتها، وكان قد أقدم على مشروع طموح لترجمة كل النصوص اليونانية اللازمة لدراسة المنهج الكلاسيكي، وتوقفت جهوده فجأة عندما سجن وبعد ذلك أعدم للاشتباه في ضلوعه في التآمر على الملك ثيودوريك. ولو كان قد قدر لكل ترجماته أن تحفظ وتنقل إلى الأجيال التالية، لكان من الممكن لقصة نقل العلوم القديمة أن تصبح مختلفة جدا. أما وإن الحال ليس كذلك، فإننا لا نملك إلا أدلة مبهمة عما ترجمه بالفعل، ولكن يبدو أن ترجماته شملت جزءا من أطروحة «العناصر» وبعضا من كتابات بطليموس (ليس من بينها كتاب «المجسطي»). ثمة إشارات شتى إلى ترجمة لاتينية لأطروحة «العناصر» (على الأقل لأجزاء منها)، بواسطة بوثيوس، ويمكن بصعوبة تمييز شذرات غير واضحة منها في رقوق ممسوحة (طروس) ترجع إلى القرن الخامس موجودة في مكتبة كابيتولاري في فيرونا، والتي تعرض محتويات من الكتب من الأول إلى الرابع، ولكن دون الرسوم البيانية والبراهين؛ لذا ربما كانت محدودة النفع. الأرجح أنه لم تكن توجد سوى نسخ قليلة للغاية منه، وأن تلك النسخ التي كانت موجودة كانت مهملة. بحلول القرن التاسع، لم يبق إلا قصاصات. ولا نعرف إلا نذرا يسيرا عن هذه النسخة من عمل إقليدس العظيم، ولكنها، على أقل تقدير، نبهت الباحثين إلى وجود مصدر للمعرفة أعمق بكثير فيما يتعلق بموضوع الرياضيات.
رسم رافاييل في لوحة «مدرسة أثينا» الشخصيات وهي تقرأ أو تحمل كتبا، بينما في الواقع لا بد أنهم كانوا يكتبون على لفائف البردي. لم يدخل مجلد المخطوطات، أو الكتاب، حيز الاستخدام إلا قبل القرن الخامس بقليل وكان يصنع من جلد الرق - وهو جلود حيوانات معالجة - وليس من البردي، الذي كان يصنع من البوص؛ فالمرجح أن مصانع الورق لم يكن لها وجود في غرب أوروبا حتى القرن الرابع عشر، مع أنها أصبحت شائعة في العالم الإسلامي قبل ذلك بقرون.
2
على أفضل تقدير، لا يدوم البردي إلا لبضع مئات من الأعوام قبل أن يحتاج النص إلى إعادة نسخه على لفيفة جديدة. ويدوم جلد الرق زمنا أطول، ولكن فقط إذا حفظ في الظروف المناسبة، بعيدا عن الرطوبة والقوارض والديدان والعث والنار وطائفة أخرى من الأعداء المحتملين. كان مجلد المخطوطات في البداية ظاهرة مسيحية، وازداد شهرة بين القرنين الرابع والثامن. وإذا ضيقنا نطاق عملية النقل إلى مسار افتراضي واحد، فمن المنطقي أن يكون بطليموس قد ألف كتاب «المجسطي» أولا على لفيفة بردي في الإسكندرية في القرن الثاني. ومن المحتمل أن يكون قد أعيد نسخ هذه اللفيفة مرتين على الأقل لكي يتأتى لها البقاء حتى القرن السادس، وهي المرحلة الزمنية التي قد تكون نسخت فيها على جلد رق وصرت في كتاب. ومن شأن هذا الكتاب، أيضا، أن يكون قد استلزم إعادة نسخه كل بضع مئات من السنين لضمان بقائه (إذا ما افترضنا، مجددا، أنه أفلت من الحشرات المعتادة والتلف والكوارث) وكان متاحا للباحثين سنة 1500. ومن ثم فمن المرجح أن يكون الأمر قد استلزم إعادة نسخ كتاب «المجسطي» خمس مرات على أقل تقدير أثناء الفترة الزمنية بين عامي 150 و1500. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذين نسخوه؟ وأين عثروا عليه؟
كان مصير كل نص يتحدد تبعا لما كان يحدث خارج أسوار المكتبة أو المنزل الخاص حيث كان النص موضوعا على رفوفهما. في السنوات المضطربة للعصور القديمة المتأخرة، كانت مكونات الحياة السياسية والاجتماعية والدينية تتبدل وتعيد ترتيب نفسها بصورة جذرية. وانتقل عالم المعرفة تدريجيا من الإطار العام العلماني إلى أديرة الرهبنة الصامتة. كان هذا الانتقال واضحا أيضا في مجالات حياتية أخرى؛ فقد بدأت الطبيعة الطبوغرافية للمدن في التغير مع انتقال الكنيسة لتملأ الفراغ الذي خلفه ما كان يعرف باسم الدولة الرومانية. فقدت الدولة نفوذها الذي أصبح في أيدي أفراد عاديين وزعماء دينيين. وظهرت على السطح كنائس ضخمة في الميادين العامة القديمة، ودمرت المعابد أو بدلت، وكان الطابع المسيحي يضفى على الساحة العامة للمدينة وتبوأ الأساقفة الصدارة. وكشأن المدارس، كانت المكتبات العامة ضحية أخرى لهذه العملية؛ فمع عدم وجود من يدفع مقابل صيانتها، سقطت في براثن الإهمال وتلاشت تدريجيا. كان يتعين على أي شخص مهتم بموضوعات مثل الرياضيات والفلك أن يلتمسها سرا؛ لذا تقلصت شبكة العلماء الهشة أكثر فأكثر.
أما فيما يتعلق بالطب، فكانت القصة مختلفة قليلا بسبب الحاجة الدائمة والماسة إليه؛ فدائما ما كانت المعارف الطبية نافعة، ودائما ما كانت ذات أهمية، لذا كان ثمة طلب باستمرار على الكتب التي تتناول الطب، ومن ثم كانت تتوافر في معظم المكتبات في أواخر العصور القديمة. كان الطب دوما نشاطا متعدد المستويات؛ إذ كان الناس يضطلعون في بيوتهم بأمر الرعاية الأساسية، بينما كان المستوى التالي هو المعالج المحلي أو الحكيم أو الحكيمة، وهؤلاء كان من شأنهم أن يحوزوا قدرا من المعرفة بالنباتات المحلية والعلاج بالأعشاب. بيد أن هذه المعرفة كانت شفاهية، وكان أغلب ممارسيها أميين. كان الأطباء المتعلمون نادري الوجود وكانت أماكن وجودهم بعيدة بعضها عن بعض؛ فتباين تدريبهم تباينا هائلا وكانوا يقدمون خدماتهم في الأغلب لزبائن أثرياء من الحضر. كذلك للدين دور مهم في الطب القديم؛ إذ ضمت مراكز التعليم الطبي في سميرنا وكورينثوس وكوس وبيرجامون مزارات دينية مقدسة للشفاء اجتذبت المتضرعين ملتمسي الشفاء بالطريقة نفسها التي تجتذبهم بها المزارات الكاثوليكية في يومنا هذا. كان الأطباء الذين كانوا يعملون فيها يعالجون المرضى ويدربون طلاب الطب بالاستعانة بالكتب التي كانوا قد جمعوها. ولكن، نظرا لكونها مراكز للعقائد الوثنية، دمر كثير منها عندما أصبح للمسيحية اليد الطولى.
اجتذب المزار المقدس المكرس لأسكليبيوس، إله الشفاء الإغريقي، في بيرجامون، في الأناضول، آلافا من المتضرعين وأصبح مركزا شهيرا لدراسة الطب. وقد ولد جالينوس وتعلم هناك قبل أن يشد الرحال إلى الإسكندرية وبعد ذلك إلى روما ، وكانت المدينة أيضا مقر مكتبة مهمة؛ تضم 200 ألف كتاب، حسب المؤرخ بلوتارخ. يذكر الكاتب الروماني سترابو (64ق.م-24م) المدينة، التي أقامتها السلالة الحاكمة الأتالية في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو يناقش ما جرى لكتب أرسطو: «ولكن عندما سمعوا [أي ورثة أرسطو] بمقدار الحماسة، التي كان يحملها الملوك الأتاليون، الذين كانت المدينة خاضعة لهم، في البحث عن الكتب لتأسيس المكتبة في بيرجامون، أخفوا الكتب تحت الأرض فيما يشبه الخندق.»
4
ومن غير المستغرب أن الكتب لم تنتفع من دفنها في خندق، حيث «تضررت جراء الرطوبة والعثة»؛ إذ كان أفضل كثيرا لها لو كان قد انتهى بها الحال على أرفف مكتبة بيرجامون، بجدرانها المصممة خصيصا لتسمح بتدوير الهواء وتمنع الرطوبة.
شكل 1-1: الواجهة المعاد بناؤها لمكتبة سيلسوس في مدينة أفسوس المدمرة، بنيت في القرن الثاني لتكون ضريحا لسيناتور روماني وكذلك مستودعا لنحو 12 ألف لفيفة. حفظت هذه اللفائف في خزانات وضعت في كوات ذات جدران مزدوجة مصممة لتتحكم في مستويات الرطوبة والحرارة.
كان المنافس الأعظم لبيرجامون من ناحية كونها مركزا فكريا هو مدينة أفسوس. فقبيل نهاية القرن الثاني، بدأت أفسوس تتقدم في السباق من أجل الظفر بلقب «المدينة الأولى في آسيا».
5
عجلت الزلازل والهجمات القوطية من تراجع بيرجامون أثناء القرن الثالث. ووصلت المسيحية إلى المدينة، معلنة بدء بناء كثير من الكنائس. ولكن، رغم أن أهل بيرجامون نعموا بفترة من الاستقرار، فإنها كانت قصيرة الأمد. وفي القرن التالي، تقلص تعداد السكان مع تزايد اضطهاد غير المسيحيين (إذ بقيت طوائف وثنية عديدة في المدينة) وأهلك الطاعون أولئك الباقين. في ذلك الوقت، كانت أفسوس في أزهى فتراتها. كانت عاصمة الإقليم الروماني في آسيا ميناء مزدهرا، وتشتهر بمعبد أرتميس؛ أحد عجائب العالم القديم. كان الزوار يسلكون طريقا مشجرا، من المرفأ عبر المدينة، يكسوه الرخام وتصطف على جانبيه الأعمدة، مرورا بمتاجر تبيع تذكارات أرتميس، وصولا إلى المسرح المدرج المهيب الذي يمكنه استيعاب 24 ألف شخص. في عام 117 ميلادية، بنيت مكتبة هناك تكريما للسيناتور الروماني سيلسوس، الذي كان مدفونا في ضريح تحتها. ضم هذا البناء الباهر 12 ألف لفيفة، مما يجعلها ثالث أكبر مجموعة، بعد مجموعتي الإسكندرية وبيرجامون. كانت المكتبة قد تضررت من الداخل على يد القوط عندما هاجموا المدينة في عام 268 ميلادية، ولكن الواجهة الكبيرة بقيت صامدة حتى وقع أخيرا زلزال أسقطها في القرن العاشر.
كانت أفسوس، أيضا، من المراكز الأولى للمسيحية؛ إذ عاش هناك القديس بولس في منتصف القرن الأول، بينما أمضى القديس يوحنا أعوامه الأخيرة فيها، يكتب إنجيله. ومع إمساك الديانة الجديدة بزمام السيطرة، كان من المحتم أن تعاني المقدسات الوثنية القديمة. فخرب أولا معبد أرتميس ثم صار مهجورا، ودفنت تماثيله عميقا في باطن الأرض، حيث لا تستطيع الشياطين التي كانت تسكنها أن تهدد المواطنين المسيحيين بالأعلى، ثم دمرت معابد المدينة الأخرى وحولت إلى كنائس. ولا شك في أن نصوصا كثيرة أتلفت في الوقت نفسه. ومع امتلاء مصب النهر بالطمي، تشكل سهل رسوبي جديد وحدث تغير جذري في الشريط الساحلي. وعزلت أفسوس عن التجارة والاتصال بما حولها (في الوقت الحالي هي مدينة داخلية تبعد عدة أميال عن الساحل)؛ وبحلول القرن الثالث عشر، أصبحت شبه مهجورة.
إذن ماذا حدث لكل اللفائف في مكتبات أفسوس وبيرجامون؟ تزعم إحدى الحكايات الخرافية أن القائد الروماني ماركوس أنطونيوس أخذها من المكتبة في بيرجامون وأعطاها حبيبته كليوباترا، من أجل مكتبة الإسكندرية. فهل حاول العلماء المحليون إنقاذ بعضها؟ هل أخذت إلى مكان أمين وأعيد نسخها وحفظها بعناية، وتوارثتها أجيال من العائلات، أم أنها أخفيت في خرائب المعابد القديمة؟ لا بد أن ذلك حدث لبعض منها؛ لأن الأناضول، كما سوف نكتشف، كانت محط تركيز رئيسي في بحث العباسيين عن النصوص اليونانية القديمة في القرن التاسع. يصف مصدر عربي يعود إلى القرن التاسع معبدا قديما، يبعد مسيرة نحو ثلاثة أيام من القسطنطينية، وقد «أغلق منذ تنصرت الروم.» أقنع العرب المسئول البيزنطي بأن يفتح البوابات، «فإذا ذلك البيت من المرمر والصخر العظام ألوانا»، وفي الداخل «من الكتب القديمة ما يحمل على عدة أجمال.»
6
ولكن نحن بحاجة، أولا إلى العودة بالزمن إلى الوراء، إلى البداية، عندما جلس إقليدس وبطليموس وجالينوس كي يؤلفوا كتبهم؛ لنرى المكان الذي صنعت ونشرت فيه النسخ الأولى. عاش جالينوس بالأساس وعمل في روما وبيرجامون، ولكن كلا من بطليموس وإقليدس كتبا أعمالهما الرائعة في المدينة التي كانت القلب الفكري للعالم القديم، وهي مدينة الإسكندرية؛ مقر المكتبة التي ألهمت المكتبات وفاقتها شهرة منذ ذلك الحين.
هوامش (1)
حفظ الرماد البركاني هذه البرديات بعد اندلاع بركان فيزوف في عام 79 ميلادية. (2)
كان الورق يستورد إلى أوروبا قبل القرن الرابع عشر، عادة من دمشق، ومن هنا جاءت تسميته باسم «الصحائف الدمشقية»، وكان غالي الثمن، ولكن مع بدء إنتاجه في أوروبا، تراجع ثمنه وحل تدريجيا محل جلد الرق.
الفصل الثاني
الإسكندرية
يتميز موقع المدينة بمميزات عديدة؛ فالمكان أولا يطل على بحرين، حيث يطل من الشمال على البحر المصري، كما يدعى، ومن الجنوب على بحيرة ماريا، وتدعى أيضا ماريوتيس. المدينة بكاملها تقطعها الشوارع وصالحة لركوب الخيل وقيادة المركبات، ويقطعها شارعان عريضان جدا، يمتدان لأكثر من 100 قدم يوناني عرضا، ويتقاطعان في قسمين وبزوايا قائمة. وتحتوي المدينة على مناطق عامة جميلة للغاية وكذلك قصور ملكية، تشكل ربع أو حتى ثلث محيط المدينة بأكمله؛ لأن كل ملك، كغيره من الملوك كان مغرما بالفخامة؛ ومن ثم اعتاد إضافة بعض الزخارف للمعالم العامة؛ لذا كان من شأنه أيضا أن يعمل بنفسه على نفقته الخاصة على إنشاء مقر إقامة، إضافة إلى تلك المقرات القائمة بالفعل، بحيث - وأقتبس كلمات الشاعر - «يوجد مبنى فوق مبنى». ومع ذلك، فكلها متصلة بعضها ببعض وبالمرفأ. والمتحف أيضا جزء من القصور الملكية.
سترابو، كتاب «الجغرافيا»
عندما عهد إلى ديميتريوس الفالرومي بمسئولية مكتبة الملك، أغدق عليه بالموارد بهدف جمع كل الكتب في العالم، إن أمكن؛ وبإجرائه لعمليات شراء ونسخ، نفذ مراد الملك قدر استطاعته. «خطاب أرستاس إلى فيلوكراتيس»
دائما ما كانت مكتبة الإسكندرية العظيمة، التي أنشئت نحو عام 300ق.م على يد الملك بطليموس الأول، الرمز الأعظم للسعي العلمي. فهنا ولدت فكرة ضم المعارف في مكان واحد عن طريق جمع نسخة من كل نص. وظل حلم جمع المعرفة في مكان واحد يلازم جامعي الكتب وأمناء المكتبات منذ ذلك الحين، ويدخل في صميم مكتبات حقوق الطبع والنشر المعاصرة، والتي يحق لها الاحتفاظ بنسخة واحدة من كل كتاب ينشر في بلدها.
1
سعيهم وراء هذا الحلم، بعناد من المبادئ الأخلاقية، فكانوا يسرقون ويستعيرون ويستجدون؛ كانوا يفعلون أي شيء لزيادة أعداد النصوص التي تجمع. فكانوا يأمرون بأن تفتش كل السفن المارة عبر الإسكندرية وأن تصادر أي لفائف على متنها. بعد ذلك، كان يوضع على تلك اللفائف بطاقة مكتوب عليها «من السفن» قبل وضعها على الرف في المكتبة. عندما أعار الأثينيون المصريين لفائف قيمة لنسخها، رفض المصريون إعادتها، واختاروا، عوضا عن ذلك، أن يحتفظوا باللفائف الأصلية ويعيدوا نسخا منها، مسقطين حقهم في المبلغ الضخم من المال الذي دفعوه على سبيل الضمان. أتت سياسة الاقتناء العدوانية هذه بثمارها، وفي غضون عقدين من الزمن ضمت المكتبة آلاف الكتب التي تتناول شتى الموضوعات بدءا من الطهي وصولا إلى اللاهوت اليهودي؛ مجموعة لا مثيل لها في أي مكان على وجه الأرض، سواء من ناحية الحجم أو الموضوعات. ولكن ملوك البطالمة لم يجمعوا الكتب فحسب، بل جمعوا كذلك العقول؛ فأقاموا مجتمعا من العلماء في مزار مقدس بنوه لتمجيد الميوزات؛ الإلهات التسع اليونانيات اللواتي كن مصدر الإلهام للفنون والعلوم. وصار المكان معروفا باسم «الموزيون» أي المتحف، وارتبط ارتباطا وثيقا بالمكتبة؛ فكان العلماء من أنحاء عالم البحر المتوسط يدعون للمجيء والعمل هناك. وبمرور الوقت، استحدثت مكتبة تابعة في معبد سيرابيس (السيرابيوم) لتضم مقتنيات النصوص والكتب المتزايدة باستمرار. «من أين نبعت فكرة مكتبة الإسكندرية؟» هذا السؤال حير عقول المؤرخين لزمن طويل. كان أرسطو أول شخص قد عرف عنه أنه يجمع الكتب بصورة شخصية، واقترح الكتاب، ابتداء من سترابو (64ق.م إلى 24م) ومن جاءوا بعده، أنه كان مصدر الإلهام لفكرة تأسيس مكتبات في العديد من المدن التي احتلها وأنشأها تلميذه الإسكندر الأكبر. من المحتمل أيضا أن تكون فكرة جمع الكتب والنصوص في مكان واحد قد جاءت من أرسطو. فقد ورد أن اهتماماته الفكرية كانت بالمثل ذات نطاق شامل، كما أن تلميذا آخر له، هو ديميتريوس الفالرومي، كان له دور مهم في تصميم وإنشاء مكتبة الإسكندرية. تأسست المدينة على يد الإسكندر عندما احتل مصر في عام 331ق.م، وبحسب الروايات، اختار هو شخصيا الموقع، الذي كان يقع في موقع ملائم في دلتا النيل بين بحيرة ماريوتيس (مريوط حاليا) والبحر، والذي كان يتميز بوجود طرق نقل ممتازة ومرفأين طبيعيين كبيرين على ساحل البحر المتوسط. عندما مات الإسكندر، انتقلت مصر، التي كانت بكل المقاييس أغنى جزء من الإمبراطورية اليونانية الشاسعة، إلى أحد أكثر قواده جدارة بالثقة، وهو بطليموس سوتير، وقسم ما تبقى بين قائدين آخرين، وعرفت المناطق الثلاث معا باسم الممالك الهلنستية. نصب سوتير نفسه ملكا وأسس سلالة حاكمة استمرت تحكم مصر مدة 275 عاما، ولم تنته إلا بالانتحار المأساوي للملكة كليوباترا. لا شك في أن هذا الحكم المديد لم يكن من المسلمات؛ إذ إن سوتير كان نبيلا مقدونيا حديث عهد بالمكانة التي حظي بها؛ فتطلب الأمر برنامجا ضخما من التطوير السياسي والاجتماعي والعسكري والثقافي لتوطيد مركزه بوصفه حاكم مصر بلا منازع. كان التنافس مع ورثة الإسكندر الآخرين شاغلا مستمرا لكل من سوتير وابنه، سوتير الثاني، وبينما جرى بعض هذا التنافس في ميدان المعركة، فإن قدرا كبيرا منه جرت وقائعه على المناضد وأرفف كتب المكتبة والمتحف.
شكل 2-1: خريطة ألمانية من القرن التاسع عشر لمدينة الإسكندرية القديمة تظهر جزيرة فاروس والمرفأين والحي الملكي (الذي كان يضم المكتبة والمتحف) والحي اليهودي ونظام شوارع المدينة الشبكي. توجد بحيرة ماريوتيس في الأسفل، والسيرابيوم فوقها مباشرة على يسار الخريطة.
مع اتساع نطاق المدينة الجميلة الجديدة على امتداد شبكتها المتناغمة، تشكلت هوية ثقافية جديدة استوعبت تقاليد مصر القديمة مع تقاليد العالم الهلنستي. في البداية انطوى هذا على إخضاع المصريين الأصليين وثقافتهم، وفي الوقت نفسه إحاطة البطالمة (الذين كانوا بالطبع مقدونيين) بهالة ضرورية للغاية من الشرعية اليونانية (وتحديدا، الأثينية) والتأكيد على صلتهم بالإسكندر الأكبر.
2
يظهر هذا على نحو واضح في المتحف، الذي كان مستوحى من أرسطو ومعبد الليقيون (الليسيوم) في أثينا، شأنه في ذلك شأن المكتبة. كلتا المنشأتين كانتا تقعان داخل المزار المقدس المكرس للميوزات. وكلتاهما كانتا مؤسستين مجتمعيتين. بذل البطالمة أموالهم بسخاء من أجل المتحف، فأجزلوا العطاء للعلماء وأعفوهم من الضرائب ووفروا لهم المأكل والمسكن في جزء خاص من مجمع القصر. في وقت قريب من وقت ميلاد المسيح، جاء الجغرافي الروماني سترابو ليزور الإسكندرية ووصف المتحف على النحو الآتي: «به ممشى مغطى، وإيوان به مقاعد ومنزل كبير، فيه قاعة طعام مشتركة للمثقفين الذين يتشاركون المتحف.» وهؤلاء العلماء «لديهم ممتلكات مشتركة وكاهن مسئول عن المتحف، كان في السابق يعينه الملوك، ولكن الآن يعينه القيصر.»
1
ومع أخذ كل هذا الدعم المقدم في الاعتبار، فليس مستغربا أن الكثيرين من المفكرين جعلوا المدينة موطنهم. فلو كنت عالما، لم يكن ثمة مكان للعيش أفضل من هذا المكان.
وبفضل الملوك البطالمة، صارت الإسكندرية أهم مركز للمعرفة في العالم القديم، مستحوذة على تاج السيطرة الثقافية اليونانية من أثينا وطارحة رؤية جديدة للعلم الذي ترعاه الدولة وهي الرؤية التي نالت الإعجاب وحذي حذوها في كل أرجاء منطقة البحر المتوسط. وبينما كان العلماء يتجادلون «بلا نهاية في حظيرة دجاج الميوزات»
2
وأرفف كتب المكتبة تمتلئ باللفائف، كانت المدينة آخذة في النمو. فقد كانت تبنى حمامات ومواخير ومنازل ومتاجر ومزارات مقدسة على امتداد الشوارع الفسيحة المتعامدة، في الوقت الذي استقرت فيه وعملت وعاشت واختفت أحياء من أمم مختلفة؛ مصريين ويهود ويونانيين، وفيما بعد رومان. وسرعان ما صارت الإسكندرية واحدة من أكبر المدن على الأرض، «مركز التجارة العالمية بلا منازع»
3
الذي صدر كميات ضخمة من الحبوب والبردي والكتان كانت تزرع على سهول النيل الخصيبة، وتحمل بالسفن عبر النهر إلى المدينة وبعد ذلك ترسل لتباع في أنحاء العالم الهلنستي. وبوصفهم المتحكمين في مداخل البحر المتوسط للتجار من أفريقيا وبلاد العرب والشرق، حظي الإسكندريون بحصة جيدة من المتاجرة المربحة في الذهب والأفيال والتوابل والعطور التي كانت تشحن في السفن من الجنوب والشرق عبر بحيرة ماريوتيس. كانت منارة فاروس العظيمة، التي بلغ ارتفاعها 120 مترا والتي كانت تعد عجيبة أخرى من عجائب العالم القديم السبع، تشرف شامخة على الميناء، رمزا لجلال وعظمة الإسكندرية، مرسلة أشعتها عبر البحر.
تقع الإسكندرية في مركز شبكة ضخمة من المدن، من بينها أثينا وبيرجامون ورودس وأنطاكية وأفسوس، وفيما بعد، روما والقسطنطينية. تنقل العلماء والكتب بحرية بين تلك المدن في السوق المزدهرة بالأفكار؛ فكان الشباب المهرة من أنحاء العالم الهلنستي يتلقون تعليمهم في مدنهم الأم، قبل أن يشدوا الرحال بحثا عن معلمين أفضل، ومكتبات أكبر ومعرفة أرقى. كانت كتب التعليم الابتدائي متوفرة لهم في المدرسة أو في المكتبة العامة المحلية؛ التي كان يوجد منها عدد كبير على نحو مذهل في العالم القديم. كان لدى معظم البلدات مجموعة من الكتب، لكن المكتبات الكبيرة في المدن هي وحدها التي كان من الممكن أن تشتمل على نصوص علمية بأي عدد؛ فمعظم نسخ الكتب التي نتتبعها هنا كان من الممكن أن تكون مملوكة ملكية فردية، لعلماء متخصصين. على خلاف الأدب بقصائده وخطبه ومسرحياته التي تصل إلى المئات، والتي كانت تنسخ وتباع وتقرأ في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط، شكل العلم حصة ضئيلة من الكتابة القديمة ولم يكن محل اهتمام إلا من صفوة متعلمة؛ فلا يعرف إلا 144 عالم رياضيات في العصور القديمة كلها. وبينما كانت المكتبات العظيمة تمتلئ بكتب التاريخ، كانت المجموعات الخاصة الصغيرة، الموضوعة بعناية على الأرفف خلف الأبواب المغلقة، هي ما لعب دورا حاسما في نقل العلم. ما كان ليصبح بمقدور عالم رياضيات أو طب أو فلك أن يدرس دون امتلاك بضعة كتب خاصة به، ولا كان ليصبح بمقدوره أن يعلم الطلاب الذين تجمعوا حوله. ولأن هذه الأنواع من مقتنيات الكتب كانت خاصة، لا يتوافر إلا النذر اليسير من الأدلة التاريخية على وجودها، ولكن يمكننا أن نفترض باطمئنان أنها جمعت طوال المسيرة المهنية لباحث ما، بدءا من المدرسة. كان من شأن الباحثين أن يستعيروا النصوص من معلميهم وزملائهم ويصنعوا منها نسخا لأنفسهم، أو يجعلوا عبيدهم أو تلاميذهم يفعلون ذلك لأجلهم.
كان التعاون أمرا ضروريا؛ إذ كان يتعين على الباحثين أن يتآزروا معا كي يتشاركوا ما لديهم من موارد، وغالبا ما كانوا يفعلون ذلك في المدن الكبيرة، حيث كان يوجد بالفعل تقليد للتعلم ومكتبة؛ فكان من الصعوبة البالغة تحقيق أي تقدم في العلم بمعزل عن الآخرين. ولهذا السبب لعبت أماكن مثل الإسكندرية هذا الدور الأساسي في تاريخ العلم. كان كل المهتمين بالتعليم الأكاديمي يعرفون ذلك؛ فإذا أرادوا أن يحرزوا تقدما ويتحصلوا على النصوص وينالوا فرصة العمل مع علماء آخرين، كان عليهم أن يرتحلوا إلى أحد هذه المراكز. من المرجح أنه كان يوجههم إلى أثينا أو الإسكندرية معلموهم الذين سبق لهم أن درسوا في هاتين المدينتين على الأرجح، في شبابهم. ففي عصر كان يصعب فيه للغاية الوصول إلى المعرفة والأفكار، استند البحث الفكري على شبكات من الأشخاص المتشابهين في الميول والأفكار، لكنها كانت صغيرة جدا. عاش أرشميدس، أكثر علماء العالم القديم عبقرية، في سرقوسة في صقلية؛ التي كانت مكانا منعزلا نسبيا فيما يتعلق بالبحث العلمي. وعندما مات معاونه، كونون، أخذ أرشميدس يفتش باستماتة عن شخص «ملم بالهندسة» ليحل محله. واشتكى أيضا في مقدمة أطروحته «خطوط حلزونية» من أنه «رغم انقضاء سنين عديدة ... لا أجد أن أي أحد قد أثار أي معضلة من المعضلات».
4
هذه الصيحات الحزينة تظهر مدى قلة عدد الناس الذين كانوا يدرسون العلم في هذا المستوى. أولئك هم القلة القليلة من العلماء الذين كان يتعين عليهم العمل معا وتشارك خبراتهم ومواردهم، لا سيما الكتب.
كانت الإسكندرية عاصمة العالم الفكري لأكثر من ألف عام؛ لذا ليس من قبيل المصادفة أن الرجال الثلاثة الذين سوف نتتبع أفكارهم في هذا الكتاب عاشوا ودرسوا جميعهم هناك. في العقود الأولى بعد إنشاء المدينة، فتش بطليموس الأول جاهدا عن باحثين ليأتوا ويساعدوه في تحويل مدينته إلى مكان للتعلم ينافس أنطاكية وأثينا ورودس. الأدلة شحيحة، ولكن يبدو أن إقليدس كان واحدا من أولئك الباحثين، وأنه جاء من أثينا نحو عام 300ق.م، حيث كان أفلاطون، منذ بضعة عقود فقط، منشغلا بتعليم الرياضيات والفلسفة في الأكاديمية، تحت اللافتة التي تعلن: «لا تدعوا أي جاهل بالهندسة يدخل إلى هنا.» من المؤكد أن إقليدس قد جلب كتبا معه إلى الإسكندرية، ولا بد أن هذه الكتب نسخت وأضيفت إلى المكتبة. استقر إقليدس في وطنه الجديد، حيث حظي بدعم بطليموس الأول، وشرع في العمل مع باحثين آخرين مشابهين في الميول والأفكار، ربما في المكتبة نفسها. تصوره شذرات المعلومات المتاحة عن شخصيته، التي قد تكون صحيحة أو لا، على أنه رجل مجتهد يقظ الضمير، «ودود ومتعاطف مع كل من لديهم القدرة بأي قدر على تحقيق تقدم في الرياضيات ... ومع أنه عالم بحق، فإنه لا يتفاخر بنفسه».
5
ومما يؤكد هذه الرؤية هذا الكم الضخم من العمل والتنظيم اللذين لا بد أنهما بذلا في إخراج أطروحة «العناصر»، فضلا عن أعماله الأخرى. أقام إقليدس، الذي كان رجلا جادا، مولعا بالكتب، يحب الرياضيات حبا جما، في الإسكندرية، واستمرت مدرسة الرياضيات، التي تشكلت حوله، لقرون. أخرجت رحلته إلى الجنوب عبر البحر، بعيدا عن أثينا، دراسة الرياضيات من تحت عباءة الفلسفة، مما أتاح لها أن تصبح موضوعا مستقلا بذاته.
لم يكن إقليدس أكثر رجال الرياضيات في العصور القديمة براعة في الابتكار، فذلك الشرف ممنوح بالإجماع لأرشميدس، ولكنه كتب أعظم مرجع رياضي في كل العصور. في أطروحة «العناصر»، قدم إقليدس للعالم تفسيرا متقنا للمبادئ الشاملة للرياضيات، معروضة بطريقة منظمة وواضحة لدرجة أنه كان لا يزال يستخدم ككتاب دراسي بعد مرور 2300 سنة،
3
كما أنه، حسب أحد الباحثين، «مارس تأثيرا على العقل البشري يفوق تأثير أي عمل آخر فيما عدا الكتاب المقدس».
6
إن أطروحة «العناصر» دراسة منهجية للمعرفة الرياضية المتاحة في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ لذا يقف إقليدس في مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ الرياضيات، عند نهاية تقليد قديم يمتد إلى الوراء على الأقل 2000 عام، وعند بداية العصر الذي نحن ورثته. بشرت أطروحة «العناصر» بحلول حقبة جديدة من الرياضيات، موحدا الأفكار الأساسية لهذا الفرع من العلم ومرتقيا به، من مجرد حل معضلات محصورة محددة، إلى مجموعة من المبادئ التي يمكن تطبيقها وإثباتها بشمولية؛ أي شيء يمكن ممارسته والاستمتاع به لذاته.
شكل 2-2: صفحات من مخطوط كتاب إقليدس «العناصر» باليونانية، الذي كتب على جلد الرق في القسطنطينية سنة 888 قبل أن يشتريه أريثاس من باتراس، الذي يمكن رؤية تعليقاته في الهوامش وأسفل النص. يعد المخطوط أقدم نسخة كاملة للنص كما أنه أقدم كتاب مؤرخ لمؤلف يوناني كلاسيكي.
ومن أجل تحقيق هذا، لا بد أنه كان لدى إقليدس إمكانية الاطلاع على عدد ضخم من النصوص الرياضية؛ تلك التي امتلكها شخصيا، والتي استكملت بنصوص أخرى كانت موجودة بالفعل في مجموعات النصوص الكائنة في الإسكندرية. واستنادا إلى حجم المادة التي تناولها، من المرجح أن يكون قد تلقى العون من مجموعة من الباحثين كانوا يعملون تحت توجيهه. وبعد تقييمه منهجيا للمعلومات المتاحة لديه، بدأ إقليدس وضع الأساسيات المطلقة، بدءا من تعريفات الأساسيات؛ «النقطة هي شيء ما لا جزء له»، «الخط هو طول ليس له عرض».
7
ثم عرض كل موضوع عرضا منطقيا، بالترتيب، منظما كل شيء بحيث كان الأمر منطقيا وكان كل قسم يؤدي بشكل طبيعي إلى القسم الذي يليه.
أطروحة «العناصر» مقسمة إلى ثلاثة عشر كتابا. يركز الكتاب الأول على نظرية فيثاغورس، ويمثل الكتاب الثاني مقدمة للجبر الهندسي، ويتناول الكتابان الثالث والرابع الدوائر، ويفحص الكتاب الخامس، وهو الأكثر إثارة للإعجاب، مسألة التناسب، بينما يطبقها الكتاب السادس على الأشكال الهندسية. تدور الكتب السابع والثامن والتاسع حول الأعداد، والكتاب العاشر حول الجذور التربيعية، وتشرح الكتب من الحادي عشر إلى الثالث عشر الأشكال الهندسية المجسمة. لم يكن إقليدس أول من يحاول تنظيم المعرفة الرياضية، ولكن نسخته كانت بارعة للغاية، وأوضح بكثير من أي عمل سبقها، حتى إنها سرعان ما أصبحت النص المرجعي في الرياضيات. كان العيب في هذا الأمر أن النساخ والباحثين لم يعودوا ينسخون الأعمال الأقدم التي استند إليها الكتاب. حجبت أطروحة «العناصر» تلك الأعمال وحلت محلها بدرجة كبيرة للغاية، حتى إنه لم يصلنا إلا أطروحة رياضية واحدة فقط أقدم منها. أحدث إقليدس تحولا في موضوعه، وهو الرياضيات، وذلك عن طريق ابتكاره معايير وطرق شاملة لممارسة الرياضيات؛ بإدخاله لمنهج البرهان، وهي فكرة ربما يكون قد استقاها من أرسطو، والتي تستخدم منذ ذلك الحين ليس في الرياضيات فحسب، وإنما في كل العلوم الدقيقة. فهو يشرح النظريات بمجموعة من التعريفات، تدعى «البديهيات»
axioms (كلمة مشتقة من اليونانية، وتعني «الأشياء التي يمكننا أن نعدها مسلمات».) مستخدما مصطلحات محدودة ومحددة بدقة شديدة حتى يصبح بمقدور كل شخص أن يفهم ما يعنيه؛ وبعد ذلك يبرهنها مستخدما رسوما بيانية وإثباتات هندسية، تحمل حروفا من الأبجدية؛ وهي ممارسة علمية لم تتغير لأكثر من 2000 عام.
لا نعلم كيف استقبل أقران إقليدس أطروحة «العناصر»، ولا عدد النسخ التي صنعت في تلك المرحلة المبكرة، ولكن بوسعنا أن نفترض أن نسخة واحدة على الأقل أنتجت لصالح مكتبة الإسكندرية، حيث يمكن للباحثين الآخرين أن يتبادلوا الآراء بشأن الكتاب ويعيدوا نسخه. لا ضير أيضا أن نفترض أن نسخا قد أرسلت إلى المراكز الفكرية الرئيسية للعالم القديم؛ أثينا وأنطاكية ورودس لتعزيز مقتنياتها من الكتب والنصوص الرياضية. إن البدايات التاريخية لهذا الكتاب المبدع غير مكتملة؛ فلا يوجد سوى آثار قليلة دالة على وجوده في القرون القليلة الأولى التي أعقبت وفاة إقليدس. فقد عثر في جزيرة إلفنتين (التي هي في الوقت الحالي جزء من مدينة أسوان المعاصرة) على شظايا من الفخار ترجع إلى القرن الثاني محفور عليها أشكال وطرائق عمل من الكتاب الثالث عشر؛ أي أن شخصا ما في جزء بعيد من مصر كان يعمل على استنباط أفكار إقليدس، ولم يكن يعمل على مجرد مبادئ الهندسة الموجودة في الأقسام الأولى من أطروحة «العناصر» فحسب، وإنما على الكتاب الأخير، الأكثر تعقيدا، الذي كان بمثابة التتويج للمشروع بأكمله. ظهرت أيضا بقايا من ورق بردي، تحوي رسوما بيانية إقليدية، في مكب قديم للنفايات بالقرب من مدينة أوكسيرينخوس (قرية البهنسا الحالية) في مصر الوسطى، إلى جانب قطع صغيرة من آلاف من المخطوطات والوثائق الأخرى، التي حفظها المناخ الجاف في رمال الصحراء. بقايا برديات أوكسيرينخوس، التي كتبت ما بين عامي 75 و125، هي أقدم وأكمل النماذج لرسوم إقليدس البيانية. تبرهن هذه الاكتشافات على أن أطروحة «العناصر» كانت بالتأكيد تقرأ وتستخدم؛ ومن ثم كان يعاد نسخها وتحفظ، في الفترة التي أعقبت وفاة إقليدس، ولكن من الصعب أن نستخلص استنتاجات عامة بشأن شهرتها من هذا القدر الضئيل من الأدلة.
في القرن الأول قبل الميلاد بدأ التقليد النشط للتعليقات الشارحة لأطروحة «العناصر» - على يد عالم الفلك جيمينوس، الذي عاش في رودس - يقدم دلائل قاطعة على أن نسخة واحدة على الأقل من عمل إقليدس الرائع قد شقت طريقها إلى هناك. ومع تطور الفروع المختلفة من العلم، تزايد تناول الباحثين لأعمال الأجيال السابقة وكتابتهم لتعليقات مفصلة تشرح النص الأصلي وتوضحه، غالبا في أعمدة إلى جواره، وفي بعض الأحيان في كتب منفصلة. وقد أصبحت التعليقات فيما بعد أحد أكثر الأشكال المعتادة للكتابة العلمية، وباعتبارها «الأداة الثقافية المهيمنة»
8
في أواخر العصور القديمة، لعبت دورا حيويا في نقل الأفكار من جيل إلى جيل. فقد كتب ستة رياضيين تعليقات مهمة على أطروحة «العناصر» في الفترة بين عام 300ق.م وعام 600 ميلادية، مبرهنين على مستوى محدود، ولكنه ثابت، من الاهتمام. في الحقبة الهلنستية الأقدم، كان البحث الرياضي يتسم بالابتكار والاكتشاف؛ أما هذه الأعمال فهي على النقيض، تدل على الطبيعة المنهجية للرياضيات في فترة ما بعد إقليدس، وهي فترة اتسمت بالاستيعاب والتنظيم وليس بالإبداع.
كانت أكثر التعليقات تأثيرا تلك التي كتبها ثيون الإسكندري (335-405 ميلادية)، وهو عالم رياضيات شهير آخر، ووالد الفيلسوفة وعالمة الفلك الكبيرة هيباتيا.
4
عندما تمكن ثيون من قراءة أطروحة «العناصر»، كان قد مضى على كتابتها 600 سنة وكان بحاجة إلى تحديث. فعمل ثيون على تنقيح وتوضيح عمل إقليدس، مضيفا إثباتات جديدة، ومطوعا اللغة، بل إنه حذف أقساما كانت لا تبدو منطقية. كانت نسخته المعدلة ناجحة جدا؛ فأعيد نسخها مرات كثيرة وانتشرت في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط. وأصبحت هي النسخة المرجعية، والمصدر الرئيسي الوحيد لكل النسخ المعدلة الأخرى للنص طوال العصور الوسطى وما بعدها، حتى سنة 1808، عندما حدث أمر مذهل. كان باحث فرنسي يدعى فرانسوا بيرار يفرز كومة من الكتب كان نابليون قد «تحصل» عليها من مكتبة الفاتيكان وأخذها عائدا إلى باريس. من بين تلك الكتب كان يوجد مخطوطة لأطروحة «العناصر» يختلف اختلافا كبيرا عن نسخ ثيون المعدلة. وسرعان ما أدرك الباحثون أن هذه النسخة من النص لم تكن تحتوي على تنقيحات وإضافات ثيون؛ إذ كانت نسخة أقدم ولذا كانت أكثر أصالة؛ لذا كانت أقرب إلى نص إقليدس الأصلي. كانت المخطوطة التي عثر عليها بيرار قد نسخت في القسطنطينية نحو سنة 850 ميلادية؛ لذا ظلت مخبوءة لما يقرب من ألف عام، فغفل عنها الباحثون لقرون، وجسدت خيطا جديدا مثيرا يربطنا بإقليدس نفسه. بعد ذلك بثمانين سنة، استخدم جيه إل هايبرج، الذي كان أستاذ فلسفة دنماركيا، المخطوطة، مع نسخ معدلة، وأجزاء من مخطوطات وإشارات أخرى، من أجل إعداد صيغة نهائية للنص. ولا تزال نسخة هايبرج المعدلة الأساس الذي بنيت عليه النسخة المرجعية المعاصرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس.
في القرون التي أعقبت وفاة إقليدس في نحو عام 265ق.م، واصلت الحياة الفكرية في الإسكندرية ازدهارها، لا سيما في العلوم والأدب والطب. وبعد أن توطد حكم السلالة الحاكمة البطلمية، بدأ صفوة اليونانيين يهتمون بثروات الثقافة المصرية القديمة. فاتبعوا بعض العادات المحلية (بما في ذلك تقليد زواج الأشقاء الذي كان مثار جدل)، وترجمت نصوص مصرية إلى اليونانية في المكتبة وامتزجت التقاليد الفكرية. كان يوجد برنامج غير مسبوق من الترجمة اليهودية، مع صدور أول نسخة يونانية من أسفار موسى الخمسة (وهي النسخة المعروفة باسم الترجمة السبعينية) من العبرية على يد مجموعة من شيوخ اليهود اختيرت بعناية.
كما يعلم أي شخص يهتم باقتناء الكتب، لا يلزم أن يكون لديك كثير من الكتب على رفوفك ليصبح إجراء بعض التنظيم أمرا ضروريا. وسرعان ما أدرك أمناء المكتبة الإسكندريون أنهم بحاجة إلى الاحتفاظ بسجل لمجموعات الكتب والنصوص، وإلى وضعها على الرفوف بنوع من التنظيم الذي يمكن القراء من العثور على عناوين بعينها. فصنع كاليماخوس القوريني، وهو شاعر بارع ارتبط اسمه بالمكتبة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، فهرسا تفصيليا باللفائف، يدعى «بيناكيس». لم يبق إلا أجزاء من 120 مجلدا أصليا، ولكنها تكشف عن أن النصوص قسمت إلى القوائم الآتية: البلاغة والقانون والملاحم والتراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي والتاريخ والطب والرياضيات والعلوم الطبيعية وأشياء أخرى متنوعة. وكانت هذه هي أول محاولة جادة لتنظيم المعارف في مخطط شامل؛ ومن ثم، كانت تمثل نقطة تحول في تاريخ الأفكار. أيضا قدم فهرس «بيناكيس» مسردا موجزا بأعمال كل كاتب وأدرج كتبهم في قوائم، فلم ينشئ تراثا علميا فحسب، وإنما أيضا تقليدا بإنتاج مادة تصف كلا من المؤلف والعمل نفسه. بلغ هذا التقليد الشارح لنص بنص آخر (أو التقليد فوق النصي) على درجات التعبير عنه في الميدان المقدس للأدب اليوناني، الذي كان يضم مئات من الباحثين الذين كانوا يدرسون وينقحون ويتجادلون حول المسرحيات وشعر هوميروس ويوربيديس وسوفوكليس وغيرهم، الذين نسخت أعمالهم وبيعت في كل أنحاء البلدان الناطقة باليونانية، وكثير من هذه النسخ هو الأساس الذي بنيت عليه الطبعات التي وصلت إلينا في وقتنا الحاضر عبر الأجيال.
قاد البطالمة بأنفسهم هذه الملحمة الفكرية. فكان أول أربعة من هذه السلالة الحاكمة معروفين باهتمامهم بأنشطة علمية متباينة؛ فأحدهم كان شاعرا، وآخر كان مفتونا بعلم الحيوان. حضر كل الملوك البطالمة، انتهاء بكليوباترا (التي كانت هي نفسها عالمة لغويات)، مناسبات ومناظرات في المتحف (الموزيون)، وكان الاهتمام الفكري سمة بارزة في حكمهم. غير أنه في القرن الأول قبل الميلاد كانت قوة عالمية جديدة آخذة في الصعود، ولم يمض وقت طويل حتى وصلت جيوشها لتحتل المدينة الباهرة. بحلول عام 80ق.م أصبحت الإسكندرية رسميا تحت الحكم الروماني، ولكن سمح لحياتها الفكرية بالاستمرار، دون عوائق. ومع الأسف الشديد، عانت المكتبة من خسارتها الكبيرة الأولى سنة 48ق.م، عندما هاجم يوليوس قيصر المدينة وأحرقت قواته مستودعا ضخما للفائف في الميناء. ليس ثمة شك في أن هذا كان غير مقصود؛ فقيصر، على أي حال، كان معروفا بحبه للكتب وكان مسئولا في السابق عن تعريف إيطاليا بالمكتبات العامة (كشأن أمور كثيرة أخرى في الثقافة الرومانية، كانت المكتبات العامة فكرة مأخوذة من اليونان). وعلى الرغم من اللفائف المفقودة، وعلى الرغم من الاحتلال الروماني، أعقب ذلك فترة ازدهار كبير؛ إذ أمدت مصر سادتها الجدد بالحبوب، واستمرت المدينة المركز الرئيسي للمعرفة اليونانية.
في نهاية القرن الأول الميلادي، كان شاب يسمى كلاوديوس بطليموس واحدا من آلاف من الناس الذين كانوا يعيشون في هذه الحاضرة العظيمة. ويظهر الامتزاج بين اسمه الأول اليوناني-الروماني، كلاوديوس، ولقبه المصري، بطليموس (ولا توجد علاقة بينه وبين الأسرة الحاكمة، كما ظن كثير من الباحثين لاحقا)، القدر الذي قد أصبح عليه التشابك بين الثقافتين في الإسكندرية. لم يترك كلاوديوس بطليموس لنا إلا القليل للغاية من المعلومات عن حياته، ولكن من المحتمل أنه تلقى تعليمه في الإسكندرية وأمضى وقتا يدرس في الموزيون لينمي لديه حصيلة من المعارف التي سوف يستند إليها في عمله. ما نعرفه هو أنه كان مفتونا بعلم الفلك، حتى إنه كان يمضي لياليه يحدق في النجوم، مكرسا حياته لمحاولة تسجيل واستيعاب حركاتها؛ واعتقد أن قيامه بذلك يقربه من الذات الإلهية.
لا بد أن بطليموس كان رجلا يتسم بفضول هائل، وشخصا منبهرا بالعالم الذي كان يعيش فيه وعازما على إثراء إدراكنا له. فألف كتبا كثيرة، تغطي مجموعة مذهلة من الموضوعات وهي علم الفلك والرياضيات والجغرافيا والتنجيم، بل أيضا نظرية الموسيقى والبصريات؛ وهي دراسة الضوء والرؤية. ولقرون عديدة بعد موته، كان أكثر ما يشتهر به هو كتابه «الجغرافيا»، والذي يعد محاولة ثورية لوصف ووضع خريطة للعالم المعروف. أما في وقتنا الحاضر، فإن أكثر ما يشتهر به هو تأليف كتاب «الأطروحة الرياضية» الذي تناول فيه بالوصف السماوات والأجرام السماوية (وقد ترجم إلى العربية باسم «المجسطي»، ومنه جاء اسمه اليوناني
Almagest ). يشرح جيرد جراسهوف، مؤلف كتاب «تاريخ فهرس نجوم بطليموس»، تأثيره غير العادي، فيقول: «يتشارك كتاب بطليموس «المجسطي» مع كتاب إقليدس «العناصر » المجد من حيث كونه النص العلمي الأطول أمدا من حيث الاستخدام. فمنذ أن تبلورت فكرته في القرن الثاني وحتى أواخر عصر النهضة، صنف هذا العمل الفلكي باعتباره علما.»
9
كشأن إقليدس، عمل بطليموس في مكتبة الإسكندرية، ربما إلى جانب باحثين آخرين، آخذا في فرز كل ما يمكنه العثور عليه من أعمال في مجال الفلك، من التراث البابلي والمصري واليوناني، إلى جانب مصادر تراث أخرى. فأخضع نظريات وملاحظات للتقييم والاختبار، قبل أن يضع المعلومات بطريقة واضحة عقلانية ويضيف إسهامات مبتكرة من بنات أفكاره. كما يوضح في تمهيد كتاب «المجسطي»:
سنحاول أن ندون ملاحظاتنا عن كل شيء نظن أننا قد اكتشفناه إلى وقتنا الحاضر؛ وسنفعل هذا بأوجز ما يمكن وعلى نحو يمكن متابعته من جانب أولئك الذين أحرزوا بالفعل بعض التقدم في المجال. وحرصا على الاكتمال في معالجتنا سوف نضع كل شيء من شأنه أن يفيد نظرية السماء بالترتيب الصحيح، ولكن حتى نتجنب الإطالة التي لا داعي لها، سنسرد فقط ما أثبته القدماء إثباتا كافيا. أما تلك الموضوعات التي لم يتعامل أسلافنا معها على الإطلاق، أو لم يتعاملوا معها باهتمام يكافئ مدى أهميتها الحقيقية، فسنناقشها باستفاضة قدر استطاعتنا.
10
كان نهج بطليموس في التعاطي مع الكون رياضيا، وهو بديل لوصف أرسطو المادي للسماء، الذي افترض فكرة أن النجوم مرتبة على كرات كريستالية تدور حول نفسها. في هذا الشأن، استرشد بطليموس بأطروحة «العناصر» ودورها الجوهري في تطور الرياضيات؛ فهو لم يستخدم عمل إقليدس العظيم نموذجا أسلوبيا فحسب، بل أيضا يقول بصراحة إنه يعتمد على امتلاك القارئ خلفية قوية عن النظرية الهندسية. ووضعت نماذجه الخاصة بحركة الكواكب بالاستعانة بالهندسة الإقليدية وشرحت باستخدام نظام المسلمات والرسوم البيانية. أضف إلى ذلك أن عمل بطليموس، مثل أطروحة «العناصر»، مقسم إلى ثلاثة عشر كتابا تأخذ القارئ في جولة في سماء الليل، مبتدئا في الكتابين الأول والثاني بالمعرفة الرياضية اللازمة، ثم مركزا على الشمس والقمر في الكتب الثلاثة التالية. الكتاب السادس يدور كله حول الخسوف والكسوف، بينما يضع الكتابان السابع والثامن قائمة للنجوم. وتدور الكتب الخمسة الأخيرة حول الكواكب، وتجسد إسهام بطليموس الأهم والمبتكر في مجال الفلك؛ إذ تصف نموذجا رياضيا معقدا يبين الكيفية التي تتحرك بها الكواكب، اعتمادا على بيانات أخذها من عالم الفلك اليوناني الأسبق هيبارخوس،
5
ومن عمليات الرصد التي أجراها بنفسه. كان نموذج بطليموس للسماء قائما على مركزية الأرض، وفيه الأرض ثابتة في المركز، وكما سنرى، ظل هذا هو الاعتقاد السائد حتى عام 1543، عندما طرح كوبرنيكوس مبدأ الكون الشمسي المركز، حيث وضع الشمس في المركز. •••
يوجد الكثير من أوجه التشابه بين أفكار كل من إقليدس وبطليموس؛ لذا من السهل نسيان أنه كان يفصل بينهما أربعة قرون من الزمن. كانت الإسكندرية مختلفة اختلافا تاما عندما كان بطليموس يجوب شوارعها، لكن تراث المعرفة الذي بدأ في فترة حياة إقليدس كان لا يزال باقيا وكانت الإسكندرية لا تزال مكانا رائعا لأي شخص لديه اهتمامات فكرية. اجتذبت المكتبة الطلاب والباحثين من جميع أنحاء منطقة البحر المتوسط، الذين، بدورهم، أضافوا إلى مجموعات الكتب أعمالهم وكتبهم التي جلبوها معهم. آنذاك، كما هو الحال الآن، كان البحث العلمي يزدهر معتمدا على التعاون وتشارك الأفكار؛ أي نقل وتبادل المعرفة. استطاع بطليموس تأليف كتاب «المجسطي»؛ لأن الإسكندرية منحته الظروف التي احتاجها لإنتاج هذا العمل المتفرد، الظروف التي ببساطة لم تكن متاحة في أي مكان آخر في ذلك الوقت.
استند بطليموس في عمله إلى عمليات رصد للسماء أجراها فلكيون سابقون، وتحديدا المصادر البابلية القديمة والبيانات التي أعدها هيبارخوس، ولكنه هو الآخر أجرى بنفسه عمليات رصد خلال الفترة من 26 مارس سنة 127 وحتى 2 فبراير سنة 141. في هذه المرحلة من تاريخ الفلك، اقتصرت عمليات الرصد هذه على التحديق في السماء ليلا وتدوين ملاحظات عن مواضع النجوم والكواكب. استخدم بطليموس أدوات متنوعة لأخذ القياسات، بما في ذلك المساطر وذات الحلق والأسطرلاب، ولكنها لم تكن دقيقة على الإطلاق. كانت الأسطرلابات، التي اخترعت في وقت ما في القرن الثاني قبل الميلاد أجهزة معقدة؛ إذ كانت عبارة عن صفائح دائرية من النحاس الأصفر منقوشة عليها إسقاطات خرائطية معقدة للقبة السماوية، يمكنها قياس الزوايا والمساعدة في التنبؤ بتحركات النجوم. على مر التاريخ، كانت الحاجة إلى تصميم أدوات فعالة أحد أعظم التحديات التي تواجه الفلكيين، وهي محور جهدهم لإنتاج أدق بيانات يستندون إليها في عمليات الرصد العلمية التي يقومون بها.
شكل 2-3: إعادة ترميم (بلوحات الإفريز الأصلية) لهيكل زيوس الهائل، وهو واحد فقط من المباني العامة الرائعة في بيرجامون القديمة، حيث نشأ جالينوس.
وفي الوقت الذي كان فيه بطليموس مشغولا بوضع نظام منهجي لنظرية فلكية في الإسكندرية، وصل شاب آخر إلى المدينة ليبحث في نوع آخر من المعرفة وهو الطب. وعلى النقيض من الشخصيات الغامضة لإقليدس وبطليموس، نجد كلاوديوس جالينوس وكأنه يثب خارجا إلينا من صفحات التاريخ، التي كتب كثيرا منها بنفسه. كان جالينوس، وهو الاسم الذي صار معروفا به، واحدا من أغزر كتاب العصور القديمة، وكان يقوم بدعاية غير عادية لذاته (زعم تكرارا أنه «وصل بالطب إلى الكمال»)،
11
والذي أدت به عبقريته في الطب إلى الانتقال من موطنه في بيرجامون إلى جوار الإمبراطور في روما. يمكننا تخيله وهو يصل بالقارب إلى الإسكندرية، شاب ماهر مفعم بالطاقة، يمتلئ بغطرسة الشباب، عازم على ترك بصمته في هذا العالم.
كان الحظ حليف جالينوس حيث ولد في بيرجامون عام 129 ميلادية. في هذه المرحلة، كانت المدينة تنعم بفترة من النجاح الباهر؛ إذ كانت الدولة الرومانية تحميها وتفضلها، وكانت عوائد ضخمة من الزراعة والمعادن والتجارة تتدفق على خزائن البلدية، وإلى جيوب مواطني بيرجامون. كان والد جالينوس معماريا ثريا ومهما؛ وهو اختيار ممتاز للمهنة في مدينة كانت تخضع لبرنامج رائع من إعادة البناء والترميم. فهناك عاش وعمل في مجتمع ضخم من العمال والبنائين المتخصصين؛ فكان من المتوقع أن يتردد في الشوارع صوت مطارقهم وهم ينحتون المعابد الجديدة وقاعات المحاضرات والمسارح من الحجارة والرخام. وزادت هذه الإنشاءات الجديدة من تميز مدينة كانت تعد بالفعل واحدة من أروع المدن في العالم القديم، والتي كانت مقرا لهيكل ضخم مكرس لزيوس، ومسرح مدرج منحوت في جانب الجبل، وأكروبوليس على غرار الأكروبوليس الكائن في أثينا.
6
تلقى جالينوس تعليما متميزا في الأجواء الفكرية المفعمة بالحيوية التي سادت المدارس العليا والمكتبة في بيرجامون، تحت رعاية تمثال أثينا، إلهة الحكمة ذات العينين الرماديتين. ربما كان يقتفي أثر والده، ولكن، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، حدث أمر غير مجرى حياته. رأى والد جالينوس حلما أخبره فيه الإله أسكليبيوس أن ابنه ينبغي أن يصير طبيبا. ومن تلك اللحظة، ركز جالينوس على الطب. كان هذا أيضا بداية علاقته الشخصية العميقة بالإله الذي اتبع نصيحته، التي تلقاها عن طريق الأحلام، بقية حياته. تدرب جالينوس على يد أساتذة كانوا يعملون في الأسكليبيون (معبد الإله أسكليبيوس)؛ الذي كان جزء منه عبارة عن مستشفى، وجزء يمثل منتجعا، وجزء بمثابة مزار مقدس، وأحد أهم المراكز العلاجية في العالم القديم. كان الناس يأتون من كل حدب وصوب ليعالجوا هناك، والقرابين الصغيرة (النذور) التي كانوا يتركونها لاسترضاء أو شكر الآلهة هي أبلغ دليل على يأس الجنس البشري في مواجهة المرض. مات والد جالينوس عندما كان جالينوس في العشرين من عمره، وسرعان ما شد الرحال بعد ذلك مباشرة إلى مدرسة الطب في سميرنا، قبل أن ينتقل إلى كورينثوس. ومن هناك، سافر إلى الإسكندرية - التي كانت في ذلك الوقت، مركزا كبيرا للطب والمكان الوحيد الذي يمكنك أن تدرس فيه الهياكل العظمية البشرية - تلك المدينة التي كانت بمثابة وجهة مهمة للطبيب الشاب الطموح.
لم يمتدح جالينوس الإسكندرية مطلقا، ولكن على الرغم من أنه اشتكى من كل شيء، من الطعام إلى الطقس ومن المصريين أنفسهم، فقد مكث في المدينة خمسة أعوام وتعلم الكثير عن التشريح والجراحة. كذلك درس عن كثب علم الأدوية؛ إذ كان يوجد تراث عظيم فيما يتعلق بإنتاج الأدوية في مصر وكان بمقدوره أن يحصل على صيغ دقيقة غير محرفة من الوصفات الدوائية. كتب جالينوس باستفاضة عن النباتات المحلية والطعام؛ فهو يصف الذهاب إلى ميناء المدينة للتحدث إلى البحارة بشأن الحصول على عقاقير من مناطق بعيدة. وكان هذا النهج الوقائي العملي فيما يتعلق بالطب هو السمة التي ميزت مساره العملي بكامله.
شكل 2-4: نذور تشريحية عثر عليها في معبد أسكليبيوس في أثينا، منحوتة بحيث تجسد أجزاء مختلفة من الجسم. يعتقد أنها كانت تقدم قرابين للإله أسكليبيوس أملا في أن يشفي المرضى الذين كانوا يعانون من أسقام معينة.
بدأ جالينوس يكتب وهو في سن المراهقة، وهذا يفسر، جزئيا على الأقل، إنتاجه الهائل، «المنتشر انتشارا مجهدا»، على حد وصف أحد المؤرخين، الذي يبلغ نحو ثلاثة ملايين كلمة تعرف معا باسم «مجموعة الكتابات الجالينوسية».
12
ومما يبعث على الدهشة أن مجموعة الأعمال هذه تشكل ما يصل إلى نحو نصف الأدبيات الباقية لليونان القديمة، ولكنه ليس سوى جزء من عشرة ملايين كلمة كتبها، وفق التقديرات. كشأن إقليدس وبطليموس، كانت قدرة جالينوس على إجراء الدراسات الاستقصائية وتقييم النظريات التي تلقاها عن أسلافه من الأطباء، وقدرته على تقديمها في شكل متسق ميسر، هو ما يجعله على هذا القدر من الأهمية.
13
ومع ذلك، وعلى خلاف إقليدس وبطليموس، لم يفعل جالينوس هذا في مجلد واحد ضخم ملائم (بما يخدم مقاصدنا على وجه الخصوص). إن إسهامه الهائل في تخصص الطب منتشر في مئات الكتب المنفصلة التي تغطي نطاقا ضخما من الموضوعات. ونحو خمسها عبارة عن تعليقات على أبقراط (460-370ق.م)، عملاق الطب القديم، الذي قدم الأساس الذي بني عليه عمل جالينوس نفسه. فقد كان «النموذج الرباعي» لأبقراط عن الأخلاط والخصائص الأساسية (الأرض والهواء والنار والماء) والمواسم والعمر، هو ما استلهم منه جالينوس نظامه الخاص. كانت فكرة الأمراض القائمة على فكرة الأخلاط القائلة إن الجسم البشري يحتوي على أربعة سوائل؛ العصارة السوداء والعصارة الصفراء والبلغم والدم، وأن عدم التوازن في هذه الأخلاط يسبب المرض، هي المبدأ الطبي السائد وصولا إلى القرن التاسع عشر. كذلك حقق جالينوس اكتشافات مهمة خاصة به. فكان أول من أثبت أن الشرايين تحمل الدم، وبهذا أحدث تحولا في المعارف المتعلقة بالجهاز الدوري. وبين الفرق بين أنواع الأعصاب واستخدم تقنيات جراحية رائدة. ومع ذلك، كان شغفه الأعظم هو التشريح، ومع أنه لم يكن قادرا على تشريح الجثث البشرية (إذ كانت هذه الممارسة غير قانونية في الإمبراطورية الرومانية منذ سنة 150ق.م)، فقد نقل المعرفة التي اكتسبها من تشريح الخنازير والقرود، وهو شيء عادة ما كان يفعله على الملأ، أمام جمهور متحمس. ولم يعارض أحد النظريات الناتجة إلى أن نشر أندرياس فيزاليوس بحثه الثوري عن التشريح سنة 1543.
في سن الثامنة والعشرين، عاد جالينوس إلى بيرجامون، مسقط رأسه، ليصبح طبيبا في مدرسة المجالدة هناك. بحلول ذلك الوقت، كان قد أمضى عشرة أعوام يدرس، وهو «أطول تعليم طبي مسجل»،
14
وبفضل ذلك، تشكلت نظرة عامة فريدة عن هذا الفرع من العلم. كان المجالدون هم صفوة الرياضيين في ذلك الوقت، وأثناء معالجته لجروحهم، حظي جالينوس بمعلومات متعمقة عن وظائف الأعصاب والعضلات، مما ساعده على بناء خبرة عملية من شأنها أن تعود عليه بفائدة كبيرة لاحقا في مساره المهني. فاستحدث طرقا جديدة لخياطة الأنسجة العضلية العميقة وابتدع علاجات مبتكرة لمعالجة الإصابات.
في عام 161 ميلادية، انتقل إلى روما، حيث ذاع سريعا صيته بوصفه معالجا موهوبا. واستمر يؤلف الكتب، ونقح الأعمال التي كان قد كتبها سابقا، وبدأ يعطي محاضرات عامة ويقدم عروضا تشريحية. تنعم جالينوس بوصفه عضوا موقرا من صفوة الرومان؛ فكان ثريا ومثقفا وذا علاقات قوية، ولكنه ظل نوعا ما دخيلا، يوناني في عالم روما. كان يكتب دائما بلغته
7
وكان أحيانا ما يبدي ازدراءه للمجتمع الإمبراطوري، وبخاصة سلوكه تجاه الدراسات العملية، شاكيا من:
مادية الأثرياء وذوي النفوذ ... الذين يؤثرون المتعة على الفضيلة، الذين لا يعبئون بأولئك الذين يحوزون معرفة دقيقة ما ويمكنهم أن يمنحوها الآخرين ... ولكن الاحترام الذي يمنحونه رجال العلم يتوافق فقط مع حاجتهم العملية إليهم. فهم لا يرون الجمال الخاص لكل دراسة ولا يطيقون المثقفين. وهم يحتاجون إلى الهندسة والحساب فقط في حساب النفقات وفي تحسين قصورهم، والفلك والكهانة فقط في التكهن بمن سوف يرثون ماله.
15
يسهم التقييم، الذي يحمل إدانة دامغة للحياة الفكرية الرومانية، في تفسير السبب وراء ضآلة تأثير الأفكار العلمية في أوروبا الغربية في أواخر العصور القديمة وما بعدها. فقد كانت ترجمة النصوص العلمية اليونانية إلى اللاتينية نادرة، وكانت على نحو شبه دائم تلخص وتوجز كجزء من الموسوعات. ترجمت بعض أعمال جالينوس إلى اللاتينية (فالرجل، في الواقع، أمضى فترات طويلة في روما)، ولكن الأعمال التي لم تترجم لم تعد تستعمل مع اختفاء اللغة اليونانية تدريجيا بعد انقسام الإمبراطورية في القرن الخامس الميلادي. وفي الشرق، بعدما أصبحت الأديرة المراكز الأساسية للمعرفة وإنتاج الكتب، سقطت نصوص جالينوس الفلسفية، التي لا تستسيغها العقول المسيحية، هي الأخرى في غياهب المجهول. أما أعماله الطبية، بأهميتها العملية المباشرة، فكانت هي الأوفر حظا في أن يعاد نسخها ومشاركتها. وكما سنرى في الفصل التالي، فإنها حفظت في بادئ الأمر بواسطة المجتمعات المسيحية في سوريا وفارس، قبل أن يكتشفها الباحثون العرب في القرن التاسع.
لم تكن شهية جالينوس الفكرية النهمة قاصرة على الطب. فقد غرس فيه تعليمه المبكر في بيرجامون شغفا بالفلسفة، وكان أحد أكبر إنجازاته إدماج الأفكار الأرسطية مع الفكر الطبي. وأدخل هذه السمة في أعمال متنوعة، وأبرز مثال على ذلك كتابه «أفضل طبيب هو أيضا فيلسوف»، وكذلك أطروحة «حول وظيفة الأعضاء»، التي تمثل بحثه الهائل في علم التشريح؛ فكلا العملين يربط بطريقة حاسمة الفلسفة بالطب. كان جالينوس مفتونا أيضا بعلم فقه اللغة؛ أي الدراسة التاريخية للغة وتأليف القواميس؛ وهما مجالا خبرة ضروريان لرجل جمع مكتبة ضخمة من المخطوطات التي ترجمها ونقحها بنفسه.
كان الكم الهائل من كتابات جالينوس مصدر إزعاج له عندما تعلق الأمر بالنقل. فقد كانت ببساطة كثيرة إلى درجة أنه لم يكن ممكنا أن تبقى جميعها. أدرك جالينوس هذا وكان رد فعله النموذجي أن أنتج المزيد من الأعمال، مفصلا أي أبحاثه كانت الأكثر أهمية والكيفية التي ينبغي قراءتها بها. حلت مدرسة الطب بالإسكندرية هذه المشكلة بنظم أربع وعشرين من دراساته فيما يعرف باسم «منهج جالينوس»؛ الذي دعي فيما بعد، على نحو يبعث على الارتباك، باسم «الستة عشر كتابا». كان على الطلاب أن يقرءوها بترتيب معين، والنتيجة كانت تعليما طبيا وجيزا وشاملا في الوقت نفسه. كان منهج جالينوس ناجحا للغاية حتى إنه انتشر في سوريا وإيطاليا، وشكل أساسا للتعليم الطبي في كل أنحاء العالم الإسلامي من القرن العاشر وما بعده. قال فيفيان نوتون، الخبير الأبرز في جالينوس والطب القديم بوجه عام، عن منهج جالينوس: «لا يمكن أن نوفيه قدره.»
16
فهذا المنهج حدد أطر دراسة الطب لقرون واقتضى أن يفهم الأطباء المبادئ التي يستند إليها العلم، مساعدا في الوقت نفسه على إضفاء الطابع المهني على هذا الفرع من المعرفة وفرض معايير صارمة.
لم يكن ثمة أحد أكثر صخبا بشأن شهرة جالينوس منه هو نفسه؛ إذ زعم أن لديه طلبات من مرضى يعيشون في كل أنحاء الإمبراطورية، وأملى أطروحات على عشرين ناسخا في وقت واحد، وكان هذا إنتاجا نصيا ضخما؛ لذا لا عجب أن التوزيع الجغرافي لعمله كان واسع النطاق للغاية. في السنوات التي تلت وفاته في روما، نحو سنة 210، كان نسخ الأطروحات الجالينوسية يحدث في أماكن بعيدة مثل المغرب، وسيطر جالينوس على موسوعات العصور القديمة. وكما هو الحال مع كتابي «العناصر» و«المجسطي»، أجبر حجم «مجموعة الكتابات الجالينوسية» الباحثين على ابتكار طرق لمعالجة المعلومات واختصارها. كان عمل مخطوطات يستنزف قدرا كبيرا جدا من الوقت والمال؛ لذا كانت النسخ الجديدة التي تشمل هذه الأعمال بمجملها نادرة. كثفت الأفكار العلمية ونقلت عن طريق مؤلفات ثانوية - الموسوعات والتعليقات والقواميس والملخصات - وليس في الشكل الذي كان كتابها يسعون إليه، ولكن على الأقل بقي بعض من الأفكار الأساسية وجرى تناقله من جيل إلى جيل.
بحلول نهاية القرن الخامس، كانت خريطة المعرفة قد تغيرت تغيرا جذريا. كان أغلب مراكز المعرفة القديمة قد تلاشى، وأغلقت المدارس، ونهبت المكتبات وأحرقت، أو تركت لتتلاشى في سكون. كانت الإسكندرية لا تزال مركزا للتجارة وللأفكار، ولكن المكتبة كانت مجرد طيف لما كانت عليه في الماضي. في عام 415، كانت طغمة من المتعصبين المسيحيين قد قتلت الفيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباتيا. فاعتقادا منهم أنها ساحرة، سلخوها حية بأصداف المحار، ثم تحولوا باهتمامهم صوب المعبد الرائع للإله سيرابيس ومجموعة اللفائف التي يحويها، ونزعوا «أحجار المعبد؛ ما أدى إلى سقوط أعمدة الرخام الضخمة، وانهيار الجدران نفسها».
17
كان هذا انتصارا ساحقا للمسيحيين في الإسكندرية. كان السيرابيوم في السابق مركز المعرفة والسلطة الوثنية، وكان تدميره رمزا «للحرب الواسعة النطاق التي تشنها المسيحية على الثقافة القديمة ومقدساتها؛ الأمر الذي كان يعني الحرب على المكتبات».
18
انقلبت الأوضاع مجددا، بعد قرنين من الزمن، بوصول العرب، في عام 641. حينذاك، لم يكن قد بقي الكثير من مكتبة الإسكندرية، وكانت مجموعتها تتألف في معظمها من مؤلفات تتناول موضوعات عن الديانة المسيحية، التي لم تكن محط اهتمام الفاتحين المسلمين. يحكى أن الخليفة أمر بأن ترسل كل اللفائف، عدا لفائف أرسطو، إلى الحمامات العامة، حيث وضعت في الأفران التي كانت تسخن ماء الاستحمام. وعلى ما يبدو، استغرق الأمر ستة أشهر لإحراقها كلها. هذه قصة جيدة، ولكن الحقيقة أقل دراماتيكية وتسلية. لقد كان المصير الأرجح للمكتبة التدهور التدريجي. فكان الحبر يبهت والبردي يتفتت متحولا إلى تراب. وإذا لم يفكر أحد في صنع نسخ جديدة، كان ضياع المخطوطات يصبح أمرا محتوما. اندثرت المكتبة العظيمة، ولكن سمعتها المدوية ظلت رمزا أبديا لسلطان المعرفة وكذلك لمأساة فقدها.
بحلول عام 500 ميلادية، كانت الإسكندرية آخذة في الأفول؛ إذ تجاوزتها، في الحجم والأهمية السياسية، مدينة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان أباطرة القرن السادس منشغلين ببهرجة عاصمتهم بالمباني الضخمة أكثر من الاعتناء بالمكتبة الإمبراطورية، التي كانت قد أنشئت في أواسط القرن الرابع. لم يكن أي من حكام الإمبراطورية في هذه الفترة مهتما بالمعرفة العلمية بالطريقة التي سيكون عليها الخلفاء، الذين سوف نلتقي بهم لاحقا، أو حتى بالطريقة التي كان عليها الملوك البطالمة الأوائل. لا بد أنه ظلت مجموعات كتب خاصة صغيرة توجد في القسطنطينية، وبالتأكيد كانت توجد نسخ من أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس في المجموعة الإمبراطورية بعد ذلك بنحو قرنين من الزمان. إلا أنه في عام 500، كان مصير كتابات روافد العلوم القديمة الثلاثة العظيمة غير يقيني. فلم يبق إلا بضع نسخ من «المجسطي » و«العناصر»، إلى جانب نصوص مختارة من مجموعة الأعمال الضخمة لجالينوس، متناثرة بين كل من مصر وسوريا والأناضول واليونان. وقبع بعضها، منسيا، في أطلال المعابد القديمة، أو مختفيا في صناديق قديمة في مكتبات مهملة وبعضها الآخر كان يمكن العثور عليه في بعض الأديرة أو موضوعا على الأرفف في مجموعات كتب خاصة، تحت حماية عدد قليل من الباحثين الذين تمكنوا من إبقاء جذوة علوم الفلك والرياضيات والطب متقدة إلى أن بزغ فجر الفترة العظيمة التالية من البحث العلمي، في بغداد إبان العصر العباسي.
هوامش (1)
مكتبات حقوق الطبع والنشر في بريطانيا، والتي تعرف أيضا باسم «مكتبات الإيداع القانوني»، هي المكتبة البريطانية ومكتبة بودلي ومكتبة جامعة كامبريدج والمكتبات الوطنية لاسكتلندا وويلز. (2)
عندما مات الإسكندر في بابل، استولى بطليموس سوتير على جثمانه وأعاده إلى مصر ليوطد مركزه باعتباره الوريث الأساسي للإسكندر. (3)
كانت أطروحة «العناصر» تستخدم ككتاب مدرسي في بريطانيا حتى ستينيات القرن العشرين. (4)
قصة هيباتيا هي واحدة من أكثر القصص مأساوية وإثارة للاهتمام في العصور القديمة كلها وجعلت منها أشهر عالمة في تلك الحقبة التاريخية. كانت هيباتيا شخصية ذات دور قيادي بين أرباب الفكر في مدينة الإسكندرية، علمها والدها ثيون وعملت إلى جواره، ولكنها أصبحت هدفا لعداء المسيحيين للثقافة الوثنية واغتيلت على يد حشد من الغوغاء المتعصبين دينيا. (5)
تندر المعلومات الموثوقة عن حياة هيبارخوس، ولكن من المحتمل أنه كان نشطا في رودس زهاء 190-120ق.م، حيث دون مجموعة من الملاحظات استخدمها بطليموس في نماذجه الفلكية. ورغم أن عناوين العديد من أعمال هيبارخوس معروفة لنا، فإنه لم يبق منها إلا عمل واحد. (6)
كثير من آثار هذه المدينة، وفيها هيكل زيوس، موجود الآن في متحف بيرجامون في برلين. (7)
لم يكن هذا أمرا غير معتاد. كانت الدولة الرومانية ثنائية اللغة؛ إذ كان غالبية الصفوة يتحدثون اليونانية واللاتينية.
الفصل الثالث
بغداد
بغداد، قلب الإسلام، وبها مدينة السلام. ولهم الخصائص والظرافة، والقرائح واللطافة، هواء رقيق، وعلم دقيق. كل جيد بها، وكل حسن فيها. وكل حاذق منها، وكل ظرف لها . وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وكل ذب عنها. هي أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تنعت، وأعلى من أن تمدح.
المقدسي
كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»
الزمان: ربيع عام 917 ميلادية.
فوج من السفراء يصل إلى بغداد، أرسلته الإمبراطورة البيزنطية زوي، من عاصمتها، القسطنطينية. هم هنا للتفاوض على بنود معاهدة سلام؛ بعد أن كانت الإمبراطوريتان البيزنطية والإسلامية تتحاربان لقرون على حدودهما المشتركة، التي تسري من الشرق إلى الغرب عبر شبه جزيرة الأناضول. يوضع السفراء في واحد من قصور المدينة الكثيرة، حيث يقضون شهرين بانتظار أن يجهز مضيفوهم لاستقبالهم. يأمر حاكم بغداد المسلم، المقتدر (895-932)، الخليفة الثامن عشر للدولة العباسية، بتجديد مجمع القصور بالكامل إكراما لهم؛ فيعاد ترتيب الأثاث، وتعلق مئات الستائر، وتوضع سجاجيد منسوجة جميلة آتية من كل أنحاء الإمبراطورية، وتلمع السروج وتشذب الحدائق.
ويحل أخيرا يوم الاستقبال.
أول قصر كان سيدخله السفراء هو خان الخيل، بأعمدته الرخامية البديعة. «وكان في الدار من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهبا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال. وكل فرس في يدي شاكري بالبزة الجميلة.» من هنا، ننتقل إلى حير الوحش، حيث «كان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتتشممهم وتأكل من أيديهم». في الدار التالية كان يوجد «أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي، على كل فيل ثمانية نفر من السند [في الهند] والزراقين بالنار». وينوه الخطيب البغدادي (1002-1071)، الذي سجل وصفه في تأريخه لبغداد، بجدية قائلا: «فهال الرسل أمرها.» وذلك كان، بالطبع، الهدف من المبادرة.
1
يمضي الخطيب فيصف، في تفصيل يحبس الأنفاس، دارا تحوي مائة أسد، مكممة الأفواه ويمسك بها حراسها، وبستانين بينهما بركة ونهير يحدهما رصاص مصقول يشع بياضا كالفضة، ويطفو عليهما أربعة قوارب لها مجالس مزركشة. كانت الحدائق المحيطة ممتلئة بأشجار غريبة، منها 400 نخلة، كانت جذوعها محاطة بنحاس مذهب. لا بد أنه قد استخدم مئات من الحرفيين لصنع هذه العجائب، التي تظهر كامل مجد الأشغال المعدنية والبراعة الفنية العربية للبيزنطيين. بعد ذلك جاء أكثر المشاهد روعة على الإطلاق: «دار الشجرة ، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة، مدورة فيها ماء صاف، وللشجرة ثمانية عشر غصنا لكل غصن منها شاخات [أفرع] كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة. وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مذهب. وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر؛ وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر.» لا بد أن هذا كان منظرا ساحرا حقا؛ خليط من حرفية وأشغال ميكانيكية بارعة أظهرت إنجازات الثقافة البغدادية على أكمل وجه.
القصر التالي كان أقل خفاء في رسالته؛ إذ كان معلقا على حوائطه آلاف القطع من الدروع، وواقيات الصدر، ودرقات من الجلد، وجعبات محلاة وقسي، وكان يصطف في ممراته عدد لا يحصى من العبيد من مختلف الأجناس، مختارين بعناية ليظهروا اتساع رقعة الممالك المسلمة. بعد طواف مرهق فيما لا يقل عن ثلاثة وعشرين قصرا في حر يوليو القائظ، خفف من وطأته فقط مشروب الشربات والماء المثلج، اقتيد السفراء أخيرا إلى حضرة الخليفة المقتدر.
فوجدوه جالسا على عرش من الأبنوس منجد بقماش مطرز بالذهب، يحيط به خمسة من أبنائه.
هذه الرحلة عبر دهاليز السلطة الإسلامية صممت لتظهر لسفراء بيزنطة أن الخلافة العباسية كانت لا تزال قوة لا يستهان بها، رغم أنها كانت قد فقدت أجزاء كبيرة من حدودها السابقة؛ ففي أوج مجدها، كانت الإمبراطورية الإسلامية قد امتدت من الساحل الأطلسي لأفريقيا إلى جبال الهيمالايا. كان لا يزال في وسعها أن تستحضر السباع والفيلة ونافثي النار من الهند؛ وكان لا يزال في وسعها أن تقدم عرضا. وعاصمتها، بغداد، كانت لا تزال مركزا مهما من مراكز البحث العلمي.
ولكنها كانت في انحدار؛ فمنذ قرن واحد فقط، كانت بغداد في ذروة عصرها الذهبي، لم يكن لها مثيل في أي مكان في العالم لجمالها ورقيها وعلمها وروعتها. في القرن الأول الباهر من الحكم العباسي، كان الخليفة يوصف بأنه ظل الله على الأرض؛ كان حاكما رائعا وكان نفوذه هائلا. في هذه الفترة المبكرة، صنع ثلاثة خلفاء تأثيرا خاصا؛ المنصور (714-775)، الحاكم الثاني للأسرة الحاكمة، الذي أنشأ بغداد وأصبح راعيا ملهما للبحث العلمي؛ وحفيده، هارون الرشيد (763-809)، الأشهر في الوقت الحالي نظرا للتجسيد الممتع، رغم كونه خياليا إلى حد كبير، لمغامراته في كتاب «ألف ليلة وليلة»، والذي لم يكن محاربا مخيفا وزعيما عالميا فحسب، وإنما كان أيضا داعما متحمسا للبحث العلمي؛ وأخيرا، ابن هارون، الخليفة المأمون (786-833)، الذي استقطبت بغداد تحت عنايته أعظم عقول ذلك الزمان، والذي دفع المعرفة الإنسانية إلى الأمام، عبر مزيج يجمع بين الثروة والتنوير والفضول والطموح.
لو كان السفراء البيزنطيون قد خرجوا من أجواء القصر الراقية، لوجدوا أنفسهم في مدينة تعج بالحياة؛ إذ كان يتنافس فيها نصف مليون شخص، من العرب والفرس والأتراك والبدو والأفارقة واليونانيين واليهود والهنود والسلاف، من أجل البقاء والنجاح. كانوا يأكلون وينامون ويصلون ويعملون جنبا إلى جنب في أكبر بوتقة صهر على الأرض. جلب كثيرون إلى المدينة عبيدا؛ شحنات بشرية مربحة أكثر حتى من الحرير.
1
وأولئك الذين جاءوا بإرادتهم كانوا غالبا يتعقبون حلما ما؛ تجار يأملون في صنع ثرواتهم، أو مغنون يأملون في أن يصنعوا لأنفسهم اسما، أو باحثون يأملون في تحقيق اكتشافات. وكان لهذا الخليط من الأجناس واللغات والعقائد تأثير جوهري على اتساع المعرفة في المدينة؛ إذ كانت الكتب تترجم حتى تنكشف المعرفة التي تحويها للثقافات الأخرى، بينما كان لدى الباحثين القدرة على إضافة أفكارهم وتقاليدهم إلى عمل الآخرين. كان التبادل الثقافي يحدث بحرية في بغداد؛ مما أدى إلى انفجار للمعرفة من كل الأنواع؛ فيما يتعلق بالعلوم التي هي محط التركيز الرئيسي لقصتنا، ولكن أيضا فيما يتعلق بعلم اللاهوت والنظرية السياسية والفلسفة والقانون والتاريخ والثقافة، وفي المقام الأول، الشعر. كان الخلفاء ورجال حاشيتهم يعظمون الشعر، الذي عادة ما كان يغنى، باعتباره جزءا من التقليد الشفاهي النشط الذي كان يميز الثقافة العربية. وكان الإماء والمغنون الذين يؤدون ويعزفون يكافئون بالشهرة العظيمة، والتوقير والثروة.
كان الخلفاء العباسيون مجتمعين على الإخلاص لربهم ولدور الخليفة بوصفه «أمير المؤمنين». وارتبط بهذا إيمانهم بأن سلالتهم الحاكمة كان مقدرا لها أن تحكم، وأن تظل تحكم لقرون. من الصعب أن ندرك إدراكا كاملا مدى الأهمية التي كانت عليها القدرية لرجال ونساء العصور الوسطى في كل أنحاء العالمين الإسلامي والمسيحي. في عالم يعج بمخاطر وفوضى لا توصف، كان من المهم الشعور بأن أيا كان ما تفعله هو جزء من خطة إلهية؛ وكان هذا ينطبق على فلاحين يزرعون محاصيلهم أو تجار يشدون الرحال لرحلة، مثلما ينطبق على خلفاء يتزعمون إمبراطورية. وجدت وسائل متعددة لاكتشاف إذا ما كان الإله الذي تعبده راضيا عن خططك، لكن سماء الليل كانت أقوى تلك الوسائل. فمنذ بدء الحضارة، خلبت النجوم ألباب البشر، ولم يستثن من ذلك أهل بغداد في العصور الوسطى؛ فخلال الليالي الطويلة الحارة، كانوا يستلقون على ظهورهم على الأسطح المنبسطة لمنازلهم، يحدقون إلى أعلى نحو السماء المتلألئة، ويضفون على النجوم أهمية هائلة. كما أوضح الخليفة المأمون نفسه:
أما ترى ذا الفلك السائرا
أبيت من هم به ساهرا
مفكرا فيه وفي أمره
فما أرى خلقا به خابرا
يخبر عن لطف تدابيره
وكيف أضحى للورى حاضرا
يا ليت شعري هل أرى مرة
أكون في أبراجه سائرا
أكون مع طالعه طالعا
طورا ومع غائره غائرا
حتى أرى جملة تدبيره
وأعرف المستور والظاهرا
2
في عالم متقلب تقلبا مخيفا، قدمت النجوم خريطة للمستقبل، لمحة عن عالم السماء الغامض وكذلك المفتاح لاكتشاف أسرار الأرض بالأسفل. في وقتنا الحاضر، نميز بين علم الفلك، أي دراسة النجوم والكواكب، وبين التنجيم، أي تأويل تأثيرها على شئون البشر. أما في بغداد العصور الوسطى، فلم يعتمد مثل هذا التمييز بين الفرعين المعرفيين؛ فقد كان الناس يعتقدون أن التنجيم يمكن أن يتنبأ بالطقس والكوارث الطبيعية والأوبئة، بل أيضا بصحتهم الشخصية وطالعهم وسمات شخصيتهم (عن طريق خرائط الأبراج)؛ فاستخدموه لاتخاذ قرارات بشأن كل مجال من مجالات حياتهم. كان التنجيم جسرا بين عالم البشر والإله، بين المعلوم والمجهول.
ونحن نمعن النظر في الماضي عبر القرون وصولا إلى بغداد في أوائل العصور الوسطى، من الصعب أن نكون صورة واضحة للغاية لما جرى هناك بالضبط، ولكن الإنتاج الغزير لمؤرخي بغداد المعاصرين يساعد على ذلك، وأكثر ما يفعل ذلك هو مؤلفات الطبري، ذلك الباحث الفارسي العظيم، الذي يصف كتابه «تاريخ الرسل والملوك» أفعال الخلفاء بتفصيل غالبا ما يكون مملا. هذا الكتاب، الذي يمتد امتدادا مضنيا إلى ثمانية وثلاثين مجلدا، هو واحد من أكثر مصادر المعلومات توازنا عن تلك الحقبة وصولا إلى عام 915، وإن لم يكن أكثرها إمتاعا في القراءة. ثمة كتاب أكثر إمتاعا بكثير وهو كتاب النديم، «الفهرست»، الذي يلخصه في مقدمته فيقول: «هو فهرست لكتب جميع الشعوب، من العرب والعجم، الموجودة بلغة العرب، وكذلك لكل مخطوطاتهم، التي تتناول علوما متنوعة، مع ترجمات لأولئك الذين ألفوها.»
3
هذا الكتاب، الذي كتب في نهاية القرن العاشر، هو مصدر رئيسي للمعلومات عن كل أنواع المعرفة، والكتاب والباحثين في العالم العربي آنذاك. نشأ النديم، الذي كان ابنا لبائع كتب بغدادي، محاطا بالكتب والباحثين، وفي كتاب «الفهرست»، يرسم صورة نابضة بالحياة للبحث العلمي في العصر الذهبي. إن كتابه الرائع هو نتاج حياة كاملة قضاها في تبادل أطراف الحديث وفي البحث في الأوساط الفكرية لمدينته.
بحلول الوقت الذي كان فيه الباحثون يطالعون كتاب «الفهرست» في محال بيع الكتب في بغداد، كانت تقريبا المجموعة الكاملة للكتابات الخاصة بالمعارف القديمة، اليونانية والمصرية والهندية، والفارسية بالفعل قد استعيدت، وترجمت إلى العربية ونقحت نقديا. وفي حين كان أوروبيون كثيرون يعيشون في ضنك ويحاولون صد هجمات الفايكينج،
2
كان العلماء في بغداد قد قاسوا محيط الأرض، وأحدثوا ثورة في دراسة النجوم، وطوروا معايير صارمة للترجمة وأساليب للممارسة العلمية، وصنعوا خريطة للعالم، وارتقوا بأساس نظامنا العددي الحديث، وحددوا قواعد الجبر، وأنشئوا فروعا جديدة في الطب، وحددوا أعراض العديد من الأمراض. وفي وقت قصير بدرجة مدهشة، كان العباسيون وأتباعهم قد أعادوا رسم خريطة المعرفة وجعلوا من بغداد مركزا مهما للدراسة العلمية، يغمرها وهج عصر ذهبي من الاكتشاف والتنوير.
قبل ذلك بقرنين فقط، كانت بغداد قرية فارسية صغيرة تتمحور حول دير نسطوري على ضفاف نهر دجلة.
3
حدد لها موقعها الجغرافي، معالم طريق العظمة؛ ففي المكان الذي يتدفق فيه نهرا دجلة والفرات بعضهما بالقرب من بعض، تقع مدينة بغداد في قلب الأرض القديمة الخصبة لبلاد الرافدين، التي وصفها بعبارات متنوعة كتاب معاصرون بأنها «السرة» أو «ملتقى العالم». وعلى مدى خمسة آلاف عام أو نحو ذلك، استقر الناس هنا، وزرعوا محاصيلهم وحفروا قنوات للري. ازدهرت الزراعة، وكان الطعام وفيرا؛ في أوقات كانت الأرض فيها تنتج ثلاثة محاصيل في العام، حتى إن كثيرين اعتقدوا أنها كانت موضع جنة عدن. شكلت الثروات الضخمة التي تولدت من هذه الخصوبة أساس سلسلة من الإمبراطوريات في الحوض الأخضر الخصيب بين النهرين؛ البابليين، والسومريين، والآشوريين والأخمينيين، والمقدونيين بقيادة الإسكندر الأكبر وسلالة السلوقيين. في عام 150ق.م أصبحت جزءا من الإمبراطورية الفرثية، التي ظلت تحت سيطرتها حتى عام 224 ميلادية، عندما وصلت سلالة حاكمة فارسية تدعى الساسانيون، الذين حكموا المنطقة حتى منتصف القرن السابع.
كانت القبائل البدوية من شبه الجزيرة العربية تهبط على نحو متقطع على شعوب بلاد الرافدين المستقرة لقرون، فتتخلى عن أسلوب حياتها البدوي الخشن بحثا عن شيء أفضل، ولكن في منتصف القرن السابع حدث شيء كان من شأنه أن يحول مجرى التاريخ. ففي مغارة، عاليا فوق مدينة مكة، ظهر رئيس الملائكة جبريل لتاجر في الأربعين من عمره يدعى محمدا، ملقنا إياه وحيا دون بعد ذلك ليصير القرآن. وظهر دين الإسلام إلى الوجود. خلال العقود القليلة التالية، تنامى عدد أتباع محمد تناميا مطردا، حيث نشر رسالته أولا في المدينة ثم مكة وباقي شبه الجزيرة العربية، جاعلا قبائلها المختلفة تحت راية واحدة ومانحا إياها عقيدة موحدة يعيشون بموجبها. مات محمد في عام 632 ميلادية، ولكن أتباعه، مدفوعين بحماسة إيمانهم الجديد وتنقلهم بسرعة عظيمة خيولهم الرائعة، اجتاحوا مصر وسوريا وبلاد فارس. كان توقيتهم مثاليا. فقد كانت الإمبراطورية الساسانية، التي كانت جبارة يوما ما، على شفا الانهيار، بعد أن أضعفتها عقود من الحرب مع جارتها البيزنطية.
4
وفي حالات كثيرة، كان كل ما على المسلمين فعله هو أن يصلوا إلى بوابات المدينة وينظروا نظرة تهديد إلى قاطنيها آمرين إياهم بالاستسلام ودفع مبالغ مالية ضخمة على سبيل الجزية. سقطت مصر سريعا، وفي غضون عقود كان المسلمون قد اكتسحوا الشرق الأوسط بكامله وتجاوزوه، فهزموا الساسانيين وأخذوا مساحات كبيرة من الأراضي من البيزنطيين. كان العائد الذي تدفق على خزائنهم من هذه الفتوحات مذهلا؛ ثروة أججت الإسراف المتفشي الذي أصبح صفوة المسلمين مشهورين به. بحلول أوائل القرن الثامن، كانوا قد غزوا مساحة أكبر من الإمبراطورية الرومانية في أوجها؛ إذ بلغت هذه المساحة خمسة ملايين ميل مربع. ولأول مرة منذ ألف سنة، عادت الأراضي، التي كان قد وحدها في الأصل الإسكندر الأكبر، تحت حكم واحد.
كان المغزى الثقافي لهذا الأمر كبيرا. كان الإسكندر الأكبر، بصفته باسيليوس (ملك) مقدونيا، والمهيمن على العصبة الهيلينية، وشاهنشاه فارس، وفرعون مصر، وسيد آسيا، وربما الأكثر أهمية، تلميذ أرسطو، قد نشر لغة اليونان وفلسفتها ودينها وتقاليدها في أنحاء إمبراطوريته، مؤسسا مراكز خارجية للهلينية في أماكن بعيدة مثل الحدود مع الصين. وبتواضع اتسم به، سمى عشرين فقط من هذه المدن باسمه، مشكلا شبكة من مدن تحمل اسم الإسكندرية وتتغنى بالثقافة اليونانية لقرون بعد موته. كانت هذه «الحركة الواسعة من الانتشار الثقافي» بطيئة، ولكنها كانت أيضا طويلة الأجل؛ إذ بقيت ما يقارب ألف سنة.
4
بعد ألفية تقريبا من وفاته، أشرق ضياء كثير من مدن الإسكندر - مرو وحلب والإسكندرية وباكتريا وبعلبك - على خريطة المعرفة، ولأنها كانت كلها حينذاك في أقاليم يحكمها الخلفاء العباسيون، فقد أمدت العصر الذهبي البغدادي بأفكار وباحثين وكتب.
في العقود التي تلت الفتوحات الإسلامية، هاجر آلاف المسلمين نحو الشمال، حيث استقروا في العراق وإيران وإقليم خراسان الشاسع؛ وهي المناطق التي كانت خصبة ومزدهرة وموطنا لمدن طريق الحرير الرائعة مثل بلخ ومرو ونيسابور وسمرقند. ومع ذلك، سرعان ما اكتشف حكام الإمبراطورية الإسلامية الجديدة، مثلما فعل الإسكندر قبلهم، أنه كان من المستحيل فرض الحكم بالقوة؛ إذ كانوا أقل مما ينبغي، وتفرقت أعدادهم تفرقا كبيرا عبر الأقاليم الشاسعة التي كانوا قد غزوها. فتسامحوا مع رعاياهم من غير المسلمين وفرضوا عليهم الضرائب وفقا للشريعة الإسلامية. وشجعوا الاستمرارية كي يبقى السكان المحليون ويزرعوا، واعتمدوا أنظمة قائمة للحكم، ووظفوا وقلدوا وصاحبوا الكثير من المنتمين للصفوة الساسانية.
وكان مفيدا أن الثقافة الساسانية كانت واحدة من أكثر الثقافات تطورا وتأثيرا على وجه الأرض، وأن الثقافة العربية كانت شابة وبدائية نسبيا. فقبل ذلك ببضعة أجيال فقط، كان قوم محمد بدوا، يطوفون صحارى شبه الجزيرة العربية. أما حينذاك، فكانوا أثرياء ثراء يتجاوز أشد أحلامهم جموحا، وأرادوا أسلوب الحياة الذي يتماشى مع ذلك. أكل الساسانيون طعاما فاخرا، وعاشوا في منازل مترفة وأحاطوا أنفسهم بعلماء وموسيقيين وشعراء لامعين. وكان العرب مبهورين بذلك، فاستوعبوا بحماسة كل الأبهة التي تبديها فارس الساسانية، ودمجوها مع تقاليدهم الدمثة ليصنعوا واحدة من أكثر الثقافات التي رآها العالم إسرافا وروعة. أصبحت بغداد هي التعبير المطلق عن ذلك الاندماج، بفضل خلفاء الأسرة العباسية أصحاب الرؤية الاستشرافية.
في السنوات التي سبقت عام 750، حكمت سلالة الأمويين الإمبراطورية المسلمة، ولكن التصدعات الدقيقة التي كانت قد بدأت تشق صف الإسلام ما إن مات محمد كانت آخذة في التعمق؛ لا سيما الانشقاق الديني السني/الشيعي الذي قسم الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. مع تناحر آل بيت النبي بشأن من الأحق بالسلطة، عمل العباسيون (الذين يرجع نسلهم إلى العباس، عم محمد) بهدوء لنشر السخط. في عام 747، نشر زعيمهم، الذي كان يعرف باللقب الدقيق والمعبر، السفاح، راياته السود على مدينة مرو وأطلق العنان لثورة. وبعد أن استولى على السلطة، مضى في مطاردة وإبادة كل فرد من العشيرة الأموية في مذبحة جماعية اتسمت بالوحشية حتى بمقاييس عصرنا الحالي، والتي يزعم أنها بلغت الذروة في نبش القبور وحرق الجثث. ولكن أميرا أمويا شابا، يدعى عبد الرحمن، فر إلى إسبانيا، حيث أسس أسرة حاكمة منافسة. ومضى المنحدرون من نسله في بناء مركز نابض بالحياة في مدينة قرطبة، كما سنرى في الفصل التالي. كان حكم السفاح قصيرا مثلما كان عنيفا. وعندما مات متأثرا بمرض الجدري في عام 754، انتقلت الخلافة إلى أخيه، أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور (نحو 713-775).
لحسن الحظ، كان المنصور مختلفا تماما عن أخيه. كان طويلا، ذا لحية غير كثة وعينين ثاقبتين، وأمضى سنوات حكمه في توطيد السلطة وتحقيق الاستقرار. كان أعظم إنجازاته تأسيس عاصمة جديدة، أطلق عليها اسم مدينة السلام؛ المدينة التي ندعوها بغداد. في إطار إعادة تمركز السلطة بعيدا عن معقل الأمويين العربي في دمشق، عمد المنصور إلى تعزيز صلته بالصفوة الساسانية، عاملا على ترسيخ دعائم مدينته الجديدة لتمتد إلى مجد التراث الفارسي القديم. كان هذا أمرا رسميا وشخصيا على السواء؛ فأقرب أصدقاء المنصور كان فارسيا من خراسان، يدعى خالد بن برمك، الذي قدمت عائلته دعما أساسيا لثورة العباسيين. كان البرامكة، الذين كانوا يتصفون بالغرابة وبالثقافة، من بلخ، في أقصى شمال الإمبراطورية، حيث درسوا أرسطو وتعلموا قراءة اللغة اليونانية؛ فجسدوا، أكثر من أي أسرة فارسية أخرى، روح الثقافة الرفيعة والعظمة التي أبهرت سادتهم العرب. عمل ابن برمك على مساعدة المنصور في إيجاد موقع لعاصمته الجديدة. ومعا، سافرا جنوبا واختارا قرية بغداد الصغيرة، التي تبعد ثلاثين كيلومترا فقط عن العاصمة الساسانية القديمة قطيسفون.
شكل 3-1: خريطة أعيد ترميمها لبغداد في مرحلتها الأولى تظهر المدينة المدورة في المركز وبواباتها الأربع، وقنوات متنوعة تتقاطع مع الأحياء المحيطة بها. إلى اليسار، على الجانب الآخر من نهر دجلة، يوجد حي الشماسية، حيث بنى الخليفة المأمون مرصده.
كما بين المنصور لقادته العسكريين: «هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك.»
5
كانت بغداد ذات موقع مثالي، مع إمكانية الوصول المباشر منها، عن طريق قناتي السرات ونهر عيسى، إلى طرق التجارة الرئيسية؛ الشمال الغربي، عبر نهر الفرات إلى سوريا وما وراءها؛ والشمال الشرقي، على نهر دجلة، عبر الموصل؛ والجنوب، إلى الخليج الفارسي، البوابة إلى الهند، والصين والشرق الأقصى . أيضا تقع بغداد في مركز شبكة شاسعة من الطرق البرية. فكان من شأن المسافرين والتجار أن يهبطوا على طول طرق الحرير بقوافلهم المتعرجة، عبر جبال إيران، في طريقهم إلى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وسوريا، وساحل البحر المتوسط ويمضون من هناك إلى أوروبا.
بدا كذلك أن الظروف كانت مواتية عندما اكتشف المنصور وبرمك أن حتى التقليد المسيحي المحلي كان قد توقع أن ملكا يدعى مقلاصا سيؤسس مدينة عظيمة هناك. تذكر المنصور، وقد غمرته السعادة، أن مقلاصا كان أحد أسماء التدليل التي كان ينادى بها في طفولته، فصاح مسرورا: «أنا والله ذاك!»
6
رسم العالم الفارسي اليهودي ما شاء الله، وعربي يدعى الفزاري وزرادشتي يدعى نوبخت - الشخصيات اللامعة التي يتبعها فريق المنصور من منجمي البلاط، الذين بشر مزيجهم المبهج من الأجناس والعقائد بالطابع المتعدد الثقافات للبحث العلمي البغدادي فيما بعد - مخططات الأبراج لتحديد أنسب وقت للبدء في بناء المدينة الجديدة؛ 30 يوليو 762، في الساعة الثانية بعد الظهر. ووضع المنصور أول حجر بنفسه.
شكل 3-2: عمليات ترميم حديثة لبوابات بغداد تظهر التركيب الثنائي الحوائط والأبراج ذات الطابقين.
بعث المنصور مراسيم إلى جميع أركان إمبراطوريته، يطلب مهارات آلاف من العمال والمساحين والمهندسين والمعماريين والحدادين والنجارين والبنائين والعبيد كي يأتوا من أجل إقامة مدينة أحلامه. وباستخدام الرماد في رسم تصميمه المدهش على الأرض، ابتكر مدينة دائرية فريدة. وإذ كان يدير أولا بأول شئون كل تفصيلة من تفاصيل إنشاء المدينة، كان يبعث الرعب في نفوس عماله بتدقيقه في إنفاقهم تدقيقا شديدا، ملقيا بهم في السجن إذا عجزوا عن تقديم كشف حساب بكل نفقة كبيرة وصغيرة. كان يدفع للعمال حبتان أو ثلاث حبات من الفضة في اليوم، و1 / 24 من الدرهم للمعماريين المهرة. كانت كل طوبة توزن، وكل قرش يحسب؛ فربما كان يبني أعظم مدينة على الأرض، لكنه لم يكن يعتزم إهدار حفنة واحدة من الطمي. يخبرنا الطبري أنه بعد سنوات، عثر على طوبة من الجدران الأصلية محفورا على جانبها وزنها بالضبط. شكل جداران دائريان هائلان متحدا المركز من الطين المحمى محيط المدينة البالغ أربعة أميال، مع خندق مائي حول الجدار الخارجي. وشكل جدار ثالث في الداخل المكاتب الحكومية والمنازل. وقادت أربع بوابات شاسعة ثنائية القباب إلى أركان الإمبراطورية؛ البوابة الشمالية الشرقية إلى مدينتي خراسان والري، والشمالية الغربية إلى سوريا، والجنوبية الشرقية إلى مكة، والجنوبية الشرقية إلى البصرة والخليج الفارسي. في أوقات العصر الصيفية الحارة، كان الخليفة نفسه يحب أن يجلس في الغرفة العلوية للبوابة الشمالية الشرقية ليستمتع بالنسيم ويشخص ببصره نحو إقليم خراسان البعيد، الذي ساعده أهله على الوصول بسلالته الحاكمة إلى السلطة.
شكل 3-3: خريطة مفصلة للمدينة المدورة تظهر المسجد الكبير والحوائط الدفاعية الثنائية.
في تباين صارخ مع كثيرين من ذريته، لم يكن المنصور مسرفا. «لم يكن يتجنب السخاء المفرط عندما كان يوجد شيء يحصل عليه في المقابل، ولكن كان من شأنه أن يرفض إسداء أصغر معروف إذا كان سينجم عنه تكبد خسارة ما.» أسفر تقتيره عن خزانة بها 14 مليون دينار و600 مليون درهم عند وفاته.
7
ولوضع ذلك في السياق، كان يوجد نحو عشرين درهما فضيا مقابل كل دينار ذهبي وقدر الطبري أن تكلفة الخروف كانت نحو درهم واحد. مكتسبا لقب «أبو الدوانيق» (الدانق هو سدس الدرهم)، حمل المنصور طباع العباسيين من حيوية ورؤية مستقبلية وشدة، لكنه افتقر إلى الإسراف والعيش للمتعة اللذين سيشتهر بهما سليلاه هارون الرشيد والمأمون. كان المنصور، الذي كان ورعا مقترا عازفا عن الخمر لا يحب الموسيقى ويكره الحفلات، سيصاب بالذهول من أسلوب الحياة المترف لذريته، سواء الحكايات الخليعة لكتاب «ألف ليلة وليلة» أو الزعم بأن الخليفة المتوكل ضاجع 4000 محظية (رغم أنه من المفترض أنه لم يضاجعهن جميعا في الوقت نفسه). عوضا عن ذلك، وبتوجيه من صديقه ابن برمك، احتضن المنصور البحث العلمي. وفي عام 766، بنى مسجد المنصور الكبير بجوار قصر البوابة الذهبية في المدينة المدورة، وسريعا أصبح المسجد قبلة للباحثين في مجال العلم.
مثلما هو حالها اليوم، كانت المساجد ومدارسها مراكز للعبادة، ولكنها قادت كذلك المسيرة في التعليم والبحث العلمي، فأصبحت أماكن تتوجه إليها المجتمعات المحلية للتعلم وتشارك الأفكار ومناقشتها؛ إذ كانت أماكن تحفظ فيها الكتب وتنشأ فيها المكتبات. إن حب المسلمين للتعلم والتعليم نبع مباشرة من تعاليم النبي نفسه: «ما من شيء أعظم عند الله من رجل تعلم علما فعلمه الناس.»
8
في القرون القليلة الأولى، كان العلم والإيمان متناغمين؛ فلم يكن السعي إلى الحقيقة الدينية يدفع البحث الفكري على مستوى فلسفي واسع فحسب، بل كان أيضا يتطلب إجابات لحاجات عملية محددة؛ كاستنباط الاتجاه الدقيق لمكة حتى يمكن وضع سجادات الصلاة بطريقة صحيحة، أو معرفة أوقات اليوم من أجل الصلوات. لم تكن المذاهب الدينية قد بدأت تتضح بعد كما لم تكن قد بنت بعد أسوار الاتجاهات المحافظة التي من شأنها أن تعوق العلم في القرون اللاحقة. في تلك اللحظة، كان التبجيل الإسلامي للكتاب يمتد إلى كل الكتب؛ كانت الكتب بمثابة «نبع الحياة الروحية الذي لا ينضب».
9
في أواخر القرن الثامن، وصل بغداد منتج جديد كان من شأنه أن يغير عالم الكتب إلى الأبد وهو الورق. في عام 751، كان العرب قد هزموا الصينيين في معركة طلاس، في قيرغيزستان الحالية، في أعماق سهوب وسط آسيا الشاسعة. نقل اثنان من أسرى الحرب، اللذان كانا قد أخذا إلى سمرقند، سر كيفية صنع الورق من القنب ومن نباتات ليفية أخرى. وبني أول مصنع ورق في العالم العربي في سمرقند، ومن هناك تنقلت الفكرة تدريجيا على طرق الحرير، حتى وصلت بغداد في عام 793.
وتقريبا في الوقت نفسه الذي وصل فيه الورق إلى بغداد، كان يوجد أيضا أوجه تقدم تكنولوجية في تصنيع الحبر والغراء، وفي تقنيات تجليد الكتب. هذه التطورات مجتمعة كفلت للكتب أن تصبح أكثر جمالا وكذلك أكثر تحملا. ازدهرت أيضا فنون الخط وزخرفة المخطوطات ورسم المنمنمات مع توظيف أعداد متزايدة من الناس لتلبية الطلبات المتزايدة لهذه التجارة. وكان أعظم هؤلاء هم الوراقين، أو «تجار الورق»، الذين أداروا محال بيع الكتب. في أواخر القرن التاسع، أحصى الباحث المدعو اليعقوبي أكثر من مائة منهم في ضاحية ربض وضاح في بغداد وحدها . كان لديهم السوق الخاصة بهم هناك، ووظف كثيرون منهم فرقا من النساخ لإنتاج الكتب التي كانوا يبيعونها، والتي كانت تعرض على مناضد ذات حوامل؛ فالتصفح كان مشجعا. كان كثير من الوراقين باحثين بحكم ما لديهم من معرفة وصارت متاجرهم أماكن يجتمع فيها أهل الفكر؛ فكانت بمنزلة أكاديميات غير رسمية وحلقا للنقاش العلمي. وانضم بعضهم إلى عملية البحث عن المخطوطات، مرتحلين في كل حدب وصوب لكشف كنوز الحضارات السابقة. ساعد الوراقون أيضا في تمكين الباحثين من كسب قوتهم من الكتابة، وبتطوير تجارة الكتب، نقلوا المعرفة من بغداد في كل أنحاء دار الإسلام، كما كان يطلق على محيط النفوذ الإسلامي. ولولاهم، لما صار الإنتاج الأدبي الهائل للعالم الناطق بالعربية - إذ كان يوجد أكثر من 5000 مؤلف مسلم يكتبون بحلول نهاية القرن الحادي عشر - ممكنا.
في غضون أربعين عاما من إنشائها، كانت بغداد حاضرة مزدهرة. جاء الناس إلى هناك من كل أنحاء دار الإسلام وما بعدها، يجتذبهم وعود المدينة بالتسامح والسلام. فازداد تعداد السكان زيادة هائلة ونمت المدينة نموا مطردا؛ مما أوجد مشكلات عملية تتعلق بالمرافق الصحية والمؤن الغذائية والضرائب. احتاجت الإمبراطورية لبنية تحتية؛ طرق وجسور وأنظمة وقنوات ري، والتي اعتمدت كلها على أوجه التقدم في التكنولوجيا والتصميم. حتى أبسط المشروعات الهندسية استلزمت حسابات رياضية. كانت المعرفة الطبية ضرورية للمساعدة في علاج الأمراض وإنقاذ الأرواح. وكان التنجيم جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وبخاصة في الطب، حيث كان يستخدم في التشخيص. كان علم الفلك ذا أهمية جوهرية للتنجيم ولأي نوع من البحوث الجغرافية والملاحة ورسم الخرائط (التي كان لها أهمية عسكرية جلية). ولم يكن من الممكن متابعة أي من هذه الأمور بدون الرياضيات؛ لغة القياس والحساب والدقة. كانت الدراسة الأكاديمية والمعرفة العملية متشابكتين، وكانتا تمدان الإنتاج الثقافي ومساعي البحث العلمي بما يحتاجان إليه من زخم.
مع تحول قالب اللغة العربية من مجموعة غير محددة المعالم من التراث الشفاهي إلى لغة مكتوبة رسمية في القرن الثامن الميلادي، بدأ برنامج ضخم من الترجمة من اللغة الفارسية أو البهلوية (الشكل المكتوب من اللغة الفارسية الوسطى). كان كثير من الموجة الأولى من الكتب المزمع ترجمتها إلى العربية عبارة عن أطروحات عملية عن الحكومة والإدارة والنظام الضريبي، ولكن قبل ذلك بوقت طويل تحول الاهتمام إلى المجموعة الفارسية الواسعة من الكتابات في التنجيم والفلك. لعبت النجوم دورا كبيرا في الزرادشتية، ديانة الدولة في فارس الساسانية؛ فعلى مر القرون، كان الباحثون قد أنشئوا مجموعة معقدة من الأعمال حول هذا الفرع من فروع المعرفة، تضمنت أفكارا من الهند واليونان ومصر وخيوطا امتدت عائدة إلى الحضارة البابلية التي ترجع إلى عام 1800ق.م.
كانت الكتب تنقل من وإلى بغداد وعبر أنحاء العالم العربي بسهولة نسبية. وكان مما ساعد في هذه العملية خدمة البريد الحكومية، التي كانت تعمل في سائر أنحاء الإمبراطورية، مع رسائل كانت تحمل بواسطة مجموعات من الجمال والبغال والخيل والحمام تعمل بالتناوب. كان معلقا على جدران المكتب الرئيسي في بغداد خرائط ضخمة يستخدمها المسافرون والحجاج في التخطيط لرحلاتهم. وكانت شبكة من خانات القوافل (الفنادق الصغيرة) ودور رعاية المرضى وخزانات مياه على جانب الطريق تخدم الحجاج والتجار والباعة المتجولين والجنود والرسل والوعاظ وغيرهم من المسافرين. أثناء الليالي الطويلة، كان الناس يتجمعون حول نيران مخيمات خانات القوافل ليأكلوا ويشربوا ويستريحوا، والأهم من ذلك، ليتحدثوا ويتبادلوا أطراف الحديث؛ مما جعلهم مراكز حيوية للمعلومات، وكأنهم صحف ومواقع تواصل زمنهم. تآزر المسافرون معا، منضمين إلى قوافل الجمال الطويلة التي كانت تنقل البضائع عبر الإمبراطورية؛ إذ كانت تلك القوافل هي أكثر الطرق أمانا لمواجهة أخطار عبور صحارى شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وإيران. وكان من بينهم باحثون لديهم الاستعداد للسفر مئات الأميال، ومواجهة مخاطر العواصف الرملية والأمراض والسيول وقطاع الطرق والحيوانات البرية في بحثهم عن الكتب، مدفوعين بمخافة أن تضيع تلك الأفكار إلى الأبد. فسافروا شرقا عبر آسيا وشمالا إلى بلاد الأناضول في الإمبراطورية البيزنطية، حيث كانت اللغة اليونانية لا تزال اللغة الرئيسية. هنالك، أيضا، كانت توجد مدن قديمة تضم معابد قديمة وأديرة عامرة بالكتب.
في العقد السابع من القرن الثامن وأوائل العقد الثامن من القرن نفسه، هيأ المنصور وخالد بن برمك الظروف المثالية لازدهار العلم في بغداد . وعين يحيى، الابن الواسع الاطلاع لخالد، معلما خاصا لهارون الرشيد (حفيد المنصور) وكانت مصائر العائلتين، على الأقل حينذاك، مرتبطة معا برباط الحب والاحترام المتبادل. عندما صار هارون خليفة في عام 786، استدعى معلمه المحبوب، قائلا له: «أبي الصغير العزيز، أنت الذي وضعتني على هذا العرش، كان ذلك بعونك ومباركة السماء؛ نعم، بتأثيرك السار ونصحك الحكيم! والآن أمنحك سلطة مطلقة.»
10
أصدر يحيى تكليفا بأول ترجمة لأطروحة «العناصر»، وسرعان ما حذت كل صفوة بغداد حذوه المستنير، فضخوا المال في سبيل استرجاع النصوص القديمة. تزايد إنتاج الكتب تزايدا سريعا إذ كانت النصوص تتلى على غرفة مليئة بالنساخ حتى يمكن إعداد نسخ كثيرة في الوقت نفسه. وفي غضون جيل واحد، لم يكن أي قصر حقيقي يكتمل دون مكتبة تعج بالكتب، يعمل بها الباحثون والنساخ.
كان هارون الرشيد شخصية تحمل قدرا بالغا من التناقض؛ فقد كان منغمسا في الملذات، ومفعما بالنشاط، وعنيفا، وورعا، وكريما، وقاسيا، وأريبا. كان بذخ حاشيته أسطوريا. كان يمكن لزوجته، زبيدة، أن تضاهي أي ملياردير معاصر؛ فكانت تتناول الطعام بأدوات مائدة من الذهب والفضة، وابتدعت تزيين الأحذية بالياقوت. كانت ثيابها المبهرجة مرصعة بكثير جدا من الحلي حتى إنها عند نهوضها من مكانها، كانت تحتاج إلى أن تستند إلى خادمة على كلا جانبيها. عاش زوجها هو الآخر كل لحظة كما لو كانت اللحظة الأخيرة في حياته. اشتهر هارون بمطارحة الغرام مثلما اشتهر بخوض الحروب، ولكن شهيته للتعلم كانت مثيرة للإعجاب بالقدر نفسه. وما إن تولى السلطة، حتى وضع الثقل الجبار للخلافة خلف مهمة البحث عن كتب قديمة. وشأن أسلافه من قبله، كان من شأنه أن يرسل فرق إغارة إلى داخل التخوم الجنوبية للإمبراطورية البيزنطية عددا من المرات يصل إلى ثلاث مرات في العام.
5
أثناء الفوضى الناجمة عن هذه المناوشات، كان الجنود يستولون على أي شيء يمكن أن تصل إليه أيديهم، وكانت الكتب على رأس قائمة الغنائم الثمينة.
6
في بغداد، أنشأ هارون بيت الحكمة لاستيعاب هذه الكتب والباحثين الذين عملوا عليها. لا نعرف إلا أقل القليل عن الشكل الذي كان يبدو عليه بيت الحكمة، أو الكيفية التي كان يعمل بها أو المكان الذي كان يوجد فيه؛ ومن ثم فأي مقترحات يتعين أن تكون مستندة على أوصاف لأماكن مماثلة، ممزوجة بجرعة من التخمين والتخيل.
7
غير أننا نعرف أنه احتوى مكتبة - غرفة أو غرفا ضمت الكتب الكثيرة التي كانت تجمع وتنتج هناك - لذا لا بد أنه كانت توجد أماكن ينسخ فيها النساخ المخطوطات، ويعمل فيها الباحثون على الترجمة. من المحتمل أنه كان يوجد عدد كبير من الموظفين المكلفين بإدارته؛ إذ يذكر كتاب «الفهرست» بعض أمناء المكتبات والمديرين بأسمائهم ويدرج أسماء كثير من الباحثين الذين عملوا هناك، ولكن العشرات من الرسل والجالبين والسعاة وعمال التنظيف وهلم جرا، الذين عاونوهم لا يمكن إلا افتراضهم. كانت مراكز المعرفة الأخرى في الفترة نفسها عادة ما تقدم للباحثين مكانا للنوم وتوفر لهم الطعام؛ لذا فمن المرجح وجود غرف لتناول الطعام والتواصل الاجتماعي، مؤثثة حسب العادة بسجاجيد وموائد منخفضة. وكانوا في الغالب يخزنون الكتب في صناديق بدلا من وضعها على أرفف كما كانت لديهم مكاتب يراجعونها عليها، مع أوراق وقصب كتابة توفر مجانا. من المستحيل معرفة هل كان بيت الحكمة يوجد داخل أحد مجمعات القصور الشاسعة أو كان منفصلا، ولكن في نهاية القرن العاشر، بدأ سليل هارون، الخليفة المعتضد، في بناء قصر جديد كان به ملحق يشتمل على سكن وغرف دراسة للباحثين. ويبدو أيضا أنه خطط لنقل مكتبة المأمون إلى هناك. هل كان هذا الملحق نسخة من بيت الحكمة؟ أم كان تصميما محسنا، يحتل موقعا أقرب إلى قلب القصر؟ من المرجح أن الباحثين عاشوا حياة سلسة إلى حد ما، يعملون في بيت الحكمة ساعات طويلة حتى المساء وفي بعض الأحيان يقضون الليل هناك، في حال كونهم منخرطين في مشروع كبير، مثلا، وفي أوقات أخرى يعودون إلى البيت إلى زوجاتهم وعائلاتهم في مكان آخر في المدينة.
في قرية كركر، خارج بغداد مباشرة، كان أحد النبلاء، ويدعى المنجم، يمتلك في قلعته مجموعة مهمة من الكتب ، ومن المحتمل أن مكتبته كانت تدار بطريقة مشابهة لتلك التي يدار بها بيت الحكمة. جاء الباحثون من بلدان كثيرة مختلفة ليدرسوا في مكتبة المنجم؛ فكان يحتفي بهم باعتبارهم ضيوفه، وفي المقابل، عززوا سمعته باعتباره راعيا للتعلم، متنورا ومثقفا. وانعكس هذا بالمثل في أنحاء الإمبراطورية؛ فأخذ الصفوة أمر رعاية البحث العلمي مأخذ الجد للغاية، برعايتهم للباحثين ومنحهم كل ما يحتاجون إليه من أدوات للكتابة، ومكان للمبيت والطعام، ومال، وكتب وتشجيع أكاديمي؛ كي يستفيدوا أكبر استفادة من مواهبهم. لا بد أن كل هذه العناصر كانت متاحة في بيت الحكمة، وكذلك عاملا التعاون والتنافس الفعالان؛ فالباحثون يعملون معا على مشاركة أفكارهم وإمكاناتهم، ولكنهم أيضا يسعون إلى التفوق بعضهم على بعض؛ ومن ثم توسيع نطاق حدود المعرفة دوما.
كان يوجد العديد من المكتبات المتاحة لاستخدام العامة في بغداد، وكثير منها كان ملحقا بالمساجد ومدارسها؛
8
إذ كانت ذات أهمية جوهرية للعقيدة الإسلامية المتعلقة بالكتب، وبفضل الهبات السخية، ازدهرت ونمت.
9
كذلك جعلت البحث العلمي في متناول الجماهير؛ إذ إنه حتى بعد البدء في استخدام الورق، كانت الكتب لا تزال باهظة الثمن، فكتاب متعدد المجلدات مثل كتاب «تاريخ الطبري» كان يمكن أن يتكلف مائة دينار، ولكن فيما يتعلق بالصفوة من العرب، لم يكن ثمة طريقة لإنفاق المال أفضل من تلك. كانت بغداد مليئة بالمكتبات الخاصة التي أصبحت أماكن التقاء معتادة للباحثين والرعاة، ومراكز غير رسمية للنقاشات الأكاديمية. وهكذا أصبحت المكتبة أهم رمز للمكانة الاجتماعية.
ازدهر البحث العلمي في بغداد تحت حكم هارون، ولكن المتاعب كانت تلوح في الأفق واندلعت أول عاصفة في عام 803. فلأسباب غير واضحة، انقلب هارون فجأة على البرامكة، وألقى بمعلمه الخاص السابق، يحيى، الذي كان قد صار رجلا مسنا، في السجن وقتل ابنه، جعفر، بوحشية. وسقطت الأسرة الفارسية القوية، التي كانت قد رقصت على حافة سكين الرضا الملكي بنجاح كبير، ولم تقم لها قائمة من جديد أبدا. بعد ذلك مباشرة، تصدى هارون لمشكلة من يخلفه، منصبا عبد الله المأمون، ابنه من أمة، والثاني في ترتيب الأحق بالخلافة بعد ابنه البكر الشرعي، الأمين، الذي كانت أمه زبيدة، تلك الشخصية التي كانت تتسم بالبهرجة. أثناء الأعوام السابقة على وفاة هارون في عام 809، حاول أن يضمن انتقال تاجه سلميا إلى الأمين. لكن القدر لم يكن حليفه. فالمأمون، الذي استمر ليترأس أعظم حقبة للجهد الفكري العربي على مدى التاريخ، لم يكن بالرجل الذي يحتمل أن يأتي في المرتبة الثانية. أنشأ المأمون مركز قوة في مرو، عاصمة إقليم خراسان الشمالي الشاسع، مسقط رأس أمه، سائرا على الخطى الدامية لعمه الأكبر السفاح (الذي كان قد أسس السلالة الحاكمة)، وانزلق إلى حرب أهلية دامية مع أخيه بلغت ذروتها في حصار بغداد الذي استمر أربعة عشر شهرا. لم يكن لدى الأمين أي أمل في النجاح. فقد كان المأمون ذكيا، وذا شخصية آسرة، ولا يمكن إيقافه.
توج المأمون خليفة في عام 813، ولكنه بقي في مرو حتى عام 819، عندما قام أخيرا برحلة الألف ميل عائدا إلى بغداد. لم تتعاف المدينة أبدا من الحرب الأهلية تعافيا تاما ورغم أنه كان قائدا قويا، فقد عانت المدينة من اندلاع أعمال العنف والشقاق الحزبي. ومثل والده، عاش المأمون حياة لا تصدق من الأبهة والرفاهية. كان قصره مؤثثا بأجمل الأغراض ودعي أفراد حاشيته إلى أروع الولائم؛ فكانت تغني لهم فتيات راقصات وهم متكئون على وسائد حريرية ويستمتعون بأكل التين والفستق والعنب والرمان والبقلاوة المشربة بالزعفران التي يتقطر منها العسل، وكل ذلك يقدمه رجال مخصيون فاتنون. وفي الأوقات الأخرى غير أوقات استمتاعهم بالطعام وإفراطهم في شرب الخمر، كان أفراد البلاط ينخرطون في أنشطة أخرى عديدة مثل ألعاب الكرة والصولجان والصيد بالصقور والمبارزة والصيد وسباق الخيل.
كان هذا الميل المحموم إلى المتعة يقابله نشاط أكاديمي مكثف. كان البرامكة قد غرسوا في المأمون شغفا بالعالم وإجلالا للمعرفة اليونانية حتى إنه زعم أن أرسطو قد زاره في الحلم.
10
كان فضوله الفكري لا يلين. فعندما كان في حملة في مصر، أصبح مهووسا بترجمة الرموز الهيروغليفية وعهد إلى حكيم محلي بترجمتها ومحاولة التوصل إلى معناها . من بين كل الحكام العباسيين، كان المأمون صاحب أعظم اهتمام شخصي بالعلم؛ فعقب عودته إلى بغداد مباشرة، أعاد إنشاء بيت الحكمة الذي كان والده قد أسسه، جاعلا منه مركزا للمعرفة العربية وكان إيذانا بفجر جديد من التقدم العلمي الذي ترعاه الدولة. شرع المأمون في جمع الكتب على نطاق كبير، فكتب إلى «الإمبراطور البيزنطي يطلب إذنه في الحصول على تشكيلة من [المخطوطات] العلمية القديمة، المخزنة والمدخرة في الدولة البيزنطية»، ثم أرسل «مجموعة من الرجال ... [من ضمنهم] سلمان، مدير بيت الحكمة»، في بعثة إلى القسطنطينية لجمعها.
11
وبحلول منتصف القرن التاسع، كانت مكتبة بيت الحكمة هي أكبر مستودع للكتب في العالم.
تدفقت المعرفة إلى بغداد من كل حدب وصوب، وبلغات متنوعة. كانت الكنيسة المسيحية في الشرق الأوسط راسخة، وتضخمت أرقامها بسبب المسيحيين السريان، الذين كانوا قد انشقوا عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية الرئيسية على خلفية خلافات مذهبية وأنشئوا كنيستهم النسطورية الخاصة بهم. وإذ كانوا مضطهدين من قبل السلطات في بيزنطة في القرن الخامس، كان كثيرون منهم قد فروا إلى الإمبراطورية الفارسية، حيث أقاموا مراكز للتعليم المسيحي في أنطاكية، وإديسا، ولاحقا في نصيبين؛ مدينة الورود البيضاء والخمر والعقارب. في هذه المدن، كانت العلوم الإغريقية من لاهوت وفلسفة وطب وفلك تدرس وتدرس باللغة السريانية؛ وهي إحدى اللهجات الآرامية واللغة الفصحى للشرق الأوسط المسيحي. جلب رجال، مثل ثيوفيلوس إديسا، كبير منجمي البلاط العباسي، أعمال أرسطو وفلاسفة إغريق آخرين معهم إلى بغداد. وكان للمسيحيين النسطوريين علاقات وثيقة بالمعارف اليونانية القديمة وكانت خبرتهم وترجماتهم الأولى للكتب اليونانية من السريانية إلى العربية أساس المعارف العلمية في بغداد. درس الباحث السرياني ساويرا سابوخت (575-667) كتاب «المجسطي» وكتب أطروحة عن الفلك أوصى فيها بكتابات بطليموس لأي شخص يريد أن يتعمق أكثر في هذا الفرع من العلم.
بينما كانت المخطوطات تترجم من السريانية والبهلوية إلى العربية، بدأ الباحثون في بغداد يدركون مدى اتساع المعرفة القديمة، ومقدار ما يعد بعيد المنال. كان المنصور نفسه قد كتب إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منه نصوصا علمية. لم يكن سرا أن مخطوطات يونانية قديمة كثيرة كانت مخبأة خلف أسوار القسطنطينية المحصنة، وهي مدينة استعصت على الغزو وحافظت على آثارها ومكتباتها القديمة. ورد الإمبراطور بإرسال صندوق من الكتب العلمية، تشمل أطروحة «العناصر» لإقليدس. في العقود التالية، ترجمها الباحثون إلى اللغة العربية، مبتدئين تراثا ثريا من دراسة علم الرياضيات. لم يكتب البقاء للنسخة الأصلية، ولكن توجد نسخة مماثلة، صنعت بعد ذلك بنحو مائة عام في القسطنطينية، وهي موجودة الآن في مكتبة بودلي. أضيف إلى هوامش مخطوطتها اليونانية الدقيقة تعليقات وضعها مالكها الأول، أريثاس من باتراس، أسقف قيصرية، بينما كان يحاول إتقان نظريات إقليدس. كانت نسخة المنصور هي أول نسخة، بلغت إلى علمنا، تصل إلى بغداد. إن كان ثمة نسخة أقدم من أطروحة «العناصر» بالسريانية، فإنه لم يكتب لها البقاء، ويبدو أن المنصور لم يحصل على نسخته مترجمة مباشرة؛ فأول نسخة عربية أنتجت في حكم هارون الرشيد.
أتت أيضا الأفكار الرياضية إلى بغداد من الشرق. ففي عام 771، وصل رحالة إلى المدينة ومعه نسخة من عمل فلكي باللغة الهندوكية يدعى «سيدهانتا» (مستهل الكون)، للعالم الرياضي الهندي براهماجوبتا (598-668). على عكس إقليدس، لم يبين براهماجوبتا بوضوح فرضياته الرياضية ببراهين، وإنما أضفى عليها غموضا (كما كان معهودا في الرياضيات الهندية) تحت ستار من الشعر؛ كانت جميلة، ولكن من الصعب للغاية فك طلاسمها. وعهد المنصور لمنجم بلاطه، الفزاري، بالمهمة الجبارة المتمثلة في ترجمة كتاب «سيدهانتا»، الذي أدخل إلى بغداد مبدأ «الترميز الموضعي»؛ وهي الطريقة التي نكتب بها إلى يومنا هذا، باستخدام الأرقام 1 إلى 9، في أعمدة من الآحاد والعشرات والمئات وهلم جرا. كانت الإمكانيات التي فتحها هذا النظام غير محدودة، وعندما اتبع في النهاية، أحدث تحولا في فرع الرياضيات بأكمله بإتاحته عمليات حسابية كانت ستصبح مستحيلة بالنظام الرقمي الروماني القديم. كان الترميز الموضعي معروفا بالفعل في سوريا وأعجب به ساويرا سابوخت، الذي كتب عن «الرموز التسعة» لعلماء الرياضيات الهنود في عام 662.
في جانب مبتكر من كتاب «سيدهانتا»، أدرج براهماجوبتا قواعد الصفر؛ الرمز الغامض للعدمية، «نقطة الارتكاز بين السالب والموجب» الذي «يحل أسرار الكون».
12
كانت هذه الفكرة الرياضية الأساسية قد تطورت تدريجيا في أشكال وأماكن متعددة ومختلفة. ومن المفارقات، أن أول رمز مكتوب للصفر معروف لدينا كان منحوتا على لوح شمعي، في عام 3000ق.م تقريبا، في سومر، على مقربة من بغداد. في هذه الحالة، يستخدم الصفر باعتباره رمزا بسيطا (إسفينين قطريين)، شاغلا مكانيا، يشير إلى فجوة بين سلسلة من الأرقام.
انتشرت الفكرة تدريجيا. فأصبح الصفر، بوصفه شاغلا مكانيا، أداة معتادة في مسك الدفاتر، ويكتب على إيصالات مصنوعة من قطع من اللحاء، موضوعة في أخراج التجار ومحمولة بين أسواق طرق الحرير وعبر موانئ الخليج الفارسي. وفي الهند، تحول تدريجيا من رمز محاسبة مفيد يشير إلى غياب شيء ما إلى الفكرة العالمية للمعدوم وعدد في حد ذاته. ينبع مفهوم الصفر نفسه من الكلمة الهندية
sunya ، التي تعني «عديم القيمة»، وهو مفهوم أساسي في الفلسفة البوذية. في الهند، ارتقى افتتان أتباع الجاينية بالأرقام الكبيرة وبفكرة اللانهائية بالرياضيات عاليا نحو عالم الفلسفة، الذي أصبحت فيه مجردة؛ إذ تحررت من قيود ضرورات الحياة اليومية.
11
وأصبحت الأرقام كيانات في حد ذاتها؛ فلم تعد تمثل فقط جمالا أو ثمار مشمش أو حبات من الفضة كثيرة جدا.
في حين جابه علماء الرياضيات الهنود الأرقام المجردة ذات المقدار الذي لا يمكن تصوره، وقع اليونانيون القدماء في غرام علم الهندسة، فأوجدوا حلولا للمعضلات الرياضية بقياس الأطوال ورسم الأشكال، بدلا من عد الأرقام. كانوا نادرا ما يلجئون إلى استخدام الصفر، أو، في الواقع، إلى علم الحساب، واللذين يمثلان أداتي عوام التجار. لكن الإمبراطورية الإسلامية قامت على التجارة؛ فمحمد نفسه كان تاجرا؛ لذا لم يسلك الباحثون البغداديون هذا المنحى. في القرن التاسع، كان أحد أعظم هؤلاء الباحثين هو محمد بن موسى الخوارزمي (الذي يختصره الكتاب اللاتينيون إلى
Algorithmus )، وهو العبقري الفارسي الذي وضع مفهوم الخوارزمية
12
في مؤلفه المعروف باسم «كتاب الجبر »؛ وهو العمل الذي أسس، في عام 820، علم الجبر بوصفه فرعا مستقلا من فروع العلم للمرة الأولى على الإطلاق. كان هذا الكتاب يهدف إلى مساعدة الناس في حل مشكلات الحياة اليومية، كحساب ضرائبهم أو تقسيم الأرض للري، على سبيل المثال. وقام بذلك عن طريق الارتقاء بالرياضيات إلى مستوى أعلى من التجريد ووضع قواعد عامة يمكن تطبيقها على كثير من الأسئلة المختلفة؛ مما يجعله مفيدا للغاية لطائفة واسعة من الناس. أدرج الخوارزمي، ضمن أمور أخرى، للمرة الأولى، أنواعا عديدة للمعادلة التربيعية وقدم طرقا لحلها. ومثل كثير جدا من النصوص العلمية الأخرى المكتوبة في بغداد، نسخ الكتاب مرات كثيرة وحمل إلى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية.
نكاد لا نعرف أي شيء عن حياة الخوارزمي، لكن اسمه يعني أن مسقط رأسه هو «خوارزم»، وهي ولاية بعيدة على الشواطئ القاحلة لبحر آرال. كان قومه، في مرحلة زمنية ما، قد خاضوا الرحلة الطويلة نحو الغرب على طول طريق الحرير القديم من نيسابور، حيث كان ينمو ألذ أنواع الفستق والرمان، عبر جبال زاجروس وصولا إلى البساتين الخضراء وحدائق الخضراوات على مشارف بغداد. وهنا، عاش وعمل مع صديقه، «فيلسوف العرب»، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الصباح الكندي (801-873).
13
ألف كل من الرجلين كتبا عن النظام العشري الهندي العربي، ممتدحين بساطته الجميلة وإمكاناته غير المحدودة. ولكنهما لم يفلحا إطلاقا في حمل الناس على التخلي عن طرق العد القديمة؛ فمثل هذه التغييرات الهائلة في النموذج دائما ما تأخذ وقتا، وظل نظام العد الستيني البابلي، الذي دار حول الرقم ستين (ومن هنا جاء عدد الدقائق في ساعاتنا)، هو السائد، إلى جانب الأعداد اليونانية والرومانية، لقرون تالية.
شكل 3-4: التطور والانتقال الجغرافي للأعداد الهندية العربية، 100-1600 ميلادية.
من المحتمل أن يكون كتاب «سيدهانتا» قد جاء إلى بغداد عن طريق مدينة جنديسابور، في إيران الحالية، التي كانت مركزا للدراسات الطبية لقرون عديدة، فكانت مكانا يستطيع الباحثون أن يلتقوا فيه ويمزجوا أفكارا من اليونان ومصر مع تقاليد من الشرق الأقصى. في القرن الثالث، كان الملك-الباحث الفارسي شابور الأول قد جلب زوجته الرومانية الجديدة لتعيش في جنديسابور، يرافقها طبيباها اليونانيان. فدرسا نظريات جالينوس وأبقراط؛ ومن ثم جعلا المدينة مركزا لدراسة وممارسة الطب، بوجود مستشفى وأكاديمية ومكتبة. بعد سنة 529، وصل فلاسفة يونانيون من أثينا، فارين من اضطهاد الإمبراطور البيزنطي، في حين جاء أيضا المسيحيون النسطوريون وأسسوا مجتمعا هناك، جالبين معهم مخطوطة يونانية قديمة أثناء هجرتهم نحو الشرق. في القرن السادس، أرسل الملك الساساني، خسرو (كسرى)، واحدا من أطبائه إلى الهند والصين ليدعو الباحثين للمجيء إلى جنديسابور وتبادل الأفكار الطبية. مزجت هذه الأفكار مع الأفكار الخاصة بالتقاليد اليهودية والفارسية واليونانية والسريانية، وجلب هذا الانصهار لمسارات مختلفة من الفكر الطبي إلى بغداد على يد المنصور، الذي، إذ كان يعاني من آلام سيئة بالمعدة، استدعى الطبيب النسطوري ذا الاسم البهي جورجيوس بن جبرائيل بن بختيشوع (بختيشوع بالفارسية تعني «المخلص على يد يسوع») من جنديسابور. عالج بختيشوع آلام معدة الخليفة، وبقي في بغداد وأنشأ سلالة من الأطباء الملكيين. جلب بختيشوع الثروة الكاملة للنظرية الطبية الجنديسابورية إلى المدينة، جاعلا بغداد وريثتها في تطور الطب، وأصبح بعدئذ راعيا مهما للمعرفة والترجمة في المدينة.
عين جبرائيل، حفيد بختيشوع، طبيبا للبلاط في عام 805، وهو منصب تولاه على فترات متقطعة لثلاثة عقود، فخدم خلفاء مختلفين، منهم المأمون. أدت عائلة بختيشوع دورا أساسيا في إبراز المعرفة اليونانية القديمة إلى الصدارة في بغداد، وبلغت هذه العملية أوجها إبان حكم المأمون؛ مما سمح بانتقال العلوم العربية إلى أبعد من المعرفة القديمة كما سمح لتلك العلوم بأن تصير تقليدا قائما بذاته. كان فضول المأمون الشخصي ورؤيته من أعظم الدوافع لتلك العملية. فقد كتب الخوارزمي أطروحته عن الجبر بتشجيع من المأمون. انتهج المأمون، الذي كان من أتباع مذهب المعتزلة، سياسات مختلفة لينصب نفسه «خليفة الله» ويضمن السلطة الدينية، وكذلك السياسية، الكاملة. فابتدع «محنة خلق القرآن» (التي كانت بمثابة محكمة تفتيش) من أجل التحكيم وفرض أيديولوجية إسلامية واتبع مذهب المعتزلة في استخدام النصوص الفلسفية اليونانية وطرق الجدل (المنطق)، مهيئا بيئة مناسبة للبحث والدراسة. «جعل [المأمون ] الفقهاء والعلماء من الرجال ذوي الثقافة العامة يحضرون جلساته؛ فكان هؤلاء الرجال يجلبون له من مدن مختلفة ورصدت لهم رواتب. نتيجة لذلك ، نشأ لدى الناس اهتمام بإجراء دراسات تحقيقية نظرية وتعلموا كيفية إجراء بحث واستخدام الجدل.»
13
في بيت الحكمة الذي أنشأه المأمون، تلاقت كل التقاليد الفكرية الكثيرة التي كانت قد وصلت إلى بغداد بينما كان الباحثون الذين وظفهم يترجمونها ويستوعبونها ويبنون عليها، معيدين رسم خريطة المعرفة. كانت قلة فقط منهم عربا من الناحية العرقية؛ كثيرون كانوا فرسا، بعضهم مسيحيون، وبعضهم زرادشتيون، واعتنق كثيرون الإسلام بوصفه طريقة للاندماج مع الصفوة وتسريع وتيرة مساراتهم الوظيفية. وهكذا ازدهر السعي الأكاديمي في ظل هذا المناخ من الثروة والتكنولوجيا والرعاية والتسامح الديني.
شكل 3-5: الرسم التوضيحي الذي وضعه بنو موسى للسراج الذاتي التقلص الذي اخترعوه، من كتابهم المسمى «كتاب الحيل».
كان المأمون راعيا صعب الإرضاء ولكنه كان ذا رؤية مستقبلية، وكان متغطرسا إلى أقصى حد، ولكنه كان طفوليا في حماسه، دائم التساؤل ويتوقع المستحيل من باحثيه. ولحسن الحظ، كان محاطا بأشخاص يمتلكون خيالا وذكاء يتيحان لهم التوصل إلى إجابات، ولم يكن أحد يفوق في ذلك الأشقاء بني موسى. كان هذا الثلاثي العبقري، الغريب الأطوار، يتألف من ثلاثة أبناء لأحد منجمي المأمون في مرو. عندما مات أبوهم على نحو مفاجئ، أخذ المأمون الصبية في كنفه، فعلمهم حسب منهاج الدراسة اليوناني ثم جاء بهم إلى بغداد. استفاد محمد وأحمد والحسن من تعليمهم الممتاز وملكاتهم الفكرية استفادة جيدة، مطبقين معرفتهم بالرياضيات على المشروعات الهندسية العملية؛ فصمموا القنوات والجسور ونظم الري. وأصبحوا لا غنى عنهم لدى الخليفة وأسعدهم ارتقاؤهم إلى مستوى تحدي مطلبه الأجرأ؛ أن يقيسوا له العالم. في الواقع، كان قد سبق القيام بهذا الأمر. فوفقا لتقديرات بطليموس، الذي استخدم معلومات من علماء فلك سابقين عليه، يبلغ محيط الأرض 180 ألف غلوة. لكن لم يوجد أي دليل فيما يخص المقدار الذي كان عليه طول الغلوة؛ وهي تفصيلة صغيرة، ولكنها ذات أهمية جوهرية. غير أن ما عرفه بنو موسى وعلماء الفلك التابعون للمأمون هو أن حسابات بطليموس كانت تستند إلى الافتراض البسيط بأنه إذا كان في استطاعتك أن تقيس درجة واحدة على أرض الكرة الأرضية الكروية الشكل، إذن فكل ما تحتاجه هو أن تضرب هذا الرقم في 360 لتجد المحيط. أرسل فريق من أفضل علماء الفلك إلى سهل سنجار المسطح في شمال غرب العراق. في جوف الليل، قسم الفريق إلى مجموعتين وسارت كل مجموعة في اتجاه معاكس للأخرى؛ واحدة جهة الشمال والأخرى جهة الجنوب. وباستخدام مواقع النجوم، توقفتا عندما قاستا زاوية مقدارها درجة واحدة لمنحنى الأرض. بعد ذلك سارت المجموعتان عائدتين إحداهما باتجاه الأخرى، وقاستا بعناية المسافة التي قطعتاها. بعد ذلك، أخذوا متوسطا للقيمتين، 56,6 ميلا عربيا (ما يعادل 68 ميلا من أميال العصر الحديث)، وضربوا هذا المتوسط في 360 ليحصلوا على مجموع لمحيط الأرض بلغ 24500 ميل؛ أي أقل 400 ميل فقط عن قيمة ال24900 ميل التي قيست بواسطة العلم الحديث. وكان هذا إنجازا باهرا، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار بساطة الآلات التي كانوا يستخدمونها. بالطبع، لم يكن لدى المأمون أي فكرة عن مدى القرب الذي وصل إليه علماء الفلك التابعين له من المجموع الفعلي، ونظرا لأنه كان عازما على الحصول على إجابة دقيقة قدر الإمكان، بعث مجموعة أخرى لتكرر التجربة في الصحراء السورية بعد ذلك بوقت قصير. كان المجموع الذي توصلوا إليه أعلى وأبعد من القياس الفعلي، ولكن بالطبع لم يكن ثمة طريقة يمكنهم أن يعرفوا بها على وجه اليقين.
هذا الإنجاز يمنحنا فكرة واضحة عن المناخ العام في بغداد في القرن التاسع. لقد أطلق بنو موسى وأقرانهم العنان لتخيلاتهم، مسخرين كل ما لديهم من ثروة وفكر في سبيل السعي نحو الاكتشاف والتفوق العلميين. كان بنو موسى يشتهرون على نحو خاص برعايتهم للترجمة. فقد بعثوا بفرق من المندوبين في مهام للعثور على المخطوطات وأنفقوا ثروة طائلة على إنتاج الكتب. وحسبما أورد النديم، دفعوا لمترجميهم 500 دينار في الشهر (كان الدينار الواحد يحتوي على 4,25 جرام من الذهب؛ لذا، استنادا إلى الأسعار الحالية، يعادل هذا مبلغا يقارب 18000 جنيه إسترليني)،
14 «ما يعادل راتب كبار أعضاء الدواوين الحكومية وأكثر بفارق شاسع من حرفي عادي أو جندي.»
15
كذلك كتب الإخوة الثلاثة كتبا خاصة بهم ؛ وكان أشهرها الكتاب المعروف باسم «كتاب الحيل»؛ وهو عبارة عن مجموعة من مائة اختراع أو تعديل ميكانيكي، بعضها تافه وبعضها نافع، تشمل مشعلا مضادا للريح، ومزمارا يعزف وحده، وجرة مضادة للانسكاب، وقنديلا زيتيا ذاتي الضبط. استخدم كل هذه الأجهزة آليات إما سخرت الطاقة الطبيعية، مثل الجاذبية أو الطفو، أو نقلت قوة من جزء من الآلة إلى جزء آخر؛ وكلها ما زال قيد الاستخدام بصورة أو بأخرى. أحد أهم هذه الأجهزة كان ناقل الحركة، الذي اقتبسه بنو موسى من تصميمات كانت مستخدمة في أزمنة الرومان. وصلت هذه التكنولوجيا الثورية إلى أوروبا في أواخر القرن الرابع عشر، وهي مكون حيوي في المحركات من كل الأنواع في الوقت الحاضر. من المؤكد أن «دار الشجرة» التي تعجب منها السفراء البيزنطيون كانت تعتمد على تكنولوجيا صممها في الأصل بنو موسى. كان «كتاب الحيل» مقروءا على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي ومن المرجح أن أفكارهم سافرت إلى إسبانيا المسلمة، ومن هناك، مترجمة إلى اللاتينية، انتقلت إلى أوروبا الغربية.
كان من أبرع المترجمين الذين عملوا لحساب بني موسى مسيحي نسطوري شاب يدعى حنين بن إسحاق (809-873). فقد كان يجيد اللغتين السريانية والعربية إجادة تامة، وقد غادر مسقط رأسه في مدينة الحيرة،
14
جنوبي بغداد على نهر الفرات؛ ليدرس الطب مع الطبيب الجنديسابوري المتعجرف يوحنا بن ماسويه. أخيرا وافق يوحنا على تعليم حنين، بغض النظر عن نظرة الازدراء التي كان ينظرها إليه باعتباره حيريا؛ لأنه كان من المعتاد أن يكون الحيريون إما صيارفة أو تجارا. بيد أن عقل حنين الذي كان لا يكف عن التساؤل وأسئلته التي لا تنتهي قادت يوحنا إلى الجنون، وألقاه خارجا. لم تثبط هذه الانتكاسة عزيمة حنين. فغادر بغداد و«سافر عبر البلاد ليجمع كتبا قديمة، حتى إنه ذهب إلى الدولة البيزنطية»،
16
وتعلم اللغة اليونانية خلال أسفاره. عندما عاد حنين إلى بغداد بعد سنوات عديدة، كان في مقدوره أن «يتلو أشعار هوميروس عن ظهر قلب» وكان قد جمع مجموعة رائعة من الكتب وشرع في العمل على ترجمتها إلى العربية، غالبا عبر السريانية.
17
وسرعان ما حظي بسمعة متميزة، متلقيا تكليفات من كثير من الرعاة البغداديين. وظفه المأمون للعمل طبيبا وكذلك مترجما. ترأس حنين فريقا ضم في النهاية ابنه وأبناء أخيه، محدثا ثورة في عملية الترجمة، ومستعينا بمعرفته الوثيقة باللغات السريانية واليونانية والعربية بهدف إعطاء المعنى الفعلي لكل جملة، بدلا من مجرد الترجمة الحرفية. احتاج المترجمون إلى مستويات أعلى من المعرفة المتخصصة ليحققوا هذا؛ فلم تعد الخبرة اللغوية كافية وحدها. ووضع حنين معايير صارمة عن طريق العمل بشكل وثيق مع مترجمين آخرين، حتى يدقق كل مخطوط وينقح عدة مرات. طور حنين وفريقه مفردات تقنية كاملة للتعبير عن الأفكار العلمية المعقدة باللغة العربية، مع مراجعة وتحسين النصوص التي ترجموها ووضع نموذج مثالي للترجمة.
كان ابتكار حنين الآخر هو جمع أكبر عدد يمكنه جمعه من نسخ كتاب ما (عادة ما كانت بلغات مختلفة) والمقارنة بينها جميعها لإنتاج الإصدار الأكثر حجية. وحسبما أوضح هو نفسه، فيما يتعلق بعمل جالينوس المسمى «أطروحة عن الطوائف»، بقوله: «ترجمتها لطبيب من جنديسابور [جنديشابور] ... من مخطوط يوناني معيب للغاية ... في هذه الأثناء كان قد تجمع في حوزتي عدد من المخطوطات اليونانية. فقارنت بين هذه المخطوطات وصنعت بهذه الطريقة نسخة واحدة صحيحة. بعد ذلك مباشرة قارنت النص السرياني بها وصححتها. إنني معتاد على فعل ذلك في كل شيء أترجمه. بعد بضع سنوات ترجمت النص السرياني إلى العربية لأبي جعفر محمد بن موسى [الخوارزمي].»
18
ليس من قبيل المبالغة في شيء بيان أهمية طرق الترجمة التي ابتكرها حنين والنصوص التي صنعها. فقد مكنت الباحثين من اكتساب فهم للأفكار القديمة بحيث أمكنهم تنظيمها وتقييمها والتشكيك فيها وتصحيحها، ومن ثم استخدامها أساسا لاكتشافاتهم. أصبحت ترجمات حنين بمثابة النسخ القياسية لكثير من النصوص اليونانية، التي انتقلت من جيل إلى جيل وترجمت بعد ذلك، في قرون تالية، إلى اللاتينية . ترجم حنين 129 عملا لجالينوس، وكثير منها كان هو من بحث عنه وعثر عليه بنفسه. عن أحد هذه الأعمال، وهو كتاب «الإثبات»، كتب يقول : «سعيت إليه سعيا حثيثا وسافرت بحثا عنه في بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين ومصر، حتى وصلت إلى الإسكندرية، ولكنني لم أتمكن من العثور على أي شيء، عدا ما يقارب نصفه في دمشق.»
19
كان أكثر ما اشتهر به حنين الترجمة، لكنه كان أيضا واحدا من أطباء بلاط المأمون وألف بنفسه عديدا من الكتب، ومنها كتاب «العشر مقالات في العين»، «أول مرجع منهجي في طب العيون»،
20
الذي تضمن أول رسومات تشريحية للعين البشرية. في اشتغاله بالترجمة، كان أحد أهم أهداف حنين الرئيسية أن ينشئ منهجا فعالا من النصوص الجالينوسية لتعليم طلاب الطب في بغداد، وبخاصة ابنه، إسحاق بن حنين (830-910)، الذي سار على خطى والده المرموقة فأصبح مترجما خصب الإنتاج وطبيبا في البلاط العباسي.
ازداد توطد إرث حنين في أواخر القرن التاسع، عندما وصل محمد بن زكريا الرازي (854-925) إلى بغداد قادما من فارس.
15
بالاستعانة بترجمات جالينوس وأبقراط، أسس الرازي فروعا طبية لعلم النفس وطب الأطفال، وساعد في تأسيس مستشفيات في بغداد وفي مسقط رأسه بمدينة الري (حاليا ضاحية من ضواحي طهران) في وقت باتت فيه الأوقاف لرعاية المرضى شائعة في الثقافة الإسلامية. كما وضع أيضا قواعد أصولية للتجارب السريرية مستخدما المجموعات الضابطة، وأكد أهمية التدريب الطبي وقام بمحاولة فعالة لتصنيف العناصر الكيميائية، منشئا جدولا دوريا مبدئيا. أيضا كتب بغزارة في مجموعة كبيرة من الموضوعات، من الفلك والهندسة والخيمياء إلى الفاكهة والتغذية والعلاج الروحاني. يرتبط اسمه بشكل أساسي بكتابين؛ مقالة تصف الفوارق بين الحصبة والجدري وبفضلها تم التوصل إلى تشخيص دقيق، وإلى العلاج، للمرة الأولى؛ وموسوعة ضخمة من المعلومات الطبية، تسمى «الكتاب الحاوي في الطب». بعد وفاة الرازي، جمع طلابه المخلصون الكتاب، مستخدمين ملفات العمل الخاصة به، التي تعادل ثلاثة وعشرين مجلدا، ولقرون كان ينظر إليه باعتباره واحدا من أهم الكتب الطبية الموجودة، وكان موضع ثقة في سائر أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
16
كان الرازي، كشأن جالينوس من قبله، قد جمع كل المعارف الطبية المتاحة ثم قيمها ونظمها وصنفها بحيث كان من السهل استخدامها وتطبيقها. كان هذا «العجوز الكبير الرأس المسفط»، حسب مصادر المؤرخ النديم، «كريما، ومرموقا، ومستقيما»، و«متفضلا بارا بالناس وحسن الرأفة بالفقراء والأعلاء»؛ كان طبيبا ملهما، وقدوة بأفعاله، أحدث ثورة في الطب بموقفه الأخلاقي، وأفكاره العملية ودقته العلمية.
21
توفي حنين سنة 873، ولكن أبناء أخيه وابنه إسحاق، كانوا أعضاء بارزين في مجتمع الباحثين واستمروا في إصدار ترجمات في بغداد. كان الأب والابن قد عملا معا على أطروحات جالينوس، لكن إسحاق كان بالأساس أكثر اهتماما بالرياضيات، ومع ذلك فقد كتب تاريخا للطب من منظور الفلسفة والدين؛ وكان الأول من نوعه. كان إسهامه الأعظم في تاريخ العلم هو تقديم إصدارات جديدة لكل من أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي»، وكان كلاهما قد روجع على يد زميله ثابت بن قرة (توفي سنة 901)؛ لذا تعرفان باسم نسختي إسحاق وثابت. هاتان النسختان كانتا استكمالا لترجمتين أقدم للكتابين صنعهما باحث يدعى الحجاج بن يوسف بن مطر (ظهر في فترة بين 786-830) ولكنهما لم تحلا محلهما. بينما لم يصل إلينا أي تفاصيل عن حياة الحجاج ومساره المهني، كان تأثيره النصي، المتمثل في ترجمتيه لكل من «العناصر» و«المجسطي»، عميقا. أنجز الحجاج ترجمته، التي من المحتمل أن تكون الأولى، لأطروحة «العناصر» أثناء حكم هارون، حفيد المنصور، قبل إدخال تعديلات عليها في نسخة جديدة بعد بضعة عقود، عندما كان المأمون خليفة. كانت ترجمة إسحاق وثابت لأطروحة «العناصر» أفضل من ترجمة الحجاج؛ لأنها كانت تستند إلى مخطوطات يونانية أعلى جودة، من المحتمل أن تكون قد ظهرت بعد وفاة الحجاج سنة 833. عممت كلتا النسختين على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي، وسرعان ما مزج الباحثون النصين معا ليستحدثوا صورا مختلفة منهما. في الواقع، كل النسخ العربية من أطروحة «العناصر» التي بحوزتنا اليوم تمزج التقليدين؛ إذ لم يصل إلينا أي نسخ خالصة على الإطلاق. عمل إسحاق، ضمن أمور أخرى، على نسخ لكتاب أرشميدس «الكرة والأسطوانة»، وكتاب منيلاوس «الهندسة الكروية»، وكتابي إقليدس «المعطيات» و«تحرير المناظر»؛ واستمرت هذه الكتب حتى شكلت «المجموعة الوسطى» أو «علم الفلك الصغير»، اللذين كانا يدرسان فيما بين أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي».
صدرت أول ترجمة عربية لكتاب «المجسطي» على يد الحجاج في القرن التاسع، كاملة مع مصطلحات تقنية وتصويبات لكثير من أخطاء النص الأصلي. يشكل إصدار الحجاج لكتاب «المجسطي» وإصدار إسحاق وثابت المجموعتين الرئيسيتين من المخطوطات التي وصلت إلينا اليوم، رغم أن كثيرا منها يدمج النسختين بطرق متنوعة مختلفة. ومن ثم فمن الواضح أن الكتبة الذين نسخوا كتاب «المجسطي» في القرون التي تلت غالبا ما كان لديهم أكثر من نص أمامهم وهم يعملون، وعندما كانت النصوص تنسخ باليد، كان ثمة احتمالات لا حصر لها فيما يتعلق بالعمل الناتج. لم تكن فكرة النسخة القياسية الثابتة واردة إلى أن ظهرت آلة الطباعة في القرن الخامس عشر.
كان نظام بطليموس للكون رائعا من نواح كثيرة ولم يستعض عنه بغيره على مدى 1500 سنة، لكنه كان مليئا بالتناقضات والعيوب. وأصبح كثير من أخطاء الرصد أكثر وضوحا حينذاك؛ أي بعد مرور 700 سنة. فشرع علماء الفلك في بغداد، ومن بينهم الخوارزمي والكندي، في العمل على تصحيح وتحسين المعطيات في كتاب «المجسطي»، عن طريق إجراء عمليات رصد خاصة بهم، وهو شيء كان بمقدورهم فعله بطريقة أكثر فعالية بكثير في المرصد الأول في العالم الإسلامي، الذي كان المأمون قد بناه في حي الشماسية في المدينة. كان التقدم المحرز في كل من أجهزتهم وأساليبهم يعني أن معطياتهم كانت أكثر دقة من معطيات بطليموس؛ مما مكنهم من إدخال تحسينات كبيرة على نماذجهم.
بنى المأمون مرصدا آخر خارج دمشق، حتى يكون بالإمكان مقارنة معطيات كلا المكانين لتحقيق دقة أكبر. صمم فريق علماء الفلك الخاص به أسطرلابات معقدة وأنشأها، إلى جانب أجهزة متخصصة أخرى شملت أسطرلابات ربعية وساعات شمسية كان بإمكانها قياس ارتفاع الشمس عن طريق طول ظلها.
17
باستخدام هذه الأجهزة، صححوا كتاب «المجسطي» وتوسعوا فيه، مصدرين نسخا محسنة من «جداول بطليموس السهلة» أو «الزيج»، حسبما هي معروفة في اللغة العربية. احتوت هذه الكتيبات الإرشادية الصغيرة على كثير من جداول النجوم التي كانت متناثرة في كتاب «المجسطي »؛ مما جعلها متاحة وأكثر نفعا. أحدثت جداول «الزيج» ثورة في علم الفلك والتنجيم؛ إذ عمل الباحثون على مواءمة المعطيات التي احتوت عليها مع مواقعهم ثم استخدموها لحساب مواقع النجوم والكواكب بدقة أكبر بكثير عن ذي قبل. كانت كتبا عملية للغاية؛ لذا انتشرت انتشارا واسعا عبر أنحاء شمال أفريقيا، وإسبانيا وصقلية وبقية أوروبا، فكانت أدوات أساسية في التنبؤ بحركات النجوم والكواكب.
هذه اللمحة عن العلم العربي في العصور الوسطى توضح الترابطات الدقيقة المعقدة بين الفلك والتنجيم والفلسفة والرياضيات والجغرافيا. لقد كان هؤلاء الباحثون البغداديون، بما امتازوا به من مجموعة واسعة من الاهتمامات والخبرات، يمثلون رجال عصر النهضة الذين استبقوا عصر النهضة بقرون عديدة. فيكشف غزو المأمون للصحراء عن الدقة والاهتمام اللذين أولاهما علماؤه لعملهم. إن أساليبهم المتمثلة في رصد وقياس الظواهر الطبيعية، وفحص ومقارنة المعطيات بدقة، ثم استحداث واختبار فرضيات، يمكن أن تكون مألوفة للعلماء المعاصرين. وقد حددت هذه المبادئ، بالإضافة إلى ابتكارات الرازي في الممارسة الطبية، معالم حقبة جديدة في الدراسة الأكاديمية. كذلك تشكل هذه المبادئ، التي تنوقلت عبر القرون، أساسا لما يعرف الآن باسم «المنهج العلمي».
استمر قبس البحث العلمي يتوهج متألقا في بغداد حتى القرن الحادي عشر، لكن قبضة العباسيين على السلطة كانت في كثير من الأحيان ضعيفة، وانزلقت المدينة في فترات طويلة من العنف والاضطراب. وأخيرا دمرت في عام 1258 على يد جيش مغولي، كان يقوده هولاكو (1218-1265)، الحفيد المخيف لجنكيز خان، الذي أمر باستهانة بأن يلف المعتصم، آخر الخلفاء العباسيين، في واحدة من سجاجيده المزخرفة وأن يداس بأرجل الخيول حتى الموت. دارت الدائرة على الخلافة العباسية وذاقت من كأس الوحشية التي بدأت بها. ولكن حتى في وسط الدمار، نجت خيوط من المعرفة. فقد أمر هولاكو، الذي كان «شغوفا بالخيمياء والتنجيم» على ما يبدو،
22
بنهب مكتبات بغداد وأخذ علماؤه الكتب التي كانت موضع اهتمامهم إلى هضبة مراغة، في شمال غرب إيران. ودمرت بقية الكتب عندما أحرق جيشه المدينة. واصل علماء الفلك، وخاصة نصير الدين الطوسي (1201-1274)، الكندي والخوارزمي العمل في مرصد مراغة، حيث بنوا أجهزة مكنتهم من القيام بعمليات رصد متزايدة الدقة. وأتاحت المعطيات الناتجة إمكانية الاعتراض على نماذج بطليموس وتعديلها بإدخال التذبذب إلى حركة الكواكب، ضمن جملة أمور أخرى.
انتهى العصر الذهبي البغدادي، لكن شهرة باحثيه كانت قد انتشرت خارجها كتموجات على سطح الماء. في أوجها، ألهمت الخلافة العباسية ورجال بلاطها الحكام في أنحاء فارس وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا وإسبانيا وشبه الجزيرة العربية أن يملئوا مدنهم بالباحثين وأن يعلموا أطفالهم وأن يدفعوا المال من أجل الكتب وأن يبنوا المكتبات. وحدثت مضاهاة مع طراز رعاية البحث العلمي في القاهرة والموصل والبصرة ودمشق والكوفة وحلب وطرابلس وبخارى وشيراز، حيث نشأت وازدهرت مكتبات عظيمة. وبرزت على الساحة أجيال جديدة من الباحثين، من بينهم ابن سينا والبيروني والطوسي وابن الهيثم الذين قدموا إسهاماتهم الفريدة في العلم وأضفوا تألقا فكريا على مدن مثل غزنة ومرو والقاهرة.
بيد أن ألمع نجم بين الجميع كان يتألق بعيدا في الغرب، في إسبانيا. كانت الأسرة الأموية، التي كاد العباسيون أن يبيدوها تماما، ماضية في بناء صرح باهر في جنوب إسبانيا لتنافس بغداد هارون والمأمون. كانت قرطبة على وشك أن تصبح المحور الجديد الذي سيدور في فلكه عالم البحث العلمي، وهي المحطة التالية في رحلتنا.
هوامش (1)
كما تناول بيتر فرانكوبان في كتابه «طرق الحرير»، كان الطلب على العبيد في هذه الفترة هائلا؛ إذ كانت أعداد ضخمة من الناس يتعرضون للأسر والنقل ثم يباعون في سوق الرقيق. (2)
بالطبع، كان يوجد نشاط ثقافي آخر يرتبط بنسخ الكتب في بلاط شارلمان وفي أديرة معينة في هذه الحقبة، ولكن لم يكن يوجد أي بحث علمي ذي أهمية تذكر. (3)
انشق المسيحيون النسطوريون عن الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) على خلفية اختلافات عقائدية وهاجروا إلى بلاد فارس وسوريا في القرنين الخامس والسادس للهروب من الاضطهاد في الإمبراطورية البيزنطية. وأقاموا أديرة وكنائس في كل أنحاء المنطقة، وبقي كثير منها تحت الحكم العربي بدءا من القرن السابع فما بعده. كانت المسيحية قد انتشرت في المنطقة منذ نهاية القرن الأول . (4)
في هذه المرحلة، امتدت الإمبراطورية الساسانية (الفارسية) عبر إيران والعراق وسوريا ومنطقة القوقاز، وتوسعت شمالا في سهوب آسيا الوسطى الشاسعة وشرقا حتى الحدود الجبلية مع الصين. (5)
كانت هذه الحدود تتغير باستمرار مع تقلبات القوة العسكرية، لكنها امتدت من الشرق إلى الغرب وسط ما يعرف حاليا باسم تركيا. كانت المنطقة الأوسع تعرف باسم آسيا الصغرى أو الأناضول، أو «بلاد الروم» في اللغة العربية. (6)
كانت المخطوطات الطبية اليونانية جزءا من الكنز الذي ظفرت به الإمبراطورية الإسلامية في معارك أنقرة (عاصمة تركيا الحالية) وعمورية، وهي مدينة يونانية قديمة في وسط غرب الأناضول لم تتعاف أبدا من آثار المعركة وهجرها الناس بعد ذلك بوقت قصير. (7)
ليس ثمة دليل على المكان الفعلي لبيت الحكمة؛ مما حدا ببعض الباحثين المعاصرين أن يقترحوا أنه لم يكن له إلا وجود رمزي، في أماكن عدة، وليس في مكان واحد. (8)
المدارس مؤسسات تعليمية عادة ما كانت (ولا تزال) ملحقة بالمساجد. (9)
كان هناك ست وثلاثون مكتبة عامة في بغداد عندما غزاها المغول في عام 1258. (10)
كان معلمه الخاص هو جعفر بن برمك. ومن المحتمل أن أحد الأسباب وراء اغتيال هارون له كان من أجل كسر التحالف الذي كان قائما بين المأمون والأسرة الفارسية القوية؛ ليحد بذلك من نفوذه ويجعله يقبل تولي أخيه للخلافة. (11)
الجاينية ديانة هندية قديمة تتمحور حول عدة مبادئ أساسية، تشمل المسالمة والعفة والاستقامة. يقطع أتباعها على أنفسهم عهدا بعدم السرقة أو امتلاك الممتلكات؛ إذ يؤمنون بتناسخ الأرواح وبأن لكل نبات أو حيوان حي روحا، ولكنهم لا يؤمنون بأي آلهة. مبدأ اللانهائية هو مبدأ محوري في العقيدة الكونية الجاينية، التي تستخدم أعدادا ضخمة لتوقع حركات الكواكب والنجوم في المستقبل البعيد. ويوجد ما لا يقل عن 4,2 مليون شخص يتبعون الديانة الجاينية في الهند في الوقت الحالي. (12)
الخوارزمية هي مجموعة من العمليات تهدف إلى تحديد ناتج معين وتستخدم في الحساب، وفي معالجة البيانات، وفي المنطق الآلي. تلعب الخوارزمية دورا جوهريا في طريقة عمل أجهزة الكمبيوتر وفي الرياضيات وفي عدد لا يحصى من مجالات الحياة العصرية. (13)
يمكننا أن نحصل على فكرة عن حجم إنجاز الكندي عن طريق الإشارات إليه والتي تبلغ ستا وعشرين صفحة منفصلة في كتاب «الفهرست»، حيث يوصف بأنه: «متفرد خلال حقبته بسبب معرفته بالعلوم القديمة برمتها ... كانت كتبه عن مجموعة متنوعة من العلوم، مثل المنطق، والفلسفة، والهندسة، والعمليات الحسابية، والحساب، والموسيقى، والفلك، وأمور أخرى.» لكن يبدو أن لا أحد يتصف بالكمال، والنديم يكمل هذه القائمة المثيرة للإعجاب بتعليق أخير ينطوي على إدانة دامغة: «كان بخيلا.» بايارد دودج (محرر)، «فهرست النديم: استعراض من القرن العاشر للثقافة الإسلامية» (نيويورك: دار نشر جامعة كولومبيا، 1970)، ص615. (14)
كانت الحيرة مستوطنة عربية مهمة في الإمبراطورية الفارسية في عصر ما قبل الإسلام. كانت تقع جنوب الكوفة، في جنوب وسط العراق. (15)
لا يزال الإيرانيون يحتفلون بيوم الرازي في السابع والعشرين من شهر أغسطس من كل عام ويوجد مستشفيات ومعاهد تحمل اسمه في أنحاء البلاد. (16)
كان واحدا من تسعة كتب فقط في المكتبة الطبية الأولى في جامعة باريس. (17)
كانت المعلومات عن الأسطرلابات قد وصلت إلى العرب في كتابات ثيون الإسكندري، الذي استعانوا بنسخته من أطروحة «العناصر» لإقليدس. كذلك كتب الخوارزمي الدائم الاجتهاد كتيبا إرشاديا عن كيفية صنعها واستخدامها، وازدادت تعقيدا أكثر فأكثر، ولاحقا عرفتها أوروبا الغربية عن طريق الأديرة في إسبانيا.
الفصل الرابع
قرطبة
أصبحت قرطفة
Cordova [هكذا كانت تكتب]، تحت حكم سلاطين بني أمية، هي فسطاط الإسلام، ملاذ المثقفين ... إليها جاء الطلاب متلهفين، من كل أنحاء العالم؛ لدراسة الشعر، أو لتعلم العلوم، أو لتعلم الإلهيات أو القانون؛ لهذا أصبحت ملتقى الشخصيات البارزة في جميع المسائل، ومقر المثقفين، وملجأ المولعين بالدرس.
ينتظم في عقدها [أي قرطبة] لآلئ نفيسة جمعت في محيط اللغة على يد خطبائها وشعرائها؛ وأرديتها مصنوعة من رايات العلم ...
أحمد بن محمد المقري
كتاب «تاريخ الممالك الإسلامية في إسبانيا»
في المناطق الغربية، سطعت مفخرة مبهجة على العالم، مدينة مهيبة، متفاخرة نتيجة بأسها العسكري الحديث العهد، مدينة تأسست على يد مستوطنين إسبان وكانت تعرف بالاسم الشهير قرطبة؛ مدينة ثرية، تشتهر بسحرها، رائعة في كل مواردها، تفيض خاصة في الينابيع السبعة للمعرفة، ومشهورة دوما بانتصاراتها المستمرة.
روزفيتا فون جندرسهايم، كتاب «استشهاد بيلاجيوس»
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي
يسح ويستمري السماكين بالوبل
عبد الرحمن الداخل
رجل يرقد في ظل شجرة رمان. هو مسن، في أواخر حياة مديدة، تغضن وجهه بخطوط وعلامات الزمن؛ فعيناه منتفختان وتكسوهما التجاعيد، لكن لا يزال باستطاعتهما اختراقك بسوادهما. يجري الماء مترقرقا في القناة التي تمر وسط البستان فتقسمه، والطيور تهوي لأسفل كي تشرب ولا شيء يكدر صفو العالم. يحمد الرجل ربه على أنه يستطيع أن يرقد ها هنا في سلام يستمتع بشيخوخته. يعود بظهره إلى الخلف مسترخيا على وسائد حريرية لامعة، ويحدق إلى أعلى نحو الشجرة التي تظله من ضياء الشمس الباهر. يهيم عقله في ذكريات حياته المديدة، متوجها نحو الشرق، آلاف الفراسخ خلال الصحراء، إلى أرض مولده، إلى سوريا. يرى شجرة رمان أخرى، جدة هذه الشجرة، في بستان آخر. وعيناه مغمضتان، يسمع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان (731-788)، أول أمير للأندلس، صيحات إخوته وأبناء أعمامه وهم يطارد بعضهم بعضا عبر الأفنية الظليلة، يقفزون مجتازين جداول المياه ويختبئون خلف النوافير. يعود بذهنه في الماضي إلى قصر الرصافة القديم، الذي بناه جده، الخليفة الأموي مروان الثاني، خارج دمشق مباشرة؛ طيف من جنة الله على الأرض، طيف لازمه طوال حياته، طيف استلهم منه البستان الذي يرقد فيه الآن. يتذكر جماله، والأيام الخالية من الهموم التي قضاها يستكشف جوانبه الظليلة، والطمأنينة والسعادة. ثم ينتفض جسده وهو يتذكر اللحظة التي استحال فيها هذا العالم المشرق سوادا.
في عام 750، كان عبد الرحمن شابا في العشرين من عمره، أحد الأحفاد الكثر للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، يعيش حياة يملؤها السرور والاعتزاز محاطا بعائلته. أمضى أيامه في القنص والصيد بالصقور مع أبناء أعمامه، ويغازل الإماء، ويشاكس شقيقاته. لكن، في ربيع ذلك العام، انقلبت حياته الخالية من الهموم رأسا على عقب عندما استولت قبيلة بني العباس على السلطة ونزلت إلى دمشق، بنية اغتيال كل فرد من أفراد الأسرة الأموية يمكنهم العثور عليه. هرب عبد الرحمن مع شقيقه الأصغر وخادم يدعى بدرا. فروا، والأعلام السوداء البغيضة لفرسان العباسيين ترفرف في أعقابهم. أمضوا الأسابيع القليلة التالية يحاولون باستماتة أن يسبقوا مطارديهم؛ مختبئين في الغابات، ومستجدين مأوى في القرى ويركضون حرفيا لينجوا بحياتهم. في النهاية، وصلوا إلى ضفة نهر الفرات، والعباسيون على وشك أن يلحقوا بهم، فألقوا بأنفسهم في الماء وبدءوا في السباحة. استدار شقيق عبد الرحمن منهكا عائدا نحو جنود العدو، الذين كانوا يصيحون من ضفة النهر بأنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وأنهم لن يلحقوا بهم أي أذى. توسل عبد الرحمن إلى شقيقه أن يستمر في السباحة إلى الضفة الأخرى، واضطر إلى أن يراقب العباسيين عاجزا وهم يسحبون شقيقه من الماء ويقطعون رأسه على الفور. بعد أن وصل عبد الرحمن وبدر بأمان إلى الضفة الأخرى، ركضا حتى سقطا من الإجهاد. كانا قد هربا، على الأقل حينها، ولكن أقدامهما لم تطأ سوريا ثانية.
أمضى عبد الرحمن الأعوام الأربعة التالية، إن لم يكن دوما فارا، فمرتحلا، سافر عبر صحراء شمال أفريقيا، من مصر عبر أراضي قبائل البربر الرحل. أبدى بعضهم ودا نحوه، غير أن أذرع العباسيين الشديدي البأس، الذين صاروا الآن ممسكين بمقاليد الخلافة، امتدت لبعيد، وكان من السهل إقناع الحكام المحليين بأن عبد الرحمن كان يمثل خطرا. نجا مرات عديدة بأعجوبة - حتى إنه اختبأ في إحدى المرات تحت كومة ملابس تخص زوجة أحد شيوخ القبائل - وأخيرا انتهى به الحال إلى المغرب الحالية، موطن قبيلة أمه، قبيلة نفزاوة من البربر. في هذه المرحلة، لا بد أن عبد الرحمن سمح لنفسه بأن يتنفس الصعداء؛ لأول مرة منذ مغادرته السريعة من سوريا. كان قد تمكن من أن ينأى بعيدا بحيث يفصله عن العباسيين عدة آلاف من الكيلومترات، وتمكن من إيجاد ملاذ وسط أقاربه، ولكن ما كان أروع من ذلك أنه تمكن من البقاء على قيد الحياة. في الوقت الذي لا بد أنه شعر فيه أنه محظوظ، كان لا يزال هاربا مفلسا؛ بعيدا كل البعد عن الحاكم القوي الذي ترعرع معتقدا أنه سيكونه. كان إرثه باعتباره سليلا مباشرا للنبي يجعل الحكام المحليين يصابون بالتوتر؛ فلا أحد يريد شخصا يمكن أن يصبح خليفة يتحرك في الجوار، وحيثما ذهب، كان محورا للسخط والشك. لم يستطع عبد الرحمن أن يهرب من ماضيه ولا هو أراد أن يفعل ذلك. لقد أبقى الله على حياته لسبب؛ فمستقبل السلالة الأموية بين يديه. وإذا كان سيحقق مصيره، فقد عرف ما يتعين عليه فعله؛ أن يغزو إقليما جديدا ويبني إمبراطورية جديدة. عندما فشلت خطته الأولية في الظفر بإفريقية (تونس)، تحول نحو الشمال ونظر عبر شريط الماء الضيق الذي يربط البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، نحو إسبانيا، التي كانت قبائل العرب والبربر قد غزتها قبل ذلك بأربعين عاما.
ما الذي عرفه عبد الرحمن عن الأرض التي كانت تنتظره؟ كانت شبه الجزيرة الشاسعة التي تتخذ شكل الثور، وتتخللها جبال غنية بالمعادن تكسوها الثلوج، وأنهار متعرجة، وسهول برية مرتفعة؛ عالما آخر مختلفا عن صحارى سوريا التي خلفها وراءه. يشتهر كتاب العصور الوسطى العرب بأسلوبهم المنمق الجياش، ولا تشكل أوصافهم للأندلس، التي نعرفها الآن باسم أندلسية، استثناء في هذا الصدد. فقد بهرهم الجمال الطبيعي لهذا البلد المسلم الجديد وبعث فيهم البهجة؛ فأثنوا بعبارات قوية رنانة على «تلالها اللطيفة وسهولها الخصبة، وطعامها الحلو والنافع ... والأعداد الكبيرة من الحيوانات النافعة ... والمياه الوفيرة ... والهواء النقي والصحي ... والتعاقب البطيء لفصول السنة.»
1
إن ردة فعلهم مفهومة؛ فنظرا لأنهم جاءوا من صحارى شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لا بد أنهم اعتقدوا أن هذه الأرض الخضراء المعتدلة كانت أشبه بجنة على الأرض.
لم يكن الغزاة المسلمون هم أول من اكتشف عجائب شبه الجزيرة الإيبيرية؛ إذ كان اليونانيون والفينيقيون قد بنوا مدنا تجارية على امتداد ساحل البحر المتوسط قبل قرون من وصول الرومان في عام 218ق.م، وسيطرتهم كذلك على معظم الأراضي الداخلية. بكفاءة معتادة، قسم الرومان هسبانيا (كما كانوا يطلقون عليها) إلى مقاطعات، منشئين عواصم في قرطبة ومريدا وتاراجونا، وبدءوا عملية إحداث تحول في صفحة الأرض، مسخرين الموارد الطبيعية ومنشئين مجتمعا جديدا تماما. باحتياطياتها الهائلة من الذهب والفضة والمعادن الأخرى، أصبح التعدين عملا تجاريا كبيرا؛ فوفقا لتقديرات بلينيوس الأكبر، بلغ إنتاج إيبيريا 20 ألف رطل روماني من الذهب شهريا، بما يعادل 6578 كيلوجراما أو 6,5 أطنان. تبدلت الزراعة وكانت الحبوب وثمار العنب والزيتون تصدر في أنحاء الإمبراطورية. بنى الرومان شبكة ضخمة من الطرق، إضافة إلى علامات المسافات، وأماكن المبيت والجسور؛ شبكة لا تزال تشكل أساس شبكة النقل الإسبانية. كذلك ازدهرت صناعة الصيد؛ فكانت ملايين من أسماك التونة والماكريل والسردين تملح وتباع في كل أرجاء منطقة البحر المتوسط، إلى جانب كميات هائلة من الجاروم؛ وهي صلصة سمك حارة تستخدم في تتبيل الطعام. حكم الرومان إسبانيا سبعة قرون، واستقروا وتزوجوا من السكان الإيبيريين الأصليين. وفي ظل هذا المناخ من الهدوء النسبي، نمت المدن وازدهرت الثقافة وأصبحت شبه الجزيرة مشهورة بخيولها وحبوبها ومعادنها.
بحلول نهاية القرن الرابع، كانت الإمبراطورية تتهاوى داخليا على نفسها وفي أوائل خريف عام 409، عبر 200 ألف من أفراد قبائل الوندال والسويبيين والألان جبال البرانس إلى هسبانيا وحطموا السيطرة الرومانية على شبه الجزيرة. ومع ذلك، في معمعة القرن التالي، دانت السيطرة لقبيلة جرمانية مختلفة، هي قبيلة القوط الغربيين، واستمرت تترأس خلال قرنين من التدهور العام. ونظرا لكونهم محاربين، ارتكز نجاح مجتمعهم على الحاجة إلى انتصارات مستمرة؛ ومن ثم إلى معارك تبقيهم سعداء بالغنائم والأراضي. حكموا الإيبيريين باعتبارهم صفوة صغيرة العدد نسبيا، دون أن يحدث لهم استيعاب حقيقي أبدا أو أن ينشئوا مجتمعا جديدا، كما فعل الرومان. وأسفر الاقتتال الداخلي المستمر والسلوك القمعي المتزايد تجاه رعاياهم (وبخاصة الطائفة اليهودية الكبيرة في إيبيريا) عن ركود في كل مناحي الحياة تقريبا. تراجعت التجارة تراجعا كبيرا، وحدث تناقص في عدد السكان في المناطق الحضرية، وتقلصت الثقافة لدرجة أن بعض المؤرخين أطلقوا عليهم لقب «القوط الخفيين».
حلت فجأة نهاية هذه الفترة الكئيبة في التاريخ الإيبيري في عام 711، عندما وحد رجال القبائل العربية من أنحاء الشرق الأوسط صفوفهم مع البربر من المغرب وعبروا المسافة البالغة ثلاثة عشر كيلومترا في البحر إلى الساحل الجنوبي لإيبيريا. واجهوا المقاومة غير الفعالة لنظام القوط الغربيين الحاكم بقوة عسكرية كاسحة وشروط استسلام سخية؛ لذا في غضون ثلاثة أعوام، كانت السيطرة قد دانت لهم على المدن الرئيسية والنصف الجنوبي لشبه الجزيرة بأكمله. تلقت مهمتهم عونا من قبل السكان المحليين، الذين كانوا قد سئموا من قمع القوط الغربيين والذين استنزفتهم سنوات من المجاعة،
1
فكادوا يرحبون بهم ترحيب المحررين. أجريت تسويات مع الحكام المحليين، ووزعت الأراضي والأموال بين العرب والبربر الفاتحين. وهكذا كان الفصل التالي في تاريخ إيبيريا قد بدأ. كانت العقود التالية حافلة بالاضطراب والفوضى، مع وصول موجات من المستوطنين الجدد من أفريقيا والشرق الأوسط. في هذه البوتقة التي انصهرت فيها الأعراق والعقائد والقبائل، كافحت فصائل مختلفة للاستحواذ على السيادة. حاول عدد من الحكام المتعاقبين الذين عينهم أمير تونس - الذي كان من جانبه تحت حكم الخلافة في دمشق (حتى نحو سنة 747، كانت لا تزال في قبضة الأمويين) - توحيد وإحلال الاستقرار في المنطقة ولكنهم فشلوا في ذلك. وكانت الطريقة الوحيدة التي كان من الممكن بها إحكام السيطرة على هذا الخليط المتقلب من البشر هي قيادة قوية مباشرة. كانت الأندلس بحاجة ماسة إلى حاكم قوي وكان عبد الرحمن بحاجة ماسة إلى مكان ما يعيد منه تأسيس سلالة الأمويين. لا بد أن الشك لم يخالج قلبه أو قلوب أتباعه في أن الأمر كله كان جزءا من تدبير إلهي.
شكل 4-1: مشهد لقرطبة من أوائل القرن الثامن عشر.
وصل عبد الرحمن إلى إيبيريا سنة 755، في بلدة المنكب، التي تقع إلى جهة الشرق مباشرة من ملقة، وعلى الفور بدأ في حشد الدعم. ومع انتشار أخبار النجاة والهروب المعجزين من العباسيين، هرع الناس يعرضون عليه ولاءهم، وكان كثيرون منهم سوريين لهم صلات أموية، وكانوا قد هاجروا إلى الأندلس في أربعينيات القرن الثامن. سقطت إشبيلية بسرعة وبطريقة سلمية، وفي ربيع عام 756، وجد عبد الرحمن، الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، نفسه على الطريق إلى قرطبة. عندما وصل، كان نهر الوادي الكبير فائضا؛ فكان وابل من الطين والماء الجائشين يتحرك في دوامات تحت الجسر الروماني القديم المؤدي إلى المدينة، وكان الأمير الحالي، الفهري، في انتظاره. في المعركة التي أعقبت ذلك، هزم عبد الرحمن الفهري، وقاد منتصرا جواده عابرا فوق النهر ودخل إلى المدينة. وأخيرا وبعد سنوات أمضاها في هروب مستمر، وجد موطنا جديدا. دخل إلى قصر القوط الغربيين الحصين، ونصب نفسه الأمير عبد الرحمن الأول ومضى في توطيد سيطرته على الأندلس. وبدأ أيضا برنامجا ضخما للبناء في قرطبة، مستوحيا إياه من بقايا الحضارة الرومانية المجيدة التي كانت موجودة حوله في كل مكان؛ معابد متهدمة، وحمامات مهجورة، ومبان مدنية متداعية، وتماثيل، وفسيفساء وهيكل نظام ري متطور.
شكل 4-2: ناعورة عربية مرممة بالقرب من الجسر الروماني القديم على نهر الوادي الكبير في قرطبة.
كان المصدر الآخر العظيم للإلهام لدى عبد الرحمن فيما يتعلق ببناء مدينته الجديدة هو وطنه الذي أجبر على مغادرته. فكما تبين القصيدة في مستهل هذا الفصل، فهو لم ينس أبدا سوريا؛ فقد كانت تمثل له الضوء المرشد في تشكيله لعالم جديد في الأندلس. في عام 784، أصدر توجيهاته ببناء المسجد المسمى «لا مسكيتا» (المعروف باسم «مسجد قرطبة»)، على موقع كنيسة سانت فينسنت القوطية الغربية القديمة، التي كان المسيحيون والمسلمون، حتى ذلك الحين، يتشاركونها مكانا للعبادة. كانت قدسية هذا الموقع - الكائن داخل المدينة، بجانب الجسر الكبير وبالقرب من القصر الأندلسي الذي بني وأعيدت تسميته فصار «ألكازار» (كلمة عربية تعني «قلعة حصينة») - قد استمرت لأكثر من ألف سنة؛ منذ أن بنى الرومان معبدا هناك. بني مسجد عبد الرحمن على طراز المسجد الذي كان يصلي فيه عندما كان صبيا في دمشق، ولكن، مع الإضافات التي أضيفت إليه على يد نسله، اكتسب شكله المعماري المستقل؛ إذ دمج بين الطرز الرومانية والسورية والقوطية الغربية والإيبيرية. تدعم الأعمدة الثمانمائة الغريبة (كثير منها مأخوذ من الأطلال الرومانية) مستويين من الأقواس ذات الخطوط الحمراء والبيضاء،
2
مشكلة أنماطا أخاذة ومشاهد متناسقة. يخلب مسجد قرطبة «لا مسكيتا» الألباب، فهو أروع مثال على العمارة الإسلامية في الغرب. إلا أنه في عام 1236، فتحت قرطبة على يد المسيحيين من الشمال، الذين لم يضيعوا أي وقت وحولوه إلى كنيسة، فوضعوا مذبحا وكرسوا المبنى. وبعد قرنين من الزمن، قرر أسقف قرطبة، ألونزو مانريكي، أنه حتى مع المذبح الجديد، فإنه ما زال أشبه بمسجد وهو ما يثير القلق؛ لذا حصل على إذن ببناء كاتدرائية في وسطه. عندما تسير عبر جنبات مسجد قرطبة «لا مسكيتا» في وقتنا الحاضر، تلاحظ أن الحيز إسلامي تماما؛ فصفوف الأعمدة تنتشر ممتدة بمناسيب ساحرة وأنت تتحرك عبرها، ولكن عندما تصل إلى المركز، يرتفع السقف ارتفاعا هائلا إلى الأعلى نحو أقواس مدببة وعقد مروحي واضح، وتجد نفسك في كاتدرائية قوطية، يكملها كراسي للجوقة من خشب الماهوجني وصليب. مما لا شك فيه أنه واحد من أغرب المباني في العالم، مسجد تجثم فوقه كاتدرائية، تجسيد حجري هائل للصراع بين الديانتين.
في الوقت نفسه، كان المشهد المحيط بالمدينة يتعرض هو الآخر للتغيير. في ظل النظام الإسلامي للزراعة الإيجارية، كان المزارعون يدفعون للملاك نسبة من المحصول، وليس ضريبة صارمة كما كان الحال في ظل النظام القوطي الغربي الإقطاعي. كان هذا يعني أن المحاصيل الجيدة كانت في مصلحة الجميع؛ لذا شجع ذلك الناس على الاستثمار في البنية التحتية الزراعية؛ فكان الملاك يوفرون المعدات والمزارعون يوفرون العمالة. أتى المستوطنون العرب بخبرة تكنولوجية في الري جمعوها عبر قرون من الزراعة في مناطق من أكثر الأماكن جفافا على سطح الكوكب؛ فليس من قبيل المفاجأة أنه تقريبا كل كلمة إسبانية معاصرة ارتبطت بالري تأتي من العربية. في أنحاء الأندلس، بنى الناس نواعير لملء قنوات الري، ودرسوا وحسنوا التربة، ودرجوا بعناية المنحدرات إلى حقول وحولوا مجاري المياه الجبلية إلى صهاريج تخزين . وأعادوا بناء شبكة القنوات الرومانية وعملوا على تمديدها؛ مما زاد من حجم الأرض الخصبة وحسن المحاصيل. لكل حبة قمح تزرع، كان يمكن توقع ست حبات عند الحصاد؛ في فرنسا، كان المعدل واحدا إلى ثلاثة فقط. شجع الاستقرار السياسي النسبي المزارعين على زراعة محاصيل عالية القيمة طويلة الأمد، مثل الزيتون (الذي قد يستغرق ما يصل إلى أربعين عاما حتى ينضج) والكروم لإنتاج الزيت والخمر. السمة الأخيرة للازدهار الزراعي كانت إدخال وفرة من النباتات الجديدة، التي كان كثير منها مأخوذا من الهند ووزع في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية مع توسعها. كانت المحاصيل الموسمية، مثل القطن وقصب السكر والموز والأرز والبرتقال والبطيخ تنمو على نحو جيد في إيبيريا، ما دامت تروى ريا صحيحا. أحدثت الأطايب الغريبة الأخرى، مثل البلح والمشمش والباذنجان والبازلاء والخوخ والزعفران والتين، تغييرا في الحدائق المنزلية وموائد الطعام الأندلسية؛ مما أضاف إلى الطائفة الواسعة من المنتجات التي كانت موجودة بالفعل. أطعمت هذه الوفرة من الطعام الأعداد المتزايدة من سكان قرطبة وملأت خزائن الإمارة بالمال، نحو 100 ألف دينار في العام، في نهاية حكم عبد الرحمن الأول وهو مقدار لا بأس به بالنسبة إلى رجل وصل دون أي شيء من الجانب الآخر من البحر المتوسط منذ بضعة عقود فقط.
حب عبد الرحمن الأول العميق للنباتات جعله قائدا لثورة خضراء. فأنشأ قصر بساتين، إلى الشمال مباشرة من قرطبة، وأسماه الرصافة؛ تيمنا بملاذ جده خارج دمشق. وأرسل وكلاء في أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وإلى سوريا، للبحث عن النباتات والبذور وجلبها، «كل أنواع النباتات النادرة والغريبة والأشجار الجيدة من كل بلد»،
2
حتى يتأتى له أن يحيط نفسه بفاكهة ونباتات طفولته ومن ثم كون مجموعة مذهلة من النباتات. تشير إحدى القصص إلى أنه أرسل رسولا إلى أخته، التي كانت قد بقيت في سوريا ونجت من مذبحة العباسيين؛ ليحاول إقناعها بالمجيء والعيش في الأندلس معه. رفضت المغادرة، ولكنها عوضا عن ذلك أرسلت إليه سلة من رمان سوريا؛ تذكارا من طفولتهما السعيدة. تعفنت الفاكهة أثناء الرحلة الطويلة الحارة ، لكن واحدا من أفراد حاشية عبد الرحمن زرع البذور على أي حال، وينمو نسلها الآن في كل أنحاء إسبانيا.
3
مهد قصر الرصافة الطريق للجيل التالي من الحدائق النباتية الأندلسية، حيث درس الخبراء النباتات، واستحدثوا أدوية ووجدوا طرقا لأقلمة الأنواع الغريبة التي استخدمت بعد ذلك في علاج الأمراض. وازدهر علم البستنة ولعب دورا حيويا في تطوير الأدوية الأندلسية. وفيما بعد، في ظل الحكم المسيحي، استمر التقليد مع الحدائق الطبيعية التابعة للرهبان، حيث كانت النباتات تزرع وتستخدم لتحضير أدوية وعلاجات. إلا أن كل ذلك بدأ في قصر الرصافة الحبيب إلى قلب عبد الرحمن، حيث «لم تفشل منتجات المناطق البعيدة والظروف المناخية المختلفة هذه في أن ترسخ جذورها، وتزهر وتثمر في الحدائق الملكية، ومنها انتشرت بعد ذلك في سائر أنحاء البلاد»،
3
محدثة تغييرا في الطب والزراعة في المنطقة.
عندما توفي عبد الرحمن الأول سنة 788، كانت قرطبة مركزا مزدهرا للتجارة والحضارة. كان قد أرسى أسس مسجد قرطبة «لا مسكيتا» الذي هيمن على أفق المدينة منذ ذلك الحين، وأتاح إطارا سياسيا قويا ليبني عليه نسله. تسارعت وتيرة عملية تحرير الأندلس من النفوذ السياسي العباسي، سنة 763، عندما هزم عبد الرحمن جيشا أرسل من بغداد، ثم أمر بوسم رءوس قواد هذا الجيش، وتعبئتها في الملح وإيصالها إلى الخليفة المنصور. ويبدو أن المنصور عند تلقيه للطرد الشنيع، هتف قائلا: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرا!»
4
ومنذ ذلك الحين، ترك العباسيون الأندلس لشأنها. فقد ثبت أن عبد الرحمن الأول هو عدوهم اللدود؛ فهو عدو قوي، وحاسم ومخيف، ولكنه أيضا براجماتي، ومتفتح الذهن وحساس على نحو يثير الدهشة. واصل عبد الرحمن الأول سياسة التسامح الديني التي مارسها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية. كانت غالبية السكان المحليين الإيبيريين مسيحيين، ولكن كان يوجد أيضا طائفة يهودية مهمة عانت معاناة رهيبة في ظل حكم القوط الغربيين . سمح لليهود حينذاك بالحرية الدينية وخضعوا لقواعد محدودة، منها «الجزية»؛ وهي ضريبة تفرض على المواطنين غير المسلمين. أدى هذا التسامح والتعاون إلى تحديد ملامح المجتمع الأندلسي في القرون التي أعقبت ذلك، وأصبح له تأثير عميق على البحث العلمي في هذا المجتمع. امتد هذا الموقف المستنير أيضا إلى الأعداد الضخمة (والمتزايدة باستمرار) من العبيد الذين أسهموا إسهاما كبيرا للغاية في رخاء ونجاح الأندلس. كان كثيرون منهم سلافيين، أسروا على يد محاربي الفرنجة أثناء الحروب على حدودهم الشرقية وأخذوا إلى إسبانيا ليباعوا عبيدا. كبر أولئك الذين أمسك بهم وهم أطفال في تقاليد وطنهم الجديد؛ إذ تحولت أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام وكوفئوا بنيل حريتهم.
كان تطور قرطبة إلى مركز رئيسي للسلطة بطيئا بالمقارنة بمنافستها الرئيسية، بغداد، عاصمة الدولة العباسية. فقبيل أن يصبح عبد الرحمن الثاني (ابن حفيد عبد الرحمن الأول) أميرا، كان العصر الذهبي للبحث العلمي في بغداد قد قطع شوطا بعيدا. كانت العلاقة بين المدينتين معقدة؛ فالمرارة والتنافس بين السلالتين الحاكمتين كانا أسطوريين وكان من شأن الرغبة العارمة لدى الأمويين في أن يصبحوا مستقلين عن النفوذ العباسي أن تتوج بإعلانهم خلافة منافسة في أوائل القرن العاشر الميلادي. وبينما كانت الخلافتان تنفصلان سياسيا بالتدريج، كان العكس صحيحا على صعيد الثقافة والإدارة والتجارة. فمع تنامي شبكات التجارة عبر الإمبراطورية الإسلامية، أصبحت حركة البضائع المتدفقة بين قرطبة وبغداد (وكل الأماكن فيما بينهما) كالسيل الجارف. في القرن التاسع، كانت بغداد هي المركز الثقافي لدار الإسلام؛ لذا تطلعت إليها قرطبة، التي كانت تقف غير مستقرة على حافة العالم العربي بالضبط، بل، على حافة العالم المعروف، مسترشدة بها في كل شيء. كانت بنية الدولة الأموية تعزى بدرجة كبيرة إلى بنية العراق في العصور الوسطى؛ كانت أفكار الخدمة البريدية ونظام الرسوم المفروضة على الصادرات والواردات والعملة كلها أفكار منقولة. تجسد التبادل الثقافي بين الدولتين في الشخصية الفريدة لزرياب، المغني الفارسي الأسطوري، الذي ترك البلاط العباسي في بغداد ووصل إلى قرطبة سنة 822، حيث أمضى بقية حياته يعلم الأندلسيين كيف يعيشون حياة عصرية. تجلى التقدير الذي كانوا يحملونه للثقافة الشرقية من لحظة وصول زرياب؛ «لم يكتف عبد الرحمن الثالث بأن خرج بنفسه لاستقباله والترحيب به ، بل استضافه شهورا عديدة في قصره الخاص ومنحه هدايا كبيرة».
5
إلى جانب صوته المدهش، جلب زرياب إلى قرطبة كامل روعة ورقي البلاط العباسي؛ إذ ينسب إليه الفضل في إدخال الأندلس إلى القرن التاسع، إن جاز التعبير، عن طريق إدخال مجموعة هائلة من الابتكارات العصرية، وفي ذلك معجون الأسنان والوجبات المتعددة الأصناف ونبات الهليون وأدوات المائدة ومفارش المائدة وتسريحات الشعر والألبسة وآلات موسيقية جديدة وأنماط جديدة من الموسيقى. وأصبح من المقربين من الأمير، الذي فتن بهذا الرجل الساحر الراقي. كان زرياب عالما أيضا، وحث على دراسة الفلك والجغرافيا في البلاط القرطبي. أصبح زرياب أيقونة ثقافية، الرجل الذي أتاح للأندلسيين رؤية ما يمكنهم تعلمه من الشرق وأعطاهم الثقة لابتكار أفكارهم الخاصة.
مع تطور الثقافة الأندلسية خلال القرن التاسع، بدأت تترسخ فكرة أن المعرفة ينبغي التماسها عن طريق الترحال، وشجع على ذلك السمو الفكري للشرق. بدأ الشباب يرتحلون نحو المجهول من أجل «العثور على أنفسهم»؛ ليستخلصوا المعرفة من أفضل المفكرين في ذلك العصر، ويقاسون حرمان وأهوال الترحال الحتمية في أوائل العصور الوسطى.
4
كانت «الرحلة»، كما يطلق على هذه الأسفار، في المقام الأول، التماسا للاستنارة الدينية، ولكنها، في الواقع، كثيرا ما تضمنت اكتساب معارف علمية دنيوية أيضا؛ في هذه المرحلة، لم يكن ثمة فصل حقيقي بين الاثنين، وكان ذلك يرجع جزئيا إلى نظام التعليم الإسلامي، الذي كان فيه العلماء يبجلون ويلتمس علمهم أي شخص راغب في التعلم والانفتاح عقليا. كانت التجارة قد جعلت الإمبراطورية الإسلامية تنفتح، فأنشأ الحكام الطرق وأصلحوها، فربطوا الأماكن بعضها ببعض، وأنشئوا بنية تحتية تتيح من خلالها التحرك بسهولة نسبية للناس والبضائع. سافر الباحثون مع قوافل التجار وأمضوا معهم ليالي الصحراء الطويلة حول نيران خان القوافل. وعادة ما كان التجار، الذين يتسمون بطبيعة الحال بعالمية الطابع والانفتاح، هم أنفسهم باحثين حيث استخدموا أنشطتهم التجارية للحصول على الكتب وجلبها إلى الأندلس لتنسخ وتباع. في ذلك الوقت، أيضا، كان يوجد تجار كتب وورق متخصصون، وكانوا مسئولين عن إنتاج وتجارة ونقل النصوص بين أسواق الكتب الكبيرة في القاهرة وفاس وبغداد وتمبكتو وقرطبة. كانت هذه هي القنوات الرئيسية التي تدفقت خلالها أنهار المعرفة في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. كان ينضم إلى التجار والباحثين في القوافل نوع آخر من المسافرين؛ هم الحجاج. ففريضة الحج أحد أركان الإسلام ويقصد بها حج البيت الحرام في مكة، على الأقل مرة واحدة في العمر، وهو ما جعل السفر جزءا أساسيا من حياة المسلم.
قام مئات من الباحثين والحجاج بالرحلة الطويلة الشاقة نحو الشرق إلى شبه الجزيرة العربية والعراق، جالبين معهم أفكارا وكتبا جديدة عند عودتهم إلى الأندلس. وفي عشرينيات القرن التاسع، عرفت الأندلس مذهب المعتزلة عن طريق الباحثين الذين تعرفوا عليه في العراق. وإذ كانت تعاليمه منتشرة، انفتح المفكرون الأندلسيون على فكرة أن المنطق الإغريقي يمكن استخدامه إطارا للتحقيق في المسائل الفلسفية، ضمن سياق إسلامي. وكانت هذه بداية التقليد الذي أنتج باحثين شتى خلال القرن التالي، من بينهم أول فيلسوف أندلسي، وهو محمد بن مسرة الجبلي (883-931). كان والد الجبلي قد سافر شرقا في منتصف خمسينيات القرن التاسع وتعلم الأفكار المعتزلية في البصرة، وجلب معه عند عودته كتبا تتناول هذا الموضوع. في ذلك الوقت، كان يسيطر على الأندلس المحافظون الدينيون؛ لذا كان على هؤلاء الباحثين المعتزلة الأوائل أن يكونوا حريصين على ألا يلفتوا انتباه السلطات أكثر من اللازم؛ إذ تعرض بعضهم للاضطهاد وأحرقت كتبهم. ورغم أن مذهب المعتزلة كان في الخفاء في البداية، فإنه ساعد على جلب المعرفة الكلاسيكية القديمة إلى الأندلس، لتبلغ أشدها أثناء القرن التالي، في ظل الحكم المستنير لعبد الرحمن الثالث والحكم المستنصر بالله الثاني؛ مثلما حدث في ظل حكم المأمون في بغداد.
فتح عبد الرحمن الثاني، الذي حكم بغداد من سنة 822 إلى 852، طرق التجارة في منطقة البحر المتوسط عن طريق إقامة تحالفات مع البيزنطيين في القسطنطينية. فزاد هذا من فرص التجارة في المنتجات الأندلسية والمعادن والمنسوجات؛ مما أحدث ثراء ضخما وربط الجزيرة بالعالم الأوسع. كذلك كان عبد الرحمن راعيا سخيا للبحث العلمي وبذل كل ما في وسعه لتحفيز النشاط الفكري في قرطبة. بحلول منتصف القرن التاسع، كانت الثقافة العربية آخذة في الازدهار؛ كما يتضح من شكاوى الباحث المسيحي ألفارو القرطبي (بول ألفاروس)، الذي تحسر على وقوع المسيحيين الشبان في حب اللغة العربية وشعرها: «قرأ كل المسيحيين الشبان الموهوبين الكتب العربية ودرسوها بحماسة؛ إنهم يجمعون مكتبات ضخمة بتكلفة هائلة ... ونسوا لغتهم الأصلية.»
5
كانت تلك اللغة، بالطبع، هي اللاتينية، التي كانت تختنق ببطء جراء الافتقار إلى الأفكار والضمور الديني بينما تغلبت اللغة العربية؛ إذ كانت لغة مذهلة، شعرية، لغة المستقبل، لغة العلم. ولا عجب في أن المسيحيين الشبان كانوا حريصين على تعلمها والمشاركة في الثقافة الجديدة المثيرة التي بدلت حال مدينتهم. فصاروا يعرفون باسم «المستعربين»، العرب المسيحيين، وازدادوا ليصبحوا جالية ضخمة ومؤثرة، منتشرة عبر الأندلس.
شكل 4-3: مشهد لجسر روماني على نهر الوادي الكبير وقرطبة على الضفة اليسرى. يرى سقف الكاتدرائية واضحا أعلى مسجد قرطبة «لا مسكيتا»، بينما يمكن رؤية حافة برج كالاهورا على يمين الصورة على الناحية المقابلة من الجسر.
في الوقت الذي كان فيه المسيحيون المحافظون، مثل ألفارو، الذين صاروا في ذلك الحين مواطنين من الدرجة الثانية، يشعرون بأنهم مهمشون ومهددون في مجتمع قرطبة المتعدد الثقافات، الذي يهيمن عليه المسلمون، كان العكس صحيحا في حالة الجالية اليهودية السفاردية الضخمة. فبعد أن تحملوا اضطهاد القوط الغربيين، انتعشوا في ظل النظام الجديد المتفتح نسبيا، الذي سمح لهم ببناء المعابد اليهودية والعيش في سلام في الحي اليهودي من المدينة، الذي كان واقعا شمال «ألكازار» مباشرة. على عكس المسيحيين الذي كانوا قد فقدوا مركزهم المهيمن لصالح العرب المستوطنين والإسلام، كان اليهود معتادين على الاحتفاظ بلغتهم الخاصة، وعقيدتهم الخاصة، ومجتمعهم الخاص إلى جانب لغة البلد الذي كانوا يعيشون فيه وعقيدته ومجتمعه. اعتنق الشباب اليهودي أيضا اللغة والثقافة العربية، وأتاح لهم تسامح المجتمع الأموي النجاح في مجالات كثيرة من الحياة العامة والارتقاء بقدر ما مكنتهم مواهبهم. لعب الباحثون اليهود دورا أساسيا في نقل العلم في القرون اللاحقة، بينما بقيت جاليتهم ركيزة من ركائز الحياة المدنية في قرطبة. وقد تغلغلوا بشكل خاص في مجال الطب؛ إذ كانوا يشكلون ما يصل إلى خمسين بالمائة من الأطباء في إسبانيا، بينما كانوا يمثلون فقط 10 بالمائة من تعداد السكان عموما.
في ذلك الوقت تقريبا بدأت الأفكار العلمية في الوصول من الشرق بأعداد كبيرة. فكما رأينا سابقا، مع بداية القرن التاسع، كانت الفترة العظيمة للترجمة ماضية قدما في بغداد وكانت تجارة الكتب الإسلامية تشهد ازدهارا كبيرا. أسس خليفة عبد الرحمن الثاني، محمد الأول، الذي حكم خلال الفترة من سنة 852 إلى 886، مكتبة ملكية كانت هي أكبر مجموعة كتب في ذلك الوقت، وأنفق صفوة الأندلسيين آلاف الدنانير اقتداء به. كان سوق الكتب مزدحما بالرجال الأثرياء الذين يبحثون عن أفضل المجلدات ليملئوا أرفف مكتبتهم. ومع ذلك، لم يمثل هذا أمرا جيدا بالنسبة إلى الباحثين؛ الذين اشتكى أحدهم، عندما ظهر كتاب كان قد أخذ يبحث عنه طيلة شهور في مزاد، من أنه وجد نفسه محاصرا في حرب للمزايدة. فقد ارتفع السعر عاليا جدا حتى إنه اضطر للاستسلام وخسر الكتاب، وتحولت خيبة أمله إلى غضب عندما أقر الرجل الذي تفوق عليه في المزايدة بأنه لم يكن لديه أي فكرة عما يتناوله الكتاب؛ إذ كان ببساطة «متلهفا لإكمال مكتبة أنشئها، الأمر الذي سوف يمنحني سمعة طيبة وسط زعماء المدينة».
6
كان النزاع الأزلي بين الهواة الأثرياء والباحثين المعدمين قد وصل إلى الأندلس. لا توجد معلومات محددة كثيرة في المصادر عن الكيفية التي وصلت بها الكتب المفردة إلى هناك، ولكن شاعرا وقاضيا يدعى عباس بن ناصح، عاش في مصر والعراق سنوات كثيرة، يذكر بوصفه كان يجلب الكتب من الشرق إلى عبد الرحمن الثاني في قرطبة. إنه مثال، مجرد مثال واحد، لكن لا بد أنه كان يوجد كثيرون مثله؛ رجال إما قدموا نصوصا على هيئة هدايا عندما وصلوا إلى الأندلس، وإما باعوها إلى الباحثين وجامعي الكتب. رجل آخر من المؤكد أنه جلب معه كتبا لدى عودته من العراق هو عباس بن فرناس، الذي يعد أيضا أول شخصية عظيمة في مجموعة الباحثين الأندلسيين العظماء. كان لدى هذا الرجل، الذي كان بمنزلة «ليوناردو دافنشي إسبانيا الإسلامية»،
7
والذي ولد في رندة سنة 810، مجموعة مدهشة من الاهتمامات البحثية، وعينه منجما للبلاط عبد الرحمن الثاني. لم يكن من السهل التحقق من الحقائق الفعلية لحياته، ولكن يقال إنه سافر إلى بغداد للدراسة، قبل أن يعود إلى الأندلس، حيث درس الرياضيات والموسيقى وكتب الشعر، واخترع طريقة مبتكرة لقطع الكريستال الصخري،
6
وصمم وأنشأ ساعة مائية وكرة ذات الحلق (تستخدم في الفلك) وقبة فلكية. لكن أكثر ما يشتهر به هو محاولته الطيران بتغطية نفسه بريش والقفز من برج (أو جرف، حسب القصة)، ممسكا بأجنحة مصممة تصميما خاصا. وبمعجزة ما، نجا، على الرغم من كونه في الستينيات من عمره، فخلص إلى أنه لم يكن يدرك أهمية ذيول الطيور في عملية الهبوط.
رغم تجاربه المتهورة، عاش ابن فرناس حتى بلغ من العمر أرذله. وأسهم في بدء تقليد بحثي بلغ أوجه في القرن التالي عندما جلس عبد الرحمن الثالث على العرش. ولد عبد الرحمن الثالث في عام 891. كان حفيد الأمير السابع، عبد الله، الذي تجاوز، على نحو مثير للجدل، أبناءه الأربعة كلهم في تنصيبه لحفيده خلفا له. كانت أم عبد الرحمن أمة مسيحية، وجدته كانت أميرة مسيحية، ابنة ملك بامبلونا؛ لذا كان للأمير الجديد خلفية عرقية ودينية مختلطة، وعينان زرقاوان وشعر أشقر، وعلى ما يبدو أنه صبغه بلون أسود ليجعل نفسه يبدو عربيا أكثر. مات عبد الله تاركا الأندلس في حالة فوضى، تعصف بها نزاعات داخلية وحركات تمرد، ويهددها من الشمال ملك أستورياس المسيحي والفاطميون المستقرون في شمال أفريقيا من الجنوب. من المحتمل أن التفاؤل لم يملأ المعلقين السياسيين المعاصرين عندما اعتلى العرش عبد الرحمن ذو الواحد والعشرين ربيعا؛ إذ لم يكن بوسعهم أن يدركوا أنه سوف يصبح أهم وأنجح زعيم في تاريخ إسبانيا الإسلامية. تكلم عبد الرحمن، الذي كان متعلما تعليما جيدا ومثقفا، العديد من اللغات بطلاقة وكان راعيا متحمسا للبحث العلمي. أسس جامعة في مسجد قرطبة «لا مسكيتا» وشجع الباحثين على العمل على النصوص العلمية التي جلبت من الشرق. كانت جهود الخوارزمي في علم الحساب الهندي وجداوله الفلكية (الزيج)، التي جلبها على الأرجح عباس بن فرناس إلى الأندلس في منتصف القرن التاسع، شديدة التأثير، وقد شكلت علم الفلك الأندلسي. تحت رعاية عبد الرحمن الثالث، عمل المجريطي (الذي يوحي اسمه بأنه ولد في مدريد) على مواءمة «الزيج» مع إحداثيات الطول الخاصة بقرطبة حتى يتسنى لهم استخدامها لتوقع حركات النجوم، والتثبت من اتجاه مكة واستنباط المواقيت الصحيحة للصلوات خلال اليوم. كان الفلك أداة حيوية للسلطة، وفهم عبد الرحمن أهمية ملء بلاطه بالباحثين المتفرغين لدراسة النجوم ومعرفة كيفية التنبؤ بحركاتها؛ ومن ثم، التنبؤ بالمستقبل.
كان المجريطي عضوا قياديا في دائرة الباحثين في بلاط عبد الرحمن. كانوا يقومون بعمليات رصد دورية، ويعملون معا لتحسين دقة جداولهم وتصحيح النظرية الفلكية. كان المجريطي معلما عظيما وموجها للجيل التالي من العلماء، وقامت على معارفه مدرسة. كان بذلك شخصية بالغة التأثير في تطور علم الفلك والرياضيات في الأندلس، وانتقل تلاميذه إلى مدن أخرى، وأخذوا أفكاره معهم. كان المجريطي «شديد الولع بدراسة كتاب بطليموس المعروف باسم «المجسطي» وفهمه»،
8
كما ورد أيضا أنه قام بترجمة لكتاب بطليموس المسمى «خريطة النجوم»، الذي لم يكتب له البقاء بالعربية، وإنما فقط بالترجمة اللاتينية التي أجريت في طليطلة في القرن الثاني عشر. علم المجريطي تلاميذه كيفية استخدام الأجهزة الفلكية استخداما صحيحا، وكيفية صنع أجهزتهم بأنفسهم. وواصل ابن الصفار، أحد تلامذة المجريطي، عمل المجريطي على الأسطرلابات، وكانت الأطروحة التي كتبها ابن الصفار لاحقا ذات أهمية كبيرة حتى إنها كانت لا تزال تستخدم بواسطة الفلكيين في القرن الخامس عشر. صنع كل من المجريطي، والصفار وتلميذ آخر من تلاميذه يدعى ابن السمح نسخا جديدة من جدول الخوارزمي المسمى «الزيج»، وعملوا على مواءمتها مع الموقع الجغرافي لقرطبة. كتب ابن السمح أيضا كتابا يفسر الهندسة في أطروحة إقليدس «العناصر»، كما كتب أطروحتين عن الأسطرلاب.
نتيجة لذلك، أنتجت الأندلس تراثا ثريا من البحوث الفلكية المستندة على عمليات رصد دقيقة أجريت على مدى فترات طويلة من الزمن. كيف علماء الفلك الأندلسيون أحدث النظريات الآتية من الشرق لتلائم حاجاتهم وموقعهم، وعادوا إلى بطليموس ليدرسوا ويفندوا ويصححوا عمله، واستفادوا من أفكار مستقاة من الرياضيات الهندية ومن أطروحة «العناصر» لإقليدس لينتجوا مساهماتهم في عملية التقييم والتحسين المتدرجة التي تقود البحث العلمي للأمام. عززت المستويات المرتفعة من الحرف اليدوية المحلية، بخاصة في أشغال المعادن، من تقدمهم، وهو ما استغلوه لصنع أجهزة أكثر دقة ونفعا من أي وقت مضى. ليست مصادفة أن والد ابن الصفار كان عامل نحاس أصفر، وأنتجت هذه الشراكة الخصبة بين الفن والعلم بعض الأشياء ذات الجمال المدهش.
استقطب بلاط عبد الرحمن أذكى الشباب وأكثرهم طموحا من كل أرجاء شبه الجزيرة. ولم يكن أحد أكثر ذكاء أو طموحا من شاب يهودي من مدينة جيان يدعى حسداي بن شبروط، الذي عين في البداية طبيبا للبلاط. كشأن سيده عبد الرحمن، كان حسداي باحثا موهوبا، ويتكلم العديد من اللغات بطلاقة (وفي ذلك اللاتينية، التي كانت من ناحية أخرى لا يفهمها إلا قلة قليلة من الكهنة المسيحيين)، وجذابا، ورفيع الثقافة، وبارعا؛ كان لديه كل ما يتمناه حاكم في مستشاره. ولم يمض وقت طويل حتى صار حسداي رجلا لا غنى عنه لدى عبد الرحمن، الذي عينه مسئولا عن الجمارك والواردات في قرطبة، وهو منصب استخدمه ليحدث تحولا في أوضاع الخزانة. إجادة حسداي للغات وذكاؤه ومكانته لدى المجتمع الدولي اليهودي، كل هذا جعل منه دبلوماسيا مثاليا. سافر حسداي إلى بلاط الإمبراطور الروماني المقدس، أوتو الأول، في فرانكفورت، وإلى بلاط الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية، وعندما وصل السفراء إلى قرطبة، كان حسداي هو من استقبلهم. قال يوحنا الجورزيني، وهو راهب كان عضوا في وفد أرسل من فرانكفورت: «لم أر مطلقا رجلا بهذا القدر من الذكاء البارع.»
9
ويبدو أن مواهب حسداي كانت بلا حدود؛ حتى إنه نجح في شفاء ملك ليون، سانشو البدين، من سمنته المفرطة. انضم إلى حسداي في زمرة المقربين من عبد الرحمن المسيحي (المستعرب) أسقف إلفيرا، ريتموندوس، الذي بفضل ديانته وخلفيته، صار مناسبا تماما للبعثات الدبلوماسية التي كان مسئولا عنها إلى القسطنطينية وفرانكفورت. سعت التأريخات الحديثة للأندلس إلى الطعن في فكرة أن الأندلس كانت مكانا لتسامح ديني مميز، لكن أهمية ريتموندوس وحسداي في حكومة عبد الرحمن تثبت أن التفتح كان مهيمنا في الطبقة العليا من المجتمع. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أنهما لم يكونا مسلمين كانت ذات أهمية بالغة في الدور الذي لعباه.
بحلول عام 929، كان عبد الرحمن قد أرسى دعائم الاستقرار في الأندلس، مستخدما مزيجا من القوة الغاشمة والتفاوض البارع. كانت قرطبة، في تلك المرحلة، مدينة كبيرة غنية. كانت شوارعها النظيفة نظافة تامة تضاء بفوانيس ليلا، وملأت رائحة الطعام الشهي والتوابل العبقة أسواقها، بينما تدفق الماء عبر نظام الري إلى عدد لا يحصى من النوافير في الأفنية الظليلة للمنازل القرطبية. في ورش المدينة، صنع الحرفيون أجمل المشغولات الجلدية والحلي المنقوشة نقشا معقدا والأقمشة الفاخرة والنحاس الأخضر الشهير والأواني الفخارية الزرقاء المضاف إليها المنجنيز؛ سلع فاخرة كانت تباع في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط، لتحقق ثراء هائلا للحرفيين وتجار المدينة. بنى القرطبيون الأثرياء قصورا مذهلة في الوادي الخصيب لنهر الوادي الكبير، مستوحاة من بقايا الفيلات الرومانية التي وجدوها هناك، ومشتملة على حدائق وبساتين ومغاطس ومكتبات. حتى أشد الكتاب معاداة للإسلام كانوا منبهرين، ووصفوا المدينة بأنها «زينة العالم الجميلة».
7
وجاءت اللحظة التي تخرج فيها قرطبة من ظلال منافستها القديمة، بغداد، من أجل المنعطف الأخير في العداء الكبير بين السلالتين. ففي عام 929، أعلن عبد الرحمن الثالث عن إقامة خلافة منافسة، قاطعا جميع العلاقات مع بغداد ومنزلا الانتقام النهائي بالعباسيين، الذين كانت إمبراطوريتهم تتداعى من حولهم.
غير أن عبد الرحمن أدرك أن مجرد إعلان نفسه خليفة لم يكن كافيا. فقد كان بحاجة إلى أن ينشئ لنفسه مقرا يعكس سلطته ومكانته الجديدتين. وهكذا، في عام 936، سافر بضعة كيلومترات خارج قرطبة، نحو الشمال الشرقي، صوب سييرا مورينا، وهي مجموعة من التلال التي تحيط بالوادي. فوجد مكانا في منتصف الطريق إلى منحدر جبل العروس يحظى بإطلالة بانورامية شاملة عبر سهل الوادي الكبير، وبدأ يبني المدينة - القصر المهيبة التي أسماها مدينة الزهراء. عمل آلاف من العمال، وكان كثير منهم عبيدا،
8
بإيقاع محموم لإنشاء مجمع حضري ذي اكتفاء ذاتي (على مساحة تتجاوز الكيلومتر المربع)، بحماماته، وورشه، ومساجده، ومخابزه، وثكناته العسكرية، وبالطبع مبان سكنية فخمة للخليفة وحكومته. حولت مجاري المياه الجبلية، عبر قناة رومانية مرممة، إلى خزانات ضخمة، بحيث كان لكل ركن من المدينة مياه جارية، بينما قسم الموقع أفقيا إلى ثلاث مصاطب، والقصور في المستوى الأعلى. عملت محاجر إيبيريا وشمال أفريقيا بسرعة على مضاعفة إنتاج الأطنان من أجود الرخام؛ الوردي والأخضر من قرطاج، والأبيض من تاراجونا. نهبت مبان قديمة من أماكن بعيدة مثل ناربون وروما لجمع 4000 عمود حملت عليها المدينة. في قاعة الخلفاء، تألقت الجدران برخام شبه شفاف وذهب، يعكس لؤلؤة ضخمة، أرسلت هدية من القسطنطينية، كانت متدلية من وسط السقف. على الأرض، يهتز حوض من الزئبق، يبعث الرعب والعجب في نفوس الزوار بإرساله أشعة الشمس في أرجاء القاعة.
استنادا إلى خلفية عظمة مدينة الزهراء، كان في مقدور عبد الرحمن الثالث أن يشغل مكانه على الساحة العالمية إلى جانب قادة العالم العظام الآخرين في العصور الوسطى. عجت قاعات المجلس المتألقة بالسفراء من الفرنجة واللومبارديين والسردينيين والإمبراطورية البيزنطية وممالك شمال إسبانيا المسيحية، بينما استخدم ممثله، حسداي، مهاراته الشخصية في أرجاء قاعات البلاط الملكي لأوروبا والشرق. كان لهذه الفورة من النشاط الدبلوماسي كثير من النتائج الإيجابية. فقد ترسخ وضع عبد الرحمن بصفته خليفة، وأصبحت الأندلس لاعبا أساسيا في السياسات الدولية ونعمت بتحالفات قوية، وكذلك، كما أشار حسداي مفتخرا: «ملوك الأرض، المعلوم لديهم عظمته وسلطانه [يقصد عبد الرحمن الثالث]، يجلبون إليه الهدايا، يستجلبون عطفه بهدايا نفيسة، مثل ملك القسطنطينية، وآخرين. كل هداياهم تمر من بين يدي، وأنا مكلف بتقديم هدايا في المقابل.»
9
وحرصا منهم على إثبات ثرائهم وترسيخ التحالف في مواجهة العباسيين، كان البيزنطيون كرماء بشدة. فتألقت مدينة الزهراء بجواهر ضخمة، وأعمدة رخامية، وأحواض مزخرفة مرسلة من القسطنطينية . في عام 949، أرسل الإمبراطور قسطنطين السابع، الذي سمع باهتمام عبد الرحمن بالعلم والمعرفة، شيئا أغلى من ذلك؛ إذ أرسل كتابا. كان الكتاب بعنوان «عن المواد الطبية» وقد كتبه ديسقوريدوس في القرن الأول الميلادي. ويعد الكتاب دستورا أو مرجعا للأدوية وهو ضخم إذ يتألف من خمسة مجلدات، يصف 600 نبتة وخصائصها الطبية. كانت هذه النسخة قد أضيفت إليها الرسوم التوضيحية بواسطة أكثر فناني النسخ موهبة في القسطنطينية وكانت مليئة بالصور الجميلة للنباتات والمعادن والحيوانات؛ لم تكن مجرد زينة، وإنما أدوات مهمة فيما يتعلق بالتعريف. كان نصا في غاية الأهمية، وكذلك ظل لقرون، مستخدما بواسطة أجيال من الأطباء، وكان مصدرا رئيسيا لأعمال جالينوس المتعلقة بعلم النبات الطبي. كان الباحثون الأندلسيون قد توصلوا بالفعل إلى ترجمة عربية ركيكة للنص وهي الترجمة التي كان حنين بن إسحاق قد عمل عليها في بغداد، لكن كثيرا من أسماء النباتات كان قد ترجم صوتيا فحسب إلى العربية بدلا من تحديده على نحو سليم (الأمر الذي كان من شأنه أن يكون له عواقب مخيفة عند استخدامها لصنع الأدوية)؛ فكثير من النباتات لم يكن في الواقع ينمو في العراق؛ لذا كانت غير معروفة لدى المترجمين الأوائل.
كانت الترجمة الجديدة لكتاب «عن المواد الطبية» نقطة تحول في تطور الطب الأندلسي؛ إذ أتاحت له أن يتخطى إنجازات الشرق ويؤسس تقليدا طبيا مستقلا في إسبانيا. ولكن، قبل أن يتسنى لهذا أن يحدث، تعين على القرطبيين أن يترجموه من اليونانية إلى العربية، ولم يكن يوجد من يتحدث اليونانية في الأندلس. على الفور كتب حسداي بن شبروط إلى الإمبراطور في القسطنطينية، طالبا منه العون، وبعد بضع سنوات، وصل راهب بيزنطي يدعى نيكولاس لينضم إلى فريق المترجمين الذين كانوا عاكفين على النص. لقن نيكولاس اليونانية للمستعربين الناطقين باللاتينية؛ حتى يتمكنوا من ترجمة الحديث المتبادل بينه وبين الباحثين العرب ترجمة فورية، وبهذه الطريقة، ترجم هذا العمل العظيم تدريجيا إلى العربية؛ وأمكن التعرف على كل النباتات تقريبا في البيئة المحلية. كان هذا المشروع المتعدد اللغات والأعراق تحت إشراف حسداي بن شبروط، الذي شجع ودعم فريق الباحثين، وساهم دون شك بخبرته الكبيرة عند الحاجة إليها. وكما كان حاله في العصور القديمة، كان كتاب «عن المواد الطبية» واحدا من أكثر النصوص الطبية تأثيرا في العصور الوسطى؛ إذ ظل المرجعية الأساسية في موضوعه على مدى 1500 سنة، ونسخ باليونانية واللاتينية والعربية، وتنوقل على نطاق واسع. وإبان القرنين السادس عشر والسابع عشر، ترجم إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والإسبانية، وشكل الأساس لكثير من كتب الأعشاب في عصر النهضة. كانت الرسوم التوضيحية التي احتواها إيذانا بمولد نهج رسم النباتات المنتشر عبر عالمي الفن والعلم إلى يومنا هذا. وقد خطت أقدم مخطوطة مصورة باقية إلى يومنا هذا في القرن الخامس الميلادي في القسطنطينية لحساب الأميرة البيزنطية أنيسيا جوليانا، وهي الآن موجودة في مكتبة في فيينا. كانت النسخة العربية من كتاب «عن المواد الطبية» من النصوص الأساسية في تطور علمي النباتات والأدوية الأندلسيين؛ إذ كان بمثابة نقطة البداية لتقليد طويل من دراسة ووصف «الأعشاب الطبية»، علاجات تصنع من نبتة واحدة، وبحلول القرن الثالث عشر، أدرج الباحثون الأندلسيون أكثر من 3000 منها. وقد نفذوا هذا العمل في حدائق نباتية، حيث أجروا عمليات تكاثر للنباتات وزرعوها وعكفوا على دراستها بالإضافة إلى دراسة خصائصها الطبية، وابتكروا علاجات ووضعوا أسس علم الأدوية المعاصر، سائرين على النهج الذي بدأه لأول مرة عبد الرحمن الأول في حديقته في الرصافة.
انضم عمل ديسقوريدوس العظيم إلى أعمال جالينوس، التي كانت بالفعل تدرس في إيبيريا بترجمات عربية وضعها حنين بن إسحاق ومجموعته في بغداد. وعلى نحو رائع لخص أحد الباحثين الشبان، الذي كان يجمع، مثل كثير جدا من أبناء وطنه، بين الاهتمام بالعلم والموهبة في كتابة الشعر، الأمر في هذا المقطع الشعري:
عندما لا يكون لدي ضيوف ولا رفقاء،
أحتفي بأبقراط وجالينوس،
أتخذ كتبهم علاجا لوحدتي؛
إنها علاج لكل جرح أداويه .
10
سافر الكثير من الأطباء شرقا ليتعلموا من أساتذة العراق العظماء. غادر شقيقان، يدعيان عمر وأحمد، الأندلس وأمضيا عشر سنوات في بغداد يدرسان كتب جالينوس مع ثابت بن سنان، ابن الباحث الصابئي الشهير ثابت بن قرة، وطب العيون مع طبيب عيون متخصص. وعندما عادا إلى الديار في عام 962، عينا طبيبين للبلاط واشتهرا بعلاجاتهما، وتحديدا بقدرتهما على معالجة علل العيون. في الفترة نفسها تقريبا، كان يعيش في البصرة باحث أندلسي آخر، يدعى الجبلي، ويدرس الطب والمنطق. ومن هناك، انتقل إلى مصر، حيث عمل مديرا لأحد المستشفيات وبعد ذلك عاد إلى إيبيريا في عام 971.
10
وقد اكتسب سمعة باهرة بصفته طبيبا، مشتهرا بدرايته الواسعة وفهمه العميق للطب. فحقيقة أن الباحثين درسوا في الشرق منحتهم دون شك مجدا ما إن عادوا إلى ديارهم، ولكن لا بد أن المكانة العالية التي حظي بها هؤلاء الأطباء الثلاثة قد اعتمدت أيضا على ممارساتهم الطبية ومقدرتهم على شفاء الناس. وقد كانت إسهاماتهم في عملية النقل حيوية؛ إذ عادوا بأحدث الأفكار الطبية وترجمات لنصوص قديمة ونشروا تلك النصوص بين أطباء الجيل التالي في الأندلس.
شكل 4-4: ترميم حديث لبعض من أدوات الزهراوي الجراحية الدقيقة، معروضة في متحف برج كالاهورا. الأداة الموجودة في المقدمة يسارا توصف بأنها: «بلطة تستخدم في جراحة الأوردة.»
هيمن رجل واحد على ذلك الجيل. كان أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (936-1013) أحد العمالقة حقا في تاريخ الطب. لا نعلم إذا ما كان سافر شرقا بحثا عن المعرفة، ولكنه تعلم على يد المجريطي، وعينه الحكم الثاني، ابن عبد الرحمن الثالث ووريثه، طبيبا للبلاط؛ لذا أمضى جانبا كبيرا من حياته في المدينة - القصر المعروفة باسم مدينة الزهراء؛ ومن هنا جاء اسمه. في أواخر حياته، ألف الزهراوي كتابا جامعا ضخما بعنوان «كتاب التصريف» (عادة ما يعرف باسم «منهج الطب»)،
11
والذي استمر ليصبح حجر زاوية للممارسة الطبية في أواخر العصور الوسطى، متخذا مكانه إلى جانب كتاب الرازي «الحاوي في الطب» وكتاب ابن سينا «القانون في الطب» على أرفف كتب الأطباء في أنحاء أوروبا.
12
كان «كتاب التصريف»، الذي يعد دليلا شاملا للطب، يتكون من ثلاثين أطروحة تتناول الأمراض والأعراض والعلاج والنظام الغذائي وتحضير العقاقير البسيطة والمركبة واللصقات والعلاجات والمراهم اتباعا للتقليد الذي انتهجه كتاب «المواد الطبية». وكان القسم الأخير، الذي يشكل نحو ثلث الكتاب، مخصصا للجراحة، وهذا هو السبب الأبرز وراء شهرة الزهراوي.
في مقدمته يتحسر الزهراوي على أن «العمل باليد محسنه في بلدنا وفي زماننا معدوم البتة»، قبل أن يتابع ويؤكد ضرورة أنه يتعين على الممارس «أن يرتاض قبل ذلك في علم التشريح، الذي وضعه جالينوس، حتى يقف على منافع الأعضاء، وهيئاتها، ومزاجاتها واتصالها وانفصالها، ومعرفة العظام والأعصاب والعضلات، وعددها ومخارجها، والعروق والنوابض والسواكن، ومعرفة مخارجها».
11
كذلك تأثر بالأطباء العرب، وبشكل خاص الرازي، وبالموسوعي بولس الأجانيطي من العصر القديم المتأخر، والذي كان كتابه عن الجراحة مصدرا مهما للمعلومات.
كان نهج الزهراوي العملي مستندا على تصميم الأدوات الجديدة، التي كان كثير منها مستخدما منذئذ؛ الملقط، والمنظار، ومنشار العظم، ومبضع استخراج حصاة المثانة، والسكين المخفي، والخطاف الجراحي، ومقصلة اللوزتين، والملعقة والقضيب، والإبرة والمحقن وأدوات أخرى كثيرة. ليس هذا فحسب، بل وضع أيضا رسوما بيانية مفصلة وتوضيحات عن كيفية صنع واستخدام هذه الأدوات، وهي سابقة في العالم الإسلامي. ويوجد ترميم لهذه الأدوات معروضة في متحف برج كالاهورا في قرطبة. ونظرا لكونها موضوعة على وسائد حمراء لامعة، يمكن بسهولة أن يخطئ المرء ويحسبها قطعا جميلة من الحلي، ولكن البطاقات أسفلها لا تدع لك مجالا للشك بشأن وظائفها؛ تجد مكتوبا على إحداها: «بلطة تستخدم في جراحة الأوردة.» كان نهج الزهراوي في الطب مبدعا وعمليا؛ إذ كان له الريادة في مواد التخدير بإعطائه لمرضاه إسفنجات منقوعة في أفيون وقنب من أجل استنشاقها، وكان أول شخص يستخدم الخيط الجراحي من أجل الخياطة الداخلية؛ وهو عبارة عن مادة طبيعية تذوب بسهولة داخل الجسم البشري دون أن تسبب عدوى، ويستخدمها الأطباء منذ ذلك الحين. واستحدث علاجات للاعتلالات النفسية، منها علاج يعتمد على الأفيون، دعاه «جالب السعادة والسرور؛ لأنه يريح النفس، ويطرد الأفكار السيئة والهموم، ويلطف الأمزجة، ومفيد ضد المالنخوليا».
12
أحدث تركيزه على التشريح ووظائف الأعضاء تأثيرا على أجيال من الأطباء، مثلما أحدثت أفكاره عن الأخلاقيات والنظافة الشخصية والتعليم والنظام الغذائي. كان أيضا مهتما بالطب النفسي وتعليم الأطفال، وهو ما ناقشه باستفاضة في «كتاب التصريف». ومع ذلك، كان كتابه عن الجراحة هو صاحب التأثير الأعمق؛ فترجم إلى اللاتينية في طليطلة ومن هناك انتشر في سائر أنحاء أوروبا.
كان الزهراوي محظوظا في أن الجانب الأول من حياته العملية تزامن مع أوج العصر الذهبي القرطبي في حكم عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني. كان الحكم أكثر حماسة إزاء التعلم من أبيه، وعندما كان لا يزال شابا «بدأ جهده في دعم العلوم ومصادقة العلماء. فجلب من بغداد، ومن مصر، ومن بلدان شرقية أخرى أفضل أعمالهم العلمية وأقيم منشوراتهم، جديدة كانت أو قديمة».
13
أحسن الحكم استخدام الوقت الذي كان فيه وليا للعهد، منشئا شبكة شاسعة من المعارف في مجال الأبحاث ومرسلا وكلاء في أنحاء دار الإسلام وما وراءها لشراء أو نسخ أو استعارة أو سرقة الكتب القديمة والحديثة، لمكتبته، وجلبها إلى قرطبة، مهما كانت التكلفة. وحسبما أورد صاعد الأندلسي، الذي كتب استعراضا مفصلا لتاريخ العلم في القرن الحادي عشر، فإن: «مجموعته أصبحت معادلة لما استطاع بنو عباس [بنو موسى من بغداد] أن يجمعوه مجتمعين على مدى مدة زمنية أطول بكثير. ما كان ذلك ممكنا إلا بسبب حبه الكبير للعلم وتوقه إلى اكتساب الفضل المصاحب له، ورغبته في الاقتداء بالملوك الحكماء.»
14
في هذا الصدد، أسس سبعا وعشرين مدرسة للأطفال الفقراء، ودعم الجامعة التي أسسها أبوه في مسجد قرطبة، فجعلها مشهورة بأن كفل هبات سخية، ودعا الأساتذة الشرقيين للمجيء والتدريس في المدينة وأنفق آلاف الدنانير على تركيب أنابيب للمياه وفسيفساء من القسطنطينية. وعندما اعتلى الحكم العرش سنة 961، ضم ثلاث مكتبات ملكية رئيسية، هي مكتبة القصر ومجموعة شقيقه محمد ومجموعته الخاصة، جاعلا منها مكتبة واحدة، يزعم أنه عين فيها 500 شخص. عندما صنف أمين المكتبة، ويدعى تليد، الكتب التي بلغ عددها 400 ألف أو نحو ذلك، ملأ 404 مجلدات بالعناوين فقط. ولو كان قدر لها أن تبقى، لكانت قد أعطتنا صورة تفصيلية عن عالم الفكر الأندلسي؛ ونظرا للوضع القائم، علينا أن نعيد تشكيل محتويات المكتبة من الأعمال الباقية التي كتبها الباحثون أنفسهم، ومن مصادر أخرى، بوضعها الحالي. كان التأثير الكبير للحكم الثاني في الشبكات الخاصة بالكتب في جميع أنحاء دار الإسلام يرجع جزئيا إلى سمعته الشخصية بوصفه باحثا. فقد كان، حسب أحد المؤرخين الأندلسيين، قد قرأ معظم الكتب في مكتبته وعلق عليها؛ وحتى مع التغاضي عن تلك المبالغة، فإن هذا الرجل لم يكن مجرد هاو لجمع الكتب. فإلى جانب وكلاء الكتب، عين باحثين أجانب في مصر وبغداد لجمع الكتب لحسابه، وفي حالة واحدة على الأقل، تمكن من إقناع كاتب في العراق بأن يرسل له مخطوطة لكتابه الجديد قبل أن يراه أي أحد آخر.
اجتذبت سمعة قرطبة، باعتبارها مركزا عظيما للتعلم، الباحثين من كل حدب وصوب، لا سيما في مجالات الطب والفلك والشريعة والنحو والشعر. كان القرطبيون مشهورين بحبهم لعالم الكتابة، وقيل إنه «عندما يموت رجل مثقف في إشبيلية، ويرغب ورثته في بيع مكتبته، عادة ما يرسلونها إلى قرطبة حتى تنقل ملكيتها.»
15
كان لعائلة العلامة ابن فطيس مكتبة وظفوا فيها ما لا يقل عن ستة نساخ وكاتب شهير في وظيفة أمين مكتبة؛ وثمة مجموعة خاصة أخرى شكلتها شاعرة تدعى عائشة. ويورد أحد المصادر: «حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي بخط فلان قد حصله وظفر به.»
16
كان لا بد لكل هذه الكتب أن تنسخ؛ لذا ليس مستغربا أن صناعة النسخ ازدهرت في قرطبة في القرن العاشر. فعين مئات الناس لإنتاج ما يقدر بنحو 70 ألفا إلى 80 ألف كتاب يؤلف في المدينة كل عام، في أكبر سوق للكتب في العالم الغربي.
تألق نجم قرطبة، لكنه سرعان ما خبا. فعندما مات الحكم في عام 976، مات معه الاستقرار والحرية الفكرية. فقد ترك ابنه، الهشام، البالغ من العمر أحد عشر عاما، على العرش، ورأى الوزير المنصور أن الفرصة مواتية للاستيلاء على السلطة. ولم يكن لجنون العظمة لدى المنصور حد. فشرع في تدمير ونهب مدينة الزهراء ليبني قصرا جديدا لنفسه على الجانب الآخر من قرطبة. وتدريجيا غرقت المدينة الشاسعة الساحرة على سفح التل التي تعلو قرطبة في الغبار، واستخدمتها الفصائل المتناحرة قاعدة لها مع سقوط الخلافة، وسلبت كنوزها؛ أنابيبها، وأعمدتها، ومنحوتاتها، وأبوابها، وأصولها كلها بيعت بأغلى الأثمان. على الرغم من هذا، فإن أنقاض مدينة الزهراء مثيرة للذكريات بقوة. فلا تزال الأقواس الكبيرة لقاعات المجلس، وأحواض الفناء، والموقع المثير للمشاعر تنال إعجاب آلاف السياح في وقتنا الحاضر، لكن التفاصيل الصغيرة هي ما يعيد الحياة إلى المدينة؛ كالثقوب الدائرية التي كانت قوائم الأبواب تركب فيها، والتابوت الحجري الروماني المعاد استخدامه على هيئة حوض سقاية في إسطبلات القصر، وقطع أنابيب الرصاص المكسورة التي كانت جزءا من نظام الري.
أيضا صب المنصور جام غضبه على قرطبة نفسها. فتحت تأثير علماء الدين المحافظين، نهب مكتبات المدينة العظيمة، باحثا عن كل الكتب التي «تتناول العلوم القديمة من منطق، وفلك، ومجالات أخرى، مبقيا فقط على الكتب المتعلقة بالطب والرياضيات. حفظت الكتب التي تناولت اللغة، والنحو، والشعر، والتاريخ، والطب، والسنن، والحديث، والعلوم المشابهة التي سمح بها في الأندلس». وأمر بتدمير البقية و«لم ينج إلا عدد قليل؛ أما البقية فإما أحرقت وإما ألقي بها في آبار القصر وغطيت بالتراب والأحجار». كان تبريره أن «هذه العلوم لم تكن معروفة لأسلافهم ومقتها أئمتهم السابقون».
17
كانت تعد كتب هرطقة وكان أي شخص يبحث عنها مدانا بعدم اتباع الشريعة الإسلامية. إن الكيفية التي تخيروا بها أي نصوص يبقون عليها وأيها يدمرونها تبقى لغزا؛ لا بد أنه كان من الصعب تحديد إذا ما كانت نصوص مثل كتاب «المجسطي» لبطليموس تعد كتبا رياضية أم متخصصة في الفلك. نهبت قرطبة مرات عديدة في عقود الفوضى التي تلت، ودمرت مكتباتها. أما الكتب التي كتب لها البقاء فقد «تبعثرت في كل أنحاء الأندلس»،
18
فقد أخذها باحثون فارون إلى مدن أخرى من بينها إشبيلية وغرناطة وسرقسطة وطليطلة. ظفرت هذه الإمارات الصغيرة التي عرفت باسم دويلات «الطوائف»، باستقلالها في أواخر القرن الحادي عشر وازدهرت في الوقت نفسه الذي تراجعت فيه قرطبة. سعى حكامها جاهدين إلى جعل قصورهم مراكز عظيمة للتعلم، تضم مكتبات وباحثين نابغين. واعتمد نجاحهم على مزيج من الحظ والمال واهتماماتهم الفكرية الخاصة. فاشتهرت سرقسطة بفلاسفتها وفي أواخر القرن الحادي عشر، حكمها يوسف المؤتمن بن هود، الذي يحتمل أنه كان عالم الرياضيات الأكثر موهبة في سائر إسبانيا المسلمة، والذي من المؤكد أنه كان الأكثر أصالة وابتكارا. يتضح من كتاباته أن مكتبته كانت مزودة بكل نص رياضي مهم كان متاحا في القرن العاشر، مع وجود أطروحة «العناصر» لإقليدس باعتبارها مؤلفا أساسيا في تلك المكتبة.
لم تسترد أبدا قرطبة مجدها الذي نعمت به في ظل حكم الأمويين، لكنها بقيت مركزا للتعلم والكتب. في القرن الثاني عشر، ولد في المدينة اثنان من أعظم مفكري العالم؛ موسى بن ميمون (نحو 1135-1204)، الفيلسوف اليهودي الذي أثرت كتاباته على الباحثين في أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا، وابن رشد (1126-1198) الذي يعرف بأنه مؤسس الفكر العلماني في أوروبا الغربية بسبب تعليقاته الواسعة الانتشار على فلسفة أرسطو؛ وكان الشخص الوحيد غير اليوناني الذي صوره رافاييل في لوحته «مدرسة أثينا». مع الاحتلال التدريجي لإسبانيا مجددا على يد ممالك الشمال المسيحية، أصبحت كتب هذين الباحثين وأفكارهما بمنزلة جسر بين العلوم العربية في أوائل العصور الوسطى والثقافة اللاتينية في أواخر العصور الوسطى. ولم ينج إلا نسخ قليلة للغاية باللغة العربية. ونعرف أن نسخا من أطروحة «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المجسطي» لبطليموس ومجموعة مؤلفات جالينوس جاءت إلى قرطبة من الشرق، حيث نسخت ووزعت في أنحاء البلاد وعكف على دراستها الباحثون. أخذ بعض تلك الكتب إلى طليطلة، حيث ترجمت إلى اللاتينية. كان مصير كثير من الكتب الأخرى مختلفا. ففي عام 1492، سقط آخر معقل إسلامي، مدينة غرناطة الجميلة، في أيدي المسيحيين. كانت الشروط المتفق عليها سخية ومستنيرة؛ فقد سمح للمسلمين الإسبان أن يعيشوا في سلام، وأن يمارسوا دينهم ويتبعوا عاداتهم. لكن هذه البدايات المفعمة بالأمل سرعان ما انطمرت تحت موجة من التعصب والاضطهاد. لم يكن ثمة مكان لثقافات أو ديانات غريبة في إسبانيا في عصر فرديناند وإيزابيلا؛ فطردوا آلافا من اليهود، وقمعوا ونفوا المسلمين، وبدأت عملية تدمير حضارة إسلامية قوامها 700 سنة. وبلغ ذلك ذروته في عام 1499، عندما وصل رجل الدين المتعصب الكاردينال خيمينيز دي سيسنيروس إلى غرناطة وهو ينوي تبديل ديانة السكان ومحو أي آثار للثقافة الإسلامية. فأخذ محتويات مكتبات المدينة وبنى موقدا هائلا في الميدان الرئيسي للمدينة، ليحرق ما يناهز مليوني كتاب؛ كانت «محرقة ثقافية» استندت إلى مبدأ أن «تدمير الكلمة المكتوبة هو تجريد للثقافة من الروح، ويؤدي في النهاية إلى تجريدها من هويتها».
19
تبع ذلك إعلانات حظرت الكتابة بالعربية ومنعت حيازة الكتب العربية. نجح خيمينيز دي سيسنيروس في مسعاه نجاحا كبيرا حتى إنه بحلول عام 1609، لم يبق إلا عدد ضئيل من المخطوطات العربية في إسبانيا. واكتمل الانتصار الكاثوليكي؛ إذ «لم يبق إلا القصور الخاوية والمساجد التي حولت شاهدا صامتا على الفاجعة التي أسقطت حضارة الأندلس الإسلامية التي كانت مزدهرة يوما ما».
20
لحسن حظ الحضارة بأكملها، كان كثير من أهم الكتب العلمية قد ترجم بالفعل بأمان إلى اللاتينية وشق طريقه، كما سنرى لاحقا، عبر البحر المتوسط وأوروبا إلى آلات الطباعة، والتي منها مضت أفكار تلك الكتب قدما لتحدث تحولا في أسس العالم الحديث وتؤثر فيها معرفيا. تحول كثير من هذه الكتب، من العربية إلى اللاتينية في مدينة خلابة، على قمة تل صخري، 300 كيلومتر شمال قرطبة؛ إنها طليطلة، وجهتنا القادمة.
هوامش (1)
فيما بين عامي 707 و709، هلك نصف عدد السكان تقريبا. (2)
يرمز اللون الأبيض إلى الأمويين والأحمر إلى الرسول (يزعم أنه كان لونه المفضل ويرتبط بالدم والحياة). (3)
تزعم رواية أخرى لهذه القصة أن عبد الرحمن أرسل وكلاء إلى بستان الرصافة المهجور في سوريا؛ ليجلب ثمار أشجار الرمان التي كانت تنمو هناك. (4)
أثناء هذه الفترة، احتدم جدل حول إذا ما كان يمكن للكتاب أن يحل محل العالم من ناحية كونه الوسيلة الرئيسية لاكتساب المعرفة . (5)
ألفارو القرطبي (بول ألفاروس)، كتاب «الإشارة الجلية»، مقتبس في كتاب ماريا مينوكال «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة من التسامح في إسبانيا في العصور الوسطى» (لندن: دار نشر ليتل براون، 2002)، ص66. كانت الكتب المتاحة باللاتينية تتناول بالأساس موضوعات دينية وكانت قليلة العدد، في حين كان يوجد آلاف من الكتب بالعربية تتناول مجموعة ضخمة من الموضوعات. (6)
صنع الحرفيون أباريق وزجاجات من قطع من الكريستال الصخري، والتي كانت تفرغ بجهد مضن وتزخرف بتصاميم محفورة معقدة. (7)
روزفيتا، راهبة ألمانية استندت في وصفها لقرطبة على شهادة الأسقف ريتموندوس. مقتبس في كتاب كينيث باكستر وولف «التعايش و«زينة العالم»»، جمعية القرون الوسطى الجنوب شرقية، كلية ووفورد، سبارتانبرج، ولاية كارولينا الجنوبية، أكتوبر 2007، ص5. (8)
تتباين الروايات بشأن عدد عبيد عبد الرحمن الثالث فتذكر أنهم 3750، أو 6087، أو13750. وكانوا يجلبون من أنحاء أوروبا والبحر الأسود. (9)
حسداي بن شبروط، «رسالة إلى ملك الخزر»، نحو عام 960، مقتبسة في كتاب ماريا مينوكال، «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة من التسامح في إسبانيا في العصور الوسطى» (لندن: دار نشر ليتل براون، 2002)، ص84. هوية شعب الجباليم غير مؤكدة، ولكن من المرجح أنهم كانوا عبيدا. (10)
لا توجد أدلة تفصيلية بشأن المستشفيات في قرطبة، ولكن المقري يزعم أنه كان يوجد خمسون مستشفى؛ قد تكون مبالغة. من المعقول أن يكون الجبلي قد عاد من مصر والبصرة بابتكارات وممارسات. (11)
عنوانه الكامل البديع هو «كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف». (12)
يدين الأطباء اللاحقون بالفضل لعبقرية الزهراوي؛ فبعضهم وضعه في مصاف أبقراط وجالينوس لإسهامه في العلوم الطبية.
الفصل الخامس
طليطلة
في المدارس العربية بقرطبة وطليطلة، جمعت وحفظت لنا بعناية، أقباس المعرفة اليونانية المشرفة على الخمود.
أحمد بن محمد المقري
كتاب «تاريخ الممالك الإسلامية في إسبانيا»
في وقت ما في منتصف القرن الثاني عشر، يصل شاب إلى بوابات طليطلة، ويقف على حافة مضيق نهر تاجة قبل أن يعبر الجسر إلى المدينة. بعيدا بالأسفل منه، يتمخض النهر الجليدي وهو يمضي في مجراه بلا هوادة عبر الصخور بينما يحدق الشاب بناظريه نحو المدينة الرابضة على قمة تلها الجرانيتية. اسمه جيرارد وهو مهتم اهتماما خاصا بعلم الفلك؛ فبعد أن تعلم كل شيء يمكنه تعلمه من معلميه في إيطاليا، سافر آلاف الأميال عبر اليابسة والبحر من موطنه في كريمونا بحثا عن المعرفة. كان قد قيل له إنه، هنا، في مدينة طليطلة، في إسبانيا، سوف يكون في مقدوره أن يدرس اكتشافات العرب، وإن كان محظوظا حقا فسوف يكون بمقدوره العثور على نسخة من أعظم كتاب كتب في علم الفلك على الإطلاق؛ كتاب «المجسطي». يشعر بالتعب ويكسوه التراب جراء أيام كثيرة قضاها في الطريق، ولكن أخيرا بلغت رحلته الطويلة منتهاها؛ فقد وصل. يرتجف ترقبا للكنوز التي تنتظره متجها بناظريه نحو الشوارع الضيقة المتشابكة المظلمة. وبينما هو يقف على أعتاب فصل جديد في حياته، توشك أوروبا أن تكون على مشارف فصل جديد في تطورها الفكري. إن جهد جيرارد البحثي في طليطلة سوف يجعل المدينة أهم مركز لنقل المعرفة العلمية بين العالمين الإسلامي والمسيحي؛ سوف يمضي بقية حياته هنا، يترجم الكتب من العربية إلى اللاتينية. سوف تسافر نسخ من هذه الكتب في كل أنحاء أوروبا، وتتناقلها الأيدي، وتجمع في صناديق، وتكدس في السروج، وسوف ترتج وهي تنقل عبر الطرق من دير إلى مدرسة كاتدرائية، ومن قاعة محاضرات جامعة إلى مطالعة باحث. من مونبلييه إلى مرسيليا، ومن باريس إلى بولونيا وشارتر وأكسفورد، وبيزا وما وراءها، سوف تشكل هذه الكتب إطار المعرفة العلمية لقرون آتية. أكثر من أي فرد آخر، سوف يكون جيرارد الكريموني مسئولا عن جلب الأفكار العظيمة لليونان القديمة وإسلام العصور الوسطى إلى أوروبا الغربية.
تبين رحلة جيرارد أن شهرة المعرفة العربية كانت بالفعل قد انتشرت انتشارا واسع النطاق في أوروبا الغربية. فموقع طليطلة على الحدود بين العالمين الإسلامي والمسيحي جعل من المدينة، مثل باليرمو في صقلية وأنطاكية في سوريا، بوابة تدفقت من خلالها المعرفة. كان النصف الثاني من القرن الحادي عشر فترة نهضة مهمة لأوروبا الغربية؛ فقد استولى النورمانديون على صقلية من حكامها المسلمين، وفي عام 1095، ألقى البابا أوربان الثاني عظة دعا فيها إلى الحملة الصليبية الأولى، ليرسل المسيحيين من كل أنحاء أوروبا الغربية من أجل مساندة البيزنطيين في حربهم مع الأتراك، ثم يمضون ليستولوا على الأرض المقدسة من الإمبراطورية الإسلامية. في صيف عام 1099، دخل الصليبيون بيت المقدس ونجحوا في إعادة المدينة المقدسة إلى المسيحية. كانت هذه هي الحملة الأولى ضمن سلسلة من الحملات الصليبية ضد القوات المسلمة في الشرق؛ إذ جرت حملتان إضافيتان في القرن الثاني عشر والعديد من الحملات في القرن الثالث عشر، فقد تصارعت الديانتان الكبريان من أجل بسط مناطق نفوذهما، التي كان مركزها في بيت المقدس، والحفاظ عليها. أقيمت الإمارات الصليبية وقاتلت للاستيلاء على أنطاكية وطرابلس وأديسا؛ وجرى بعض التبادل الثقافي في ظل هذا الوضع، ولكن غياب الاستقرار السياسي وعمليات الاندلاع الدائم للعنف كان يعني أن انتقال الأفكار الثقافية كان محدودا، وحجبه ما كان يحدث في صقلية، وبدرجة أكبر، في طليطلة.
بدأت عملية استعادة شمال إسبانيا بصورة جدية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر؛ إذ سقطت طليطلة في عام 1085. وفي غضون بضعة عقود، كانت أوساط الباحثين تعج بالشائعات حول العجائب التي يمكن العثور عليها هناك. أغرت هذه الشائعات رجالا من أقصى أطراف أوروبا؛ من إنجلترا، ومن ألمانيا، وفرنسا، والمجر، والساحل الدلماسي. ربما كان جيرارد نفسه يتبع، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خطى مواطنه أفلاطون التيفولي، الذي كان يترجم كتبا علمية - ومن بينها كتاب لبطليموس - في برشلونة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الثاني عشر. وسواء كان جيرارد قد التقى بأفلاطون أو لم يلتق به في الواقع مطلقا، فمن الممكن بلا شك أن يكون قد درس كتبه وأنها دفعته إلى البحث عن المزيد. إلا أنه لا شك إطلاقا في أن جيرارد قد سافر إلى طليطلة «بسبب ولعه بكتاب «المجسطي»».
1 «على الرغم من أنه كان قد تعلم في كنف الفلسفة منذ مهده»،
2
فلا بد أن جيرارد قد بدأ الدراسة في كريمونا، وربما كان ذلك في البيت على يد معلم، وتبع ذلك بضع سنوات في مدرسة دير محلي . ومن هناك، ربما يكون قد ذهب إلى بولونيا القريبة، التي كانت بالفعل مركز دراسة القانون في جامعتها الناشئة؛ التي كانت الأولى في أوروبا. وربما يكون تعليمه قد تضمن بعض مبادئ الرياضيات والفلك بوصفهما جزءا من العلوم الأربعة التقليدية، ولكن في حين أن الكتب المدرسية الرئيسية التي درسها ذكرت بطليموس باعتباره حجة في الفلك وإقليدس باعتباره حجة في الهندسة، فإنها لم تقدم أي تفاصيل. لا بد أن واحدا على الأقل من معلميه كان مهتما بالجوانب العلمية للعلوم الأربعة، وأشعل حماسة في نفس جيرارد الشاب، الذي شد الرحال بعد ذلك بحثا عن معرفة أعمق. أين من الممكن أن يكون قد ذهب بعد ذلك؟ كان المكان الأنسب في هذا الجوار هو دير بوبيو،
1
الذي يبعد ثمانين كيلومترا فقط إلى جنوب غرب كريمونا، والذي ضمت مكتبته واحدة من مجموعات المخطوطات الفلكية التي لم يكن يوجد في أوروبا الغربية غيرها آنذاك.
في القرن التاسع، كان دير بوبيو مقرا لراهب من أيرلندا، يدعى دانجال، الذي كان بمقدوره، على نحو لافت، أن يشرح، في خطاب إلى شارلمان، الجانب العلمي وراء الكسوفين الشمسيين الكبيرين اللذين حدثا في عام 810. وكان دانجال هو من جمع مجموعة كبيرة من المخطوطات لمكتبة الدير. في زمن جيرارد، كانت المجموعة قد توسعت لتشمل العديد من الأعمال عن الفلك لراهب القرن الحادي عشر اللامع هيرمانوس كونتراكتوس، الذي كتب أيضا أطروحة عن الأسطرلاب واستخداماته. يدرج فهرست يعود إلى القرن العاشر من بوبيو ملخصا لكتاب «المجسطي» كتبه بوثيوس، «الرجل الذي جعل علم الفلك لبطليموس متاحا للإيطاليين».
3
ثمة شخصية مهمة أخرى كان لها صلة ببوبيو وهي جربير دورياك (نحو 945-1003)، الذي أصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني. عندما كان جربير شابا، أخذه اهتمامه بالرياضيات إلى شمال إسبانيا، حيث درس على يد أتو، أسقف فيتش. لعل مسألة تعرضه للمعرفة العربية في هذا الوقت من عدمه هي مسألة خلافية، ولكن نصوصا عديدة نسبت إليه، في الحساب والهندسة والإحصاء باستخدام معداد خاص يشتمل على الأعداد الهندية العربية؛ وكان مهتما أيضا بعلم الفلك وصنع الآلة الفلكية المسماة ذات الحلق. شغل جيرارد منصب رئيس دير بوبيو لفترة قصيرة، وتكشف خطاباته عن الدور الذي لعبه في إمداد المكتبة بالنصوص. ففي 22 يونيو عام 983، كتب إلى أدالبيرو رئيس أساقفة ريمس، يخبره قائلا: «لقد اكتشفنا منذ ذلك الحين ثمانية مجلدات هي: كتاب بوثيوس «في التنجيم»، وأيضا بعض أشكال الهندسة الجميلة.»
4
بعد ذلك بخمسة أعوام، وكان حينئذ في ريمس، كتب إلى صديق في بوبيو يقول: «أنت تعرف مقدار الحماسة التي تجعلني أجمع من كل مكان نسخا من الكتب.» وذلك قبل أن يمضي قدما في إدراج الكتب التي كان قد نسخها.
5
من الممكن أن يكون جيرارد قد سلك أحد طريقين إلى إسبانيا؛ جنوبا، عبر صقلية؛ أو شمالا، حول ساحل فرنسا. يتصادف أن بوبيو يقع على طريق من كريمونا إلى جنوة، وهي أقرب ميناء ومن ثم تعد نقطة المغادرة الأكثر ترجيحا للاثنين. من المؤكد أن مكتبة الدير كانت مشهورة بمجموعتها، وبعلم الفلك على وجه الخصوص؛ لذا ليس من المستبعد أن يكون جيرارد قد زارها في مرحلة ما قبل أن يغادر إلى إسبانيا، إن لم يكن قد فعل ذلك وهو في طريقه إلى هناك. من الواضح أيضا أنها احتوت على كتب متنوعة يمكن أن تكون قد حفزت جيرارد للبحث عن النسخة الكاملة من كتاب «المجسطي».
ولد جيرارد في عام 1114، ومن المحتمل أنه أمضى العشرين عاما الأولى من حياته على الأقل في شمال إيطاليا، قبل أن يبدأ رحلته في مسعاه من أجل كتاب «المجسطي». لنتخيل أنه سلك الطريق الشمالي، بادئا رحلته من جنوة على متن إحدى السفن التجارية الكثيرة التي كانت تتخذ سبيلا متعرجا على ساحل شمال إيطاليا إلى جنوب فرنسا، وترسو في موانئ أنتيب وفريجوس وهييريس. في العصور الوسطى، كانت السفن هي أسرع وسائل النقل وأقلها راحة؛ ففيما بين أبريل ونوفمبر، كان البحر المتوسط يعج بالسفن التي تأخذ الركاب والسلع من ميناء إلى ميناء، وتبقى دوما قريبة من الساحل، حيثما كان ذلك ممكنا. من المحتمل أن يكون جيرارد قد وصل إلى مرسيليا في بضعة أيام فحسب، ولو كان قد نزل هناك، فربما يكون قد وجد ساحة فكرية مزدهرة. إذا كان قد قرر أن يبقى لبعض الوقت ويدرس، فمن الممكن جدا أن يكون قد التقى بعالم فلك يدعى ريموند، الذي كان هناك في عام 1140، عاكفا على تصميم مجموعة من الجداول للمنطقة المحلية. هذا كله، بالطبع، محض تخمين، لكنه يقع في حدود النطاق الممكن. كما أنه يقدم إجابة للسؤال المتعلق بالسبب الذي جعل جيرارد الكريموني يمضي بحثا عن كتاب «المجسطي» في طليطلة، والكيفية التي عرف بها أنه سيكون هناك. كانت توجد صلات فكرية شتى بين طليطلة ومرسيليا؛ أهمها أن «جداول» ريموند استندت إلى «جداول طليطلة»، التي صممت في القرن السابق على يد الفلكي الزرقالي الذي لم يستعن بأي شيء إلا ب «زيج» الخوارزمي. لو كان جيرارد الشاب قد أمضى وقتا في مرسيليا، فمن الوارد أن يكون الباحثون هناك قد أخبروه عن الاكتشافات المذهلة للعلوم العربية، وباحثيها اللامعين وكتبهم الرائدة. وإن لم يكن موليا وجهته بالفعل إلى هناك، فمن المؤكد أن يكونوا قد وجهوه صوب طليطلة.
أثناء وقوفه على حافة مضيق نهر تاجة، من المرجح أن يكون جيرارد قد فهم على الفور سبب اختيار مؤسس طليطلة لهذا الموقع؛ إذ تستقر المدينة على قمة تل منحدر، ويحيط بها من ثلاث جهات النهر المتعرج، الذي ينساب عبر واد شديد الانحدار؛ مما يسهل للغاية إمكانية الدفاع عنها. من شأن الهجوم عبر النهر أن يكون بمثابة انتحار، فالنزول من الجهة الرأسية للجرف الشديد الانحدار سوف يكون صعبا بما في الكفاية؛ وعبور المياه السريعة التدفق ثم التسلق صعودا إلى الجانب الآخر، استعدادا للقتال، من شأنه أن يكون مستحيلا. وعلى حد وصف المؤرخ الروماني ليفي، فإن طليطلة «مدينة صغيرة، ولكنها محصنة بموقعها». ازدهرت المدينة في ظل حكم الرومان وكانت تسمى «توليتم »؛ وكانت المركز المحلي لصناعة الصلب، الذي اشتهر بسبيكته المعدنية العالية الجودة التي كانت فائقة الصلابة، والذي أمد الجيش الإمبراطوري بالسيوف، وازدادت المدينة ثراء. عندما استولى القوط الغربيون على السلطة في إسبانيا، اتخذوا من طليطلة عاصمة لهم، وجعلوها نواة سلطتهم السياسية والدينية والثقافية، في القلب من شبه الجزيرة تقريبا. ازدهرت علوم القوط الغربيين هناك في القرن السابع؛ إذ اتخذها العديد من الكتاب الكنسيين موطنا لهم وضمت مكتبتين على الأقل.
انتهت بغتة فترة السيادة هذه في عام 712، عندما جاء الغزو العربي من الجنوب وأسس العرب مدينة قرطبة وجعلوها عاصمة لهم. ظلت طليطلة، تحت سيطرة المسلمين قرونا عديدة، تحكمها عائلات محلية بدرجات متفاوتة من الاستقلال الذاتي عن الأمويين. ونظرا لكونها مدينة حدودية استراتيجية، بالقرب من الحدود مع مسيحيي شمال إسبانيا، فإنها تقع عند نهاية حدود العالم العربي. تدهورت المدينة في العقود التالية، فأصبحت مرتعا خصبا للتمرد والسخط، تحت رحمة أمراء الحرب المحليين، يمزقها الصراع الداخلي، وعرضة لعمليات حصار لا تنتهي. ولكن بعد سقوط السلالة الحاكمة الأموية في عام 1031، أصبحت طليطلة دويلة طوائف مستقلة، وعادت حالة من الاستقرار النسبي؛ مما أتاح للثقافة والبحث العلمي أن يزدهرا. عادت الحيوية إلى صناعة المعادن القديمة في طليطلة؛ مما جعل المدينة واحدة من أغنى المدن في إسبانيا. اشتهر حرفيو طليطلة بسكاكينهم ذات النصال الحادة والحلي الجميلة والأدوات المبتكرة، ولكن أكثر ما اشتهروا به كان السيوف الرائعة التي صدروها إلى كل أنحاء العالم المعروف، والتي كانت منية القلب لكل محارب طموح.
في عام 1029، عاش شاب، كان قد ولد لعائلة من الحرفيين، في قرية صغيرة على حافة المدينة. تدرب الزرقالي، ويعني اسمه «الصغير ذا العيون الزرقاء»، كغيره من الصبية في عائلته، ليصبح صانعا للأجهزة العلمية، واسترعت مواهبه الكبيرة انتباه صاعد الأندلسي، الذي كان قاضيا محليا، ومعلما ومؤلف كتاب «طبقات الأمم». في هذا الكتاب، يقدم لنا صاعد مقارنة نابضة بالحياة بين الإنجازات الفكرية لبلدان شتى، مستعرضا باحثيها وإسهاماتها في كل ناحية من نواحي المعرفة تقريبا. ويقسم سكان العالم إلى طبقتين؛ أولئك الذين أسهموا في العلم وأولئك الذين لم يسهموا فيه. وليس من المستغرب أن الفصل الذي يتناول الأندلس هو الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر تفصيلا، ولكنه كان في المجمل كتابا مؤثرا وظل مصدرا مهما للمعلومات عن تاريخ العلم، واستكمالا لجهد النديم الأكثر شمولية بكثير في كتابه «الفهرست».
شكل 5-1: أسطرلاب مصنوع في طليطلة سنة 1029 عندما كانت المدينة تحت الحكم الإسلامي.
تحت رعاية صاعد، صنع الزرقالي أجهزة معقدة لعمليات الرصد الفلكية. وفي الوقت نفسه، درس الفلك، وفي عام 1062، انضم إلى مجموعة باحثين يراقبون السماء. أدت خبرته التقنية، ممتزجة بميله إلى الفلك، إلى أن يتولى مسئولية المشروع بأكمله. كان الزرقالي المنتج الأكثر ابتكارا وبراعة للأجهزة الفلكية في العالم الإسلامي كله، وكان تصميمه لأسطرلاب «كوني» جديد، يسمى الصحيفة، تصميما ثوريا للغاية حتى إنه نسخ في كل أنحاء أوروبا، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا بل حتى في أماكن بعيدة مثل الهند. وابتكر أيضا عجائب أخرى؛ فجاء الناس من كل حدب وصوب ليروا ساعاته المائية الرخامية، التي كان يعرف منها الوقت بدقة لم يسمع بها من قبل. درس الزرقالي في قرطبة، ولكنه عاد إلى طليطلة، حيث كتب العديد من الكتب، منها كتاب يدعى «القوانين» (القواعد) الذي شرح كيفية استخدام «جداول طليطلة». ترجم جيرارد الكريموني هذا الكتاب إلى اللاتينية واستمر تأثير هذا الكتاب في علم الفلك الأوروبي لقرون. كذلك كتب الزرقالي أطروحة فلكية أتى فيها بزعم غير مسبوق بأن مدار كوكب عطارد بيضاوي، وليس دائريا، كما كان يعتقد عادة. في القرن السادس عشر، اعتمد يوهانز كيبلر على العمل ذي الرؤية الاستشرافية للزرقالي ليثبت أن مدار المريخ كان هو الآخر بيضاويا. سقطت طليطلة في قبضة ألفونسو ملك قشتالة في عام 1085، وغادر الزرقالي المدينة، ولكن الباحثين المسيحيين شرعوا في معالجة أفكاره ومن ثم انتشرت في أوروبا بأسرها.
انتقل الزرقالي إلى الجنوب، ربما إلى غرناطة أو إلى مدينة أندلسية أخرى تحت الحكم الإسلامي، كما فعل كثيرون من بني جلدته من العرب. مكث المستعربون، الذين ظلوا مخلصين للمسيحية طوال أربعة قرون من الحكم الإسلامي ، يتعبدون وفق الطقوس التي توارثوها عن القوط الغربيين، وشاهدوا الحكام الجدد وهم يبدءون في فرض الطقوس الكاثوليكية اللاتينية المأخوذة من روما. لا بد أنه كان وقتا صعبا على هؤلاء الناس المستقرين منذ زمن طويل. فقد كانوا، كشأن اليهود السفارديم، قد أنشئوا مجتمعهم الخاص ضمن إسبانيا المسلمة، محافظين على معتقداتهم الدينية، ولكن مع تبني لغة سادتهم وملبسهم وخصائصهم؛ كان مجتمعا هجينا يجسد دليلا على الطبيعة المتعددة الثقافات للمكان الذي عاشوا فيه ويعتمد عليها. فمن ناحية، ربما شعر مستعربو طليطلة ببعض الارتياح إزاء انتصار المسيحية وعودتها إلى بلادهم؛ ولكن من الناحية الأخرى، لا بد أنه كان ثمة حزن على فقدان أصدقاء ورفاق مسلمين، وقلق بشأن ما يحمله المستقبل تحت حكم الملك القشتالي. كان هذا مبررا تماما؛ فخلال الأربعمائة سنة التالية، استوعبت إسبانيا الكاثوليكية تدريجيا ثقافة المستعربين عن طريق مصادرة أراضيهم ورفض الاعتراف بهم بوصفهم مجتمعا قانونيا منفصلا. كتب البقاء لبعض البقايا المعزولة. وفي عام 1502، جمعت نسخ من شعائر وطقوس المستعربين، وخصصت كنيسة صغيرة في كاتدرائية طليطلة لعقيدتهم؛ وما زالت موجودة حتى الآن.
احتل المستعربون منطقة متفردة بين ثقافتين؛ فقد كانوا مسيحيين تحت حكم إسلامي، اعتنقوا العادات العربية، وظلوا يتكلمون لغتهم وعاشوا بقوانينهم. ومن المفارقة أنهم نجحوا نجاحا كبيرا في البقاء لوقت طويل في ظل عقيدة منافسة، ولكنهم تعرضوا بعد ذلك للاضطهاد على يد الكاثوليكية، التي تعد شكلا مختلفا من ديانتهم. هذا ينبئ بالكثير عن المستعربين بقدر ما ينبئ بالكثير عن قدرة إسلام العصور الوسطى على استيعاب أديان أخرى ضمن دائرة نفوذه. كانت قصة اليهود مشابهة؛ فقد تعرضوا للاضطهاد على يد القوط الغربيين، وازدهروا تحت حكم الأمويين، ثم نفوا وقتلوا على يد محاكم التفتيش الكاثوليكية. ولكن لم تتسم كل الأسر الحاكمة المسلمة بالتسامح. فقد اضطهد الموحدون والمرابطون، الذين حكموا أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة الإيبيرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، اليهود والمستعربين على السواء، مما جعل كثيرين منهم يفرون شمالا، إلى إسبانيا المسيحية. ولكن، باستثناء بعض العداء المبدئي من جانب رجال الدين الإفرنج، لم يبدأ اضطهاد المستعربين واليهود إلا بعد مرور وقت طويل، وذلك في القرن الخامس عشر. ففي أول الأمر، واصل هذان المجتمعان ازدهارهما في طليطلة، وبخاصة في المجال العلمي، حيث كانت مهاراتهم اللغوية ومعرفتهم بالمكتبات المحلية بالغة القيمة.
مع عودة طليطلة مجددا تحت الحكم المسيحي، كانت الكنيسة الكاثوليكية بحاجة إلى ترسيخ سيطرتها الدينية. في القرن العاشر، كان الرهبان السود الذين يتبعون نظام القديس بندكت قد انتشروا من دير كلوني، سان لوار، عبر فرنسا وفي أنحاء وديان البرانس في شمال إسبانيا. ومن هذا النظام الديري جاء رجال الدين في طليطلة حينذاك. استقر البندكتيون في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية، وفي العقود التي تلت استعادة المدينة، كان «حي الإفرنج»، كما أصبح يعرف، هو المكان الذي يجتمع فيه الوافدون الجدد؛ من رجال دين، وباحثين، وأجانب من أجل العيش والعمل وتشارك أفكارهم. ونتيجة لذلك، فتح خط من الاتصال والسفر بين طليطلة وفرنسا دائما، وبالأخص مدارس كاتدرائية باريس وشارتر.
كانت هذه هي الساحة الثقافية التي استحوذت بشدة على اهتمام جيرارد في منتصف القرن الثاني عشر. فالأرجح أنه عبر المضيق على جسر القنطرة الروماني القديم ثم بدأ يسير في الأزقة الضيقة الشديدة الانحدار إلى داخل المدينة. من السهل تخيل مدينة طليطلة التي وجد نفسه فيها؛ إذ لم تتغير إلا قليلا جدا منذئذ. ما زالت الأزقة الضيقة شديدة الانحدار ومظللة، وما زالت المحال تبيع مجموعة مذهلة من السكاكين والسيوف، وتوزعت النصال المتلألئة بعناية على وسائد مخملية، تحرسها بذلات مدرعة مخيفة. ما زالت المرزبانية تصنع من اللوز الذي ينمو في البساتين التي تحيط بالمدينة؛ وهو تقليد بدأه العرب عندها أدخلوا نخيل السكر إلى المنطقة. لكن جيرارد ما كان ليعرف الكاتدرائية القائمة في طليطلة المعاصرة؛ إذ بنيت بعد موته. كانت الكاتدرائية التي عمل بها وتعبد فيها، في الواقع، مسجدا، حول إلى كنيسة بعد استعادة المسيحيين للمدينة، وكانت توجد في نفس موقع الكاتدرائية الحالية. من المحتمل أن يكون جيرارد قد وصل ومعه خطابات تعارف، ولعله ذهب إلى حي الإفرنج ليجد مكانا يقيم فيه ويتحرى عن الباحثين المحليين. ومن الممكن أن يكون بحثه عن رائعة بطليموس قد بدأ في ذلك الوقت. من الجائز أن محطة توقفه الأولى كانت مكتبة الكاتدرائية، ولكن المرجح أنها لم تكن تحتوي على كثير مما يهمه. لا بد أنه تعين عليه أن يبحث عن أماكن أكثر بعدا، عن مكتبات أخرى في طليطلة، التي كان كثير منها قد بقي من زمن الحكم الإسلامي. ضمت هذه المجموعات ثروة ضخمة من النصوص العلمية اليونانية الرومانية، التي كان الباحثون الأوروبيون قد بدءوا بالفعل في دراستها وترجمتها إلى اللاتينية. لا يمكننا إلا أن نتخيل البهجة الشديدة التي شعر بها جيرارد عندما وجد نفسه جالسا أخيرا إلى طاولة وعليها كتاب «المجسطي»، والعجلة التي لا بد أنه كان عليها من أجل تعلم العربية حتى يمكنه فهمه ثم ترجمته. كتب تلاميذ جيرارد سيرة قصيرة له وضموها إلى تمهيد الترجمة التي قام بها لكتاب جالينوس «فن الطب». وفيها، أوضحوا أنه «عند رؤيته للوفرة من الكتب المكتوبة بالعربية في كل الموضوعات، وتحسره على فقر اللاتينية في هذه الأشياء، تعلم [جيرارد] اللغة العربية حتى يتمكن من الترجمة».
6
لم تكن تلك مهمة هينة. فاللغة العربية لغة معقدة للغاية لها أبجدية واتجاه كتابة مختلفان، ونظام تشكيل معقد، ولكن كان يوجد فيما حوله كثير من المستعربين ليساعدوه. فعاونه رجل يدعى غالب في ترجمته لكتاب «المجسطي»؛ والأرجح أنه علمه اللغة العربية في الوقت نفسه. كان الطليطليون يتكلمون لغة محلية تمثل تشكلا مختلفا للغات الإيبيرية الرومانسية (أي من الرومانية)، سلائف الإسبانية المعاصرة. لا بد أن جيرارد قد تعلم، دون شك، هذه اللغة أيضا، حتى يتمكن من التواصل بسهولة مع غالب ومع الأناس المحليين الآخرين. شكل الباحثون اليهود، الذين كانوا يجيدون ثلاث لغات هي العبرية والعربية واللغة الرومانسية المحلية، جسرا مهما آخر بين الثقافتين، فساعدوا في الترجمة وأتاحوا اتصالا بين الماضي العربي والحاضر المسيحي. على الرغم من أن كثيرا من الطليطليين المسلمين كانوا قد انتقلوا إلى الجنوب عندما سقطت المدينة في يد ألفونسو السادس في عام 1085، فقد بقي بعضهم، وغالبا ما كانت الصلات بين المجتمعين وطيدة. بل إن كثيرا ما تحالفت العائلات المسلمة الشمالية مع المسيحيين في مواجهة سلالة المرابطين الإسلامية المتشددة، التي كانت تزداد نفوذا في الأندلس.
إحدى تلك العائلات كانت بني هود، الذين حكموا مدينة سرقسطة من عام 1039 إلى عام 1110. فنظرا لكونهم باحثين متألقين بفضل براعتهم الشخصية، فقد أنشئوا مكتبة باهرة للنصوص العلمية. كان يوسف المؤتمن بن هود، الذي ذكر في الفصل السابق والذي حكم سرقسطة من عام 1081 إلى عام 1085، عالم رياضيات بارزا؛ ربما كان الأكثر إبداعا في سائر إسبانيا المسلمة. كتب كتابا شاملا في الهندسة، يدعى كتاب «الاستكمال»، الذي استند إلى نصوص في مكتبته، منها أطروحة «العناصر» وكتاب «المعطيات» لإقليدس، وكتاب «المخروطات» لأبولونيوس، وكتاب «الكرة والأسطوانة» لأرشميدس. وفي عام 1110، فقدت عائلة بني يوسف سرقسطة إذ وقعت في يد المرابطين. ونتيجة لذلك، تحالفوا مع ألفونسو الأول، ملك أراجون المسيحي، وانتقلوا إلى رويدا دي خالون، بالقرب من طرسونة، في وادي أبرة. كانوا على علاقة طيبة مع سادتهم المسيحيين (كان آخر حاكم من بني هود، سيف الدولة، ضيفا في حفل تتويج ألفونسو)، واستمر ذلك حتى بعدما استولى المسيحيون على سرقسطة من المرابطين، في عام 1118. اختار مايكل، أسقف طرسونة خلال الفترة من 1119 إلى 1151، والذي كان جامعا نهما للنصوص الفلكية، نصوصا من مكتبة بني هود لهوجو سنكتالنسيس ليترجمها له. لم تكن رويدا دي خالون بعيدة عن طرسونة، ويصف هوجو العثور على المخطوط الذي يحوي تعليقا على كتاب الخوارزمي «الزيج»
2
هناك، بقوله: «في أكثر الأماكن سرية في أعماق المكتبة.»
7
ويبقى أمر ما وجده من مخطوطات أخرى محض تخمينات، ولكن نظرا لاهتمام بني هود الشخصي بالعلم، فإنه يكاد يكون مؤكدا أن مكتبتهم كانت مصدر كتب رئيسي لباحثي ومترجمي القرن الثاني عشر. في عام 1141، أجبرت العائلة على مبادلة أرضها بمنزل في حي الكاتدرائية في طليطلة. وعلى ما يبدو أنهم جلبوا كتبهم معهم عندما انتقلوا إلى هناك وجعلوها، إن كانوا قد جلبوها معهم بالفعل، في متناول المترجمين الذين اتخذوا فيما بعد الجزء نفسه من المدينة مقرا لهم. وبالفعل، ترجم جيرارد الكريموني نصوصا عديدة في الهندسة كان المؤتمن قد استند إليها في كتاب «الاستكمال».
تتسم مكتبة بني هود بالأهمية لأنه يمكننا، بفضل يوسف المؤتمن بن هود، أن نتيقن من بعض الكتب التي احتوت عليها، ولكن كان يوجد بالفعل كثير من المكتبات الأخرى في طليطلة ولا نعرف عنها سوى النذر اليسير. كانت المدينة مركزا مهما للتعلم أثناء القرنين العاشر والحادي عشر، وعندما استولى عليها المسيحيون في عام 1085، كان انتقال السلطة سلميا. نتيجة لذلك، فإنه على الرغم من هجرة غالبية صفوة المسلمين جنوبا، فقد حفظت ثقافتهم، وشملت مكتباتهم بالحماية وكان بمقدور المجتمعات المختلفة من الباحثين اليهود والعرب والمستعربين والمسيحيين أن تعمل معا. وكان لهذا أهمية خاصة فيما يتعلق ببرنامج الترجمة من العربية إلى اللاتينية (غالبا عبر اللغتين العبرية أو الرومانسية) الذي تلا ذلك. في أوائل العصور الوسطى، كانت إسبانيا مجتمعا ثنائي اللغة. تحت حكم المسلمين، كانت اللغة العربية هي لغة التعليم والحكومة، ولكن كان الناس يتكلمون اللغة الرومانسية في الشوارع والحقول، ممتزجة بلهجات بربرية متعددة. كانت اللاتينية لغة كنيسة المستعربين، وبالطبع كانت العبرية موجودة دوما في المجتمعات اليهودية الكبيرة. عندما استعاد المسيحيون طليطلة، اكتسبت اللاتينية، لغة الكنيسة الكاثوليكية، دورا متزايد الأهمية، لكن المستعربين استمروا في استخدام العربية حتى أواخر القرن الرابع عشر.
شكل 5-2: نقش من القرن الخامس عشر لمدينة طليطلة.
أصاب الذهول الباحثين الأوروبيين، الذين أتوا إلى طليطلة بعد استعادتها بوقت قصير، إزاء الكم الهائل من المعرفة الذي وجدوه هناك؛ ففي فترة العصور الوسطى، تضاءلت ثقافة كتب أوروبا الغربية بدرجة كبيرة للغاية أمام ثقافة الكتب العربية؛ فكان الباحث برنارد من شارتر، الذي عاش في القرن الثاني عشر، فخورا بالكتب الأربعة والعشرين التي اقتناها، غير أنه في عام 1258، كانت مدينة بغداد تتباهى بمكتباتها العامة التي بلغ عددها ستا وثلاثين وتجاوز عدد تجار الكتب فيها مائة تاجر. وفي حين احتوت أكبر مكتبة في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى، والتي كانت موجودة في دير كلوني، على بضع مئات من الكتب، اشتملت مكتبة قرطبة الملكية على 400 ألف كتاب. وحتى مع التغاضي عن المبالغة وحقيقة أن العرب كانوا لا يزالون يستخدمون اللفائف بصفة أساسية، والتي لم يكن من الممكن أن تحتوي على القدر الكبير نفسه من النص (إذ يلزم العديد من اللفائف لمضاهاة النص الذي تحويه نسخة واحدة من مجلد المخطوطات)، وأن الورق لم يكن ينتج في أوروبا الغربية حتى القرن الرابع عشر؛ لذا كان يلزم استيراده، الأمر الذي جعل الكتب أكثر تكلفة، فإن المقارنة لا تزال صادمة. لم تكن الثقافة النصية العربية أضخم بكثير فحسب، وإنما كانت أيضا أكثر ثراء على نحو لا يضاهى. وأدى حجم إنجاز العرب في الأدب والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، وبالطبع في العلوم، إلى جعل الباحثين اللاتينيين يصابون بالذهول إذ هالهم ذلك للغاية. فكان ثمة الكثير مما عليهم اللحاق به.
دخل المؤرخون في جدال طويل محموم بشأن الكيفية التي سارت بها حركة الترجمة في طليطلة. هل كانت توجد مدرسة لمترجمين يعملون معا؟ وإن كان كذلك، فأين كان مقرهم؟ ومن كان يدفع المال مقابل التراجم؟ ومن اختار المواد التي كانت تترجم؟ وكيف كان يختارها؟ إن الكم الضخم المتوافر من المادة العلمية يعني أن الاختيار كان عملية صعبة ومع ذلك حتمية. وكالعادة، يعوقنا الافتقار إلى الأدلة عن طرح مزاعم قاطعة. حسبما يورد أتباعه، ترجم جيرارد الكريموني «كتبا في موضوعات كثيرة؛ كل ما كان يعتبره الاختيار الأفضل»،
8
وهذا يوحي بأنه كان مسئولا عن اختيار النصوص التي كان يعمل عليها، وهو أمر معقول تماما؛ نظرا لخبرته. تضم قائمة للكتب التي ترجمها أثناء حياته واحدا وسبعين كتابا؛ واكتشفت كتب أخرى بعد ذلك. تنقسم تلك الكتب إلى مجموعات؛ الكتب الجدلية (كتب المنطق)، وهي ثلاثة كتب؛ وكتب الهندسة، وهي سبعة عشر كتابا؛ وكتب الفلك، وهي اثنا عشر كتابا؛ وكتب الفلسفة، وهي أحد عشر كتابا؛ وكتب الطب، وهي أربعة وعشرون كتابا؛ وكتب متنوعة، وهي أربعة كتب. تعطينا رءوس الموضوعات فكرة عن الكيفية التي ربما كان جيرارد ينظم بها برنامج الترجمة الخاص به؛ فهي تستند عموما إلى العلوم الإنسانية التي استند إليها المنهج التعليمي اليوناني القديم الذي تبناه الباحثون العرب أساسا لنظامهم التعليمي. جمعت مجموعات من النصوص لتستخدم بوصفها مواد تعليمية للطلاب، ويبدو أن جيرارد كان يبحث عامدا عن مجموعات من الكتب في الرياضيات والفلك والطب حتى يتمكن من إتاحتها للطلاب في الغرب. كانت إحدى تلك المجموعات تدعى «المجموعة الوسطى» أو «علم الفلك الصغير»؛ لأنها كانت مصممة لتدرس بين أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي».
وبمجرد أن يتقن الطلاب الأساسيات، كان يصبح بإمكانهم المتابعة ودراسة الموضوعات الخاصة بهم بتعمق أكبر. لهذا، كانوا بحاجة إلى النسخ الكاملة من أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي»، وأعمال أخرى ذات صلة. بحلول عام 500 ميلادية، كانت النصوص العلمية في العالم اللاتيني قد اختزلت في مقتطفات موجزة في كتيبات وموسوعات، «مكثفة في رزم صغيرة ... خلال الرحلة الطويلة عبر العصور المظلمة»، على حد وصف مؤرخ القرن العشرين العظيم تشارلز هومر هاسكينز.
9
بدا أن جيرارد وأقرانه يتعمدون السعي إلى فتح تلك الرزم الصغيرة من أجل توسيع وتعميق البحث العلمي ومن ثم إنعاش التعليم. لم تعد الموسوعات والنبذ كافية. كان عليهم العودة إلى الكتب الدراسية العظيمة من العصور القديمة وترجمتها كاملة. وكان ذلك يعني أيضا ترجمة أعمال الباحثين العرب التي شرحت تلك النصوص القديمة واستندت إليها، الذين التقينا بكثير منهم في رحلتنا؛ الزهراوي والرازي والكندي وبنو موسى والخوارزمي وغيرهم.
إحدى المعضلات التي كانت تواجه المترجمين أمثال جيرارد هي الاختيار بين التركيز على النسخ الكاملة للنصوص اليونانية القديمة، أو إعطاء الأولوية للنسخ العربية المصححة والمحسنة، والمؤلفة ببراعة من أفكار مصدرها فارس والهند ومصر. وكما هي الحال دوما، لعب الاختيار الشخصي دورا حيويا في نوعية الأعمال التي نقلت إلى الأجيال التالية، ونوعية الأعمال التي لم تنقل. واختار جيرارد مزيجا من الاثنين، واستند على نحو فضفاض في اختياره للنصوص إلى كتاب «إحصاء العلوم» للفيلسوف العظيم الفارابي (872-950)، الذي كان قد أمضى جل حياته في بغداد، حيث كان يعرف، من باب التحبب، بالمعلم الثاني (إذ كان أرسطو يعرف بالمعلم الأول).
أين يمكن أن يكون قد عثر جيرارد على كل هذه المخطوطات؟ لقد سلطنا الضوء بالفعل على مكتبة بني هود، ولكن ماذا عن مكتبات طليطلة الأخرى؟ من الصعب تقدير المقتنيات الخاصة، ولكن مما لا شك فيه أن مجتمع الباحثين الآخذ في الازدهار في المدينة أثناء القرن الأخير من الحكم العربي (985-1085) قد امتلك نسخا من أهم النصوص. يتحدث صاعد الأندلسي عن العالم أبي عثمان سعيد بن محمد بن البغونش، الذي كان من طليطلة، ولكنه درس في قرطبة قبل أن يعود إلى مسقط رأسه ليصبح أحد مديري بلاط حكام ذي النون:
وجدت منه رجلا عاقلا جميل الذكر والمذهب حسن السيرة نظيف الثياب ذا كتب جليلة في أنواع الفلسفة وضروب الحكمة، وتبينت منه أنه قرأ الهندسة وفهمها والمنطق وضبط كثيرا منه، ثم أعرض عن ذلك وتشاغل بكتب جالينوس وجمعها وتناولها بتصحيحه ومعاناته؛ فحصل بتلك العناية فهم كثير منها.
10
ها هو دليل نادر مباشر على وجود كتب جالينوس في مجموعة خاصة في طليطلة. وقد يكون من المنطقي الإشارة إلى أنه من المحتمل أن أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي» كانا على أرفف مكتبة ابن البغونش، وأن بعضا من كتبه على الأقل، أو نسخا منها، ربما كانت لا تزال في المدينة في منتصف القرن الثاني عشر عندما كان جيرارد يبحث عن نصوص ليترجمها. من المؤكد أنه كانت لا تزال توجد مجموعات كتب عربية في القرن الثالث عشر؛ فقد زعم الباحث مارك الطليطلي (ازدهرت أعماله من 1193-1216) أنه «بحث بمثابرة عن كتاب آخر ليترجمه في مكتبات العرب».
11
كان مارك يجيد اللغة العربية بطلاقة، وكان محور اهتمامه جالينوس، وبعد أن درس الطب في الخارج، عاد إلى مسقط رأسه ليعثر على الأطروحات الجالينوسية، التي لم تكن معروفة بعد في الغرب، ويترجمها،
3
ليساهم في إعادة إحياء واسعة النطاق لأعمال جالينوس في القرن الثالث عشر. ملأ مارك الفجوات التي تركها جيرارد، الذي كان قد ترجم تسعة أعمال لجالينوس. وبكل المقاييس، كان أهم النصوص الطبية الأربعة والعشرين التي ترجمها جيرارد، هو كتاب «القانون» لابن سينا، الذي كان بذاته تجميعا للطب الجالينوسي، وأشهر كتاب دراسي طبي في العصور الوسطى. كان ابن سينا (980-1037) أحد أعظم مفكري العالم العربي في القرون الوسطى. وكان كتابه «القانون»، الذي وصف بأنه «ملخص بارع وإعادة هيكلة منطقية للطب الجالينوسي»،
12
مركزا، بطريقة تيسر استيعابه، في خمسة مجلدات؛ ومن ثم كان أسهل في استخدامه من الناحية العملية وأقل تكلفة من مجموعة جالينوس الضخمة، وأصبح القناة الرئيسية لنقل أفكار جالينوس. كذلك ترجم جيرارد العديد من كتب الرازي، التي نقلت إلى أوروبا على هيئة مجموعة وطبعت فيما بعد، وكذلك الحال مع أطروحة الزهراوي عن الجراحة وأدواتها، المزودة برسوم إيضاحية وأشكال بيانية نسخت بطريقة جميلة.
حتى الآن، تناولنا الأماكن التي يمكن أن يكون المترجمون قد عثروا فيها على الكتب في إسبانيا المسيحية، ولكن توجد أدلة على أن الباحثين كانوا يبحثون في الجنوب أيضا، حيث كانت السلطة لا تزال في يد العرب. يصف مصدر يعود تاريخه إلى أوائل القرن الثاني عشر مفتش سوق أندلسيا ينفذ أمرا ينص على أنه «لا يجوز للرجال أن يبيعوا الأعمال العلمية لليهود ولا المسيحيين»؛
13
لأنهم كانوا على ما يبدو يترجمونها ثم ينسبونها لباحثيهم. تكشف هذه الواقعة عن أن الاهتمام المسيحي بالعلوم العربية كان قد أصبح واضحا ونهما حتى إن السلطات المسلمة كانت قد بدأت تخشى من أن تراثها الثقافي يمكن أن يتفلت عابرا الحدود إلى الشمال، وهو خوف تبين أنه استشراف لما كان سيحدث مستقبلا. لا نعرف قدر انتشار أو نجاح سياسة حظر البيع هذه، ولكن لا بد أنها جعلت الحصول على النصوص أكثر صعوبة.
ومع ذلك، من الصعب تحديد مدى تأثير ذلك على مشروع جيرارد. من المؤكد أنه كان بمقدوره الحصول على النصوص، بغض النظر عن الحظر الذي فرضه مشرفو السوق الأندلسيون. ويخبرنا حجم ما حققه شيئا عن شخصيته. لا بد أن جيرارد الكريموني كان رجلا يتسم بجرأة وعزم هائلين. فأي شخص ينطلق في رحلة إلى المجهول بحثا عن كتاب واحد، ولديه استعداد للسفر آلاف الأميال، كي يتعلم لغة واحدة جديدة على الأقل ويمضي بقية حياته في بلد غريب، ساعيا دون هوادة إلى توسيع معارفه، لا بد أنه كان يمتلك مجموعة من سمات شخصية واضحة المعالم. وقد ساهمت الصفات التي اتسم بها، من جرأة، وعزم ، واجتهاد، وذكاء، في حقيقة تتمثل في أن «انتقال العلوم العربية بوجه عام إلى أوروبا الغربية على يد جيرارد الكريموني فاق أي سبيل آخر».
14
إذا صدقنا رواية واحدة عن إحدى المحاضرات التي ألقاها جيرارد في طليطلة، يمكننا أن نضيف الغرور والغطرسة إلى قائمة سماته الشخصية. من الواضح أنه كان يدرك ثقل المهمة التي اضطلع بها، وأهمية دوره بصفته قناة رئيسية لنقل المعرفة من العالم العربي إلى العالم الأوروبي. على حد تعبير كتاب تأبينه: «حتى نهاية حياته، استمر ينقل إلى العالم اللاتيني (كما لو كان ينقل إلى وريثه المحبوب) أيما كتب ارتآها الأفضل، في موضوعات كثيرة، بما في وسعه من دقة ووضوح.»
15
شكل 5-3: شكل بياني من مخطوط يحتوي على ترجمة جيرارد الكريموني لكتاب «القواعد» (جداول طليطلة) للزرقالي.
أما فيما يتعلق بمسألة هوية ممول ترجمات جيرارد؛ فليس بوسعنا إلا أن نخمن، ولكن كونه رجلا كنسيا ينتمي إلى الكاتدرائية يجعل رئيس الأساقفة يوحنا الطليطلي (1152-1166) مرشحا محتملا. من المحتمل أن جيرارد كان مدرجا في كشوف رواتب الكاتدرائية، ولكن مع واجبات كنسية بسيطة أتاحت له حرية أن يكرس جل وقته للترجمة. وبالطبع، من المحتمل أيضا أنه كان موسرا يمتلك ثروة خاصة به، وقادرا على تمويل نفسه. فحسبما أورد تلاميذه، كان جيرارد «يتحاشى الثناء المتملق والأبهة الفارغة لهذا العالم»، وكان «عدوا لرغبات الجسد».
16
لم يكن شخصا تافها، وإنما كان شخصا منح تركيزه كله لعمله ولم يكن بحاجة إلى متع الحياة. يبدو واضحا بلا شك من العدد الهائل من الترجمات التي قام بها أنه - لا بد - أمضى جل وقته على مكتبه.
ذهب جيرارد إلى طليطلة ليعثر على كتاب «المجسطي»، ولكن من المرجح أنه لم يقطع شوطا طويلا فيما يتصل بعمل بطليموس العظيم قبل أن يدرك أنه كان بحاجة إلى استيعاب كتاب إقليدس أولا. فكما رأينا، كانت أطروحة «العناصر » بمثابة نقطة الانطلاق إلى علم الفلك و«هكذا فإنه من الصعب أن نعطي ترجمات العمل الكامل إلى اللاتينية في النصف الأول من القرن الثاني عشر ما تستحق من الأهمية».
17
في عام 1100، كان كل ما هو متاح من أطروحة «العناصر» باللاتينية هو أجزاء صغيرة من الكتب بدءا من الأول إلى الرابع، ترجمها بوثيوس في القرن الخامس، وكادت ألا تحتوي على أي براهين أو أشكال بيانية. بحلول عام 1175، كان يوجد ستة إصدارات من النص الكامل؛ إذ كانت أوروبا قد استفاقت وأدركت أهمية نظريات إقليدس وكان الباحثون اللاتينيون يبذلون قصارى جهدهم لفهمها ونقلها.
كان إصدار جيرارد اللاتيني لأطروحة «العناصر» هو ثاني ثلاث تراجم من العربية في القرن الثاني عشر. الأولى قام بها أديلار الباثي، وشكل أساسا للنسخة الثالثة التي أنتجها هيرمان الكارينثي وروبرت الكيتوني. على ما يبدو أن جيرارد قد استعان في الأساس بنسخة إسحاق وثابت، مع أجزاء معينة من ترجمة الحجاج. قد يعني هذا أنه كان لديه نسختان عربيتان أمامه، ولكن ربما، بالمثل، كان ينسخ نصا يجمع بالفعل بين الاثنين؛ فكما رأينا في الفصل السابق، وجدت توليفات من النصين في عدد لا يحصى من النسخ المختلفة بعد الإنشاء الأصلي لهما مباشرة، في القرن التاسع. لأن نص جيرارد كان مستندا بالأساس إلى نسخة إسحاق وثابت، فإنه النص الأقرب إلى النص اليوناني الأصلي بل إنه يشتمل على بعض الكلمات اليونانية. كذلك أدرج كل براهين إقليدس كاملة؛ وهو تحول مهم عن النسخ الأخرى وأمر جعل فهم ما كتبه إقليدس أيسر. كانت طريقة جيرارد المعتادة هي أن يترجم ترجمة حرفية، بترجمة كل كلمة منفردة، بدلا من محاولة نقل المعنى العام للنص؛ وهي طريقة شائعة في أوساط المترجمين في طليطلة في منتصف القرن الثاني عشر. ومن المثير للاهتمام، أن أطروحة «العناصر» بترجمة جيرارد كان أكثر تأثيرا بقليل من ترجمة هيرمان، ولكن طغى على الاثنتين ترجمة أديلار، التي انتشرت على نطاق أوسع بكثير وبقي منها عدد أكبر من المخطوطات، على الرغم من عدم وضوح أسباب ذلك. شكلت ترجمة أديلار أساس النص المنقح الذي أنتجه عالم الرياضيات الإيطالي العظيم الذي عاش في القرن الثالث عشر كامبانوس النوفاري، وكان هذا النص بمثابة أول نسخة تطبع، في مدينة البندقية، في عام 1482.
إذا كان جيرارد قد اتبع الترتيب المقبول فيما يتعلق بدراسة الرياضيات والفلك، فمن المحتمل أن يكون قد ترجم أطروحة «العناصر» أولا، قبل الشروع في ترجمة «المجموعة الوسطى» (النصوص التي كان يفترض قراءتها بعد أطروحة «العناصر» وقبل كتاب «المجسطي») ثم أخيرا بدأ في ترجمة كتاب «المجسطي». من المحتمل أنه لم يكن لديه القدرة على نشر عمله بقدر كبير من الفعالية في بداية حياته العملية، وأن صلاته تحسنت بمرور الوقت، ولهذا كانت نسخته من كتاب «المجسطي» أكبر تأثيرا بكثير من ترجمته لأطروحة «العناصر». وبغض النظر عن مدى تأثير كل من الكتابين على حدة، فقد ساهمت كل إصدارات القرن الثاني عشر لأطروحة «العناصر» في جدل ازداد احتداما حول الرياضيات الإقليدية واستمر هذا الجدل حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر. نقلت النظريات نفسها بطرق مختلفة كثيرة؛ منها التراجم الكاملة، والتراجم الجزئية، والتجميعات، والنسخ اللاتينية من التعليقات العربية، والتعليقات اللاتينية الجديدة، والأعمال الأصلية لباحثين لاتينيين. بقي إلى وقتنا الحاضر سبع نسخ من ترجمة جيرارد لأطروحة «العناصر»؛ واحدة في كل من أكسفورد وبولوني وبروج وباريس، والنسخ الثلاث الباقية في مكتبة الفاتيكان. لا تذكر أي من هذه النسخ جيرارد بالاسم، وصدرت كلها تقريبا خلال القرن الرابع عشر. أربع منها فقط هي نسخ كاملة من ترجمة جيرارد؛ وتحتوي النسخ الأخرى على خليط من النصوص من الإصدارات المختلفة التي صدرت في القرن الثاني عشر، وهو ما يبين أن من نسخها كان لديه إمكانية الوصول إلى مخطوطات عديدة.
كما نعرف من الوقت الذي قضيناه في بغداد، فإن الرياضيات كانت قد اتسعت اتساعا كبيرا لتشمل أكثر بكثير من مجرد الهندسة الإقليدية، وتعكس كتب الرياضيات الأخرى التي ترجمها جيرارد هذا الأمر. كان الخوارزمي قد استهل دراسة الحساب مستخدما الأرقام الهندية العربية والنظام العشري في «كتاب الجمع والطرح وفقا للحساب الهندي»، وصنف الجبر بوصفه موضوعا منفصلا في كتاب «الجبر». أعيد إصدار هذين النصين باللغة اللاتينية بأشكال متنوعة من القرن الثاني عشر وما بعده. وترجم روبرت التشستري (الذي عادة ما يخلط بينه وبين روبرت الكيتوني) كتاب «الجبر» في شقوبية سنة 1145، وترجم أيضا بواسطة جيرارد في طليطلة، بينما ساعدت النسخ اللاتينية من كتاب الخوارزمي عن الحساب على نشر النظام العشري في أوروبا.
في محفوظات كاتدرائية طليطلة، توجد وثيقتان تشيران إلى شخص يدعى المعلم جيرارد. كلتا الوثيقتين موقعة من دومينجو جونديسالبو، وهو رجل دين محلي كان يعمل مع جيرارد في مكان ما في محيط الكاتدرائية. يأتي الدليل الوحيد على المكان الذي كانا يعملان فيه من باحث في القرن التالي، على ما يبدو أنه قام بترجمة «في كنيسة الثالوث المقدس»؛ وهو دير مجاور للكاتدرائية.
18
ومثل بيت الحكمة في بغداد، لا توجد أدلة باقية على مكان مادي خصص للمترجمين، ولكن المنطق السليم يشير إلى أنه لا بد لبرنامج ترجمة بهذا الحجم أن يكون قد اشتمل على موقع مركزي، مساحة دائمة يمكنهم الاحتفاظ فيها بكتبهم وأدوات النسخ الأخرى التي كانوا يستخدمونها من أقلام، وحبر، وسكاكين، وأصباغ، وورق أو رقوق، وصمغ، وطاولات للعمل عليها في سكينة وهدوء. توجد بلا شك أدلة على أنهم في بعض الأحيان اشتغلوا بالترجمة في ثنائيات. فنحن نعرف أن «غالب» المستعرب عاون جيرارد بلغته العربية، ووصف مترجم آخر، هو جون الإشبيلي والليمي،
4
عمله هكذا: «ترجم الكتاب ... من العربية، فكنت أنا أتكلم اللغة الدارجة كلمة كلمة، ويحول رئيس الشمامسة دومينيك [جونديسالبو] كل كلمة إلى اللاتينية.»
19
سواء جلسا بالفعل جنبا إلى جنب في الغرفة نفسها أم لم يفعلا، كان لدمينجو اهتمامات فكرية مختلفة، أو على الأقل كان يشتغل في مجالات بحثية مختلفة عن جيرارد. ركزت تراجمه على الفلسفة العربية، وبخاصة عمل ابن سينا، وتعاون مع الباحثين اليهود المحليين، مستخدما تعليقات وأفكارا عبرية. من الممكن أن يكون جيرارد ودمينجو قد قسما عن قصد مجالات المعرفة بينهما؛ لإحداث انسيابية في عملية الترجمة. فركز جون الإشبيلي بشكل أساسي على التنجيم؛ وهو موضوع لا يبدو أن جيرارد ترجم فيه على الإطلاق.
5
هل يشكل هذا التقسيم للعمل برنامجا منظما للترجمة؟ وإن كان كذلك، فمن كان المسئول عنه؟ لم يقدم جيرارد إهداءات لتراجمه أو يوقعها؛ لذا فإنه لا يترك لنا أي أدلة. غير أن هيرمان الكارينثي وروبرت الكيتوني يساعداننا بدرجة أكبر؛ إذ تزخر تمهيداتهما بالإهداءات والدلائل على دوافعهما. كان الراعي الرئيسي لهيرمان هو المعلم والفيلسوف العظيم تيري من شارتر، الذي كان قد درس معه قبل أن يسافر إلى إسبانيا. كان تيري مهتما بعلم الفلك والرياضيات؛ فاستخدم نظرية فيثاغورس لتفسير التثليث وجمع كتاب «مكتبة العلوم الإنسانية السبعة»، الذي ضم فيه أقساما من أطروحة «العناصر» من ترجمة هيرمان وزميله روبرت الكيتوني، والتي كانا قد أرسلاها إلى تيري من أجل كتاب «مكتبة العلوم الإنسانية السبعة». وأرسلا أعمالا أخرى أيضا، تشمل كتاب بطليموس «خريطة النجوم»، وهو استكشاف رياضي لكيفية تحديد مواقع النجوم على صفحة السماء.
كان تيري في طليعة الاكتشاف الأوروبي للعلوم اليونانية العربية، ويرجع الفضل في ذلك جزئيا إلى الكتب التي أرسلها له هيرمان من إسبانيا. كان هيرمان قد درس على يد تيري عندما كان شابا؛ إذ سافر إلى شارتر من مسقط رأسه إستريا ليقوم بذلك، وبقيا على اتصال. أمضى هيرمان وزميل دراسته روبرت الكيتوني، أعواما كثيرة في السفر بحثا عن النصوص، التي عكفا على ترجمتها ثم أرسلاها إلى فرنسا مصحوبة بخطابات مفعمة بالحماسة تثني على عجائب البحث العلمي العربي.
عندما كان رئيس دير كلوني، بطرس المبجل، يطوف الأديرة الإسبانية في عام 1141، صادف باحثين شابين «على ضفاف نهر أبرة»، وأقنعهما بأن يترجما القرآن لحسابه.
20
استخدم بطرس هذه الترجمة ونصوصا إسلامية أخرى لطرح فكرة أن الإسلام كان هرطقة مسيحية. غير أن الأهم من ذلك أنه كان أول باحث مسيحي يتعامل مع الثقافة الإسلامية ويتعرف عليها. وكانت هذه لحظة فارقة في الحوار بين الديانتين. كان اهتمام بطرس بالإسلام واحترامه له واضحين. فوصف الباحثين المسلمين بأنهم: «رجال بارعون ومثقفون تمتلئ مكتباتهم بكتب تتناول العلوم الإنسانية ودراسة الطبيعة، وأن المسيحيين قد مضوا في سعيهم من أجل هذه الكتب.»
21
هذا التوجه الشغوف المنفتح كان من سمات الباحثين الأوروبيين في القرن الثاني عشر، ولكنه لم يدم. بحلول عصر النهضة، حجب الباحثون المسلمون، الذين كانوا قد قدموا إسهاما هائلا، جراء تبجيل يصل إلى حد الهوس للمصادر اليونانية القديمة.
بعد أن ترجم القرآن، حرص روبرت على العودة إلى علم الفلك، ووعد بطرس في عام 1143 «بهدية سماوية تحتوي بداخلها على مجمل العلم. وهي تكشف حسب الرقم، والتناسب، والقياس كل الدوائر السماوية وأعدادها ونظمها وأوضاعها، وأخيرا، كل الحركات المختلفة للنجوم ...»
22
هذه إشارة إلى كتاب «المجسطي»، الذي كان هو وهيرمان يستعدان لدراسته بقراءة أطروحة «العناصر» ونصوص رياضية أخرى. من الممكن أن يكونا أعدا إصدارهما من نص بطليموس، لكن ليس ثمة دليل على هذا. على النقيض من ذلك، كان إصدار جيرارد من كتاب «المجسطي» أول إصدار ينتشر على نطاق واسع في أوروبا وكان أكثر الإصدارات اللاتينية الأولى لعمل بطليموس تأثيرا؛ فيوجد منه اثنان وخمسون مخطوطا، لا تزال باقية إلى يومنا هذا في مكتبات متنوعة مثل بطرسبرج ومانشستر. وتوجد أضخم مجموعة على الإطلاق، ثلاث عشرة نسخة، في المكتبة الوطنية في باريس، وهو ما يمكن أن يشير إلى أن زملاء جيرارد الإفرنج في طليطلة أرسلوا نسخا إلى فرنسا. ويتواجد أقدم مخطوط باق من مخطوطاته في مكتبة الفاتيكان، ومعه أربع نسخ أخرى تالية، وهو ما يشير إلى أن تراجم جيرارد قد انتقلت إلى إيطاليا، حيث أعيد إنتاجها بأعداد كبيرة. في الوقت الذي ظهر فيه كتاب «المجسطي» باللغة اللاتينية، كان الكتاب بالفعل معروفا إلى حد كبير، على الأقل وسط فئة النخبة الصغيرة من الباحثين المهتمين بعلم الفلك الرياضي. فكان يشار إليه ويقتبس منه في العديد من الأعمال الأخرى وكان مصدرا أساسيا لأطروحة هيرمان «الماهيات»، التي كانت قد قدمت كتاب «المجسطي» لأوروبا الغربية قبل سبعة عشر عاما من تقديم أول ترجمة كاملة.
كانت ثمة مشكلة كبيرة واجهت كل مترجمي النصوص العلمية، في بغداء وطليطلة على حد سواء، وهي الحاجة إلى استحداث مفردات تفسر الأفكار التقنية الجديدة. وكان هذا ينطبق بوجه خاص على فرعي الفلك والرياضيات، حيث كانت ابتكارات العرب جنبا إلى جنب مع غياب خبرة الثقافة اللاتينية يعني أن معظم المبادئ والمنهجيات التي تترجم كانت جديدة تماما، ولم يكن يوجد كلمات، حتى ذلك الحين، تعبر عنها. قدم الباحثون اليهود، الذين كانوا قد اعتادوا بالفعل نقل أفكارهم من العربية إلى العبرية، إسهاما كبيرا وساعدوا الباحثين اللاتينيين على استحداث مصطلحات جديدة.
كما رأينا، أرسل بعض الباحثين الذين كان مقرهم في إسبانيا نسخا من ترجماتهم إلى مدارس الأديرة والكاتدرائيات في فرنسا، حيث درست وأعيد نسخها؛ ومن ثم انتشرت عبر شبكة الرهبنة البندكتية الممتدة. ولكن لم يكن ثمة طلب كبير عليها في إسبانيا نفسها، حيث تطورت الجامعات والمدارس بوتيرة أبطأ؛ فلم تتأسس أول جامعة إسبانية إلا في عام 1208. كان يوجد نسخة مخطوطة قديمة من ترجمة جيرارد لكتاب «المجسطي» في مكتبة كاتدرائية طليطلة، وهي موجودة الآن في المكتبة الوطنية الإسبانية، في مدريد،
23
ولكنها النسخة الوحيدة في إسبانيا كلها. وهي مكتوبة على رق بواسطة ناسخ واحد بخط منمق، وأصدرت، ربما في الكاتدرائية نفسها، في وقت ما في القرن الثالث عشر؛ لذا فإنه لا بد أنه كانت ثمة مخطوطة متاحة يمكن النسخ منها. ولكن لم يكن بالمكتبة مجموعة ذات أهمية حتى أواخر القرن الثالث عشر، مما يطرح السؤال البديهي: ما الذي حدث لكتب جيرارد الكريموني؟ على حد علمنا، لم يكن لديه راع ينتظرها في إيطاليا. فقد توفي جيرارد في عام 1187، ويحتمل أن ذلك كان في طليطلة. وثمة أدلة على أنه قد يكون أوصى ببعض من كتبه إلى جماعة رهبنة في كريمونا، ويوجد حالة واحدة لباحث، اشتغل بالتدريس في كريمونا في عام 1198، كان يمتلك نسخة من ترجمة جيرارد لكتاب جالينوس «الصنعة الصغيرة»؛ لذا فمن الواضح أنه كان يوجد قناة انتقال بصورة أو بأخرى.
الدليل الأكثر حسما الذي نملكه فيما يتعلق بأخذ الكتب من طليطلة إلى شمال أوروبا هو زعم دانيال مورلي أنه اشترى «عددا كبيرا من الكتب الثمينة» وعاد بها إلى إنجلترا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي.
24
كان دانيال، الذي كان يتسم بالثقة في نفسه، ينتمي لجيل جديد من الباحثين، الذين شكلوا مجموعة صغيرة، ولكنها قوية، من الشبكات التي كانت تغطي القارة، وقطعوا مسافات طويلة بحثا عن كتب وأفكار. كما أوضح هو بنفسه:
عندما رحلت، منذ فترة، للدراسة، توقفت بعض الوقت في باريس. هناك، رأيت حميرا وليس بشرا يحتلون المقاعد ويتظاهرون بأنهم مهمون جدا. كان لديهم طاولات أمامهم تئن تحت وطأة ثقل مجلدين أو ثلاثة مجلدات لا يمكن رفعها من موضعها، ويصبغون القانون الروماني بحروف ذهبية. بأقلام رصاصية في أيديهم، كانوا يضعون علامات نجمية وعلامات صليب، للدلالة على عبارات منحولة، هنا وهناك، تحيط بهم هالة كاذبة من الجلال والوقار. ولكن لأنهم لم يكونوا يعرفون شيئا، فإنهم لم يكونوا أفضل حالا من تماثيل رخامية؛ كانوا يرغبون بصمتهم فحسب في أن يبدوا حكماء، وما إن حاولوا أن يقولوا أي شيء، وجدتهم عاجزين تماما عن التعبير بكلمة. عندما اكتشفت أشياء كهذه، لم أرد أن أصاب بعدوى تحجر مشابه ... ولكن عندما سمعت أن مدرسة العرب، المكرسة تماما للعلوم الأربعة، كانت هي السائدة في طليطلة في تلك الأيام، انطلقت إلى هناك بأسرع ما في وسعي ...
25
بينما كان دانيال في طليطلة، زعم أنه سمع جيرارد يلقي محاضرة عن التنجيم، ولكنه مع ذلك، لم يستعن بتراجم جيرارد في عمله، مفضلا تراجم أديلار الباثي، وهيرمان الكارينثي ويوحنا الإشبيلي. ومن منطلق حقيقة أنه كان بوسعه الوصول إلى نسخ مختلفة من النصوص وكان بإمكانه أن ينتقي ويختار، تتبين السرعة الكبيرة التي كان المحيط الفكري اللاتيني يتغير بها. فقبل ذلك بمائة عام، في بداية القرن الثاني عشر، لم تكن أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي» وغالبية مجموعة كتب جالينوس متاحة باللاتينية؛ أما في ذلك الحين، فكان يوجد العديد من الإصدارات، إلى جانب مراجعات وتعليقات جديدة تظهر طوال الوقت.
عاد دانيال إلى إنجلترا ومعه صناديقه التي كانت تحوي الكتب الجديدة وبدأ يشق طريقه إلى نورثهامبتون. وفي أثناء الرحلة «التقيت سيدي ومعلمي الروحي، جون، أسقف نورويتش ، الذي أظهر لي قدرا كبيرا من التكريم والاحترام».
26
المكان المرجح لهذا اللقاء هو مدينة أكسفورد، التي تعد معبرا رئيسيا على نهر التيمز ومقر الجامعة الناشئة. جاء جون من أكسفورد وبالطبع عاد لزيارتها خلال فترة توليه منصب أسقف نورويتش. إضافة إلى ذلك، ظهرت نسخ من العديد من الكتب، التي جلبها دانيال معه عندما عاد من إسبانيا، في مكتبات أكسفورد بعد ذلك بوقت قصير، مما يشير إلى أن دانيال سمح للباحثين بأن يصنعوا نسخا بينما كان هناك. لا شك في أنه يصعب تخيل مقاومة رجل مثله لإغراء التفاخر بالكنوز التي كان قد جمعها.
كان دانيال، الذي اتسم بالتحرر من النزعات القومية والمحلية، وبالمغامرة، والريادة، جزءا من مجموعة من صفوة الرجال ذوي التعليم الراقي الذين قادهم تعطشهم للمعرفة إلى السفر في أرجاء الأرض بحثا عن آفاق مختلفة، سواء كانت جغرافية أو فكرية. ورفضا منهم للاعتماد التقليدي على المرجعية المكتوبة والميل إلى إسناد ألغاز عالم الطبيعة إلى تدبير إلهي، اعتمدوا نهجا جديدا للتعلم استند إلى الدراسة العقلانية وأفكار أخرى اكتشفوها في الأعمال ذات الأصل اليوناني الروماني والعربي المترجمة مؤخرا. لعبت أعمال أرسطو دورا مهما، وترجمت إلى اللاتينية، وكشف النقاب عن كامل إطاره الكوزموجرافي، وهو شيء وصفه تشارلز بيرنت بأنه: «حدث بالغ الأهمية في تاريخ علوم أوروبا الغربية.»
27
كانت محاورة أفلاطون «طيماوس» مصدرا آخر للإلهام؛ إذ حثت الباحثين على فحص بيئتهم بطريقة أكثر عقلانية وتحليلية وعرض اكتشافاتهم بطريقة منطقية، في إطار مخطط منظم، يستند إلى طريقة البرهنة التي تبناها إقليدس ببراعة في أطروحة «العناصر». كتب كل من هيرمان الكارينثي ودانيال مورلي أعمالا من إبداعهم استخدمت المنطق الأرسطي، وطريقة البرهنة ومراقبة عالم الطبيعة، كما فعل العديد من الباحثين الآخرين الذين سوف نلتقي بهم لاحقا.
يوجد كثير من أوجه التشابه بين ما كان يجري في طليطلة في القرن الثاني عشر وما جرى في بغداد في القرن التاسع. فقد جمعت المعرفة وصنفت وترجمت ونظمت في فروع مستقلة من العلم، لكل فرع أسلوبه الخاص وأفكاره ومفرداته الخاصة. وكان هذا الازدهار في السعي الفكري مدفوعا بالتطورات الضمنية نفسها الحادثة في المجتمع والتي اتسمت بها الثقافة العربية قبل ذلك بثلاثة قرون؛ مناطق مختلفة متحدة تحت لواء دين مشترك، وتزايد في عدد السكان والإنتاج الزراعي والتجارة، ونمو المراكز الحضرية؛ مما أدى إلى إيجاد طلب على بنية تحتية ولوائح تنظيمية؛ ومن ثم الإلمام بالحساب والقراءة والكتابة. في أوروبا، اتسمت هذه العملية باتساع نطاق التعليم العلماني، الذي تجلى في نشوء الجامعات باعتبارها المراكز الرئيسية للتعلم في القرن الثالث عشر. ومع اضمحلال مدارس الكاتدرائيات القديمة، تنافس المعلمون في أكسفورد وبولونيا وباريس بعضهم مع بعض على الطلاب؛ مما شجع على الصرامة والدقة الفكرية والأفكار الجديدة وميلاد النظام الحديث للتعليم العالي. مع بزوغ فروع جديدة للعلم، نمت الفروع القائمة بحيث تعين على الباحثين أن يكونوا أكثر تخصصا. فلم يعد من الممكن للطالب أن يتقن معرفة ما بكامل نطاقها. ولعبت طليطلة دورا بارزا في هذا. فقد كانت المدينة جسرا بين الثقافة اليونانية العربية وأوروبا اللاتينية؛ إذ لم تكن مكانا تحفظ فيه المعرفة العلمية في أمان فحسب، وإنما تترجم وتنقل إلى باحثي المستقبل. وفي القرن الثالث عشر، كفل ألفونسو العاشر (1221-1284)، «الحكيم»، كما كان يعرف، استمرار المدينة منارة للعلم والتعاون بين الثقافات. فأنشأ مدرسة من الباحثين اليهود والمسيحيين والمسلمين لترجمة النصوص المهمة إلى اللغة الرومانسية المحلية الدارجة، ودعم بحماسة برنامجا للدراسة والرصد الفلكي. كانت النتيجة «جداول ألفونسين»، المستندة إلى «جداول طليطلة» الأقدم، والتي استخدمت في سائر أوروبا على مدى الثلاثمائة سنة التالية.
كانت طليطلة المكان الرئيسي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، ولكنها لم تكن المكان الوحيد. بحلول نهاية القرن الثاني عشر، كان العالمان السياسي والفكري قد تغيرا. وكانت أوروبا المسيحية في تصاعد؛ وأقصي الإسلام أكثر فأكثر إلى الجنوب، عبر إسبانيا، حتى عاد إلى شمال أفريقيا، وخرج من صقلية وأبعد عن بيت المقدس. أثناء القرن الثاني عشر، انتشرت الجيوش الصليبية في أنحاء منطقة شرق البحر المتوسط، محتلة أقاليم وجالبة معها شعورا جديدا بالثقة والإمكانية. جاء في أعقابهم التجار يتبعونهم؛ رجال انتهازيون من دويلات مدن إيطاليا، وضعوا الثروة نصب أعينهم، فاستقروا في المدن الشرق أوسطية وأسسوا مجتمعات تجارية. تاجروا في ثروات الشرق؛ من توابل، وحرير، وجواهر، وسجاد، وقطع أثرية، ومخطوطات، وقايضوا فيها وعقدوا الصفقات، وأبحروا بسفنهم وهي مليئة جمالا وعجبا وحكمة صوب الديار على الخطوط الملاحية الواسعة، ليغيروا أذواق الأوروبيين، وأسلوبهم ومعارفهم إلى الأبد.
هوامش (1)
المكان الذي جرت فيه أحداث رواية أومبيرتو إكو الكلاسيكية «اسم الوردة»، جريمة قتل غامضة تستكشف العالم الفكري لأحد أديرة القرن الرابع عشر. (2)
جلبت نسخة من هذا النص، بالصيغة التي راجعها مسلمة المجريطي، مع تعديل الإحداثيات لتناسب قرطبة، إلى سرقسطة في وقت ما في منتصف القرن الحادي عشر، حيث أعيد إجراء حسابات الجداول لتناسب دائرة العرض المحلية. (3)
ترجمت أربع من هذه الأطروحات من اليونانية على يد حنين بن إسحاق في القرن التاسع. (4)
كان ليوحنا الإشبيلي والليمي، الذي عمل أيضا في طليطلة، خلفية غامضة بعض الشيء. فيشار إليه بأسماء كثيرة مختلفة في المصادر المتنوعة؛ فمثلا يشار إليه بالإسباني، والطليطلي، والليمي، وأفيندوث، وابن داود، حتى إن الباحثين تساءلوا عما إذا كان أكثر من شخص واحد. وجهة النظر الحالية هي أنه ربما كان يهوديا سفارديا فر من اضطهاد الساميين في قرطبة تحت حكم الموحدين، واستقر في طليطلة واشتغل بالترجمة هناك في منتصف القرن الثاني عشر. (5)
هذا أمر غامض لأن دانيال مورلي، الذي قدم إلى طليطلة من إنجلترا بحثا عن المعرفة، يورد أنه سمعه يحاضر عن أهمية أطروحة أبي معشر «المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم». وبفرض أن دانيال كان يقول الحقيقة، فلا بد أن جيرارد كان على دراية واسعة بالموضوع، حتى إن لم تكن له تراجم فيه.
الفصل السادس
ساليرنو
في ذلك الوقت ازدهرت [ساليرنو] في فن الطب لدرجة أنه لم يكن في مقدور مرض أن يستقر فيها.
ألفونسو الأول، رئيس أساقفة ساليرنو
في منتصف القرن الحادي عشر، وصل تاجر من شمال أفريقيا يدعى قسطنطين إلى ميناء ساليرنو الإيطالي المزدحم ومعه شحنة من البضائع. أثناء إقامته في المدينة، أصابه المرض، فاستدعي طبيب محلي إلى فراشه. لا نعرف كنه العلاج الذي وصفه له هذا الطبيب وإذا ما كان قد ساهم في شفاء قسطنطين، ولكننا نعرف أن قسطنطين صدم من انعدام كفاءة الطبيب ؛ فالرجل لم يطلب حتى عينة من البول يستند إليها في تشخيصه. كان ما سيفعله أناس كثيرون هو أن يتجاهلوا التجربة، شاكرين الرب على نجاتهم، ومسارعين بالعودة إلى وطنهم المتحضر. ولحسن حظ تطور الطب الأوروبي، أن قسطنطين كان شخصية غير عادية؛ فقد بقي في ساليرنو وبدأ يسأل الأشخاص المحليين عن نوع الكتب الطبية التي كانت متاحة هناك، وأصابه الهلع عندما دلت الإجابات على القدر الضئيل لما كان الإيطاليون يعرفونه عن الطب.
لو كانت هذه القصة قد حدثت في أي مدينة أخرى في أوروبا في ذلك الوقت، لكان أمرا عاديا، بل مفهوما حتى. فقد كانت المعرفة الطبية متخلفة في أوروبا الغربية في النصف الثاني من الألفية الأولى. كان الأطباء قليلين ومتباعدين. كان يوجد بعض النصوص الطبية في الأديرة الكارولنجية وفي مكتبات البلاط الإمبراطوري، ولكن لم يكن كثير من الناس قد قرءوها وفهموها. عندما كانوا يصابون بمرض أو بجروح، كانت الأغلبية الساحقة تعتمد على خليط من الصلاة والأمل الأعمى و(غالبا) تمائم عديمة القيمة كانوا يشترونها من المعالج المحلي.
1
المفارقة الرائعة في قصة قسطنطين هي أن الحظ حالفه بأن أصابه المرض في ساليرنو؛ التي كانت في ذلك الوقت مركز المعرفة الطبية الأكثر تقدما في أوروبا كلها. في واقع الأمر، كان الطبيب الذي ازدرى قسطنطين معرفته في طليعة العلوم الإكلينيكية الغربية، وكان مدربا على يد أفضل الأطباء، باستخدام أحدث النصوص المتاحة في ذلك الوقت. كانت ساليرنو مشهورة، حتى إنها كانت تعرف - على الأقل في أوروبا - بأنها مدينة أبقراط. غير أن ازدراء قسطنطين للعلاج المتوفر يظهر بجلاء الهوة التي كانت قائمة بين الباحثين الأوروبيين ونظرائهم المسلمين. كانت المنطقة الناطقة بالعربية قد استفادت من قرون من المعرفة العلمية والبحوث الطبية؛ فكان لديهم مستشفيات وأدلة عملية وأدوات تشخيص ومعدات متخصصة لعلاج المرضى والمصابين. وعندما اكتشف قسطنطين أن العلاج الطبي الذي تلقاه كان أفضل من أي شيء آخر متاح في أوروبا، عقد العزم على المساعدة.
عاد قسطنطين إلى مسقط رأسه في قرطاج، حيث بدأ يدرس الطب ثم مارسه . بعد بضع سنوات، أبحر ثانية إلى ساليرنو، جالبا معه كمية من الكتب التي من شأنها أن تغير حال دراسة الطب وممارسته في أوروبا، وتعزز مكانة ساليرنو بصفتها المركز الرئيسي للتعليم الطبي. عادة ما يشاد بالمدرسة الطبية بساليرنو، التي تأسست في القرن التاسع، بوصفها أول مدرسة طبية في أوروبا. وهذا ادعاء مضلل. أولا، لم تكن المدرسة مؤسسة منظمة بالمفهوم الحديث؛ إذ كانت أقرب إلى مجموعة من معلمي الطب تجمع حولهم الطلاب. وكما هو الحال في بغداد وطليطلة، لا توجد أدلة على وجود موقع مركزي للدراسة الطبية في المدينة. ثانيا، كان يوجد كثير من «المدارس» الطبية في العالم القديم؛ لذا فإن أي زعم بأن ساليرنو هي الأولى هو زعم يحتاج إلى تحديد؛ فوصفها بأنها «أول مدرسة طبية في أوروبا فيما بعد العصور القديمة» ليس له الوقع نفسه. ومع ذلك، فبدءا من نحو عام 850 وما بعده، كانت ساليرنو في طليعة دراسة الطب لقرون عدة، وكانت المدرسة ذات تأثير بالغ في امتداد المعرفة الطبية إلى مراكز فكرية أخرى، وأن يصبح الطب، في نهاية الأمر، جزءا معترفا به رسميا في منهج الدراسة الجامعية.
تحير المؤرخون بشأن السبب الذي لأجله أصبحت ساليرنو مركزا للطب وكيفية حدوث ذلك، والمصدر الذي جاءت منه المعرفة والكيفية التي تطور بها التقليد المتبع هناك. حتما، يوجد كثير من المصادر والإجابات المحتملة، لعل أبرزها هو موقعها الجغرافي على البحر، وهواؤها النظيف، ومناخها المعتدل، ومناظرها الطبيعية الجميلة، والينابيع الساخنة المحلية وكثير من المنتجات المحلية الطازجة؛ إذ كان الاستحمام والحمية الغذائية جزءا لا يتجزأ من العلاج الطبي. لآلاف السنين اشتهر هذا الساحل التيراني المترامي الأطراف لدى من يبحثون عن الراحة والاسترخاء. في نحو عام 600ق.م كان اليونانيون قد استقروا على بعد بضعة كيلومترات إلى الجنوب، وما زالت المعابد الضخمة التي بنوها في بيستوم قائمة إلى يومنا هذا. بحلول القرن الأول الميلادي، كان الساحل موطنا لفيلات فخمة ومزارع كروم، وكانت تلك هي قصور المتعة التي كان أعضاء مجلس الشيوخ والأباطرة يأتون إليها للاستمتاع بالصيف والهروب من حر روما.
والأدلة على وجود دراسة محددة للطب، وليس مجرد نمط عام للعلاج والصحة، أمر أصعب في تحديده. اقترح الباحثون، الذين كانوا يفتشون عن مكان بالقرب من ساليرنو يمكن أن يكون قد أتى منه الاهتمام بالطب، مدينة فيليا، وهي مدينة يونانية، على بعد ثمانين كيلومترا إلى الجنوب، كانت قد اشتهرت كمركز للمعرفة تحت الحكم الروماني، في القرن الأول الميلادي، لا سيما فيما يتعلق بدراسة الفلسفة والطب. عثر علماء الآثار على تماثيل لأسكليبيوس وهيجيا، بالإضافة إلى نقوش وعملات وأدوات جراحية؛ تدعم جميعها الزعم القائل إن فيليا كانت مركزا للبراعة الطبية. تكمن المشكلة في الانتقال من فيليا في القرن الثاني الميلادي (عندما بدأت المدينة في التدهور بسبب استمرار تفشي الملاريا) إلى ساليرنو في القرنين الثامن أو التاسع. من المحتمل، بالطبع، أن يكون الأطباء، الذين كانوا يفرون من فيليا، قد ذهبوا إلى ساليرنو، آخذين معهم كتبهم، وبدءوا تقليدا لدراسة الطب نجا من الفوضى التي شهدتها القرون الفاصلة؛ مما أدى إلى استمرارية الطب في عام 700 ميلادية (عندما يظهر أول دليل على وجود ممارسة طبية في ساليرنو)، ولكن من المستحيل إثبات هذا.
أفضل طريقة لتناول مسألة بداية تاريخ المدرسة الطبية في ساليرنو هي دراسة النصوص التي كان الطلاب يتعلمون منها وتتبع أصولها. تضمنت هذه النصوص نسخة غير كاملة من كتاب «عن المواد الطبية» لديسقوريدوس وكتاب «الفصول» لأبقراط وكتاب «رسالة إلى جلاوكون» لجالينوس، وكلها بتراجم لاتينية. كان الكتابان الأخيران جزءا من المنهج الدراسي الإسكندري، الذي كان قد وضع لتعليم الأطباء الشبان في القرنين الثاني والثالث، والذي كان قد امتد، بحلول عام 500، إلى القسطنطينية وأثينا أيضا. بحلول عام 531، كانت تلك الكتب قد شقت طريقها، إلى جانب العديد من كتابات أرسطو إلى سوريا، حيث ترجمت إلى السريانية ودرسها الباحثون المحليون هناك.
2
في ثلاثينيات القرن السابع، سافر طبيب يدعى بولس الأجانيطي إلى الإسكندرية من القسطنطينية، وربما كان ذلك بهدف جمع معارف يضعها في موسوعة طبية كان يعكف على كتابتها. وقد أصبحت هذه الموسوعة واحدة من أدق الملخصات الطبية وأوسعها انتشارا، واستخدمها الباحثون في أنحاء أوروبا في القرون التالية واقتبسوا منها.
لذا، من الواضح، بناء على ذلك، أن هذا النوع من المعرفة كان يتداول، ولو على نطاق ضيق، في مناطق حول البحر المتوسط. ولاكتشاف الكيفية التي وصلت بها إلى ساليرنو، نحتاج إلى تتبع الأثر الذي يبدأ في أقصى جنوب إيطاليا، في سكيلاتشي، في دير فيفاريوم، الذي تركنا فيه كاسيودوروس يجمع بقايا النظام التعليمي الكلاسيكي القديم. كانت المخطوطات التي تمكن من إنقاذها وإضافتها إلى مكتبته، هي، مع استثناءات قليلة، النصوص الكلاسيكية الوحيدة، التي تتناول موضوعات علمانية، المتاحة في أوروبا الغربية حتى القرن الحادي عشر. جعل كاسيودوروس الدراسة الفكرية وعمل النسخ جزءا لا يتجزأ من نظام رهبانيته اليومي، واضعا قاعة النسخ وإنتاج الكتب في القلب من حياة الرهبنة. كان لاعبا مؤثرا في إدخال الأفكار الكلاسيكية وأساليب التعليم في السياق الديني، وهو ما أدى بدوره إلى جعل الكنيسة الاختيار الحقيقي الوحيد لأي شخص لديه اهتمامات وطموحات فكرية. وكان من نتائج هذا أن «لم يعد الشرف والمجد محصورين في الفهم العلمي الموضوعي للظواهر الطبيعية، وإنما في تعزيز أهداف الكنيسة الجامعة.»
1
تعرض كثير من أوجه البحث العلمي والفلسفي للتجاهل أو حتى للتدمير لأنها لم تتفق مع العقيدة المسيحية. وفي الفترة بين عامي 500 و1100، كان الطب هو المعرفة «الدنيوية» الوحيدة التي كانت تدرس باستمرار. ربما يكون السبب في هذا واضحا؛ فائدته العاجلة والعملية في مقاومة الضعف الإنساني. وحتى عودة قسطنطين إلى ساليرنو، كانت العلوم المأخوذة عن كاسيودوروس هي ما يحدد أغلب جوانب دراسة الطب في أوروبا الغربية وييسرها.
كان القديس بندكت هو أول من وضع نظام رعاية المرضى باعتباره أحد المبادئ الأساسية لحياة الرهبنة. تابع كاسيودوروس هذا الأمر وتوسع فيه بإدخال نصوص طبية في بيانه الخاص بالتعليم، المسمى «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني». هذا الكتاب المؤثر، الذي كان مستخدما على نطاق واسع في سائر أنحاء أوروبا لقرون، هو دليل دراسة موسوعي، وهو بالأساس عبارة عن قائمة بالنصوص التي توقع من رهبانه أن يكونوا على اطلاع عليها ومناقشات لفائدتها. ركز الجزء الأول، المسمى «روحانية»، على النصوص الدينية، ولكن كان به قسم في نهايته يتناول الطب. بحث الجزء الثاني من العمل، والذي يحمل اسم «علمانية»، فيما سوف يصبح بعد ذلك «الفنون الثلاثة» و«العلوم الأربعة» بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك. اشتملت المؤلفات الطبية التي نصح بها على كتاب «عن المواد الطبية»، لديسقوريدوس وتراجم لاتينية، أصدرت في منسخه، لمؤلفات متنوعة لجالينوس وأبقراط. نعلم أن هذه الكتب كانت على أرفف دير فيفاريوم في القرن السادس؛ لأن كاسيودوروس يقول صراحة: «تركت لكم هذه الكتب، المحفوظة في غور مكتبتنا.»
2
وهكذا ساعد كاسيودوروس على إدخال دراسة وممارسة الطب إلى عالم الكنيسة، بالإضافة إلى التقاليد القائمة الخاصة بالشفاء بالإيمان وارتياد المزارات المقدسة. الواقع أن الحجاج الذين يسافرون إلى المزارات المقدسة هم الذين سوف يحدثون ابتكارا آخر في الممارسة الطبية في أوائل العصور الوسطى؛ وهو إنشاء نزل صغيرة لرعاية المرضى، والمسافرين وغيرهم من ذوي الحاجة. كانت هذه النزل الصغيرة توفر بالأساس الطعام والمأوى، ولكنها بدأت تدريجيا كذلك في تقديم رعاية طبية أكثر تخصصا، محققة المثل العليا للمحبة المسيحية. أخيرا، وبخاصة في أعقاب الحملات الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، تحولت النزل الصغيرة إلى مستشفيات.
في القرن التالي للقرن الذي كتب فيه كتاب «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني»، تنقل الكتاب عبر سائر أنحاء منطقة البحر المتوسط وفي أرجاء أوروبا الغربية، وكان مصدرا رئيسيا لكتاب الموسوعات في أوائل العصور الوسطى. وباعتباره فهرسا لمكتبات الأديرة عبر القارة، كان هذا الكتاب واحدا من أهم الكتب في نقل المعرفة من العالم القديم إلى عالم العصور الوسطى. بالإضافة إلى ذلك، أرسلت نسخ من النصوص التي أدرجها الكتاب، وفي ذلك مؤلفات طبية عثر عليها في مكتبة دير فيفاريوم، إلى أديرة أخرى، قاصية ودانية. لا يمكننا تتبع رحلات الانتقال الدقيقة لهذه المخطوطات، ولكننا نعرف أن النصوص الطبية المتداولة في جنوب إيطاليا في القرون التالية كانت عادة هي النصوص نفسها التي كانت موجودة في دير فيفاريوم، وأنه من المؤكد أن بعضها انتهى به المآل في المكتبة الكائنة في مونتيكاسينو. ومن هنا، كانت الرحلة قصيرة نسبيا إلى ساليرنو في الجنوب.
كانت مؤسسة القديس بندكت العظيمة قد واجهت وقتا عصيبا منذ بداياتها في عام 529. فموقعها الاستراتيجي على قمة أقصى موضع جنوبي من نتوء صخري في جبال الأبينيني، منتصبة على ارتفاع 500 متر فوق طريق فيا لاتينا، الطريق الرئيسي من نابولي إلى روما، جعلها هدفا واضحا لأي جيوش تمر عبر هذا الطريق. لاذ الرهبان بالفرار إلى روما عندما نهب اللومبارديون الدير في عام 581، ولم يعودوا حتى عام 718. وما إن أعيد بناء الدير والكنيسة حتى أحرقا بالكامل عندما شن العرب هجماتهم في عام 884. هذه المرة، توجه الرهبان إلى مدينة كابوا القريبة، واستقروا هناك لنصف قرن. وعندما عادوا أخيرا إلى مونتيكاسينو، في عام 949، وجدوا المنطقة «مهملة وخربة»، ولكن، إيمانا منهم بقدسية الموقع، الذي اختاره القديس بندكت، إن لم يكن الرب هو الذي اختاره، ثابروا في سبيل ترميم المباني وتشجيع الناس على العودة والعيش في إقليم تيرا سانكتي بندكتي المحيط بالموقع. بل تمكنوا حتى من الحفاظ على بعض مجموعات كتب الدير خلال هذه الفترة المضطربة، وهو إنجاز مثير للإعجاب للغاية، نظرا للعنف، والدمار وسنوات المنفى التي تحملها الرهبان. بقيت مجموعتان من هذه المجموعات - وهما مونتيكاسينو 69 وإم إس مونتيكاسينو 97، وهما مجموعتان صنعهما رئيس الدير برثاريوس (نحو 856-883) واستندتا إلى توصيات كاسيودوروس - في المكتبة إلى يومنا هذا.
كانت النصوص الطبية التي بقيت جزءا من المنهج التعليمي الإسكندري القديم، الذي أسس في أواخر العصور القديمة، والذي، بحلول عام 550، كان قد امتد إلى إيطاليا واليونان والإمبراطورية البيزنطية. تألف هذا المنهج من كتب أرسطو الأربعة الأولى عن المنطق، متبوعة بأربع أطروحات أبقراطية. كذلك استخدم القسم الأخير «الكتب الستة عشر» لجالينوس، مصنفة إلى سبعة مستويات، يركز كل مستوى منها على جانب مختلف من الممارسة الطبية؛ على سبيل المثال، التشريح، والمرض، والتشخيص، وهكذا دواليك. كان من شأن الطلاب أن يحضروا محاضرات (عادة ما كانت تكتب بعد ذلك في صورة تعليقات) عن كل نص من النصوص على الترتيب وهم يمضون قدما في المنهج التعليمي. كانت التعليقات على النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى، «عن المذاهب»، و«فنون الطب»، و«عن النبض»، و«إلى جلاوكون»، وعرفت مجتمعة باسم «للمبتدئين». وظلت هذه التعليقات، التي شرحت المبادئ الأساسية للطب الجالينوسي ووضحتها، سائدة لقرون. ودرست هذه الكتب ونسخت على يد عدد محدود من الناس في بضعة أماكن، بما يكفي لضمان بقائها عبر أواخر العصور القديمة وبداية العصور الوسطى. وكان من هؤلاء، رجل يدعى أجنيلوس، عاش في مدينة رافينا نحو عام 650. وصف المؤرخون أجنيلوس بأنه «طبيب محلي» و«أستاذ في الطب» كذلك،
3
وألقى محاضرات عن النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى وتعليقاتها. وقد دونها أحد طلابه، وهو شاب يدعى سيمبليسيوس، وأعطاها عنوانا هو «بصوت أجنيلوس»، وبقيت المحاضرات في مخطوطة من القرن التاسع اكتشفت في ميلانو، بينما عثر أيضا على نسخ في مكتبات الكارولنجيين في شمال أوروبا.
4
في حين كانت مدن كثيرة في إيطاليا تشهد تدهورا في القرن السابع الميلادي، كانت رافينا تتمتع بفترة تألق وجيزة. فكانت التجارة تشهد تصاعدا في هذه المدينة المزدهرة، وتعبد مواطنوها البالغ عددهم 50 ألف نسمة في كنائس جديدة رائعة ذات أشكال فسيفسائية باهرة. وكان يوجد أيضا نشاط علمي كبير. في الواقع، وصفت رافينا بأنها «بؤرة التعليم الطبي الأكثر تقدما في أواخر العصور القديمة».
5
وبرغم صحة هذه العبارة، فإنها تعطي انطباعا متفائلا تفاؤلا مضللا عن حال ذلك التعليم. ففي هذه المرحلة، كانت مجموعة النصوص الطبية عبارة عن صورة باهتة، من ناحية الجودة وكذلك الكم، للثروة الهائلة من النظريات والمحاورات التي سادت في العالم القديم. كان الصخب المذهل من الآراء والإنجازات الذي اتسم به البحث الطبي الهلينستي قد تبدل متراجعا إلى هيئة مختزلة جامدة، أقحمت بلا هوادة في إطار المعتقد المسيحي. فتحورت كتابات جالينوس متخذة شكل مذهب «الجالينوسية»؛ مما قضى على كل مدرسة طبية بديلة وأعطى أفضلية لتأويل النشرات الجالينوسية على أي شيء آخر. كان لهذا التركيز على الجانب النظري أثر مؤسف تمثل في حجب الجوانب الأكثر إبداعا وفائدة لإنجازات الطبيب العظيم؛ كوسائله، وملاحظته، وأسلوبه التجريبي، وبحثه العملي (مثل التشريح، على سبيل المثال) التي جعلته يقطع شوطا كبيرا جدا على درب التقدم العلمي. وكانت النتيجة أن النقاش الفكري، والبحث المفصل وأي نوع من التقدم الطبي في الغرب قد ظل على حاله لقرون عديدة. قدم أجنيلوس رافينا وزملاؤه إسهامات مهمة في سبيل الحفاظ على المعرفة الطبية، ولكن ينبغي النظر إلى إنجازاتهم في سياقها.
ربما ازدهرت رافينا في أوائل العصور الوسطى، ولكنها كانت استثناء. فقد كان الواقع الأشمل يتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار. فمثل جانب كبير من جنوب إيطاليا، كانت مدينة ساليرنو بيدقا في الحروب بين القوط الشرقيين والبيزنطيين في القرنين الخامس والسادس، وعندما جاء اللومبارديون في القرن السابع، عانت المدينة من الطاعون والمجاعة. في عام 774، غزا شارلمان مملكة اللومبارديين وخلع ملكهم. من هذه اللحظة، بدأت حظوظ مدينة ساليرنو في التحسن. فبوصفها المدينة الثانية في دوقية بينيفنتو، حصنت المدينة في أواخر القرن الثامن وأصبحت عاصمة النصف الغربي من الدوقية. امتدت أسوار المدينة لتحيط بالقصر الجديد ومنطقة سكنية ضخمة بها منازل وحقول وبساتين، بينما وفرت قلعة دفاعية خلف المدينة، على جبل مونت ستيلا مركز مراقبة حيويا وملجأ في أوقات الهجوم. شجع ملاك الأراضي المستأجرين لديهم على زراعة محاصيل طويلة الأمد، مثل أشجار الكروم والبندق والكستناء؛ التي وفرت النبيذ والأخشاب الصلبة الثمينة للتجارة واللحاء للدباغة ودقيق الكستناء لتحويله إلى خبز أو عصيدة من الدقيق. من الناحيتين الثقافية واللغوية، استمرت مدينة ساليرنو في امتلاك صلات مع الإمبراطورية البيزنطية الناطقة باليونانية، ليس فقط عبر التجارة، وإنما أيضا عبر الأديرة الأرثوذكسية التي كانت مكتباتها مقرا للكتب المرسلة من القسطنطينية، ومصدرا محتملا لبعض النصوص الطبية التي شقت طريقها إلى المدرسة الطبية. إضافة إلى هذا، تشارك العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية وجنوب إيطاليا الأفكار والوسائل الطبية مع جيرانهم المسيحيين.
شكل 6-1: مشهد لمدينة ساليرنو يعود للقرن التاسع عشر.
نتيجة لذلك، نشأ وتطور تقليد من البحث العلمي الطبي مواكبا الثراء والنجاح بوجه عام لمدينة كانت، بحلول عام 900، المدينة الأهم والأكثر ازدهارا في جنوب إيطاليا قاطبة. كانت الصلات الوثيقة مع مدينة أمالفي، أول قوة بحرية أوروبية عظيمة منذ العصور القديمة، قد جلبت الثراء لهذه المنطقة من الساحل الإيطالي. سافر التجار الأمالفيون في طول منطقة البحر المتوسط وعرضها، واشتروا وباعوا البضائع؛ إذ إن صلاتهم المميزة مع بيزنطة والبلدان العربية، وبخاصة مصر، جعلتهم مستوردين رئيسيين للسلع الكمالية من الشرق، وموردين للخشب والكتان والمنتجات الزراعية إلى شمال أفريقيا. كان ميناء أمالفي نفسه عبارة عن ميناء صغير تفصله عن بقية البلاد جبال عالية شديدة الانحدار كثيفة الغابات؛ لذا لم يكن يستورد مباشرة إلا أثمن البضائع، مثل المنسوجات النادرة والجواهر والذهب. وبحسب الكاتب والرحالة بنيامين التطيلي، الذي زار المنطقة في القرن الثاني عشر، كان الأمالفيون «تجارا انخرطوا في التجارة، ولا يزرعون ولا يحصدون؛ لأنهم يسكنون فوق تلال عالية وصخور شاهقة، وإنما يشترون كل شيء مقابل المال».
6
مثل أولاد عمومتهم الفينيسيين في الشمال، دفع موطن الأمالفيين ذو الطبيعة الجبلية الوعرة سكانه إلى أن يكونوا واسعي الخيال، وإلى أن يتطلعوا إلى الخارج نحو البحر لتحقيق الثراء.
3
نتيجة لذلك، أسس هؤلاء القوم المغامرون جاليات في كل ميناء رئيسي من روما إلى القسطنطينية، وفي ذلك دير على جبل آثوس ومستوطنات داخل مدينة بيت المقدس المقدسة، قبل عقود من مجيء أول الصليبيين في عام 1095. كان القرب الشديد لساليرنو من أمالفي، ومرفؤها الطبيعي الواسع وطرق الربط البري مع بقية إيطاليا بمثابة ضمانة لها بأنها أهم مركز للتجارة الأمالفية؛ فازدهرت كلتا المدينتين نتيجة للأرباح. وكما أورد الإدريسي، العالم المسلم الذي عاش في القرن الثاني عشر: كانت ساليرنو «مدينة رائعة، ذات أسواق عامرة وبها كل أصناف البضائع، وخاصة القمح وغير ذلك من الحبوب».
7
من كل أنواع البضائع التي يجري المتاجرة فيها ونقلها، كانت التوابل من أكثرها ربحا، وكانت من أكثرها أهمية فيما يتعلق بهذا السياق. كانت مجموعة كبيرة من الجذور وثمار التوت والمستخلصات النباتية؛ كالفلفل، والزنجبيل، والقرنفل، والزعفران، والحبهان تستورد من بلاد بعيدة. بالطبع، كانت هذه التوابل تستخدم في الطبخ، ولكنها كانت تستخدم أيضا في إعداد العلاجات الدوائية. في ذلك الوقت، كان الطب الساليرني يعتمد في المقام الأول على العلاج العملي للمرضى، وليس على الخبرة النظرية. وكانت الصيدلة مجالا مهما من مجالات الطب الساليرني، لا سيما أنه كان بمقدور الممارسين صنع العقاقير ودراستها باستخدام النباتات المحلية وكذلك الأجنبية التي كان يوفرها التجار الأمالفيون؛ مما كان يزيد من ذخيرتهم من العلاجات. استخدم الممارسون وصفات من كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية»، الذي كانت تتداول منه نسخ في بينيفنتو بأشكال متنوعة منذ العصور القديمة، ويكمله وصفات محلية أخرى أضيفت عبر السنين. استخدم هذه المجموعة من العلاجات كل أنواع الممارسين الطبيين، ومما لا شك فيه أن الأطباء في ساليرنو استخدموها عندما كانوا يعالجون المرضى الكثيرين الذين كانوا يصلون إلى هناك بحثا عن العلاج والمساعدة.
يبدو أن «المدرسة» الطبية في ساليرنو كانت مستقرة تماما بحلول القرن العاشر؛ إذ بلغت سمعتها الدولية مبلغا جعل أسقف فردان يسافر إلى هناك للعلاج في ثمانينيات القرن العاشر؛ لا بد أنه كانت لديه ثقة كبيرة في العلاجات التي كانت تقدم جعلته يخاطر بالقيام بهذه الرحلة الطويلة والمحفوفة بالمخاطر من أقصى شمال فرنسا. لعله سمع عن الينابيع الحارة أو عن فوائد الاستحمام في خليج ساليرنو، وهما أمران كانا جزءا من النظام العلاجي المقدم. يبدو أنه كان يوجد العديد من المستشفيات في المدينة، وكان كثير منها مستوصفات ملحقة بالكنائس، وفي بداية الأمر، كان كثير من الأطباء من رجال الدين. وبعد أن أصبح الطب أكثر تخصصا وأكاديمية في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، كان من المرجح على نحو متزايد أن يكون ممارسوه من العلمانيين، فلم يعد الاشتغال بالطب قاصرا على رجال الكنيسة بوصفه مهنة فرعية. وبحلول أوائل القرن الحادي عشر، كان الباحثون في ساليرنو قد أنتجوا نصين طبيين رئيسيين. الأول، الذي كتبه جاريوبونتس، هو «المجموعة الطبية»، التي تصف الأمراض وعلاجاتها ، بداية من أعلى الرأس مرورا بسائر الجسد ووصولا إلى أخمص القدمين. ويعتمد النص الثاني، الذي كتبه بترونيلوس، البنية نفسها. ويستنسخ الاثنان بالأساس معلومات من أجزاء من المؤلفات الجالينوسية والأبقراطية ومن كتاب «عن المواد الطبية» والتي كانت قد بقيت في موسوعات أواخر العصور القديمة، ولكن المحتوى منسق في شكل عملي أكثر؛ مما يظهر أن الأطباء في ساليرنو استندوا إلى نظريات قائمة في العلاج العملي للمرضى.
4
في ذلك الوقت، كانت قوة الطب الساليرني تكمن في تركيزه على الأدوية الشافية العملية والعلاجات والحمية، ولكن نشأة مجموعة مؤلفات للطب النظري كانت قد باتت وشيكة.
جاءت مجموعة المؤلفات هذه إلى ساليرنو بفضل قسطنطين الأفريقي. وليس من قبيل المفاجأة أن المعلومات عن حياته قليلة، وواهية في هذا الشأن. توجد صيغ عديدة لسيرة حياته، يتناقض بعضها مع بعض تناقضا واضحا في نقاط عديدة.
5
أكثر تلك الصيغ خيالية هي التي ذكرها المؤرخ بطرس الشماس، الذي ينتمي إلى مونتيكاسينو والذي يفتقر إلى الموثوقية إلى حد شنيع، لكنها تشتمل على قائمة مؤلفة من عشرين ترجمة من تراجم قسطنطين. أكثر صيغة يعتمد عليها هي صيغة ماثيو إف، وهو طبيب ساليرني من منتصف القرن الثاني عشر، وهي مدرجة في حاشية ترجمة قسطنطين لكتاب عن الحمية الغذائية. من هذه البلبلة، يمكن التحقق مما يلي: ولد قسطنطين فيما نعرفه حاليا باسم تونس، ربما في القيروان أو بالقرب منها، وقدم إلى ساليرنو في البداية بصفته تاجرا، رجل أمضى وقته في الإبحار في الممرات البحرية في جنوب البحر المتوسط، ومر سريعا بالساحل الصخري إلى القاهرة. يمكننا تخيله يقف على سطح مركب خشبي، وعيناه تحملقان في وهج شمس شمال أفريقيا، ويجول بناظريه في الأفق بحثا عن علامات خطر؛ كالصخور، أو الشعب المرجانية، أو العواصف، أو القراصنة. كشأن رفاقه التجار، سافر قسطنطين أيضا إلى صقلية؛ وهي رحلة محفوفة بالمخاطر كانت تجبر السفن على مبارحة المياه الساحلية الآمنة، بمعالمها المطمئنة وموانئها المعتادة، والخوض مباشرة في البحر المفتوح، متجهة شرقا لأكثر من 300 كيلومتر. في يومنا هذا، هي عبارة عن رحلة مدتها نحو عشر ساعات بالعبارة، ولكن، في القرن الحادي عشر، كان من الممكن أن تستغرق ثلاثة أيام، حسب الريح والطقس ومهارات قائد السفينة. كان قسطنطين ليتوقف في صقلية في طريقه إلى ساليرنو . يمكننا تخيل البحارة على سطح السفينة يبحثون عن أول مرأى لليابسة على مرمى البصر؛ جزيرتي فافينيانا وماريتيمو، أو المسطحات الملحية على الساحل، بالقرب من مارسالا، التي تتلألأ عن بعد. بعد أن أنهى عمله في باليرمو، لا بد أن القارب قد انطلق عبر البحر التيراني، متتبعا أولا انعطاف الساحل الصقلي، ثم انعطاف ساحل جنوب إيطاليا، على جانبه الأيمن. في المرحلة الأخيرة من الرحلة، وقعت كارثة. كانت سفينة قسطنطين قد أبحرت لتوها عبر خليج بوليكاسترو وكانت تسلك سبيلا متعرجا على طول الساحل عندما هبت عاصفة. انقلبت السفينة ودارت حول محورها، والأمواج تصطدم على السطح، وأثناء الاضطراب، أتلفت بعض المخطوطات؛ مما أثر على جودة التراجم التي مضى قسطنطين في إنجازها.
حسب أكثر كتاب سيرته الذاتية موثوقية، كان قسطنطين قد أمضى ثلاث سنوات في شمال أفريقيا يجمع هذه الكتب، قبل أن يعود إلى إيطاليا. وقد مثلت هذه الكتب، مجتمعة، كامل نطاق الدراسات الطبية المتاحة في هذا الجزء من العالم الإسلامي، والمنحدرة مباشرة من التقليد الإسكندري، الذي انتقل إلى المدن الإسلامية على طول ساحل الشمال الأفريقي، على نحو ما انتقل إلى إيطاليا والقسطنطينية. من الوارد أن يكون قسطنطين قد عثر على بعض منها في المسجد الكبير بالقيروان، الذي كان مركزا فكريا مزدهرا اجتمع فيه الباحثون للدراسة والنقاش تحت الأقواس التي تتخذ شكل حدوة الحصان، والتي كانت تحملها المئات من الأعمدة القديمة المأخوذة من أطلال المعابد الرومانية واليونانية المجاورة. كان الطب أحد الشواغل الرئيسية في المدينة، التي اشتهرت بأطبائها المهرة وكانت، نتيجة لذلك، مكانا جيدا للعثور على النصوص الطبية الحديثة. عاد قسطنطين ومعه أفضل ما أمكنه العثور عليه؛ نسخ من كتاب حنين بن إسحاق «إيساغوجي»، وكتاب المجوسي «الكامل»، وكتب عن البول والحمى والحمية الغذائية للباحث اليهودي إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (توفي سنة 979)، وكتاب «الحاوي » للرازي، ودليل طبي للمسافرين للطبيب القيرواني الجزار (895-979)، وأطروحة عن الاتصال الجنسي، تسمى «الجماع». من المحتمل أن يكون هو نفسه قد ترجم كثيرا من هذه الكتب إلى اللاتينية. وجلب أيضا كتابا عن السوداوية ، وهو مرض نفسي أشار قسطنطين بحزن إلى أنه كان «مستشريا جدا في هذه المناطق».
8
أصبحت هذه النصوص أساس المنهج الدراسي الطبي في أنحاء أوروبا كافة. وستظل مؤثرة لقرون، مع إصدار نسخ مطبوعة في ليون سنة 1515، وبازل سنة 1536. لم يترك قسطنطين لنا أي فكرة عن السبب وراء قيامه بهذا الأمر الاستثنائي، وما الذي دفعه إلى تكريس حياته لجلب المعرفة الطبية إلى قارة كان بالكاد يعرفها؛ ولا يسعنا إلا التخمين بشأن دوافعه.
بعدما استقر قسطنطين في ساليرنو، كان يجب أن يتعرف على كبير أساقفة المدينة، ألفانو، الذي شاركه ولعه بالطب. وكشأن كثير من الباحثين الذين التقينا بهم في هذه الرحلة، كان ألفانو شخصية غير عادية؛ فقد كان باحثا موهوبا، لديه اهتمامات فكرية منتقاة ضمت الأدب الكلاسيكي والعمارة وعلم اللاهوت والعلوم. كانت عائلته ثرية وذات نفوذ؛ مما ضمن له أن ينتفع بالحصول على أفضل تعليم كان يقدم. كان ألفانو شاعرا بارعا، أشرف على بناء كاتدرائية جديدة، وكان أيضا طبيبا موهوبا وفي مقدمة مؤيدي المدرسة الطبية. بعدما أتقن اللغة اليونانية أثناء زيارته للقسطنطينية وهو شاب، قدم ترجمة لنص يسمى «حول طبيعة الإنسان»، وهو نص ربما يكون قد حصل عليه في أسفاره في الشرق، والتي شملت الحج إلى بيت المقدس. كان هذا النص عبارة عن عمل فلسفي واسع النطاق، كتبه في القرن الرابع نيميسيوس، أسقف إيميسا (حمص الحالية)، الذي كان متأثرا بشدة بكتابات جالينوس وأفلاطون وأرسطو. في إطار تقديمه لترجمته، بدأ ألفانو عملية استحداث حصيلة مفردات تقنية لاتينية جديدة ليعبر بها عن الأفكار العلمية والفلسفية المعقدة في أطروحة نيميسيوس. في الفترة الزمنية نفسها تقريبا، كان قسطنطين يترجم كتاب «إيساغوجي»، وربما يكون الرجلان قد تعاونا معا؛ فمن المؤكد أنه كان لديهم كثير من الأمور التي يمكنهم أن يتحدثوا معا بشأنها. أمد ألفانو، الذي كان يتوفر له ثروة ونفوذ عائلته ونفوذ الكنيسة أيضا، قسطنطين بالدعم المالي، فدفع له مقابل ترجمته لمجموعة المجوسي الطبية الضخمة، المسماة «الكليات». بدوره، وشعورا بالقلق إزاء المشكلات الصحية التي كان يعاني منها صديقه ، قدم قسطنطين مجموعة من النصائح حول أمراض المعدة. وبدأ الرجلان معا في إحداث ثورة في دراسة الطب في ساليرنو وخارجها، فاستحدثا مصطلحات لاتينية جديدة لجلب الثروة المعرفية اليونانية العربية إلى أوروبا الغربية.
كان لألفانو كثير من الأصدقاء ذوي النفوذ، ومنهم ديسيديريوس، رئيس دير مونتيكاسينو. التقى الاثنان عندما زار ديسيديريوس مدينة ساليرنو في خمسينيات القرن الحادي عشر لتلقي العلاج الطبي؛ فجمعتهما علاقة ارتكزت على اهتماماتهما الفكرية المشتركة وصارا صديقين مقربين. أقنع ديسيديريوس ألفانو بالعودة معه إلى مونتيكاسينو، من أجل الدراسة هناك لبعض الوقت. أغلب الظن أن ألفانو في ذلك الوقت هو الذي اقترح على قسطنطين أنه ينبغي أن ينتقل إلى هناك أيضا. لم يكن من الممكن أن يتخير وقتا أفضل من ذلك؛ فمدينة مونتيكاسينو كانت تنعم بعصر ذهبي، بوصفها المؤسسة الدينية الرفيعة المقام الأكثر تأثيرا في أوروبا بأسرها. لا بد أن فرصة العمل في المنسخ الحافل بالعمل، مقر المخطوط الكاسيني (نسبة إلى مونتيكاسينو) المتميز، محاطا بباحثين آخرين وبكل التجهيزات العملية، مثل الرق والحبر والأقلام المتاحة مجانا، ناهيك عن جيش من النساخ لمساعدته، كانت فرصة لا تقاوم. الأهم من كل ذلك، أنه كان سيصبح بمقدوره أن يدرس المخطوطات الطبية الموجودة بالمكتبة ويستخدمها إطارا عند تحضيره لتراجمه من أجل القراء اللاتينيين. من المحتمل أيضا أن قسطنطين كانت تدفعه أسباب دينية تقف وراء رغبته في أن يصبح جزءا من طائفة الرهبان. لا نعرف إذا ما كان قد ترك الديانة الإسلامية في مرحلة ما أثناء الفترة التي قضاها في إيطاليا، أو إذا ما كان، في الواقع، قد ولد مسيحيا؛ فقد كان يوجد العديد من الطوائف المسيحية في شمال أفريقيا في ذلك الوقت.
كانت الرحلة من ساليرنو إلى مونتيكاسينو تستغرق عدة أيام، ولا بد أن قسطنطين قد شرع في رحلته على طريق فيا بوبيليا ، الذي كان يمر بنابولي في طريقه إلى كابوا، ومن هناك، سلك طريق فيا لاتينا شمالا. لعله رأى الدير على بعد أميال، جاثما على قمة تلته الصخرية ومطلا على المزارع والقرى المحصنة لإقليم تيرا سانكتي بندكتي في وادي ليري بالأسفل. بعد صعود مضن للتل، لعله دخل بوابات مجمع الدير الضخم ومر بموقع كنيسة البازيليك الجديدة التي كانت تحت الإنشاء، والحرفيون البيزنطيون يزينونها بأشكال الفسيفساء والمنسوجات والحلي. ومن المحتمل جدا أن الأبواب البرونزية الهائلة، التي سبكت خصيصا في القسطنطينية بلوحات مطعمة بالفضة، كانت قد ركبت بالفعل.
في وقت ما بعد وصوله، اقتيد قسطنطين للقاء ديسيديريوس الذي خطط كل هذه الروعة. فقدم قسطنطين إلى رئيس الدير خطابات توصية من ألفانو، ونسخة من ترجمته الجديدة لكتاب «إيساغوجي». أثناء وجود قسطنطين في مونتيكاسينو، أكمل أكبر مشروعاته، وهو كتاب «الكليات»، وأهداه لديسيديريوس. وبوصفه أول نص طبي شامل باللغة اللاتينية، كان الكتاب في غاية الأهمية، ولكنه أيضا كان مثيرا للجدل. فمع أن قدرا كبيرا من نص قسطنطين استند إلى كتاب «كامل الصناعة الطبية»، لعلي بن العباس المجوسي (توفي نحو عام 982)، فإنه لا يشكل ترجمة أمينة على الإطلاق؛ فهو مقتطع في بعض المواضع ومستفيض بالاستعانة بمصادر بديلة في مواضع أخرى. لا يأتي قسطنطين على ذكر المجوسي، ولا حتى مؤلفي المصادر الأخرى التي أدرجها، ويبدو كأنه يقدمه على أنه من ابتكاره.
6
وحذف أيضا، أثناء تنقيحه للكتاب، كل إشارات المجوسي إلى علماء عرب سابقين، وعوضا عن ذلك وضع مقدمة للترجمة أورد فيها قائمة بالكتب الستة عشر التي يتضمنها المنهج الدراسي الإسكندري؛ طامسا بالفعل الإسهام العربي ومشددا على أهمية جالينوس. ولا عجب في أن هذا أدى إلى اتهامات المؤرخين المعاصرين له بالسرقة الفكرية، ولكن الأمر يبدو كأن قسطنطين كان يحاول متعمدا أن يخفي الأصول العربية للنص حتى يعظم من فرص قبوله في أوروبا، ولم يكن يحاول أن يدعي ملكيته لنفسه. فالأحداث السياسية الأخيرة، وبخاصة في جنوب إيطاليا حيث تسببت هجمات «الساراسين» في قدر كبير من الوفيات والدمار، كانت تعني أن الموقف العام تجاه المسلمين لم يكن ينطوي على قدر كبير من القبول لهم. من جهة أخرى، أتت المعرفة الطبية في إيطاليا في ذلك الوقت من التقليد الهلينستي؛ لذا من المحتمل أيضا أن قسطنطين كان يسعى لضمان توافق عمله مع الأفكار السائدة. غير أنه من الغريب أنه قد اختار بوجه عام أن يترجم نسخا عربية من نصوص قديمة، بدلا من الأصول اليونانية، فلا بد أنه اعتقد أنها تتفوق عليها، رغم أنه بعد ذلك أخفى مؤلفيها وشدد على انتمائها إلى اليونان.
7
هذا التشابك المحير في الأولويات الثقافية يسلط الضوء على مدى تعقيد العلاقة بين أوروبا والإسلام في ذلك الوقت.
يذكر قسطنطين اسم اثنين فقط من الكتاب الذين ترجم لهم وهما الطبيب اليهودي أبو يعقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، الذي بدوره أخذ قدرا كبيرا من معلوماته من جالينوس، وحنين بن إسحاق، الذي حول قسطنطين اسمه إلى اللاتينية حيث أصبح إيوهانيتيوس. كذلك حول إلى اليونانية كثيرا من عناوين الأعمال التي ترجمها وكيف محتوياتها للجمهور اللاتيني. وينطبق هذا بصورة خاصة على كتاب «الكليات» (يعني باليونانية «كل الفنون»)، الذي استند إلى الهيكل الأساسي لكتاب المجوسي «كامل الصناعة الطبية»، ولكنه يغفل أقساما كبيرة من الأصل حاذفا إياها لصالح مادة علمية مأخوذة من أطروحات أخرى ويدخل نقاشا أدبيا في الطب، فيجعله عملا ذا صلة بالأصل ولكنه مختلف اختلافا كبيرا. كانت هذه جزئيا ضرورة؛ إذ تضرر المخطوط أثناء العاصفة في الرحلة من أفريقيا إلى إيطاليا؛ لذا كان غير كامل وينقصه قليل من الأقسام الأخيرة، ولكن كان من أسباب ذلك أيضا أن قسطنطين كان منشغلا بوضع منهج دراسي عملي لتعليم شباب الأطباء، وليس بتقديم تراجم أمينة للنصوص الأصلية. ومن قبيل الصدفة أن كتاب «الكليات» مليء أيضا بالأخطاء والمعاني المختلطة، ولكنه كان يستخدم على نطاق واسع دليلا في أساسيات الطب. ومن المذهل أن نسخة مخطوطة لكتاب «الكليات»، أنتجت في منسخ مونتيكاسينو وأشرف عليها قسطنطين نفسه في أواخر القرن الحادي عشر، ظلت باقية، وهي موجودة الآن في المكتبة الملكية في لاهاي. قرأ كثير من الباحثين الأوروبيين كتاب «الكليات» واقتبسوا منه في القرون اللاحقة، وبخاصة في أعمال الفلسفة الطبيعية. فقد حصل دانيال مورلي على نسخة، ربما أثناء وجوده في باريس، وكذلك، كما سنرى، اقتبس أديلار الباثي منه باستفاضة. بالإضافة إلى انتشاره في أرجاء أوروبا، أصبح كتاب «الكليات» جزءا أساسيا من المنهج الدراسي الساليرني وكان له تأثير ضخم، بخاصة على دراسة التشريح؛ إذ أدخل قسطنطين كتابين في هذا الموضوع لم يكونا جزءا من العمل الأصلي للمجوسي، ولكنه مأخوذ من النصوص الجالينوسية.
كانت تلك هي النصوص الكلاسيكية الأولى عن التشريح التي توافرت في أوروبا. وكانت نصوص التشريح المتاحة للطلاب في ساليرنو محدودة للغاية؛ إذ كانت الكنيسة تستاء من دراسة التشريح، وكان هذا الجانب من الطب يستبعد من المنهج الدراسي. مع ذلك، كانت هذه بداية التغيير، ومع ظهور تراجم قسطنطين، أضحى المعلمون يشرحون التشريح لطلابهم عن طريق تشريح الخنازير، وهو أمر سرعان ما أصبح حدثا سنويا.
8
كتب طبيب يدعى المعلم كوفو أقدم سجل لهذا النوع من التشريح، وكان «طريق الشفاء» أول نص من مجموعة مؤلفة من أربعة نصوص تتناول هذا الموضوع، وأكثرها بدائية، وأصبحت تعرف مجتمعة باسم «تشريح الخنزير». كان النص الثاني أكثر تفصيلا واعتمد بشدة على التشريح الجالينوسي كما ترجم في كتاب قسطنطين «الكليات». بقيت نسخ عديدة من هذه المخطوطات وظل الطلاب يستخدمونها مقدمة للتشريح، حتى بعد أن أحدث عمل فيزاليوس على الجثث البشرية تغييرا في الموضوع في القرن السادس عشر. تبين هذه الإيضاحات التشريحية أن الأطباء الساليرنيين كانوا ينظرون في الطبيعة بأنفسهم، ولم يكونوا يعتمدون دون تبصر على المعلومات المحدودة التي وصلت إليهم من بيزنطة والإسكندرية، وكانوا يرجعون إلى الطرق القديمة، وبخاصة الجالينوسية، في الدراسة. كان نص «تشريح الخنزير» هو بالأساس عبارة عن تسجيلات خطية لمحاضرات ألقاها معلمون ساليرنيون وهم يشقون جثث الخنازير أمام فصل دراسي مليء بالطلاب. من الواضح، إذن، أن الأطباء، بحلول منتصف القرن الثاني عشر، كانوا يدرسون التشريح بوصفه جزءا من تدريبهم. غير أن مما يسترعي الانتباه حقا أنه، في التاريخ الطويل للتشريح، لم يكن ثمة تشريح رسمي لإنسان بين العامين 150ق.م و1315 ميلادية، عندما أجري التشريح لأول جثة على الملأ في جامعة بولونيا. غير أنه في زمن قسطنطين، كانت عمليات تشريح الجثث لاكتشاف سبب الوفاة قد أصبحت شبه شائعة، على الأقل في إيطاليا. وفي عام 1231، أعلن الإمبراطور الروماني المقدس، فريدريك الثاني، أنه يجب تشريح الجثث البشرية على الملأ مرة واحدة على الأقل كل خمسة أعوام. وسواء حدث ذلك بالفعل أم لم يحدث فهو مسألة أخرى. ومن المثير للاهتمام أن النفور الطبيعي لدى المجتمع من ممارسة كهذه قد قلل من حدته الحاجة إلى إعداد جثث القتلى من الصليبيين، حتى يمكن إعادة قلوبهم إلى الديار لدفنها. فمن الممكن أن يؤدي استخدام حيوانات مثل الخنازير والقردة العليا إلى إقصاء الطبيب عن التشخيص السليم فحسب، كما بين جالينوس ومختصو التشريح الساليرنيون. والسبيل الوحيد إلى اكتشاف أسرار الجسم البشري والأمراض التي تستنزفه هو فتحه والنظر داخله، ولكن هذا لم يصبح النهج السائد إلا في عصر النهضة.
في الوقت الذي أصبح فيه لكتاب «الكليات» أهمية دائمة، وصار متداولا بسرعة خارج ساليرنو، كان من شأن تراجم قسطنطين لكتاب «إيساغوجي» أن تصبح أكثر تأثيرا، لا سيما عندما مزجت، في القرن الثالث عشر، بترجمة جديدة لكتابي أبقراط «الفصول» و«تقدمة المعرفة»، وتعليقات جالينوس عليهما وأطروحتين بيزنطيتين، واحدة عن البول وأخرى عن النبض.
9
شكلت هذه المجموعة من النصوص، والتي عرفت باسم «أرتيسيلا»، المنهج الدراسي الطبي لأوروبا الغربية على مدى السنوات الخمسمائة التالية. استندت هذه المجموعة من النصوص إلى التقليد الطبي القائم، مضيفة إليه معلومات مفصلة تشكل وحدة كاملة تحولت إلى فرع من فروع المعرفة منظما تنظيما هيكليا منضبطا. كان كتاب «إيساغوجي»، أول نص طبي عربي يترجم إلى اللاتينية، هو حجر الزاوية لمجموعة «أرتيسيلا». كان الكتاب، الذي ترجمه قسطنطين أثناء عيشه في ساليرنو، عبارة عن نسخة معدلة من كتاب جالينوس «فن الطب»، الذي قدمه حنين بن إسحاق وعنونه باسم «مسائل في الطب»؛ فكان يشكل خط انتقال مباشر، ولكنه، مثل كتاب «الكليات »، عبارة عن مختارات متفرقة، وليس ترجمة شاملة. ومجددا، كان قسطنطين قاسيا في تعامله مع المصدر العربي. فحذف الحوار؛ إذ كان نص حنين معتمدا على أسئلة وأجوبة، واستعاض عنه بهيكل على شكل قائمة هو أنسب لإلقاء المحاضرات. كذلك أغفل في ترجمته بعض الأقسام وعدل بعضها الآخر على نحو بالغ حتى إنها لم تعد ذات معنى على الإطلاق. لعل ذلك كان يشكل أهمية لثقافة ذات تقليد متطور لدراسة الطب، ولكن من المؤكد أنه لم يشكل عائقا أمام مسار كتاب «إيساغوجي» في أوروبا.
10
فالمعلومات غير الدقيقة كانت أفضل من عدم وجود معلومات على الإطلاق، وسرعان ما انتقلت النسخ من مدينة إلى مدينة؛ فبحلول عام 1150 كان الباحثون في مدينة شارتر يكتبون بالفعل تعليقات عليها، وبحلول عام 1270، اعتمدت أساسا للمدارس الطبية في جامعتي باريس ونابولي، وغيرهما.
بينما كان قسطنطين مشغولا بمشروعه الطموح للترجمة، كان ألفانو يتعامل مع التغييرات المزلزلة على الساحة السياسية في ساليرنو؛ تغييرات من شأنها أن يكون لها عواقب وخيمة على انتقال المعرفة إلى بقية أوروبا الغربية. ليس واضحا توقيت مغادرة قسطنطين للمدينة طلبا للسلام الذي كانت تنعم به مونتيكاسينو، ولكن من المحتمل جدا أن ذلك كان نتيجة للقوة الجديدة التي أضحت مؤثرة؛ وهم النورمانديون، الذين غزوا ساليرنو واستولوا عليها في عام 1077، بعد حصار وحشي. كانت فترة حافلة لهؤلاء القوم الطموحين المفعمين بالنشاط، المنحدرين من نسل غزاة الفايكينج الذين كانوا قد استقروا في شمال فرنسا قبل ذلك ببضعة قرون. في ستينيات القرن الحادي عشر، عندما بدأ ويليام الفاتح التطلع بتعطش صوب الشمال، عبر القناة، نحو بريطانيا، كان كثيرون من رفاقه النورمانديين قد مضوا جنوبا للقتال بصفتهم مرتزقة لصالح اللومبارديين، الذين كانوا يحاولون الظفر بالاستقلال عن البيزنطيين في جنوب إيطاليا. كان الفرسان النورمان يتمتعون بمهارة قتالية وثبتت فائدتهم الكبيرة لمستخدميهم؛ إذ ساعدوهم على مقاومة البيزنطيين والانتصار في الحملة. فكافأهم اللومبارديون بأراض، وبدءوا في اتخاذ بينيفنتو وكالابريا موطنا لهم؛ فاستقروا هناك وأقاموا علاقات مصاهرة مع السكان المحليين واندمجوا في المجتمع المحلي وشكلوا معاقلهم الخاصة بهم . وفي موقف تجلى مرات كثيرة في التاريخ، تحول المنقذون إلى معتدين، وأخيرا صاروا غزاة محتلين. ولم يمض وقت طويل حتى أسند إلى الفرسان النورمان مهمة حماية البابا نفسه، الذي كافأ قائدهم روبرت جيسكارد، في عام 1059، بمنحه دوقيات أبوليا وكالابريا وصقلية. بدلت هذه المنحة تأثير النورمان؛ فمنذ ذلك الحين فصاعدا، كان واضحا تماما أنهم لم يأتوا للاستقرار فحسب، وإنما ليحكموا. وكان جيسكارد، الابن السادس بين اثني عشر ابنا لتانكريد هوتفيل، الذي كان نبيلا نورمانيا غير ذي أهمية، يلقب ب «الماكر» أو «الثعلب».
11
وقد وصفته المؤرخة البيزنطية (والأميرة) آنا كومنينا كما يلي:
إنه صاحب شخصية متعجرفة وعقل في غاية الخسة؛ كان مقاتلا جسورا، بارعا جدا في هجماته على ثروة رجال عظام ونفوذهم؛ لا رادع لمساعيه من أجل تحقيق غاياته، يدفع عن نفسه النقد بحجة لا تقبل الجدل. كان رجلا ضخم الجثة، على نحو يفوق حتى أكبر الرجال بنية؛ وكان ذا بشرة متوردة، وشعر أشقر، وكتفين عريضتين، وعينين تكادان تقذفان الشرر ... يقولون إن صيحة روبرت كانت تجعل عشرات الآلاف يفرون.
9
على ضوء هذا، ليس ثمة مفاجأة في انغماس جيسكارد في مهمة إخضاع وتوحيد جنوب إيطاليا، بالإضافة إلى غزو صقلية، إلى جانب أخيه، روجر هوتفيل. وبعد أن استولى روبرت على ساليرنو، آخر مدينة مستقلة باقية على يابسة الجنوب الإيطالي، اتخذ منها عاصمة له وشرع في بناء كاتدرائية جديدة، بمساعدة ألفانو، الذي كان قد ساند غزوه.
سيطر النورمان على جنوب إيطاليا طوال المائة سنة التالية، محدثين بذلك تحولا هائلا في توازن القوى في أوروبا، ومشكلين روابط قوية بين جنوب القارة وبلدانهم الأصلية في الشمال، التي بقوا على اتصال وثيق بها. عين جيسكارد وأخوه روجر (الذي صار حينذاك حاكما لصقلية، ولكنه لا يزال تابعا اسميا لروبرت) رفاقهم من النورمان من إنجلترا وفرنسا في مناصب في الكنائس الإيطالية والصقلية، بينما مضى رجال الدين الجنوبيون إلى الدراسة في أديرة مثل بيك في نورماندي. وانعكس ذلك على بلاط الملوك، فسافر جون سالزبري أكثر من مرة إلى جنوب إيطاليا لدراسة اللغة اليونانية والفلسفة، وذهب باحثون آخرون للدراسة في باليرمو. وفي ساليرنو، يوجد أسماء إنجليزية عديدة في قوائم المخطوطات للأطباء الذين درسوا هناك.
10
وكان أمرا طبيعيا أن انفتحت أيضا روابط التجارة؛ إذ يوجد سجلات لتاجر إنجليزي واحد في ساليرنو، وزار تاجر من برينديزي مزار القديس توماس بيكيت في كانتربري، الذي كان قد أضيف قبل ذلك بفترة قصيرة إلى تقويم القديسين في جنوب إيطاليا. وكفلت الصلات أيضا تدفق الكتب، وسرعان ما جمعت تراجم قسطنطين معا في مجموعات كي يسهل استخدامها، فانتقلت شمالا عبر شبه الجزيرة الإيطالية، فوق جبال الألب، وعبر غابات فرنسا البرية، بل حتى عبر البحر الرمادي المضطرب إلى إنجلترا. نقش النساخ، المنكفئون على الطاولات في الضوء الأصفر المهتز للهب الشموع المصنوعة من الشحم، نسخا وضعت في خزائن المكتبة واستخدمت بوصفها كتبا دراسية لتدريس الطب في الجامعات.
بعد مرور بضعة عقود على الدخول المظفر لجيسكارد إلى ساليرنو، تحسن وضع النورمان مع مغادرة آلاف الرجال شمال أوروبا صوب الأرض المقدسة في الحملة الصليبية الأولى، مع كون صقلية وجنوب إيطاليا محطتي توقف طبيعيتين في مسار الرحلة المتجهة إلى الشرق. لم يكن من قبل ثمة ترحال بهذا الحجم الكبير منذ أيام السلام الروماني. كانت الحملة الصليبية جزءا من التحول الجذري نفسه الذي كان قد شهد النفوذ المسيحي يتحرك جنوبا في المناطق الإسلامية التقليدية في إسبانيا، تحول كان له أثر عميق وحاسم على الثقافة والسياسة والمجتمع. كان العالم الأوروبي ينفتح، ويستعرض عضلاته. وأحدثت الحملة الصليبية هي الأخرى تغييرات في ساليرنو. فقد تلقى مئات من الرجال الجرحى العائدين من الأرض المقدسة العلاج هناك في طريق عودتهم إلى ديارهم؛ مما عزز سمعة المدينة من حيث كونها مركزا للتميز في الطب.
شكل 6-2: روبرت الثاني دوق نورماندي يتلقى العلاج في ساليرنو من الإصابات التي لحقت به وهو يقاتل في الحملة الصليبية الأولى.
مات قسطنطين في وقت ما في الأعوام الأخيرة من القرن الحادي عشر، في مونتيكاسينو. وبعد وفاته، واصل تلاميذه في الدير، جون أفلاسيوس وأزو، عمله في قاعة النسخ ، وساعدا على ترويج تراجمه والتراجم التي قدماها بنفسيهما، في العالم الأوسع، وكتبا أطروحات طبية خاصة بهما. أنهى أفلاسيوس ترجمة كتاب «الكليات» وأرسل نسخا منه، ومن كتاب «إيساغوجي» وترجمات أخرى إلى ساليرنو، حيث بدأ باحثون ، في أوائل القرن الثاني عشر، كتابة تعليقات وأدلة تعليمية على هذه النصوص. كانت مجموعة «أرتيسيلا» تتطور متحولة إلى مجموعة منظمة من الكتب الدراسية المخصصة للتدريس؛ وبمرور الوقت، أضيفت إلى مراكز أخرى للتعليم ونقلت إليها. ففي عام 1161، على سبيل المثال، كان لدى أسقف هيلدسهايم ستة وعشرون كتابا دراسيا في مكتبته؛ أغلبها كان تراجم لقسطنطين. في الوقت نفسه، تجدد الاهتمام بجهد أرسطو، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى جهد شخص واحد هو أرسو، وهو باحث من ساليرنو. من شأن إصرار أرسطو على الملاحظة السليمة للعالم الطبيعي، وعلى التجريب والتفكير النقدي أن يكون له تأثير عميق على كل جوانب الحياة الفكرية تقريبا، ولم يكن تدريس الطب استثناء من هذا. فمع ظهور الجامعات في كل أنحاء أوروبا، ارتقت دراسة الطب تدريجيا لتصبح فرعا نظريا أكاديميا، وجزءا من المنهج الدراسي للفنون الحرة، بالتكامل مع الفلسفة الطبيعية الأرسطية واستنادا إلى أسس نصية سليمة.
في ساليرنو، وغيرها من المدن، بدأ معلمو الطب، يحذون حذو جالينوس، في التركيز على مسببات الأمراض واستخدموا اكتشافاتهم لتحديد نوع العلاج الذي ينبغي عليهم وصفه. كانت طريقة جديدة تماما في دراسة المرض. في السابق، كان المرض يعزى إلى غضب الرب، أو أن أرواحا شريرة استحوذت على المريض؛ وهي أفكار أعاقت الملاحظة العقلانية والاستقصاء المنطقي. لم يعد الطب مجرد فن آلي، يقتصر على الممارسة؛ فحينذاك أصبح بمقدوره أن يأخذ مكانه إلى جانب العلوم الطبيعية الأخرى. مع ازدياد المؤلفات الطبية لتشمل كتبا دراسية تحليلية - للتعليم والدراسة، بدلا من الأدلة المرجعية البسيطة التي كانت موجودة في الحقبة الماضية - فأصبحت فرعا منظما متسقا من فروع العلم، يستند على مجموعة معترف بها عالميا من المراجع والأفكار؛ أفكار من شأنها أن تتغير مع ترجمة نصوص جديدة والتوصل إلى اكتشافات جديدة. بمرور الوقت، بدأ إدراج بعض من تراجم قسطنطين الأخرى في مجموعة «أرتيسيلا»، وتنامت الدراسة الطبية وازدهرت. وهذا بدوره أحدث تأثيرا في مكانة ممارسي الطب، الذين تمايزوا تمايزا متزايدا بين متعلمين وغير متعلمين. فنشأ نظام رسمي للتأهيل، يلزم الطلاب باتباع المنهج المحدد في مجموعة «أرتيسيلا». كانت دراسة الطب تستغرق سنين عديدة، وكان عدد الطلاب الذين يستكملون المنهج محدودا نسبيا. بحلول منتصف القرن الثالث عشر، كان على الطلاب أن يدرسوا المنطق لثلاثة أعوام قبل أن يسمح لهم أن يبدءوا منهجا دراسيا مدته خمسة أعوام. وبعد ذلك، كان عليهم أن يكملوا عاما من الدراسة العملية مع طبيب مؤهل. حينئذ فقط يمكنهم أن يتقدموا إلى الامتحان ويحصلوا، حال نجاحهم، على ترخيص رسمي بالممارسة. ازداد عدد الأطباء نوعا ما بالفعل، ولكن كان بإمكان قلة قليلة فقط من صفوة أهل المدن الحصول على خدماتهم؛ لذا استمر غالبية الناس في الاعتماد على العلاج بالأعشاب ونصائح الممارسين المحليين غير الدارسين.
كانت مجموعات من هذه العلاجات، المعتمدة في الأصل على كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية»، متداولة لقرون، ويضاف إليها وتعدل لتناسب احتياجات كل من كان يستخدمها. في ساليرنو في القرن الثاني عشر، كانت تستخدم نسختان رئيسيتان، عادة ما تجدهما معا في المخطوط نفسه؛ الأولى تحمل اسم «سيركا إنستانس»، وكانت على طريقة كتاب «عن المواد الطبية» وتركز على «الأعشاب الطبية»، أو علاجات، تصنع من مادة واحدة فقط، وأما النسخة الثانية فكانت تدعى «أنتيدوتاريوم نيكولاي» أو «الأقراباذين»، وهي عبارة عن مجموعة غير محددة المعالم من الوصفات لأدوية مركبة تحتوي على العديد من المكونات. يصف كتاب «سيركا إنستانس» كل نبات أو معدن أو جذر أو فطر بالتفصيل مع إدراج خصائصه حسب نظام جالينوس للدرجات والعناصر. على سبيل المثال، يصنف الحبهان بأنه يقع «في الدرجة الثانية من حيث كونه حارا وجافا»، وهو ما يعني أنه جيد لعلاج الناس الذين يعانون من البرودة والرطوبة. وقد مكن هذا النظام الأطباء من وصف الكميات الصحيحة من المادة لإعادة التوازن إلى الأخلاط الأربعة للمريض. كتب باحث ساليرني يدعى ماتيوس بلاتيريوس أنجح صيغة من كتاب «سيركا إنستانس»، ترجمت إلى كل اللغات الأوروبية الرئيسية. في بعض الأماكن، كان يشترط على الصيادلة بموجب القانون أن يكون لديهم نسخة منه في متاجرهم؛ لذا ليس من المستغرب بقاء كثير جدا من مخطوطاته .
شكل 6-3: صفحة من نسخة مخطوطة من الكتاب الشائع «سيركا إنستانس» مع رسم لنبات التربنتين.
يدرج «الأقراباذين» وصفات مفصلة لتشكيلة ضخمة من الأدوية، نصفها يأتي مباشرة من كتاب «الكليات». ها هي وصفة «إسفنج منوم»، يستخدم مخدرا ومنوما:
خذ أوقية من الأفيون من ثيفا، ثم أوقية من كل من عصير الجوسكيام [البنج الأسود] والتوت غير الناضج وتوت العليق الأسود وبذور الخس والشوكران والخشخاش واللفاح واللبلاب الشجري. ضع كل هذا في وعاء، مع إسفنجة مأخوذة للتو من البحر حتى لا تكون قد تلامست أبدا مع المياه العذبة. عرضه [أي الوعاء] للشمس أثناء أيام الكلب [أشد أيام الصيف قيظا] حتى يستهلك كل شيء. عندما تريد استخدام الإسفنجة، بللها برفق بماء ساخن وضعها على منخاري المريض، وسوف يغفو سريعا.
11
كان يمكن أن يكون لهذا الخليط الغريب جميع أنواع الآثار الجانبية، ولكن من غير المرجح أن يكون النوم واحدا منها. ومع ذلك، فهي تذكرنا بوصفة الزهراوي الأكثر نجاعة للتخدير؛ إسفنجة مغموسة في القنب والأفيون. من بين كل العلاجات المذكورة في «الأقراباذين»، فإن العلاج الذي يدعي أكبر الادعاءات هو «الترياق العظيم لجالينوس»، جرعة سحرية تشفي كل الأمراض، ويفترض أن من ابتكرها هو جالينوس نفسه ويبدو أنها فعالة لعلاج طائفة مذهلة من الحالات، تشمل السكتة الدماغية والصرع والصداع النصفي وألم المعدة والاستسقاء والربو والمغص والجذام والجدري والقشعريرة وكل السموم، ولدغات الثعابين والزواحف. قائمة المكونات طويلة جدا ومعقدة للغاية، لدرجة أنه من الصعب تصديق أن أحدا تمكن على الإطلاق من صنعها، ولكن لو كانوا فعلوا ولو كان «الترياق العظيم» يرقى إلى مستوى سمعته، لكان بمقدورهم منفردين شفاء جميع السكان المحليين.
12
تطلبت هذه الأدوية تشكيلة هائلة من النبات، ومنذ فترة طويلة كانت حدائق العلاج المتخصص سمة للمؤسسات الرهبانية، فكانت تزرع جنبا إلى جنب مع حدائق زراعة الخضر المنزلية التي كانت تنتج الطعام للرهبان. لا بد أن المعالجين المحليين العلمانيين كان لديهم أيضا حدائق الأعشاب الخاصة بهم، وكانت ساليرنو في القرن الثاني عشر مليئة بقطع الأرض الصغيرة والبساتين المخصصة لزراعة الفاكهة والخضراوات والأعشاب. كانت المنازل صغيرة نسبيا؛ إذ كانت عبارة عن هياكل خشبية يمكن بسهولة إزالتها ونقلها إلى مكان آخر، وكان معظم الناس يزرعون طعامهم ويربون الخنازير والدجاج والإوز، لو كان بوسعهم شراؤها. وكان العطارون والصيادلة يمتلكون حدائق الأعشاب المتخصصة الخاصة بهم لتزويدهم بالنباتات اللازمة لتحضير علاجاتهم، ويستكملونها بالمكونات الغريبة التي كانوا يشترونها من تجار المدينة.
كان يوجد دائما كثير من النساء الحكيمات اللواتي يعطين النصائح والعلاجات لمجتمعاتهن المحلية، ولكن في جنوب إيطاليا، كان ملحوظا أنه كانت توجد أيضا طبيبات متعلمات مدربات تلقين تعليمهن في ساليرنو ونابولي. ومما يدعو للأسى أن هذا الجانب المتنور من الطب الساليرني لم يكن شائعا في أماكن أخرى، ومع استثناءات محدودة جدا، كان على النساء أن ينتظرن حتى القرن العشرين قبل أن يكون في مقدورهن دراسة الطب وممارسته بأعداد كبيرة. كان هؤلاء النساء في العصور الوسطى ماهرات بصفة خاصة في طب النساء والتوليد وصحة المرأة؛ وقد شرحت معارفهن مجتمعة في القرن الثاني عشر في سلسلة من ثلاثة نصوص عرفت باسم «تروتيولا». أصول هذه النصوص غير واضحة، ولكن من المحتمل جدا أن امرأة من ساليرنو تدعى «تروتا» أو «تروكتا» كانت قد شاركت في صنعها ومن ثم منحتها اسمها. تغطي النصوص طائفة من الموضوعات تشمل الحمل والولادة بل حتى مستحضرات التجميل، واعتمادا على المصادر العربية التي ترجمها قسطنطين، أدمجت طب النساء في الإطار الجالينوسي للأخلاط، ومن ثم في المنهج الدراسي الأكاديمي الناشئ. اعتمادا على نصوص مترجمة حديثا، ولكنها متجذرة في سنوات من المعرفة العملية للقبالة وصحة المرأة، استخدم أطباء في كل أنحاء أوروبا نصوص «تروتيولا». كان كثيرون منهم، بالطبع، رجالا، ربما يكونون قد شعروا بالارتياح في اكتساب بعض المعرفة الدقيقة السليمة فيما يتعلق بطريقة العمل الغامضة للجسم الأنثوي.
بغض النظر عن الدخول المتبصر للنساء إلى مدرسة ساليرنو الطبية، فإنه بحلول القرن الثالث عشر كانت ساليرنو قد فقدت موقعها المسيطر في الطب الأوروبي. فقد ارتقت مدن مثل بولونيا ومونبلييه وبادوفا لتأخذ مكانها، واستندت مناهجها التعليمية على تراجم قسطنطين وكتب باحثين طبيين ساليرنيين. ظل الباحثون يأتون للدراسة في ساليرنو، وعادوا معهم بالكتب الدراسية الخاصة بمجموعة «أرتيسيلا»؛ مما ضمن أن تظل المدينة بوابة مهمة للطب في أوروبا في العصور الوسطى. غير أن مدرستها الطبية تدهورت، وطغت عليها مدرسة جارتها، نابولي، بجامعتها الصاعدة وارتقائها لتصبح عاصمة مملكة صقلية وجنوب إيطاليا.
كانت العاصمة السابقة للإقليم هي باليرمو، وهي مدينة جميلة أنيقة على الساحل الشمالي الغربي لصقلية. كانت هذه المدينة هي المعقل الرئيسي لحكام النورمان طوال القرن الثاني عشر، ومقر بلاطهم الملكي العالمي المتألق. وكما سنرى لاحقا، فتحت العلاقات الدبلوماسية لهذا البلاط مع قسطنطين سبلا جديدة للتبادل الثقافي مع عودة المبعوثين محملين بالكتب إلى صقلية، وهو ما يحاكي ما حدث في بغداد وقرطبة. ولكن ثقافة النورمان لاتينية بالأساس؛ لذا ترجمت هذه النصوص اليونانية مباشرة، وليس عن طريق اللغة العربية بوصفها وسيطا، كما كان الحال في طليطلة وساليرنو. من شأن هذا الاتجاه الجديد لنقل المعرفة أن يستمر ليلعب دورا بالغا أثناء عصر النهضة، عندما فتش علماء المذهب الإنساني باجتهاد عن النصوص القديمة بلغتها اليونانية الأصلية وعرفوا قدرها، ولكن بدايات ذلك كانت في باليرمو في القرن الثاني عشر.
هوامش (1)
شملت الإمبراطورية الكارولنجية (800-888) جانبا كبيرا من ألمانيا الحالية وفرنسا وشمال إيطاليا، ومدنها الرئيسية كانت فرانكفورت وآخن. (2)
كانت هذه النصوص من بين النصوص التي اكتشفها العرب وأخذوها إلى بغداد في القرن التاسع. (3)
كان لدى الفينيسيين والأمالفيين العديد من القواسم المشتركة، لا سيما من ناحية الامتيازات التجارية في الإمبراطورية البيزنطية التي لعبت دورا حيويا في صنع ثرائهم ونفوذهم التجاريين. (4)
من المحتمل أن هذا التركيب «من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين» نقل عن بولس الأجانيطي، مؤلف الموسوعات في القرن السابع. (5)
تتسم الكتابات الأخرى عن حياته بكونها أكثر نزوعا إلى الخيال؛ إذ تزعم أنه سافر بعيدا حتى وصل في أسفاره إلى الهند بحثا عن المعرفة، وفر من تونس هربا من القتل على يد زملائه. (6)
كان «هالي عباس»، وهو الاسم الذي أصبح المجوسي يعرف به في أوروبا الغربية، شخصية من بلاد فارس تتسم بالغموض وفي الوقت تفسه بالعبقرية، كان واحدا من الأطباء الثلاثة الأعظم (إلى جانب الرازي وابن سينا) في الإمبراطورية الإسلامية الشرقية، ويدل اسمه على أنه كان من عائلة زرادشتية. كان كتاب «كامل الصناعة الطبية» قد نسخ على نطاق واسع وترجم إلى العربية والعبرية والأوردية قبل أن يقدم قسطنطين نسخته اللاتينية. وكان أهم نص طبي في العالم العربي حتى ظهر كتاب «القانون» لابن سينا. (7)
على سبيل المثال، في كتاب «إيساغوجي»، ترجم نسخة ابن حنين من كتاب «فن الطب» لجالينوس بدلا من الكتاب الأصلي. (8)
استخدم جالينوس هو الآخر الخنازير، التي تتشابه تشريحيا مع البشر، في التشريح. (9)
في الطب القديم، استخدم الأطباء بول المرضى ونبضهم لتشخيص العلل وتحديد الموضع الذي يكمن فيه الخلل في الأخلاط. (10)
بيد أنه مع تطور تدريس الطب، أدرج أيضا كتاب «فن الطب» لجالينوس في مجموعة «أرتيسيلا»؛ حتى يتسنى قراءة النصين جنبا إلى جنب. (11)
تزوج تانكريد مرتين؛ فأنجبت له زوجته الأولى خمسة أبناء ذكور وابنة واحدة، وأنجبت له زوجته الثانية سبعة أبناء وابنة واحدة على الأقل. كان روبرت أكبر أبناء الأسرة الثانية سنا. عاش غالبية الإخوة في جنوب إيطاليا، حيث تقاتلوا فيما بينهم بلا هوادة من أجل السلطة والأرض.
الفصل السابع
باليرمو
فأول ذلك مدينة بلرم وهي المدينة السنية العظمى والمحلة البهية الكبرى والمنبر الأعظم الأعلى على بلاد الدنيا ...
وهي على ساحل البحر منها في شرقيها والجبال الشواهق العظام محدقة بها ...
ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين قصر وربض؛ فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ فالسماط الأوسط يشتمل على قصور منيعة ومنازل شامخة شريفة وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار.
والمياه بجميع جهات المدينة مخترقة وعيونها جارية متدفقة وفواكهها كثيرة ومبانيها ومتنزهاتها حسنة تعجز الواصفين وتبهر عقول العارفين وهي بالجملة فتنة للناظرين.
الإدريسي، كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»
إلى أين أنت مغادر على عجل؟ وإلى أي مكان ترغب في العودة؟
في صقلية لديك المكتبات السيراكوزية والأرجولية؛ ليس ثمة افتقار إلى الفلسفة اللاتينية.
لديك في المتناول كتاب «الميكانيكا» للفيلسوف هيرون [السكندري] ... كتاب «البصريات» لإقليدس ... كتاب «البرهان القاطع» لأرسطو عن أول مبادئ المعرفة ... «فلسفات» أناكساغوراس وأرسطو وثامسطيوس وبلوتارخ وغيرهم من الفلاسفة المشهورين هي [أيضا] في متناول يدك ... يمكنك الاستعانة بعمل جيد مكرس لدراسة الطب، ويمكنني أيضا أن أعرض عليك منشورات لاهوتية ورياضية، وأخرى عن الأحوال الجوية [نظريا].
هنريكوس أريستبوس، الخطاب الإهدائي لكتاب «خلود النفس»، 1160
في عام 1160، عكف شاب على دراسة الطب في ساليرنو. لا نعرف اسمه ولا من أين جاء، ولكننا نعرف أنه كان مهتما اهتماما خاصا بالفلك. كان، في الواقع، مهتما به لدرجة أنه عندما اكتشف أن مخطوطة لكتاب «المجسطي» لبطليموس قد جلبت إلى صقلية، أهمل دراساته وانطلق يبحث عنها. كان الكتاب قد جلب من القسطنطينية، على ما يبدو من مكتبة الإمبراطور مانويل كومنينوس نفسه، وكان من جلبه هو هنريكوس أريستبوس، الذي كان عالما، ورئيسا للشمامسة، والأهم من ذلك، أنه كان المستشار الأول للملك ويليام الأول ملك صقلية، الذي كان قد أرسله إلى القسطنطينية للتفاوض على اتفاقية سلام. كان أريستبوس متحدثا لبقا ويبدو أنه أعجب البيزنطيين؛ مما أعطاه الفرصة، مثل كثير من الدبلوماسيين العلماء من قبله، أن يحصل على بعض المخطوطات بينما كان في المدينة القديمة. أما الكيفية التي اكتشف بها الطبيب الشاب في ساليرنو هذا الخبر فهي أمر غامض، لكنها تكشف شيئا عن العلاقات الوثيقة بين صقلية وساليرنو في ذلك الوقت، وتظهر أيضا أن شهرة رائعة بطليموس العظيمة كانت قد بلغت جنوب إيطاليا. إن أوجه التشابه مع جيرارد الكريموني الذي سافر، منذ بضع سنوات، إلى إسبانيا بحثا عن الكتاب نفسه، لمذهلة. لا شك في أن العلماء الأوروبيين كانوا قد أصبحوا على دراية بكنوز العلوم الكلاسيكية والعربية، كما كانوا عاقدين العزم على أن يضعوا أيديهم عليها. كانت رحلة الباحث الساليرني إلى صقلية أقصر بكثير من رحلة جيرارد الطويلة عبر البحر المتوسط، ولكنها كانت محفوفة بالمخاطر، «أهوال أهونها رهيب»، على حد وصفه؛ فقد جعلت الرياح الهائلة والدوامات الشديدة المعبر الضيق من جنوب إيطاليا إلى صقلية بالغ الصعوبة. ما إن بلغ بر الأمان على أرض صقلية، حتى توجه إلى كاتانيا، حيث كان أريستبوس رئيسا للشمامسة. ومع ذلك، لم يكن الرجل العظيم على مكتبه في قصر فخم، كما قد يكون متوقعا، ولا كان يحتفل بالقداس الإلهي عند مذبح كاتدرائيته. واضطر الباحث الشاب إلى مواصلة السفر «ليجتاز أنهار إتنا المضطرمة» ويتسلق إلى القمة، حيث عثر أخيرا على أريستبوس، على حافة فوهة البركان، يدرس النشاط البركاني.
1
هذا الباحث المجهول ليس سوى واحد من أناس كثيرين سافروا من ساليرنو إلى صقلية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. كان المكانان متصلين اتصالا وثيقا بصلات ليس أقلها أنهما كانا تحت حكم سلالة دي هوتفيل الحاكمة. في عام 1061، وبعد أن أخضع معظم جنوب إيطاليا، انطلق روبرت جيسكارد ليغزو صقلية وبصحبته روجر، أحد إخوته الكثيرين الذين كانوا يصغرونه سنا. كانت أسرة دي هوتفيل تتمتع بخصوبة مذهلة. ونظرا لأنهم انحدروا من أسرة بها اثنا عشر ابنا وعلى الأقل ابنتان، فليس من المستغرب أن كثيرا جدا منهم غادروا نورماندي بحثا عن الثراء في مكان آخر. فحتى نبيل ينعم بالرخاء كان من شأنه أن يواجه صعوبات في سبيل تلبية احتياجات هذا العدد الكبير من الورثة، وكان أبوهم، تانكريد، أبعد ما يكون عن الثراء. وكما أوضح، بكل صراحة، أماتوس، أحد المؤرخين العظام لهذا العصر: «رحل هؤلاء الناس، تاركين القليل من أجل الفوز بالكثير، ولكنهم لم يتبعوا عادة الكثيرين الذين يمضون في العالم واضعين أنفسهم في خدمة الآخرين؛ بل شأنهم شأن المحاربين القدماء كانوا يرغبون في أن يجعلوا كل الناس تحت حكمهم وهيمنتهم.»
2
جاء العديد منهم إلى جنوب إيطاليا وجعلوا منها ساحتهم الخاصة، التي ينهون فيها صراعاتهم المتواصلة بينهم كأشقاء دونما اعتبار على الإطلاق لأي أحد آخر. لا يسعنا إلا أن نتخيل كم الرعب الذي يمكن أن يصبح عليه المرء حين يعلق في دوامة العنف بينما إخوة دي هوتفيل يطئون الأرض عبر أبوليا وكالابريا، ويعقدون تحالفات وينقضونها مع الحكام المحليين والبابوية والبيزنطيين، وفي المقام الأول بعضهم مع بعض.
تابع كل من روبرت وروجر التقليد العائلي المتمثل في كثرة الإنجاب؛ فكان لروبرت أربعة أبناء وسبع بنات، بينما تزوج روجر ثلاث مرات، وأنجب ما لا يقل عن سبعة عشر طفلا في إطار الزواج، وربما بضعة أبناء خارجه. استغلت بنات دي هوتفيل للتضحية بهن كبيادق في استراتيجية طموحة للسلالة الحاكمة لدفع الأسرة دائما إلى أعلى. فقد تزوجت إحدى بنات روجر الأول من كونراد، ابن الإمبراطور الروماني المقدس، هنري الرابع؛ وتزوجت أخرى من كولومان، ملك المجر. وقدمت كلتا الفتاتين إلى زوجيهما مهرين كبيرين. وعندما لم تكن تحالفات الزواج خيارا متاحا، كان الإخوة يستخدمون مزيجا من القوة الغاشمة والمكر. فقد كرس الأشقاء، الذين كانوا يتصفون بالانتهازية والعنف وعدم إمكانية كبح جماحهم، جل جهدهم لغزو صقلية، التي كانت في ذلك الوقت في قبضة العديد من أمراء الحرب المسلمين المتناحرين.
شكل 7-1: خريطة برتغالية لمرفأ باليرمو.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تتعرض فيها صقلية للغزو، ولا الأخيرة. فباعتبارها الجزيرة الأكبر والأهم استراتيجيا في البحر الأبيض المتوسط، كانت على رأس قائمة البلدان المستهدف غزوها من كل إمبراطورية منذ فجر التاريخ. عندما وصلت عائلة دي هوتفيل، وجدوا تركيبة سكانية تتكون من جاليات من اليهود واليونانيين والمسلمين وحتى من المسيحيين اللاتينيين الغرباء. كانت المنطقة المحيطة بميسينا، حيث حطوا في البداية، تستوطنها أغلبية يونانية. بدأت صلات صقلية باليونان في عام 750ق.م، عندما جاء المستوطنون اليونانيون إلى الجزيرة وبدءوا في إقامة مستعمرات هناك، واندمجوا مع السكان الأصليين. فأقاموا مستوطنات مهمة، وازدهرت الحضارة والديانة اليونانية، وأصبحت الجزيرة جزءا مما كان يدعى «اليونان العظمى». وبعد ذلك، مع بداية توسع الإمبراطورية الرومانية فيما وراء حدود إيطاليا، كانت صقلية هدفا واضحا، وفي عام 242ق.م أصبحت أول مقاطعة رومانية خارج أراضي البلاد. ولم يكن هذا مفاجئا نظرا لجمال الجزيرة وخصوبتها، حيث كانت تزدهر أشجار الكروم والعنب، التي أدخل اليونانيون زراعتها. استخدم الرومان التربة الصقلية البركانية الخصبة في زراعة القمح بكميات كبيرة حتى إن شيشرون، مقتبسا من كاتو الأكبر، وصف الجزيرة بأنها «مستودع غلال الجمهورية، مرضعة الشعب الروماني.»
3
بنى الرومان الأثرياء فيلات فاخرة، كانوا يسترخون فيها ويقضون أوقات فراغهم في صيد وحوش غريبة مستوردة خصوصا لأجلهم، وشرب النبيذ المحلي والعربدة مع الفتيات الجميلات. وهذه الاحتفاليات محتفى بها في أعمال فسيفساء رائعة، تعد من أفضل أعمال الفسيفساء التي حفظت في العالم، في فيلا ديل كاسال، ببلدة بياتسا أرميرينا، في وسط صقلية. في القرون التي تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية، تعرضت صقلية للغزو مرات كثيرة، وهو ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للجزيرة في مركز البحر المتوسط؛ نظرا لقربها من جنوب إيطاليا مع سهولة الوصول عن طريقها إلى شمال أفريقيا وإسبانيا والشرق الأوسط. سيطرت عليها قبائل الوندال والقوط الشرقيين وإن كان ذلك لفترة قصيرة، قبل أن يتعرضوا للهزيمة على يد البيزنطيين، الذين أعادوا إدخال الثقافة واللغة اليونانيتين. حتى إنهم نقلوا عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية من القسطنطينية إلى سيراكيوز لفترة من الوقت.
بعد غزو العرب للجزيرة في القرن التاسع، تطلب الأمر منهم عقودا عديدة ليخضعوا صقلية إخضاعا تاما. وحتى بعد أن أتموا ذلك، كان موقفهم الذي يتميز بالتسامح مع العقائد الأخرى يعني أنه كان مسموحا للصقليين اليهود والمسيحيين أن يعيشوا ويمارسوا عباداتهم في سلام، ما داموا يدفعون الجزية (الضريبة المفروضة على غير المسلمين). جلب الحكام الجدد معهم محاصيل جديدة وأنظمة ري متطورة جعلت موسم الزراعة يمتد وأحدثت تحولا في الزراعة الصقلية. كانت الجزيرة تصدر القمح والملح الصخري الذي له أهمية بالغة في حفظ الطعام، إلى منطقة شمال أفريقيا وما وراءها. وصل المهاجرون المسلمون (العرب والبربر والقبائل الأخرى) من شمال أفريقيا واستقروا بطمأنينة في المنطقة الخصبة ذات المساحات الخضراء، ولكن هذه الجاليات تقاتل بعضها مع بعض وكذلك مع اليونان البيزنطيين ، الذين عاشوا في المنطقة الشمالية الشرقية. وبحلول أوائل القرن الحادي عشر، كانت الجزيرة قد انقسمت إلى مجموعة من المقاطعات المتحاربة التي يقودها أمراء حرب محليون. كانت الجزيرة مهيأة للغزو.
بدأت عملية إعادة الاحتلال المسيحي عندما جند السادة اللومبارديون من جنوب إيطاليا، الذين كانوا حريصين على استعادة صقلية من المسلمين، مرتزقة نورمانديين للهجوم عليهم. لذا، عندما حل روبرت وروجر بالقوة التي كانت معهما والتي كانت مكونة من بضع مئات من الفرسان، لم يكونوا أول من يفعل ذلك، ولا حتى أول أشقائهم. ففي عام 1138، كان شقيقاهما الأكبران، ويليام «الذراع الحديدية» ودروجو، مصدر إزعاج كبير في أبوليا، حتى إن أمير ساليرنو، في محاولة منه لإبعادهما عن طريقه، أرسلهما إلى صقلية لمساعدة البيزنطيين في قتال العرب. وجاء ذلك بنتائج عكسية عندما عاد النورمان مثيرو المتاعب، غير راضين عن نصيبهم من الغنيمة، إلى البر الرئيسي واستقروا في المنطقة البيزنطية المحيطة بميلفي، حيث بنوا قلعة صخرية شاسعة. في البداية، على الأقل، كان روبرت وروجر قد دعوا إلى القتال في صقلية نيابة عن قائد محلي كان يحاول أن يفرض هيمنته على منافسيه، ولكن، بحلول عام 1091، كانوا قد ظفروا بالجزيرة لأنفسهم. بحلول ذلك الوقت، كان روبرت قد عاد إلى المناطق الخاضعة لسيطرته على البر الرئيسي، حيث كان قد صار حينئذ يلقب بدوق أبوليا، تاركا لروجر مسئولية الحملة الجارية للتخلص من الحكم العربي على الجزيرة، والتي استغرقت عقودا عديدة حتى تكتمل. حتى بعد سقوط نوتو، آخر معقل للمسلمين، في عام 1091، تطلبت السيطرة على الخليط المتباين الأعراق الذي تشكل منه المجتمع الصقلي تأهبا دائما، وقبضة حديدية. فحسب المؤرخ هيوجو فالكاندوس فإن روجر دي هوتفيل «بذل جهودا لإقامة العدل بأقصى درجة من الصرامة»،
4
بينما وصفه كاتب آخر بأنه كان يبدو «مرعبا للغاية حتى إن الجبال كانت ترتعد أمام هيئته».
5
كان هذا ضروريا «إذ لم يكن ثمة سبيل آخر يمكن به قمع همجية أناس متمردين، أو كبح جرأة الخونة».
6
كان روجر بحاجة إلى توطيد حكمه وفرض الاستقرار. فنظرا لكونهم أجانب وكذلك نبلاء من طبقة دنيا، كان يتعين على عائلة دي هوتفيل أن تعتمد على القوة الغاشمة. تحت حكمهم، أصبحت صقلية واحدة من أغنى الولايات في أوروبا.
لم يكن هذا النجاح يرجع فقط إلى قوة سلاح عائلة دي هوتفيل ، ولكن أيضا إلى طموحهم الجامح. فروجر، الذي صار الآن كونت صقلية، ولكنه لا يزال تابعا اسميا لأخيه روبرت (لم يكن وضعا يستطيبه)، استقطع لنفسه دونما خجل كل فكرة بيزنطية أو عربية ولع بها لتشكيل حكومته وتشكيل صورته. كانت إدارته تستند إلى التقاليد البيزنطية القائمة،
1
فاعتمد كثيرا من العادات العربية وأصدر بجرأة أمرا يقضي بأن يدفن، عند موته، في تابوت حجري له ظلة من الرخام البورفيري، وهو شرف كان حتى ذلك الوقت مقصورا على الأباطرة البيزنطيين.
2
كانت الرسالة واضحة وهي أن آل دي هوتفيل كانوا لاعبين رئيسيين على الساحة العالمية، متحلين بكل الأبهة والطقوس التي تستتبع ذلك. تحت تأثيرهم، انتشرت الثقافة الملكية للعالمين العربي والبيزنطي في أنحاء أوروبا. ومن تلك اللحظة، أصبحت الأبهة البذخة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجلالة والتعبير عن السلطة الأميرية. طوال القرن الثاني عشر، احتفت السلالة الحاكمة بنجاحها وشكرت الرب عليه بإقامتها ثلاث كاتدرائيات جديدة؛ في باليرمو (حيث كانت البازيليكا القديمة قد أصبحت مسجدا تحت الحكم الإسلامي)، وفي مونريالي وتشفالو؛ إذ كان وجود مجموعة من الكنائس المنشأة حديثا يظهر عودة المسيحية إلى الجزيرة. أعيد ترميم أسوار المدينة المتهالكة ودفاعاتها، وفرض الأمن وبدأت جماعات من التجار في الوصول والاستقرار في أحيائهم في بلدات صقلية ومدنها، مالئين الفراغ الذي تركه التجار المسلمون واليهود الذين فروا أثناء فوضى حملة الغزو.
3
أقام الأمالفيون، الذين يسارعون دوما إلى الاستفادة من أي فرصة، شارعا خاصا بهم في باليرمو، على جانبيه المحلات، وأنشئوا حتى الكنيسة الخاصة بهم، وكرسوها للقديسة أندريا. ازدهرت باليرمو، وكبرت الأسواق، وارتفعت «قصور مثل قلاع عالية لها أبراج تختفي بين السحب» وانتشرت الحدائق حولها، يغذيها نظام هيدروليكي معقد يجذب الماء إلى أعلى من ينابيع تحت الأرض.
7
خلف روجر على العرش ابنه، روجر الثاني، الذي ورث كثيرا من الميزات التي كانت قد انتشلت والده وأعمامه من الفقر المدقع في نورماندي إلى المجد على شواطئ البحر المتوسط. ولكن كان ينقصه شيء ما؛ التعليم. مات روجر الأول عندما كان ابنه طفلا، تاركا زوجته الشابة، أديليد، وصية على العرش. كانت أديليد، تلك المرأة الرائعة، قد تزوجت من روجر عندما كان في الستين من عمره وكانت هي في الخامسة عشرة. أشرفت أديليد على تعليم ابنها، وتأكدت من أن إخوته الثلاثة عشر الذين يكبرونه من زوجتي زوجها الأوليين قد استبعدوا تماما من وراثة العرش. أمضى روجر الثاني سنواته الأولى في ميسينا، على الساحل الشرقي الذي كان يسيطر عليه اليونانيون، حيث تعلم على يد كريستودولوس، الذي كان صقليا من أصول يونانية بيزنطية، والذي كان أيضا كبير مستشاري أديليد. غرس كريستودولوس في تلميذه الصغير حبا للتعلم والثقافة ظل ملازما له بقية حياته. في نحو عام 1111، عندما كان في السادسة عشرة من عمره، انتقل بلاط الدوق الشاب إلى باليرمو، التي كانت مدينة مشبعة بتأثيرات عربية، فتحت عينيه على تنوع ثري من الثقافة الصقلية.
استمر روجر الثاني في انتهاج كثير من سياسات والده. فكان متسامحا مع العقائد الأخرى ونصب نفسه حامي كل البشر الذين حكمهم. كان شغله الشاغل هو إبقاء سيطرته على مملكته وضمان السلام والاستقرار حيثما أمكن. وكان ذلك صراعا مستمرا. لم ينعكس المناخ المتفتح الذي ساد في البلاط على الحقول والقرى والبلدات الريفية الصغيرة، حيث كان يندر اندماج الناس اندماجا جيدا. ففي المناطق القروية من صقلية، عاش المسيحيون والمسلمون منفصلين تماما، في مناطق ومستوطنات مختلفة، وهو ما عزز حالة من عدم الارتياح والعداوة، التي عادة ما كانت تتحول إلى عنف. كانت الهجمات معتادة، وخاصة من قبل المستوطنين القادمين حديثا من البر الرئيسي، الذين كانوا حريصين على توسيع أراضيهم على حساب المجتمعات المحلية المسلمة. واستمر أمر إبقاء أمراء الحرب المحليين تحت السيطرة شاغلا رئيسيا لدى السلطات النورماندية. كان الأمر مختلفا تماما في عالم البلاط الرفيع المستوى، حيث كان مرحبا بأذكى العقول، بغض النظر عن العقيدة أو العرق، وحيث تبادل التجار من أنحاء العالم المعروف المعاملات التجارية واحتال بعضهم على بعض بكل لغة موجودة، ووصل الدبلوماسيون من بعيد لتعزيز مصالح بلدانهم. أما في المدن الكبرى، مثل باليرمو، فبالرغم من أن الجاليات كانت تميل إلى التجمع معا حسب العقيدة، والاستقرار في أحياء معينة، عاش الناس متقاربين حتى إن ذلك شجع إقامة علاقات ودية وتعاون متبادل.
كان روجر نفسه هو من أرسى هذا الانفتاح الثقافي. لا شك في أن الأمر كان، جزئيا، حلا براجماتيا للتحديات التي واجهها باعتباره زعيم نخبة أجنبية محدودة، يحكم سكانا شديدي التباين والتنوع، ولكن روجر كان مهتما اهتماما أصيلا أيضا بالثقافات الأخرى وراعى تقاليد رعاياه العرب المسلمين والبيزنطيين اليونان.
4
وحبه للعادات العربية هو حقيقة ثابتة تدعمها الشواهد. فقد كان يجلس في أبهته بين حاشيته تحت مظلة مرصعة بالجواهر، هدية من الخليفة الفاطمي، في حضور حاملي الرايات وحملة الدروع. وتوجد عباءة رائعة من حرير قرمزي باقية في متحف في فيينا. يزين هذه العباءة، التي صنعها حرفيون مسلمون نحو عام 1134 في ورشة الحرير التابعة للقصر، أسدان يهاجم كل واحد منهما جملا، على جانبي نخلة في المركز، وكل ذلك مطرز بخيط ذهبي مرصع بالعقيق والياقوت واللآلئ. وثمة نقش باللغة العربية، مخيط حول هدب العباءة، يوضح مكان وتاريخ صنعها.
5
كان بلاط روجر يشتهر بأنه ثلاثي اللغة؛ إذ كان يستخدم ألقابا يونانية ولاتينية وعربية، وعادة ما كان يوقع باسم «باسيليوس» بدلا من «ريكس»، داعيا نفسه «المدافع عن المسيحية»، من ناحية، و«القوي بنعمة الله» من ناحية أخرى.
8
كتب العلماء اليونانيون واللاتينيون والعرب الذين عينهم روجر وثائق رسمية باللغات الثلاث، ونقش أهمها بحبر من ذهب أو فضة على رق أرجواني فخم. لعبت أيضا اللغة العبرية دورا مهما؛ إذ شاركت جالية باليرمو اليهودية في الحياة السياسية والثقافية للمدينة. وقد عكس هذا التعدد في اللغات بصورة مباشرة تصميم روجر على ضرورة أن يشعر كل مواطني صقلية بأنهم موضع اهتمام وحماية، مع التأكيد في الوقت نفسه على قوة النظام الملكي وإضفاء الشرعية عليه.
جسد جورج الأنطاكي، الوزير الأول لدى روجر من سنة 1126 وما بعدها، هذا المزيج الثقافي. كان جورج يونانيا بدأ حياته العملية لدى السلطات البيزنطية في سوريا، وبعد ذلك انتقل إلى بلاط مدينة المهدية الإسلامية في تونس. وعندما وصل إلى صقلية، كان على دراية تامة بتقاليد ونظم حكم البلاطين البيزنطي والعربي؛ التي جلبها معه إلى منصبه الجديد. لعب جورج دورا أساسيا في برنامج روجر للتوسع في البناء، فكان يقدم اقتراحات فنية ويوفر الحرفيين والمواد من الشرق وشمال أفريقيا. بل إنه بنى كنيسته الخاصة، الكنيسة الكاتدرائية سانتا ماريا ديل أميراجليو. جسد هذا المبنى الجميل الخصائص الأساسية للطراز الصقلي الهجين الجديد؛ فهو مصمم اعتمادا على مخطط صليب يوناني، مع أقواس ومحاريب إسلامية ممزوجة بأقواس نورماندية، ومزخرف بإتقان من الداخل بقطع فسيفساء بيزنطية، كانت إحداها تصور تتويج روجر على يد المسيح نفسه. كان لروجر كنيسته الخاصة المسماة كابيلا بالاتينا المشيدة داخل القصر المهيب الذي «بناه بجهد مذهل ومهارة مدهشة من حجارة مربعة»، في باليرمو.
9
وهو باهر الآن تماما كما كان باهرا، بالتأكيد، في القرن الثاني عشر. صنع الفنانون البيزنطيون المجموعة الرائعة من لوحات الفسيفساء على الحوائط، وصمم الحرفيون العرب نقوشا معقدة مطعمة في الأرضيات المصنوعة من الرخام، بينما شيد السقف بالاستعانة بمئات من الألواح الخشبية، التي شكلت سقفا معقدا ثلاثي الأبعاد، ومغطى برسومات منمنمة من الحياة اليومية في البلاط.
أحدث روجر تحولا في باليرمو، منشئا عاصمة تليق بملك؛ وهكذا صار بالضبط، في عام 1130. كان قد ورث لقب كونت صقلية من أبيه، ولكنه رفع إلى دوقية أبوليا وكالابريا عندما مات ابن عمه ويليام دون أن ينجب، وهو الأمر غير المعتاد على آل دي هوتفيل. سارع روجر إلى مواجهة الموقف، مستعينا بقواته العسكرية والبحرية الكبيرة للقضاء على أي معارضة من البابا والنبلاء المحليين العديدين. في عام 1130، وحد جنوب إيطاليا مع صقلية، مطالبا بلقب ملك بوصفه جزءا من التسوية السلمية التي تفاوض بشأنها مع الفاتيكان. وتوج في كاتدرائية باليرمو في يوم عيد ميلاد السيد المسيح، وفيما بعد كتب راهب كان حاضرا المراسم يقول: «عندما اقتيد الدوق إلى كنيسة رئيس الأساقفة بطريقة ملكية ومسح هناك جسده من رأسه إلى أخمص قدميه بزيت مقدس وحاز على المقام الملكي، لا يستطيع المرء أن يدون بل ولا حتى أن يتخيل بالفعل كم كان عظيما، كم كان ملكيا في مقامه الرفيع، كم كان بهيا في حلته المزينة بسخاء. إذ بدا للناظرين أن كل ثراء ومجد هذا العالم كان حاضرا.»
10
تشع الحاجة إلى إضفاء شرعية على وضع روجر من هذه الرواية، وليس ذلك مستغربا؛ فخلال قرنين فحسب، كان آل دي هوتفيل قد تمكنوا من الارتقاء بأنفسهم من كونهم مغيرين وثنيين إلى ملوك ممسوحين، وهو إنجاز مذهل للغاية من ناحية ضخامته وجرأته. والآن، كل ما كان عليهم فعله هو أن يتمسكوا بسلطانهم. ونجحوا في ذلك، ولكن ليس لوقت طويل؛ فبنهاية القرن، كان اسم دي هوتفيل قد اندثر وانتقل تاج صقلية إلى آل هوهنشتاوفن.
شكل 7-2: الواجهة المهيبة لقصر النورمان في باليرمو.
جلس روجر الثاني ملكا على عرش صقلية أربعا وعشرين سنة، حتى وفاته سنة 1154. إبان تلك الفترة، كان يرحب بالعلماء في بلاطه في باليرمو وقاد الصفوة في رعاية البحث العلمي وتشجيعه. يتمثل أوج إرثه الفكري في أطروحة جغرافية كلف بها واحدا من أقرب مستشاريه، الباحث العربي أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الشريف الإدريسي، الذي كان قد وصل إلى باليرمو سنة 1138. كان العنوان الأصلي المنمق للأطروحة، المكتوبة باللغة العربية، هو «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، والذي اختصر فيما بعد إلى العنوان الأقل رومانسية «كتاب روجر». كان هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن وصف مفصل للعالم بتفصيل غير مسبوق، يشمل الأنهار والجبال والمناخ والشعوب والنشاط التجاري والمسافات بين الأماكن، هو «أول محاولة جادة لإدماج ثلاثة تقاليد متوسطية كلاسيكية هي البحث العلمي اليوناني واللاتيني والعربي في خلاصة وافية واحدة للعالم المعروف.»
11
في هذا الكتاب، أخذ الإدريسي معارف جغرافية من الشرق وكذلك الغرب، وعززها بنظام بطليموس الكوزموغرافي للأقاليم السبعة، أو المناطق السبع. في التمهيد، يبين الإدريسي أن روجر كلفه بالعمل ليس فقط لأنه كان مهتما باكتساب المعرفة بالعالم، ولكن أيضا لأسباب عملية: «أراد أن يعرف أراضيه على نحو واسع النطاق ودقيق.»
12
كان روجر، البراجماتي دوما، يجمع المعلومات التي من شأنها أن تساعده في الحكم على نحو أكثر فاعلية، ولكنه مات قبل أن يكتمل العمل. ومع ذلك، تمكن وريثه، ويليام الأول، من الاستفادة من كتاب الإدريسي، الذي كان موضحا بسبعين خريطة إقليمية وخريطة بلانسفير مذهلة - خريطة للعالم - مصنوعة من فضة خالصة. في مقدمة ترجمته لمحاورة أفلاطون «خلود النفس»، يزعم هنريكوس أريستبوس أن ويليام كان ملكا لا مثيل له «فبلاطه مدرسة، وحاشيته رياضيون، وكلماته تصريحات فلسفية، وأسئلته لا إجابة لها، وحلوله لا تدع مجالا للنقاش، ودراسته لا تترك شيئا بلا تجريب.»
13
كان هذا هو العالم الذي وجد الباحث المجهول، الذي التقيناه سابقا، نفسه فيه. بعد أن حصل أخيرا على كتاب «المجسطي»، الذي من المحتمل أن يكون قد حصل عليه بعد إقناعه لهنريكوس أريستبوس بأن يعطيه إياه، سرعان ما أدرك أنه لم يكن يمتلك المعرفة الفلكية اللازمة، ولا الإلمام اللازم باللغة اليونانية، للبدء في العمل. فانغمس في دراسة كتب إقليدس «المعطيات»، و«تحرير المناظر»، و«المرايا»، إلى جانب كتاب برقلس «عن الحركة».
6
في تلك المرحلة، حالفه بعض الحظ؛ إذ التقى بفرد آخر من النخبة، هو يوجينوس، الذي كان بيزنطيا واسع المعرفة يتحدث اليونانية، وكان يعرف العربية واللاتينية أيضا. وباعتباره عضوا بارزا في البلاط الملكي، كانت مسئوليات يوجينوس واسعة النطاق، واشتملت هذه المسئوليات على إصدار التصريحات، والإشراف على الحسابات، ووضع الحدود. أثناء حياته العملية الطويلة، خدم العديد من الملوك الصقليين، وفي عام 1190، رقاه الملك تانكريد إلى رتبة أمير أو أميرال. كذلك تمكن يوجينوس من الاندماج في قدر كبير من الأنشطة البحثية على هامش مسئولياته الرسمية، فترجم كتاب بطليموس «البصريات» من العربية إلى اللاتينية، ونصين شرقيين من اليونانية إلى اللاتينية. وبمساعدة يوجينوس، تمكن الباحث من ترجمة كتاب «المجسطي»، ويعتقد أنهما أنهيا العمل في المخطوطة في منتصف الستينيات من القرن الثاني عشر، وهو ما يسبق زمن نسخة جيرارد الكريموني بسنوات عدة. كان حدثا بالغ الأهمية في تاريخ العلم؛ إذ كانت المرة الأولى التي يمكن فيها قراءة عمل بطليموس العظيم كاملا باللغة اللاتينية، ولكن رغم ريادتها، لم تكن الترجمة الصقلية تقترب حتى من تأثير ترجمة جيرارد. ولم يبق إلا أربع نسخ من هذه الترجمة، وواحدة فقط منها كاملة.
كتب المترجم المجهول لكتاب «المجسطي» تمهيدا مفصلا في بداية العمل، وهو مصدرنا الوحيد للمعلومات عنه وكيف انتهى به الأمر إلى ترجمة هذا الكتاب. الأمر المحبط أنه لا يطلعنا على هويته، ولا موطنه، ولكن الأمر شبه المؤكد أن جنوب إيطاليا لم يكن موطنه الأصلي. بل نعرف معلومات أقل حتى من ذلك عن ترجمة من اليونانية لأطروحة إقليدس «العناصر»، أنجزت في صقلية في الفترة نفسها تقريبا، ولكن من المحتمل أن يكون من ترجم الأطروحة هو الرجل نفسه؛ إذ يوجد كثير من أوجه التشابه في أسلوب الترجمة والمفردات. وحيث إنه، كما نعرف، كان يتعين على أي أحد يدرس كتاب «المجسطي» أن يقرأ أطروحة «العناصر» أولا، فمن المنطقي أن يكون هذا المترجم قد بدأ بأطروحة «العناصر» أو كان قد عمل بالفعل على ترجمته.
وبناء عليه، فإنه لا بد أنه كان يوجد نسخة مخطوطة باللغة اليونانية من أطروحة «العناصر» في صقلية في منتصف القرن الحادي عشر، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى طرح السؤال الآتي: من أين جاءت هذه المخطوطة؟ المصدر الأرجح هو القسطنطينية. نعرف أن هنريكوس أريستبوس كان قد أعطي نسخة من كتاب «المجسطي» هناك، ومن المنطقي أن نقترح أن البيزنطيين قد أعطوه أيضا نسخة من أطروحة «العناصر». إضافة إلى ذلك، تتشابه النسخ الباقية من الترجمة الصقلية باللاتينية مع نسخة أريثاس اليونانية التي صنعت في القسطنطينية، والموجودة الآن في مكتبة بودلي في أكسفورد. وقد حدا هذا ببعض الباحثين إلى الإشارة إلى أن هنريكوس أريستبوس حصل على هذا الكتاب نفسه وأخذه معه إلى صقلية، حيث ترجم إلى اللاتينية ومن هناك وجد سبيله إلى إنجلترا بعد ذلك بقرون عدة. إن شبكة النقل لهذه المخطوطات معقدة للغاية، ولكن من الممكن تعقب الروابط الأكيدة، وإن كانت دقيقة. وكما سنرى، تمتعت هذه الصيغة من أطروحة «العناصر» بتأثير أكبر من صيغة المترجم نفسه لكتاب «المجسطي»؛ إذ كانت الترجمة الوحيدة من اليونانية التي أنجزت في القرن الثاني عشر، وتقف جنبا إلى جنب مع الترجمتين من العربية إلى اللاتينية اللتين قام بهما جيرارد الكريموني وهيرمان الكارينثي وقد ألقينا بالفعل نظرة عليهما. ومع ذلك فإن ترجمة أخرى من العربية هي التي تهيمن على نقل عمل إقليدس في هذه الفترة، وهي ترجمة أديلار الباثي.
يعد أديلار شخصية مميزة تميزا رائعا في تاريخ العلم في العصور الوسطى. فبينما كان جيرارد الكريموني يخط بسرعة ودأب في محيط الكاتدرائية في طليطلة، كان «الباثي» يختال في أنحاء جنوب إيطاليا والشرق الأوسط، ويصادق الملوك، وينجو من زلازل ويستمتع بوجه عام بحياته على أكمل وجه. لا شك في أن إسهام جيرارد في البحث العلمي كان أكبر وأهم، ولكنه، كشخصية، بات منسيا في ذاكرة التاريخ. أما أديلار، على الجانب الآخر، فبقي ذكره طوال القرون الثمانية الماضية على نحو جيد جدا. يبدو الرجل شخصية مفعمة بالحيوية، بغض النظر عن حقيقة أن كل ما لدينا لنؤسس عليه هو معلومات قليلة مجزأة، وكتابات متلاشية منقوشة على مخطوطات وإشارات غير مباشرة في تمهيدات لكتب. من الواضح أنه كان شخصا موهوبا وغريب الأطوار بعض الشيء، فقد كان موسيقيا موهوبا (بل موهوبا جدا، في الواقع، لدرجة أنه طلب منه أن يعزف أمام ملكة فرنسا)، كان يستمتع بصيد الصقور بقدر ما كان يستمتع بعلم الفلك. ولد أديلار، الذي كان طموحا، ومغامرا، ويهوى لفت الأنظار بعض الشيء، في إنجلترا، في الجيل الأول بعد الفتح النورماندي، وهو وقت كان حافلا بتغيرات كبيرة، وحافلا لبعضهم بالفرص. أسعده الحظ بأن ولد في أسرة ثرية، كانت على صلة بالأسقف المحلي القوي، جيسو أسقف ويلز. تلقى تعليمه في باث، في الوقت الذي انتقل فيه المركز الأبرشي هناك من ويلز على يد خلف جيسو، يوحنا التوري، الذي بدأ سريعا في إعادة بناء وإحياء المدينة.
لا بد أن أديلار الشاب قد انتفع من هذا، ولكن، إذ كان قد استنفد الفرص التعليمية المتاحة في بلدته، فقد أرسل، ربما بتوصية من الأسقف يوحنا، إلى مدرسة الكاتدرائية في مدينة تورز في وادي اللوار. يحتمل أنه كان قد بدأ بالفعل دراسة العلوم في إنجلترا، وتابع بالتأكيد المزيد من الدراسة فيها في فرنسا. ولعله قد عرف بأطروحة إقليدس «العناصر» من خلال الشذرات الصغيرة من ترجمة بوثيوس، التي كانت في ذلك الوقت أساس المنهج الدراسي للرياضيات.
كان أديلار باحثا موهوبا، ولكنه كان نوعا ما رجلا متأنقا يلبس عباءة خضراء براقة وخاتما من الزمرد. في نسخة مخطوطة لأطروحته «قواعد العداد»، نسخت في باريس حوالي سنة 1400، يوجد صورة له وهو يعلم الأعداد العربية والكسور الاثنا عشرية. ومع أنه ليس تصويرا أمينا له، فإنه يصوره بشعر طويل ولحية كثة، مرتديا عباءة قصيرة حمراء أنيقة بدون أكمام وقميصا تحتيا أزرق لازورديا وقبعة مخططة زاهية. وتعكس كتاباته هذه الثنائية. فنصفها عبارة عن حوارات أدبية لبقة معدة لتثقيف شباب النبلاء، ومقدمة في لغة لاتينية أنيقة، في شكل حوار بين أديلار وابن أخيه، وهو أسلوب أدبي من شبه المؤكد أنه مستعار من أفلاطون، وأهدى عمله عن الأسطرلاب، والمسمى «عن عمل الأسطرلاب»، لتلميذه هنري بلانتاجينيت، الذي سيصبح مستقبلا الملك هنري الثاني. يحتوي «عن عمل الأسطرلاب» على بعض المادة العلمية وأدرج أديلار مقدمة عن العداد في محاورته «عن التشابه والتنوع»، التي هي عبارة عن مناقشة لرمزية العلوم الإنسانية السبعة. وبالمثل، يشتمل كتاب «أسئلة طبيعية» على فحوص ماهرة لأسباب الظواهر الطبيعية. كان يمتلك موهبة في توصيل الأفكار العلمية المعقدة وتطويعها بما يتناسب مع جمهور هاو ولكنه مهتم في الوقت نفسه. عززت هذه الأعمال الثلاثة من مكانة أديلار المهنية ومن المحتمل أنه اكتسب منها بعض المال؛ مما أتاح له أن يمضي وقتا في اهتماماته الأكاديمية الجادة، التي تشكل النصف الآخر من كتاباته. كان أهم هذه الكتابات ترجمته لجداول «الزيج» للخوارزمي من العربية، وكتاب أبي معشر «المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم»، وأطروحة «العناصر». تتسم هذه الأعمال بأنها موجزة وعلمية، وغنية بالمعلومات دون تنميق؛ وليست مهداة إلى أحد. فقد كتبها أديلار لنفسه وطلابه، للدراسة الجادة. وكالعادة، يبقى السؤال الكبير المطروح هو: أين عثر على هذه الكتب؟
ثمة احتمالات عديدة. سافر أديلار إلى بلدان كثيرة، حاملا معه كتبا وأفكارا من مكان إلى مكان، وملتقيا بباحثين وموصلا إياهم بشبكة أوسع. فهو يوفر حلقة وصل قطعية بين المراكز الكبرى للبحث العلمي في العصور الوسطى. في أوائل القرن الثاني عشر، انطلق أديلار في رحلته الكبرى، مفارقا ابن أخيه وبعض تلاميذه الآخرين، بالقرب من بلدة لاون، في فرنسا. كان قد صار قلقا ومحبطا من الحياة الفكرية في شمال أوروبا. بدت المناقشات والأفكار التي تشغل الباحثين في فرنسا عديمة الجدوى؛ وكان رأي أديلار الذي جهر به أن ما يصنعونه كان أشبه «بصنع قصور من رمال الفكر».
14
كان العالم ينفتح، وكان التجار يصلون ومعهم حكايات مثيرة وبضائع غريبة، وكان النورمان قد فتحوا صقلية وجنوب إيطاليا، وكانت أحداث الحملة الصليبية الأولى تجري في ذلك الوقت. لم يستطع أديلار، المفعم بالفضول والمغامرة والشجاعة، أن يقاوم. فقد سافر جنوبا، كما أوضح لاحقا في أطروحته «أسئلة طبيعية»، مصمما على توسيع آفاقه ومعارفه «وسط العرب».
15
أمضى السنوات السبع التالية، حسبما نعلم، على الطريق، وزار روما، وساليرنو، وصقلية، واليونان، وآسيا الصغرى.
لا نعرف بالضبط إلى أين ذهب أديلار، ولكن لا بد أنه قد اتخذ الطريق البري الرئيسي من شمال أوروبا إلى روما، المسمى فيا فرانتشيجينا. كان الطريق، الذي يشتهر بالحجاج، يمر عبر لاون، ثم إلى ريمز. ومن هناك، كان يؤدي جنوبا إلى ما يعرف الآن بسويسرا، عبر جبال الألب عند ممر سان برناردينو، حيث كان بعض السكان المحليين قد أخذوا زمام المبادرة وأقاموا بوابات تحصيل رسوم كانوا عندها يجعلون المسافرين يدفعون المال مقابل العبور منها. (كان هذا مصدرا مربحا للدخل، ما دام النورمان لم يعبروا من هذه البوابات؛ إذ كانوا يحطمون الحواجز، ويطعنون محصلي الرسوم، ويكملون مسيرهم إلى إيطاليا؛ فالقواعد العادية ببساطة لم تنطبق عليهم.) ما إن تجاوز أديلار جبال الألب، لا بد أن الطريق قد قاده إلى السهول العظيمة لشمال إيطاليا وأسواق بافيا المكتظة. من هناك، كان الطريق يتجه إلى الساحل، مرورا بمدن لوكا وسيينا وفيتيربو وأخيرا روما. كان بإمكان أديلار بسهولة أن ينضم إلى جماعة من الحجاج أو التجار في لاون وأن يسافر جنوبا معهم. كما طالعنا في الفصل السابق، كان الطريق من روما إلى ساليرنو مستقرا، وكان سيمر بأديلار على مونتيكاسينو. في الواقع، لعله أمضى الليلة هناك، وبخاصة لو أنه كان مسافرا مع مجموعة من الحجاج. فمعظم الأديرة الكبيرة كان بها مأوى للمسافرين، وبخاصة الناس الذين يقومون بأي نوع من المهام الدينية؛ إذ كانت تقدم طعاما بسيطا ومرافق أساسية مقابل أجر بسيط. ولكن بما أن أديلار لم يستخدم أيا من تراجم قسطنطين، فلا توجد رابطة فكرية محددة. ولكن من المؤكد أنه قد تأثر بالنصوص الساليرنية ونظرية جالينوس الخاصة بالأخلاط الأربعة، واستخدمها في كتابه «أسئلة طبيعية». ليس من الصعب تخيل الإثارة التي شعر بها أديلار لوجوده في ساليرنو، يدرس مع أطباء المدينة المعروفين. اعتمد كتاب «أسئلة طبيعية» أيضا على ترجمة ألفانو لكتاب نيميسيوس «حول طبيعة الإنسان»، الذي من المرجح أنه كان متاحا في ساليرنو؛ مما يجعل أديلار قناة مؤكدة لنقل المعرفة من جنوب إيطاليا إلى شمال أوروبا. يصف أديلار مغادرته لساليرنو والتقاءه بيوناني، تناقش معه حول الطب وبحث معه مسائل علمية أخرى، مثل المغناطيسية. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عن هذا الحدث إلا بعد مرور سنوات، فإن سروره بمقابلة أشخاص يتمتعون بكثرة المعارف ومهتمين بالعلم ليبدو جليا في كلماته.
توحي التواريخ المتاحة بأن محطة أديلار التالية كانت صقلية، حيث أبدى ذهوله من جبل إتنا وربما أمضى وقتا في سيراكيوز. أهدى أديلار أطروحة إلى أسقف المدينة القديمة، وهو رجل يسمى ويليام، وكان «مثقفا للغاية في كل فنون الرياضيات».
16
ويشير هذا إلى أنهما تناقشا في الرياضيات، ومن المحتمل على الأقل أن يكون ويليام قد أعطى أديلار نسخة من أطروحة «العناصر »، أو شجعه على البحث عن نسخة من الكتاب في أسفاره في أنطاكية وآسيا الصغرى. من المؤكد أنه كان لديه نسخة عربية بعد عودته إلى إنجلترا؛ لأنه استخدمها أساسا لترجمته.
كانت الحملة الصليبية الأولى قد فتحت طرقا بين جنوب إيطاليا وساحل شرق البحر المتوسط، وعندما كان أديلار في أنطاكية كانت المدينة تحت حكم تانكريد، حفيد روبرت جيسكارد؛ لذا كان لديها صلات وثيقة مع صقلية؛ مما زاد من سهولة وصول الناس إلى المنطقة، ولكنها كانت أيضا مضطربة ومحفوفة بالمخاطر. كانت الإمارات الصليبية في حالة حرب دائمة بعضها مع بعض، ومع الأتراك؛ لذا كان على المسافرين من أمثال أديلار أن يتوخوا الحذر. أحيانا، كان العنف يحدث أثرا جانبيا إيجابيا. ففي عام 1109، يسجل كتاب «المذيل في تاريخ دمشق»: «فشد الإفرنج القتال عليها [يقصد طرابلس] وهجموها من الأبراج فملكوها بالسيف في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصر فيذكر.»
17
سقط كثير من هذه الكتب في أيدي الجنويين (أهل جنوة) الذين قادوا الهجوم؛ فلا بد أن بعضها انتهى به الحال معروضا للبيع أو منسوخا على يد الباحثين، قبل أن يرسل عبر السفن إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا.
عاد أديلار إلى إنجلترا نحو عام 1116. وأصبح موظفا رسميا في حكومة هنري الأول، ولكنه أيضا بدأ يترجم النصوص التي صادفها في أسفاره، وفي ذلك ترجمته اللاتينية المؤثرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس من اللغة العربية. ومن المحير، أنه يوجد ثلاث صيغ مختلفة من هذا النص، وكلها منسوب في الأساس إلى أديلار، ومن ثم تعرف باسم «أديلار 1»، و«أديلار 2»، و«أديلار 3». «أديلار 1» هي الترجمة الأساسية، و«أديلار 2» هي ترجمة تستند إلى «أديلار 1» وعلى تراجم مختلفة أخرى، بينما «أديلار 3» هي تعليق على الصيغة «أديلار 2». أظهرت دراسات أجريت مؤخرا أنه من المحتمل أن يكون روبرت التشستري هو من كتب «أديلار 2»، في إسبانيا، وهي الصيغة التي أوردها تيري من شارتر في كتابه «مكتبة الفنون السبعة الحرة»؛ مما يجعلها الصيغة الأكثر تأثيرا في الصيغ الثلاثة. في القرن الثالث عشر، استخدم الباحث الإيطالي كامبانوس النوفاري الصيغتين الثانية والثالثة ليصنع إصدارا بديلا استمر ليصبح أساس أول إصدار مطبوع. تفكيك شبكة الروابط بين الصيغ المختلفة لنص هو أمر فائق الصعوبة وأحيانا ما يكون محيرا للغاية. ولكن من المذهل أن نرى عدد المرات التي انتقلت فيها المخطوطات من مكان إلى مكان، وأن الباحثين تمكنوا من الحصول على مجموعة متنوعة من النسخ المختلفة حتى ينتجوا الصيغ الخاصة بهم. من الواضح أنه كان يوجد مجتمع على اتصال جيد من أهل الفكر القادر بعضهم على التواصل مع بعض عبر مسافات هائلة. وكما رأينا بالفعل، شكلت شبكة الكنائس والأديرة البندكتية أساسا لهذه الشبكة من التفاعل المتبادل، فربطت شمال إسبانيا بفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ إذ كان رجال الدين يسافرون بينها حاملين الأخبار والمراسلات، وبالطبع، الكتب.
عندما عاد أديلار إلى إنجلترا، ترجم جداول «الزيج» (جداول فلكية) للخوارزمي؛ وتحديدا النسخة التي عدلها مسلمة المجريطي لتتوافق مع إحداثيات قرطبة. وقد زاد هذا من احتمال أن يكون قد سافر أيضا إلى إسبانيا في فترة زمنية ما، ولكن لا يوجد دليل يدعم هذه الفكرة. في أي من الحالتين، لا بد أن يكون أديلار قد حصل على هذا الكتاب من شخص ذهب إلى إسبانيا، أو كان له صلات هناك. والمرشح الأرجح هو بيتروس ألفونسي، وهو شخصية مثيرة للاهتمام، ولد يهوديا في هواسكا في شمال إسبانيا، ولكنه اعتنق المسيحية في عام 1106، وكان ألفونسو الأول ملك أراجون هو أباه الروحي. لاحقا كتب تفنيدا للعقيدة اليهودية في شكل حوار بين شخصيه، قبل اعتناقه المسيحية وبعده. انتفع ألفونسي من حصوله على تعليم ممتاز للغات؛ إذ كان يجيد العربية والعبرية والرومانسية، ولا بد أنه كان يعرف اللاتينية، ولا شك أنه تعلم الإنجليزية أثناء الأعوام التي قضاها في إنجلترا. أيضا كانت هواسكا في محيط تأثير سرقسطة، بتقليدها المتميز في الرياضيات والبحث العلمي ، وهو ما انتفع منه ألفونسي أيضا. ويشير أحد المصادر إلى أنه عمل لصالح الملك هنري الأول ملك إنجلترا، بصفته طبيبه، وكان بالتأكيد جزءا من دائرة تضم علماء فلك وفلاسفة في مقاطعات غربي إنجلترا؛ في الواقع، قد يكون تشجيعه والكتب التي لا بد أنه قد أحضرها معه إلى إنجلترا السبب وراء بداية ازدهار دراسة الفلك في البلاد في ذلك الوقت. من المرجح أيضا أنه التقى بأديلار عندما كان في المنطقة المجاورة لمدينة باث، وأنهما شرعا في العمل معا على ترجمة جداول «الزيج» وأطروحة «العناصر» بعد ذلك بوقت قصير.
كانت أعمال أديلار، سواء أعماله الخاصة أو تراجمه، تتسم بوجه خاص بأنها توزعت توزيعا جيدا. اقتبس الباحث المجهول في صقلية عبارة من كتاب «أسئلة طبيعية» في تمهيده لترجمته لكتاب «المجسطي»؛ مما يوحي بأنه، على أقل تقدير، قد قرأه. تحتوي بعض حواشي ترجمة أديلار لأطروحة «العناصر» على ملاحظات صغيرة تعطي لمحة كاشفة عن دائرته؛ فتقول إحدى الحواشي الجانبية: «وحده أديلار سيتمكن من فهم هذه المعضلة.» وتقول أخرى بطريقة ساخرة: «ثبتت صحة هذا الطرح الذي طرحناه دونما أي مساعدة من جون.» أما أفضلها: «وداعا، ريجينيروس. كل من لا يعرف كيفية الرد عليك ينبغي عليه أن يقدم لك بقرة بيضاء!»
18
لا يمكننا أن نفترض أن كل الباحثين الذين التقينا بهم قد عملوا في مناخ مماثل يتسم بروح الدعابة والتعاون. يبدو أن أديلار كان يتصف ببراعة وثقافة غير عاديتين، ومن المثير أن نسمع الأصوات في دراسته، يتردد صداها عبر الزمن، جليا ونابضا بالحياة. تظهر هذه التعليقات ما يمكن أن يكون عليه مشروع ترجمة جماعي، وهي من أول الأدلة الثابتة على شيء كنا نظنه في كل مرحلة من مراحل رحلتنا عبر العصور الوسطى. وأخيرا نحصل، هنا، على لمحة عن واحد من «دور الحكمة»، ويمكننا أن نسمع الدردشة الدائرة في غرفة الترجمة، ولو بإيجاز.
أما مسألة ما إذا كان أديلار قد تعلم اللغة العربية فعلا، فهي مسألة شائكة. فقد كان بمقدوره أن يلتقط بسهولة اللغة العربية المنطوقة بدرجة ما في أسفاره، ولكن تعلم قراءة وكتابة اللغة كان أمرا آخر؛ فنظرا للوضع السياسي، كان من الصعب عليه أن يعقد صلة مع الباحثين المسلمين أثناء أسفاره في الشرق. ويبدو أن أديلار كان مفتونا ومعجبا بالعلم العربي، ولكنه لم يكن ذا معرفة غزيرة به كما كان يحب أن يظهر؛ إذ يشير الباحثون المعاصرون إلى غياب مصادر عربية محددة في كتاباته وتوصلوا إلى أنه حصل على معرفته بالعلم العربي واللغة العربية شفاهية، وليس عن طريق القراءة. على سبيل المثال، عندما سافر أديلار إلى طرسوس في قيليقية، تعلم التشريح البشري من رجل مسن، بين له كيفية عمل الأوتار بتعليق جثة في ماء جار. ويصف أيضا اختباءه تحت جسر بالقرب من أنطاكية عندما ضرب زلزال المنطقة، وهي تفصيلة تتيح لنا معرفة التاريخ وهو عام 1114. تقع أنطاكية، التي تأسست في القرن الرابع قبل الميلاد على يد واحد من قادة الإسكندر الأكبر، على ضفاف نهر العاصي. كانت أنطاكية، مع سلوقية بييريا، مينائها البحري على البحر المتوسط، مركزا رئيسيا على طريق الحرير، ينعم برخاء متنام لدرجة أنها نافست مدينة الإسكندرية في بعض الأحيان. عاشت فيها جاليات من اليهود لقرون، وكذلك بعض أوائل المسيحيين. ومع استيلاء الصليبيين على المدينة، سنة 1098، كانت قد حكمتها الإمبراطورية العربية والبيزنطيون، ولفترة وجيزة، الأتراك السلاجقة. وقد أفسح هذا المجال لخليط ثقافي فعال وكثير من الفرص لتبادل الأفكار. كانت اللغة العربية هي لغة أنطاكية الرئيسية، وسرعان ما أصبحت المدينة قاعدة مهمة للأوروبيين الغربيين في الشرق الأوسط. وكان البيزيون (أهل مدينة بيزا) هم أول من استغل ذلك، وتبعهم بعد وقت قصير الفينيسيون والجنويون. كان البيزيون قد ساندوا الصليبيين بالسفن والدعم البحري. وكانت مكافأتهم عبارة عن حي في مدينة أنطاكية، حيث استقروا سنة 1108، وأنشئوا مراكز تجارية على امتداد الساحل ونظموا أساطيل تجارية، كانت تنقل حمولات من التوابل والسكر والقطن والنبيذ والأقمشة الغالية إلى إيطاليا. كانت توجد أحياء للبيزيين والفينيسيين في القسطنطينية أيضا، بوصفها جزءا من شبكة التأثير الأوروبي المتنامية في الشام ومنطقة شرق البحر المتوسط.
طوال هذه الحكاية رأينا كيف تفتح التجارة سبلا تتدفق من خلالها المعرفة والأفكار، بفضل التجار والدبلوماسيين، الذين كثيرا ما كانوا علماء، أيضا. وكان كثير من البيزيين يندرجون ضمن هذه الفئة. في أوائل القرن الثاني عشر، غادر ستيفن الأنطاكي مدينة بيزا وسافر إلى سوريا، حيث تعلم العربية وأنتج ترجمة جديدة لكتاب «كامل الصناعة الطبية» لعلي بن العباس؛ لأنه لم يعتبر أن نسخة قسطنطين أفريكانوس، المسماة «الكليات»، غير كافية فحسب، بل غير دقيقة أيضا. ربما يكون ستيفن قد زار أنطاكية في نفس وقت زيارة أديلار لها، وإن كان كذلك، فمن المغري أن نفترض أنهما التقيا. لا بد أن مجتمع الباحثين كان صغيرا للغاية؛ لذا ليس الأمر خارج نطاق الاحتمال على الإطلاق. من المؤكد أن أديلار كان من شأنه أن يبحث عن أفراد لهم الاهتمامات الفكرية نفسها أينما ذهب. بل إنه من الممكن أن يكون ستيفن هو مصدر الإلهام لنشاط أديلار اللاحق في الترجمة ويمكن أن يكون قد ساعده في الحصول على المخطوطات.
ثمة دليل واحد يشير إلى أن أديلار حصل على كتب في أنطاكية؛ وهو دليل يعود بنا لفترة وجيزة إلى إسبانيا. فقد كتب يوحنا الإشبيلي في تمهيد ترجمته لكتاب ثابت بن قرة «كتاب الطلاسم» أن النسخة التي عمل منها كانت مملوكة لرجل من أنطاكية. وقد أشار الأستاذ تشارلز بيرنت، أكبر عالم متخصص في وقتنا هذا في هذه الفترة، إلى أن هذا الرجل يمكن أن يكون أديلار، الذي ترجم هو نفسه «كتاب الطلاسم» بعد عودته إلى إنجلترا، مستبدلا على نحو هزلي مدينة باث ببغداد في تعويذة تخليص مدينة من العقارب.
19
بعد أن أنهى أسفاره في الشرق، لا بد أنه لم يكن ثمة مشكلة لدى أديلار في أن يركب سفينة تجارية، في صور، أو في ميناء أنطاكية نفسها، كانت متجهة غربا إلى إيطاليا أو صقلية، ومن هناك كان بإمكانه أن يشق طريقه ببطء عائدا إلى إنجلترا.
جرت زيارة أديلار إلى صقلية في وقت كانت فيه الثقافة اللاتينية قد بدأت في بسط هيمنتها؛ فسكان الجزيرة المسلمون كانوا قد اعتنقوا المسيحية أو هاجروا إلى الأندلس أو شمال أفريقيا. كان ويليام الأول (المعروف بويليام السيئ) وويليام الثاني (المعروف بويليام الطيب)، وريثا عرش روجر الثاني، أقل اهتماما بالثقافة العربية وأيضا كانا أقل مهارة في الإمساك بزمام الأمور، وهو الأمر الذي كان له أهمية بالغة؛ إذ شجع الاضطراب الناجم أثرياء المسلمين، ومنهم مثلا الإدريسي، المؤتمن على أسرار روجر الثاني، على مغادرة صقلية بحثا عن مكان أكثر ملاءمة لحياة سلمية ومنتجة. ولكن رغم انخفاض الكثافة السكانية المسلمة، ظلت الجزيرة نقطة توقف مهمة لشتى أنواع المسافرين عبر البحر المتوسط. وفي عام 1184، وصل حاج أندلسي يدعى ابن جبير إلى هناك في طريق عودته لدياره من مكة. وبقي في صقلية خلال شهر ديسمبر وترك لنا وصفا مفصلا لما عاين. أعجب الرجل بالمناظر الطبيعية؛ مما جعله يثني على الجزيرة أعظم ثناء بأن وصفها بأنها: «ابنة الأندلس في سعة العمارة وكثرة الخصب والرفاهة.» وقال عن الملك ويليام الثاني: «وله الأطباء والمنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم، شديد الحرص عليهم، حتى إنه متى ذكر له طبيب أو منجم اجتاز ببلده أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسليه عن وطنه.»
20
بل إن ابن جبير زعم أن ويليام كان يستطيع القراءة والكتابة بالعربية، مما يبين أنه، رغم هيمنة اللاتينية في ذلك الوقت، كانت صقلية لا تزال ثقافتها متعددة اللغات.
قبيل نهاية القرن الثاني عشر، مات ويليام الثاني، تاركا عرشه بلا وريث. فانتقل التاج الصقلي إلى عمته، كونستانس، التي تزوجت من الإمبراطور الروماني المقدس من آل هوهنشتاوفن، هنري السادس. لم يرق للصقليين احتمال أن تحكمهم سلالة ألمانية، ولم يسعدهم كونهم قد أدرجوا ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأعقب ذلك أربع سنوات من القتال قبل أن يتمكن هنري السادس من فرض سيطرته وتتويج نفسه في كاتدرائية باليرمو، يوم عيد ميلاد المسيح سنة 1194؛ في إشارة إلى ذكرى والد زوجته، روجر الثاني. لم تكن كونستانس إلى جواره؛ إذ كانت على البر الرئيسي، بالقرب من مدينة أنكونا، تلد ابنهما الوحيد، فريدريك. بعد ذلك بثلاثة أعوام فحسب، توفي هنري. فاتخذت كونستانس قرارا حكيما بتتويج ولدها الصغير ملكا للمساعدة على ضمان خلافته، ولكنها ماتت في السنة التالية، تاركة إياه يتيما. وبحسب الروايات الخرافية التي توارثتها الأجيال، كبر فريدريك في شوارع باليرمو، وتعلم ست لغات واعتنى به مواطنوه. وعندما بلغ أشده، سنة 1208، بدأ على الفور في استعادة السيطرة من النبلاء الذين أمسكوا بزمام السلطة أثناء فترة حداثته. كان الإمبراطور الشاب شخصية أسطورية من سن مبكرة، وكان شديد الذكاء والموهبة والإبهار، حتى إنه عرف ببساطة باسم «أعجوبة العالم».
7
ربما يكون اسم آل دي هوتفيل قد اندثر، ولكن روح الفضول الفكري التي تحلى بها روجر الثاني استمرت وازدهرت لدى حفيده فريدريك، الذي أولى البحث العلمي الرعاية وشجع الترجمة. كان جده من آل هوهنشتاوفن، فريدريك بارباروسا، هو أيضا من الداعمين المتحمسين للتعليم، مانحا امتيازات، في عام 1158 «لكل الباحثين الذين يسافرون للخارج من أجل طلب العلم ... فمن خلال تعلمهم سيزداد العالم استنارة وستثرى حياة المواطنين».
21
استمر فريدريك الثاني في تقديم هذه الرعايات وبسط نطاقها، محفزا عالم البحث العلمي ومتوسعا في الجامعات. واستمر هذا حتى إنه «بحلول نهاية العصور الوسطى أصبح آلاف من الطلاب على الطريق»؛ وهو أمر تسبب في توسع كبير في نشر الأفكار.
22
شكل 7-3: مخطط توضيحي للفسيفساء في كنيسة مارتورانا (لوحة جدارية) وكنيسة بالاتين (أعمدة).
كان البلاط الإمبراطوري هو الآخر في حراك دائم؛ فمع أن باليرمو ظلت عاصمة إمبراطورية فريدريك، فإنه لم يقض أي وقت يذكر هناك وهو رجل راشد؛ إذ تطلبت الأقاليم الشاسعة التابعة له انتباهه، وعندما كان في الجنوب، كان أسعد حالا في أبوليا، وكان يفضل أيضا نابولي، وكانت الجامعة التي أنشأها هناك هي التي طغت على المدرسة الطبية في ساليرنو. اجتذب بلاط فريدريك أكثر رجال هذا العصر موهبة وطموحا. ومن بين العلماء الكثيرين الذين كانوا حوله، يبرز اثنان؛ مايكل سكوت وليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي.
كشأن أديلار قبل قرن مضى، كان سكوت كثير الأسفار، وكان يترك دياره في اسكتلندا لمتابعة دراسته، ويعتقد أنه درس في دورهام، ثم أكسفورد وباريس. يوجد، لا محالة، كثير من الفجوات في مسار رحلته، ولكن من المؤكد أنه كان في طليطلة في الثامن عشر من أغسطس سنة 1217؛ إذ إنه في ذلك اليوم وقع ترجمته لكتاب «الهيئة» للبطروجي وأرخها. وقد أنتج هذا النص، وتراجم سكوت لكتاب أرسطو «عن الحيوانات»، وتعليق لابن رشد على كتاب أرسطو الرئيسي عن الكوزموغرافيا «عن السماوات والأرض»، كلها في تلك المدينة، وبقيت النسخ هناك. بعد ذلك سافر سكوت إلى إيطاليا، آخذا معه نسخا من عمله، وسرعان ما أصبحت هذه النسخ متداولة هناك أيضا. في ذلك الوقت، كان سكوت قد أتقن اللغة العربية؛ مما يشير إلى أنه أمضى في إسبانيا بعض الوقت، يتعلم اللغة ويدرس مع المستعربين المحليين. لا بد أنه كان على قدر كبير من الإجادة في الرياضيات والعلوم حتى يقدم هذه التراجم، التي اعتمد فيها أيضا على كثير من النصوص التي ترجمت إلى اللاتينية قبل ذلك ببضعة عقود على يد جيرارد الكريموني والمترجمين الطليطليين الآخرين. كان سكوت على صلة وثيقة مع رودريجو، رئيس أساقفة طليطلة، ومن المحتمل أنه كان يعرف الأعضاء الأصغر سنا في دائرة جيرارد؛ رجال أمثال المترجم العظيم لعمل جالينوس، مارك الطليطلي؛ لذلك يعتبر مايكل سكوت قناة رئيسية لحركة الكتب والأفكار من إسبانيا إلى إيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى كونه عضوا مهما من أعضاء جيل المترجمين في طليطلة الذين خلفوا جيرارد وزملاءه.
حسبما يورد البابا جريجوري التاسع، كان سكوت يعرف أيضا العبرية، التي يمكن أن يكون قد تعلمها هي الأخرى في طليطلة، من جماعة الباحثين اليهود هناك. في مرحلة لاحقة في حياته، تبادل أيضا المراسلات مع باحث يهودي في باليرمو. نشأ كثير من القصص الغريبة والرائعة حول مايكل سكوت، وكان الجانب الأكبر منها يعتمد على شهرته بوصفه منجما؛ وهي مهنة كانت تتأرجح بين القبول والرفض؛ إذ كانت تحظى بتقدير وموثوقية لدى الحكام العلمانيين، ولكنها كانت تتعرض على نحو متكرر لتنديد الكنيسة وشيطنتها لها. يحكى أنه تنبأ بموته بضربة على الرأس من صخرة ساقطة من أعلى، وحتى يتجنب هذا المصير، صنع خوذة من المعدن، كان يرتديها طوال الوقت، ولكنها لسوء الحظ لم تحمه عندما سقطت قطعة من حجارة البناء من سقف كنيسة عندما كان يحضر قداسا، فقتلته على الفور. كانت اهتمامات مايكل واسعة النطاق، كما يمكن أن تتوقع من باحث موهوب في هذه الفترة. فكان طبيبا، على إلمام جيد بكل من التعليم الطبي الساليرني والأطباء العرب مثل الرازي. واستخدم هذه المصادر في أشهر عمل له، وهو كتاب «علم الفراسة»، الذي يتناول التسبيب والتكهن، بالاستعانة بالأحلام والتشريح البشري. واعتمد على كتاب «المجسطي» وعلى «جداول طليطلة» في واحد من أعماله في الفلك، ولكن تراجمه لكتابات أرسطو، التي جعلها متاحة باللغة اللاتينية للمرة الأولى، هي أهم إرث نصي خلفه.
وصل سكوت إلى جامعة مدينة بولونيا السريعة النمو نحو عام 1220. يمكننا أن نكون على يقين مطلق بأن أمتعته كانت مملوءة بالكتب، ولكن، فيما عدا ذلك، ليس لدينا أدنى فكرة عن الكيفية التي سافر بها. كان فريدريك الثاني في بولونيا في ذلك الوقت نفسه، ومن المحتمل جدا أن يكون هذا هو التوقيت الذي التقيا فيه لأول مرة، وانخرط سكوت في خدمته. ارتقى سكوت سريعا إلى مكانة مرموقة وعاش بقية حياته في صحبة البلاط الإمبراطوري، مسافرا أينما ذهبوا. وتوطدت علاقة وثيقة بينه وبين الإمبراطور؛ إذ تشاركا كثيرا من الاهتمامات وتناقشا بشأنها مطولا. كذلك أجريا معا تجارب، لاختبار تأثير الفصد عندما يكون القمر في برج الجوزاء وحاولا قياس السماء باستخدام برج. أجبر فريدريك الكنيسة على السماح بإجراء عمليات تشريح البشر لأول مرة منذ عام 150 ميلادية، بينما قدم سكوت دراسات حالة مفصلة عن مرضاه. ثمة أوجه تشابه هنا، وإن كانت على نطاق أكثر تواضعا، مع بيت الحكمة في بغداد. فكشأن الخليفة المأمون، طرح فريدريك الثاني تساؤلات عرف عنها أنه توجه قائمة من الاستفسارات إلى الباحثين والحكام في أنحاء الإمبراطورية والعالم الإسلامي. وقد سجل الفيلسوف العربي ابن سبعين الإجابات التي تلقاها فريدريك في كتاب «المسائل الصقلية». تعد هذه الأسئلة نافذة على عقل إنسان العصور الوسطى؛ إذ تكشف الشواغل الفكرية في ذلك الوقت وحدود المعرفة. ينبع كثير من الأسئلة من الملاحظة المدققة لعالم الطبيعة، ومثال ذلك سؤال مثل: «لماذا يبدو المجداف أو الرمح أو أي جسم مستقيم مغمور جزئيا في ماء صاف، منحنيا (أو بالأحرى: مائلا) نحو السطح؟» ومثل: «سأل الإمبراطور عن السبب وراء أن النجم سهيل (كانوبوس في المجموعة النجمية كارينا) يبدو للعين المجردة أكبر في صعوده منه في حال حضيضه.» وعلى ما يبدو أن بعض الكتاب المسلمين اعتقدوا أن تلك الأسئلة طرحت لاختبارهم، ولكن فريدريك لم يعرف الإجابات؛ إذ كانت بمنزلة محاولات جادة لإثارة حوار فكري. قدم سكوت نفسه بعض الردود في أحد أعماله، موضحا أن الأرض دائرية، مثل الكرة، ولكنها محاطة بالماء، مثل المح في البيضة، منتقلا إلى مناقشة الحركة البركانية، وهي ظاهرة شغلت الحكام الصقليين والزوار والباحثين لقرون.
لم يكن في أوروبا مكان أفضل للباحث من بلاط فريدريك؛ فقد كان مركز التألق الفكري، ولكنه كان مركزا دائم التنقل باستمرار؛ من باليرمو إلى نابولي، ومن بولونيا إلى بيزا، ومن بريشيا إلى بادوا، ومن فيينا إلى فيرونا، ومن فرانكفورت إلى كونستانس، ومن برينديزي إلى القدس؛ مسار من شأنه أن يصيب المسافر الأكثر تمرسا في السفر بالدوار. لأول مرة في هذه القصة، كان مركز الحياة الأكاديمية ثابتا في موضع واحد؛ مما يزيد زيادة هائلة من فرص نقل المعرفة وتوفير شبكة جاهزة يمكن من خلالها للمعرفة أن تتدفق. كان مرحبا بالباحثين من كل العقائد، ما دام بمقدورهم مجاراة الأمر. وكان الأكثر عبقرية بينهم جميعا هو ليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي. تعلم فيبوناتشي، نتاج إمبراطورية بيزا التجارية، على يد أفضل علماء الرياضيات العرب في بوجي (مدينة بجاية الحالية)، على ساحل شمال أفريقيا، حيث كان والده يعمل لحساب غرفة التجارة التابعة لمدينة بيزا. وقد مكنه هذا من مزج العبقرية النظرية لجبر الخوارزمي والأعداد الهندية العربية ونظام الترميز الموضعي مع المتطلبات العملية لتجارة مدينة بيزا. كشأن مايكل سكوت، شق هذا الشاب ذو الموهبة الاستثنائية طريقه إلى بلاط فريدريك، حيث أصدر كتبا أصبحت أساس دراسة الرياضيات في أوروبا الغربية. يحدد كتابه «كتاب العدد» (والمعروف أيضا باسم «كتاب العد»)، المكتوب في الأصل سنة 1202، مبادئ الحساب وساعد على تعميم نظام الأعداد الهندية العربية في أوروبا.
في سنة 1227 أو 1228، أصدر فيبوناتشي إصدارا جديدا من هذا الكتاب، وأملاه على مايكل سكوت، الذي كان قد طلب نسخة منه. في التمهيد، يذكر فيبوناتشي أيضا أنه ألف كتابا يدعى «الهندسة العملية». تركز أطروحته، المستندة إلى أطروحة «العناصر»، تركيزا خاصا على العناصر غير النسبية المدرجة في الكتاب العاشر، مستخدما الجبر بأثر مدمر في التفريق بين جذور المعادلات التكعيبية والمعادلات التربيعية غير النسبية. كانت تلك على ما يبدو مهمة أوكلها إليه باحث آخر في بلاط فريدريك، هو جون الباليرمي، وتناقش الاثنان في هذه المعضلات الرياضية مع الإمبراطور نفسه حينما كان البلاط في مدينة بيزا.
يظهر الحوار بين الباحثين المسيحيين والمسلمين في هذه الفترة الكيفية التي كانوا ينتقلون بها بين عالميهم، ليضع بعضهم تحديات لبعض، وليعملوا معا، ويتشاركوا الأفكار ويوسعوا حدود المعرفة. لم يزد اهتمام فريدريك، الذي نشأ خلال طفولته في باليرمو، بالعالم العربي إلا عندما سافر إلى الأرض المقدسة في 1228-1229 وخاض التجربة بنفسه. تعجب من نمط الحياة المترف، وجرب ابتكارات في الصيد بالصقور، وتعلم لعب الشطرنج، وأعجب بالتركيز على العلم في بلاط السلطان؛ وعندما عاد إلى أوروبا، أخذ معه كثيرا من هذه الإبداعات.
حافظت صقلية على مكانتها بوصفها مركزا للتجارة المتوسطية، ولكن نجمها، في نواح أخرى، كان في طريقه إلى الأفول. وإذ كان «أعجوبة العالم» يسعى إلى السيطرة على مملكته الشاسعة، ترك ديار الطفولة. ولأن النشاط الثقافي في باليرمو كان مركزا، في معظمه، داخل جدران القصر وضمن سيطرة البلاط، فقد تدهور تدهورا كبيرا عندما انتقل البلاط. ضمن تأسيس فريدريك لجامعة في نابولي استمرار التعلم في جنوب إيطاليا، ولكن على حساب كل من باليرمو وساليرنو. في القرن التالي، تعزز وضع نابولي أكثر عندما أصبحت مقر ملك صقلية الجديد، شارل أنجو. أبقى شارل على تقاليد أسلافه فيما يتعلق بالبحث العلمي، وإن كان ذلك بطريقة متواضعة؛ فشجع الباحث نيكولو ريجيو على ترجمة عدد كبير من أعمال جالينوس من اليونانية إلى اللاتينية، متابعا التقليد الصقلي المتمثل في تجاوز النسخ العربية إذا تمكنوا من إيجاد نسخ باللغة اليونانية الأصلية. استبق هذا الجانب من البحث العلمي الحركة الإنسانية بقرون عدة؛ فكما سنرى في الفصل التالي، سيصبح الولع بالعودة إلى مواد المصادر اليونانية الأصلية سمة مميزة للعالم الفكري في عصر النهضة، على حساب إسهام البحث العلمي العربي.
كان اسم آل دي هوتفيل قد أصبح في طي النسيان منذ زمن طويل، ولكن رحلة النورمان المذهلة من سراق ماشية إلى ملوك تعد واحدة من الحكايات العظيمة في حقبة العصور الوسطى. فقد أدى نطاق تأثيرهم، الذي امتد من أقصى شمال إنجلترا إلى شواطئ جنوب إيطاليا، وأبعد من ذلك، إلى الشرق الأوسط وفي قلب القدس نفسها، إلى فتح خطوط اتصال أتاحت تبادل الأفكار على نطاق لم يسبق له مثيل. كان الباحثون الرحالة، الذين ينطلقون نحو المجهول بحثا عن الحكمة والتنوير، بمثابة عوامل رئيسية في نقل المعرفة وتغييرها في هذا العالم الجديد المترابط؛ إذ كانوا يتعلمون ويعلمون وينشرون الأفكار. حول النورمان صقلية إلى قوة كبرى، ومركزا في وسط منطقة البحر المتوسط، حيث كانت الأفكار تنتقل فيما بين الثقافات. وفي بلاطهم الباهر في باليرمو، أدخلوا البحث العلمي في أوروبا إلى النطاق العلماني للمرة الأولى منذ أن أصبحت الهيمنة للمسيحية، وبذلك أنشئوا نموذجا استنسخ في بلاط ملوك أوروبا لقرون. وصلت تقاليد الإمبراطوريات البيزنطية والمسلمة إلى أوروبا عبر وسائل تأثيرها، محدثة تغييرا عميقا في ثقافة البلاط الملكي ووسائل التعبير عن القوة. يقف النورمان جنبا إلى جنب مع الخلفاء الأمويين والعباسيين ضمن المجموعة المبجلة من الحكام الذين وسعت اهتماماتهم الفكرية الشخصية ومواهبهم حدود العلم.
بحلول وقت وفاة فريدريك الثاني، في عام 1250، كان العالم آخذا في التغير. بدأت القوى التجارية الإيطالية العظيمة في ذلك الحين في تحديد الأوضاع الجغرافية السياسية في منطقة البحر المتوسط. وفي شمال إيطاليا، بشر تعاظم دويلات المدن المستقلة بعهد جديد ؛ هو عصر النهضة.
هوامش (1)
وفي ذلك الطريقة التي كان ينظم بها فرض الضرائب وجمعها، وجوانب من النظام القضائي وطرق تسجيل الرقيق. (2)
تشكل هذه سابقة؛ اختار روجر الثاني، نجل روجر، هو الآخر الحجر البورفيري لمقبرته، وكذلك فعل بابوات لاحقون. (3)
كان أعضاء كثيرون من صفوة المسلمين واليهود قد غادروا صقلية أثناء الغزو النورماني؛ لذا تدهورت التجارة مع شمال أفريقيا والعالم العربي، ولكنها لم تختف كلية. تحول التركيز إلى أوروبا المسيحية التي كانت قد بدأت تبسط هيمنتها على البحر المتوسط. يسلط الضوء على هذا بصورة شائقة رحلة ابن جبير من عكا إلى صقلية في عام 1184. فقد أبحر ابن جبير على متن مركب من جنوة، مع خمسين حاجا مسلما و2000 حاج مسيحي. لو أن ذلك كان قبل هذا الوقت بقرن لكانت النسب قد انعكست، ولكان المركب قد انتمى على الأرجح إلى تاجر مسلم. انظر: ترجمة آر جيه سي برودهيرست لكتاب «رحلات ابن جبير» (لندن، جيه كيب، 1952) وكتاب سارة ديفيز سيكورد «ملتقى عوالم ثلاثة: صقلية في منطقة البحر المتوسط أوائل العصور الوسطى» (إيثاكا، نيويورك، دار نشر جامعة كورنيل، 2017)، ص238-239. (4)
في ذلك الوقت، كان المسلمون لا يزالون يشكلون غالبية تعداد سكان صقلية. (5)
ارتدى روجر العباءة أمام الجماهير ومن أجل الترحيب بالضيوف، ولكن نسله من آل هوهنشتاوفن، الأباطرة الرومان المقدسين، كانوا يستخدمونه رداء للتتويج. (6)
جزء مما يسمى «المجموعة الوسطى/الفلك الصغير» الذي كان يدرس بين أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي». (7)
لم تكن الألقاب الأخرى جذابة للدرجة؛ فالسلطة البابوية، التي حرمته كنسيا أربع مرات على الأقل، دعته «المسيح الكذاب» و«معاقب العالم».
الفصل الثامن
فينيسيا
مكان أشبه بعالم بأكمله أكثر من كونه مدينة.
ألدو مانوتسيو
قادوني عبر أطول طريق، يطلقون عليه اسم القنال الكبير، وهو واسع جدا حتى إن القوادس كانت على نحو متكرر يتجاوز بعضها بعضا؛ لقد رأيت سفنا وزنها أربعمائة طن أو أكثر راسية إلى جوار المنازل تماما وقد أنزلت المرساة. أعتقد أنه أجمل الطرق وأحسنها بناء في العالم ويمضي مباشرة عبر المدينة. تتسم المنازل بالضخامة والارتفاع ، وهي مبنية من الحجارة؛ والمنازل القديمة كلها مطلية؛ ولهذه المنازل المنتصبة منذ مائة سنة واجهات من رخام أبيض من إستريا، التي تبعد نحو مائة ميل، ومطعم برخام سماقي وصخور سربنتين. يشتمل معظم هذه المنازل على حجرتين لهما أسقف مذهبة، ومدافئ فاخرة، وهياكل الأسرة الذهبية اللون، ومداخلها من اللون نفسه، ومؤثثة بأثاث فاخر للغاية. إنها، بإيجاز، أروع المدن التي رأيتها على الإطلاق، وأكثرها احتراما لكل السفراء والغرباء، تدار بأعظم قدر من الحكمة، وتخدم الرب بأقصى قدر من الإجلال.
السفير الفرنسي فيليب دي كومين (نحو 1447-1511)، متجولا في فينيسيا في عام 1495
تبدأ قصة فينيسيا في القرنين الخامس والسادس، بينما كان العالم الروماني يتعرض للانهيار من الداخل وللهجوم من الخارج. تحولت الطرق المعبدة المستقيمة التي كانت تنقل الفيالق الرومانية، والتجار والحجاج بكفاءة حول الإمبراطورية لقرون إلى سبل للإرهاب، والجيوش الغازية تسير عليها نحو روما. وفي طريقها، كانت تمر بأعظم مدن شمال إيطاليا؛ أكويليا وألتينو وبادوا، وتتوقف لا لشيء إلا لتعيث فسادا بفرض الحصار والسيف والنار. فر أولئك الذين تمكنوا من الهرب صوب البحر، حاملين المتعلقات القليلة التي تمكنوا من إنقاذها. عندما وصلوا إلى حافة الماء، وجدوا أنفسهم في عالم جديد غريب. في الركن الشمالي الشرقي من إيطاليا، لم يكن يوجد تمييز واضح بين اليابسة والبحر، فلا أجراف لها خلجان وشواطئ، ولا فاصل صخري بين النطاقين. هنا، حيث ينعطف الساحل حول أعلى البحر الأدرياتيكي، يتحد العنصران على مساحة شاسعة مسطحة. ينزلق الماء فوق الرمال المتموجة، وتظهر الجزر وتختفي، وتنمو غابات من البوص في أراضي المستنقعات، ويظهر الضوء الساطع متلألئا عبر أعداد لا حصر لها من قطرات الماء المتبخر، ويفصل سديم متألق، يبدو كأنه خيالات خارقة مستحضرة في الأفق، الزرقة الساطعة للسماء عن زرقة الماء الشاحبة المائلة للخضرة.
على مدى آلاف السنين، كان النهران العظيمان، بادي وبيافا، قد رسبا كميات ضخمة من الطمي، المحمول من الجبال، في الخليج. شكلت التيارات الطمي على هيئة خط منحن من الأجراف الرملية، التي تجري موازية للساحل، مكونة بحيرة شاطئية ضخمة من المياه الضحلة في المنتصف، عازلة البحر المفتوح عن بضع قنوات يتدفق إليها الماء دخولا وخروجا مع ارتفاع المد وانخفاضه كل يوم. لم يكن ملاذا للطيور والأسماك والبعوض فحسب، وإنما أيضا للاجئين الذين تمكنوا من الوصول إلى الجزر العشبية المتغيرة في قوارب صغيرة مسطحة القاع؛ كانت هي الزوارق الوحيدة التي يمكنها الإبحار في المياه المتقلبة. جعل هؤلاء الناس، الذين كانوا يتسمون بالصلابة والدأب، حياتهم تتمحور حول هذا العالم المائي المنبسط، يحميهم البحر الذي فصل بينهم وبين البر الرئيسي، ولكن في الوقت نفسه، كانت موجات المد والجزر العالية التي كان بإمكانها أن تغمر بيوتهم في أي لحظة، تشكل لهم مصدر تهديد مستمر، وأحيانا تغمر المدينة إلى وقتنا هذا. تعلم هؤلاء الناس، الذين كانوا يعرفون باسم شعب فينيتو، البقاء، وأخيرا، الازدهار. اعتمدوا في تأمين احتياجاتهم من الغذاء على الأسماك الوفيرة في البحيرة الشاطئية وغمروا جذوع أشجار ضخمة في الماء لتكون أساسا لمنازلهم، وعادوا إلى المدن المدمرة في البر الرئيسي للحصول على الحجارة والرخام والطوب والخشب؛ وأي مواد بناء يمكنهم العثور عليها ونقلها.
بدأت مجتمعات صغيرة في النمو على مجموعة الجزر الصغيرة في وسط البحيرة الشاطئية. وتولى حكم هذا المجتمع، الذي تطور بنظام الحكم الخاص به، شخص يطلق عليه مسمى
dux (وتعنى القائد باللغة اللاتينية، والتي تحولت، بمرور الوقت، إلى كلمة دوق
doge )، والذي انتخب لأول مرة في عام 697 ليحكم مدينة فينيسيا الناشئة. كان الفينيسيون يتصفون بسعة الحيلة والتصميم؛ فوضعوا جسورا فوق قنوات المياه الضيقة، وأنشئوا السدود لمواجهة تيارات المد والجزر العالية، وجففوا الأرض من الماء، وبنوا قوارب ضيقة مسطحة القاع يمكنها أن تغطس في الماء وتنزلق عبره بسلاسة، وطوروا طرقا فعالة لتحقيق أقصى استفادة من الحياة في البحيرة الشاطئية. ليس من الممكن إنتاج المحاصيل في البحر، ولكنه مورد للربح وذلك عن طريق إنشاء أحواض الملح؛ وهي مناطق بها مياه ضحلة تتبخر في الشمس، تاركة هيكتارات من المعادن البراقة، التي فصلوها ببكرات وجدفوا بها وصولا إلى البر الرئيسي لمقايضتها بالقمح والشعير. لقد أجبرهم هذا الافتقار إلى الاكتفاء الذاتي على التجارة وعلى الإبحار ليس فقط في النهرين الكبيرين إلى الأسواق في كريمونا وبافيا وفيرونا، وإنما أيضا في البحر المفتوح على امتداد ساحل شبه جزيرة إستريا. كان التحكم في البحر الأدرياتيكي يمثل أمرا جوهريا لقدرة الفينيسيين على التجارة في البحر المتوسط والشرق، وسرعان ما أنشئوا سلسلة من المحطات التجارية على طول الساحل، وعرضوا الحماية على السكان من القراصنة الأشرار الذين روعوا المنطقة، في مقابل السلطة. وفي عام 998، أضاف دوق فينيسيا لقب قائد دالماسيا إلى قائمة ألقابه.
منذ البداية، كان الفينيسيون مستقلين. وقد حولوا عزلتهم إلى ميزة بالابتعاد عن السياسة في البر الرئيسي، بينما ركزوا على التجارة والدبلوماسية. جغرافيا، كانت مدينتهم الآخذة في النمو في موقع ممتاز بين القوتين السياسيتين الكبريين في ذلك الوقت؛ الإمبراطورية البيزنطية شرقا، ومملكة الفرنجة غربا. في عام 814، أبرم سكان فينيسيا معاهدة عبرت بوضوح عن وضعهم. ربما كانوا أحد أقاليم الإمبراطورية الرومانية، ولكنهم، كانوا، في الوقت نفسه، يدفعون خراجا للفرنجة. كان يمكن لهذا أن يؤدي بهم إلى الحصول على أسوأ ما في الجانبين، ولكنه، في الواقع، وضع الفينيسيين في مكان مميز بين الإمبراطوريتين، والأهم أنه منحهم حقوقا تجارية وحرية استخدام الموانئ الإيطالية. في عام 1082، وسع البيزنطيون الحقوق التجارية الفينيسية، وأعفوهم من الضرائب والرسوم الجمركية في سائر أنحاء الإمبراطورية، وهو ما شكل لحظة حاسمة أخرى بالنسبة إلى النمو التجاري للمدينة. بحلول عام 1099، كانت توجد تجارة توابل مربحة مع مصر، وكانت فينيسيا في طريقها لإنشاء أنجح إمبراطورية بحرية عرفها العالم على الإطلاق.
كان الحكم المستقر الديمقراطي نسبيا والتنظيم الصارم والإخلاص المطلق للمدينة هي العناصر التي شكلت جوهر النجاح الاستثنائي الذي حققته فينيسيا. لم يكن الإخلاص عمليا فحسب، بل كان دينيا أيضا. آمن الفينيسيون بأن لمدينتهم جذورا إلهية، فوقروها، محققين مستويات مرتفعة ارتفاعا غير عادي من الولاء والتماسك الاجتماعي. بينما كانت بقية أوروبا ترزح تحت نير النظام الإقطاعي، الذي في ظله كانت العائلات النبيلة تمزق أوصالها وأوصال كل من حولها في صراعات عنيفة على السلطة، ازدهرت فينيسيا باعتبارها أول جمهورية في عالم ما بعد العصور القديمة. كان سكانها متحدين اتحادا وطيدا حول مشروع مشترك هو تمجيد مدينتهم المحبوبة، التي أطلقوا عليها لقب «أكثر الجمهوريات سكينة». نبعت هذه الوحدة من تحديات الحياة في البحيرة الشاطئية. أجبر الفينيسيون على العمل معا من أجل البقاء فحسب، من أجل التغلب على المشكلات التي واجهتهم جراء بيئتهم المتقلبة. وكان هذا الوجود المحفوف بالمخاطر يعني أنهم آثروا الاستقرار على كل شيء آخر، وخاصة فيما يتعلق بحكم المدينة. كان التنظيم والتعاون والسيطرة أمورا ذات أهمية جوهرية لبقاء الجميع، وسرعان ما نشأ إطار إداري، يشرف عليه الدوق والنبلاء؛ أعضاء العائلات المؤسسة للمدينة.
كبرت المدينة، ولكن ليس بالطريقة العشوائية التوسعية نفسها للمدن على البر الرئيسي؛ فكل صف جديد من المنازل، وكل قناة، وكل ميدان كان مخططا بعناية. وكشأن بغداد وقرطبة، وزعت فينيسيا أنواع الصناعة المختلفة على مناطق مختلفة؛ إذ كانت بنيتها القائمة على الجزر مناسبة تماما لهذا الشكل من تخطيط المدن، الذي كان أمرا مستحدثا في أوروبا في ذلك الوقت. من المحتمل أن يكون التجار، الذين زاروا تلك المدن وأعجبوا بتصميمها وتنظيمها، هم الذين جلبوا معهم هذه الفكرة إلى فينيسيا. أصبحت جزيرة مورانو مركز صناعة الزجاج عندما نقلت المسابك إلى هناك، في القرن الثالث عشر، لحماية المدينة من النيران؛ إذ شكلت الأفران الهادرة التي كانت تصهر الزجاج خطرا على مبانيها الخشبية المتراصة جنبا إلى جنب بإحكام. من القرن الثاني عشر فصاعدا، كان الركن الشمالي الشرقي من المدينة مقرا للترسانة (من العبارة العربية «دار الصناعة» وتعني «مكان الإنشاء»)، ساحة السفن الفينيسية، حيث كانت تتراوح أعداد العمال بين 6000 و16 ألف رجل، الذين كانوا يشتغلون ببناء السفن من كل نوع، والتي كانت تباع وتبحر حول العالم. كان هذا بمنزلة القوة المحركة للإمبراطورية الفينيسية، ومنشأ أسطولها البحري، أسطول سفنها التجارية والحربية التي كانت القوى الكبرى تشتريها بتلهف طوال حقبتي العصور الوسطى وعصر النهضة. وجاء أعظم تحد واجهته الترسانة في عام 1204، عندما وافقت الدولة الفينيسية على تجهيز الحملة الصليبية الرابعة بأكملها ؛ الأمر الذي كان يعد مخاطرة مالية هائلة، ولكنها مخاطرة آلت إلى خير في النهاية. فقد استرد الفينيسيون السيطرة على مدينة زارا، التي تعرف الآن باسم زادار، ودفع لهم قادة الحملة الصليبية أموالهم كاملة، حتى إنهم تمكنوا من تدبير أمر إعادة توجيه الحملة ضد القسطنطينية نفسها، وما نتج عن ذلك من نهب للمدينة، قاده الدوق الأعمى الشهير، إنريكو داندولو، الذي زود المدينة بقدر هائل من المال وأكوام من القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وفي ذلك أربعة خيول برونزية استنسخت وموجودة الآن في واجهة كنيسة بازيليكا دي سان ماركو؛ والخيول الأصلية محفوظة بالداخل لوقايتها من تقلبات الأحوال الجوية.
شكل 8-1: خريطة لفينيسيا في القرن الثاني عشر، وفيها اتجاه الشرق إلى الأعلى.
ولعل من غير المستغرب أن فينيسيا، التي أسسها أناس مبعدون، لها تاريخ في الترحيب بالغرباء، وأصبحت مقصدا للحجاج والسياح على السواء منذ وقت مبكر. فقد فتح السكان المحليون الذين كانوا يتحلون بروح المبادرة خانات مثل «لوبستر»، «لونا هوتيل» و«ليتل هورس»، وقدموا خدماتهم بوصفهم مرشدين في ميدان سان ماركو، حيث كان أصحاب الأكشاك يبيعون الوجبات الخفيفة والهدايا التذكارية، مثلما يفعلون اليوم. في وقتنا هذا، تعد السياحة الصناعة الأكبر (والوحيدة، من عدة وجوه) في المدينة. يأتي نحو ثلاثين مليون شخص كل عام، إلى مدينة يبلغ تعداد سكانها 54 ألف نسمة فقط؛ مما أكسب فينيسيا سمعة باعتبارها ديزني لاند إيطاليا. يأتي الزوار ليتأملوا متعجبين المدينة العائمة، ذات الطرق العامة المائية والجمال الآسر. عند الوقوف في متحف «جاليريا ديل أكاديميا»، أمام لوحة من عصر النهضة للمدينة، سيذهلك ضآلة التغيير الذي حدث لها. فالعمارة والجسور وزوارق الجندول تبدو كما هي؛ وباستثناء الملابس المنمقة، الاختلاف الملحوظ الوحيد هو أن أطباق الأقمار الصناعية قد حلت محل المداخن الكثيرة على أسطح المباني. تبدو فينيسيا كأنما توقف عندها الزمن، وكأنها مدينة ترفيهية تاريخية لا يقحم العالم الحديث فيها نفسه كثيرا، مكان يسود فيه الجمال والقدم، حيث تهالك المباني نفسه مشبع بالعظمة. كثير من السياح المعاصرين هم فقط من زوار اليوم الواحد، حيث يصلون على سفن سياحية يسمح لها بالرسو في البحيرة الشاطئية، وهو أمر مثير للجدل. ففي العصور الوسطى، كان الزائرون يمكثون وقتا أطول كثيرا، وغالبا ما كانوا يستقرون ويجعلون فينيسيا موطنهم لسنوات عديدة، وكان يشجعهم على ذلك أجواء التقبل والبيئة التجارية المواتية التي تتسم بها المدينة. في القرن الثاني عشر، بدأ تدفق مستمر من التجار الألمان في الوصول، حيث أقاموا في منطقة مزدحمة بالقرب من جسر ريالتو، حيث بنوا، في عام 1228، مقرهم الرئيسي، المعروف باسم «فونداكو دي تيديسكي». كان هؤلاء الشماليون المغامرون جزءا من موجة من المهاجرين أحدثت تضخما في تعداد فينيسيا، الذي كان قد وصل، بحلول عام 1300، إلى 120 ألف نسمة.
1
الجالية الكبيرة الأخرى كانت اليونانيين، الذين أتوا للعيش والتجارة في فينيسيا بأعداد كبيرة، وجلبوا معهم ثقافتهم القديمة ولغتهم، والأرجح أنهم كانوا أحد الأسباب وراء مجيء الشاعر والعالم بترارك إلى فينيسيا في عام 1351. أراد أن يتعلم اليونانية حتى يستطيع ترجمة النصوص الكلاسيكية القديمة التي كان قد جمعها في أسفاره، والتي من شأنها أن تقدم أساسا للحركة التي أصبحت تعرف باسم الإنسانية. كان بترارك صديقا للدوق، أندريا داندولو (1306-1354)، الذي ينسب إليه فضل المساعدة في إطلاق عصر النهضة في فينيسيا بتاريخه المشرق بفضل بحوثه الوافية عن المدينة، وحظي الرجلان بعلاقة فكرية مفعمة بالحيوية. بعد مغادرة بترارك للمدينة، استمرت هذه العلاقة عن طريق الرسائل، وهي مراسلات تابعها أمناء داندولو بعد وفاته؛ إذ كانوا حريصين بشدة على مواكبة التطورات البحثية العلمية في بقية إيطاليا، حتى إنهم أقنعوا بترارك بالعودة إلى فينيسيا، آملين في أن يترك مجموعته التي لا مثيل لها من الكتب للمدينة عند وفاته. لسوء الحظ، أفسد الخطة جدال حول المنطق الأرسطي مع بعض من النبلاء الفينيسيين. فحمل بترارك الغاضب مخطوطاته في مركب وأبحر عائدا إلى البر الرئيسي، ولم يعد أبدا.
كان بترارك من الآباء المؤسسين لعصر النهضة في إيطاليا، ملهما الجيل التالي أن يجمع المخطوطات وأن يشجع طلب العلم بأي وسيلة ممكنة، وكان يتراسل مع باحث شاب يدعى كولوتشيو سالوتاتي (1331-1411) ويشجعه ، فمضى سالوتاتي في إنفاق قدر كبير مما كان يجنيه من عمله، بصفته مستشار فلورنسا، على مجموعة تتألف من 800 مخطوطة؛ كانت إحداها هي الترجمة اللاتينية لكتاب «المجسطي» التي أوردناها في معرض حديثنا عن صقلية. كان سالوتاتي هو من أرسى فلورنسا مركزا للحياة الفكرية في إيطاليا في القرن الرابع عشر، والسوق الرئيسي للنصوص الكلاسيكية؛ ففي العام 1396، دعا سالوتاتي الدبلوماسي البيزنطي مانويل كريسولوراس للمجيء وتعليم اللغة اليونانية في المدينة؛ وهي المرة الأولى التي أتيح فيها دراسة اللغة باعتبارها مادة أكاديمية منذ أكثر من ألف عام.
1
كذلك كان لدى سالوتاتي من بعد النظر ما جعله يكتب إلى كريسولوراس ويطلب منه أن يحضر معه أكبر قدر يمكنه إحضاره من المخطوطات اليونانية من القسطنطينية. أمضى كريسولوراس ثلاثة أعوام فقط في فلورنسا، ولكن تعليمه، الذي كان ممتازا، بناء على رسائل المديح التي تلقاها، لم يكن له أثر هائل على طلابه فحسب، بل أيضا على الأجيال المستقبلية التي استخدمت كتابه المدرسي لقواعد اللغة اليونانية. مثلت القواميس وكتب القواعد النحوية وغيرها من وسائل المساعدة اللغوية جانبا حيويا من جوانب انتشار العلم في هذه الفترة؛ إذ كانت ميزة هائلة لأي شخص يحاول أن يتعلم لغة جديدة أو أن يترجم مخطوطا. في السابق، لم يكن بمقدور أحد سوى المعلم أو المترجم (كما كان سائدا في طليطلة وصقلية) أن يقدم هذا النوع من المعرفة. ركز الجزء الثاني من منهج كريسولوراس على الترجمة من اليونانية إلى اللاتينية، وتحاشى أسلوب الترجمة الحرفية التي كان يتبعها المترجمون الأقدم أمثال جيرارد الكريموني، مفضلا، عوضا عن ذلك، التركيز على معنى النص.
كان تلاميذ كريسولوراس مترجمين غزيري الإنتاج؛ فكانوا يستخدمون مهاراتهم اللغوية التي كانوا قد اكتسبوها مؤخرا لإنتاج إصدارات جديدة محسنة من النصوص الكلاسيكية المترجمة مباشرة من الأصل اليوناني. في الوقت نفسه، كان الباحثون الشجعان يشدون الرحال منطلقين إلى أديرة بعيدة في جبال إيطاليا آملين في العثور على نصوص قديمة مهملة، استطاعت البقاء والصمود عبر قرون في مكتبات تلك الأديرة، بل إن بعضهم، من أمثال بوجيو براشيوليني، الذي كان ناسخا في الديوان البابوي، مضوا لأبعد من ذلك، متوجهين شمالا عبر جبال الألب إلى ألمانيا وسويسرا. في كتابه المثير للاهتمام «الانحراف»، يصف المؤرخ ستيفن جرينبلات الرحلات التي قام بها بوجيو، «صائد المخطوطات البارع»، إلى أديرة مثل سان جال ودير كلوني. كان بوجيو كاتب رسائل بارعا؛ إذ كانت شخصيته يتردد صداها من خلال المكاتبات التي تبادلها مع أصدقائه ومعارفه الكثيرين، وكان باحثا واسع الاطلاع، عمل لحساب بابوات عديدين، وكان بمقدوره أن يستشهد بكتابات شيشرون بقدر ما شاء، ولكنه أيضا كان رجلا كتب مجموعة من القصص القصيرة الماجنة، وكان يثيره زيارة الحمامات العامة أثناء سفره في ألمانيا: «من المضحك رؤية النساء العجائز الهرمات وكذلك الشابات يمضين عرايا إلى الماء أمام أعين الرجال ويعرضن أعضاءهن الحساسة ومؤخراتهن للناظرين.»
2
كما كتب لصديقه نيكولو نيكولي.
أثمرت استكشافات بوجيو لمكتبات الأديرة في الجبال حول بحيرة كونستانس بعض النتائج الجديرة بالاهتمام؛ إذ وجد بضع خطب مجهولة لشيشرون ومخطوطا يحتوي على الأعمال الكاملة لكينتيليان، وقد حظي كلاهما بقبول حسن من رفاقه من أصحاب النزعة الإنسانية في إيطاليا. ومع ذلك، فقد طغى اكتشافه الأخير على كل الاكتشافات الأخرى. ففي يناير من سنة 1417، على رف مترب في أعماق مكتبة بأحد الأديرة، وجد بوجيو نسخة من كتاب «في طبيعة الأشياء»، للفيلسوف الروماني لوكريتيوس؛ وهو كتاب لم يكن قد رأى النور لقرون، وكان الناس يتداولون عنه شائعات فحسب. احتوت هذه القصيدة الغنائية الملحمية المعقدة، التي كانت الكنيسة تدينها وتقمعها لأكثر من ألف سنة، على أفكار كانت متمردة جدا، وتهدد النظام القائم بشدة؛ لذا كان بقاء هذا العمل في حد ذاته بمثابة معجزة.
2
كان لوكريتيوس (99-55ق.م) أبيقوريا، يتبع مدرسة فلسفية تأسست في اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد، على أساس الاعتقاد (الذي تبين بعد ذلك أنه كان ينطوي على رؤية ثاقبة متبصرة) بأن كل شيء في الوجود يتكون من لبنات بناء صغيرة جدا. أطلق الأبيقوريون على هذه اللبنات اسم «الذرات»؛ شيء بالغ الصغر فلا يمكن تقسيمه أكثر من ذلك، ولا يمكن خلقه ولا تدميره. في كتاب «في طبيعة الأشياء» يتبنى لوكريتيوس بحماسة هذا الطرح ومجموعة الأفكار التي تستند إليه وهي: لا يوجد خالق ولا تدبير إلهي؛ وكل شيء في الخليقة قد تطور ويستمر في التطور والتكيف والتكاثر؛ والإنسان مجرد كائن من ملايين الكائنات الحية على الكوكب وليس له دور محوري أو متفرد في الكون؛ وليس ثمة حاجة إلى الخوف من الموت؛ لأن الروح تموت ولا توجد حياة بعد الموت. لا تزال هذه الأفكار تثير قدرا كبيرا من الجدل في بعض الأجزاء من العالم إلى يومنا هذا؛ لذا تخيل إلى أي مدى كانت بالتأكيد خطيرة ومؤثرة على ما يبدو في مجتمع كان يخضع بأكمله لسيطرة وحكم الكنيسة المسيحية. فيما يتعلق بالدين، كان كتاب «في طبيعة الأشياء» يتسم بالصرامة: «كل الأديان المنظمة هي عبارة عن أوهام خرافية ... وتتسم دوما بالقسوة.» يرى الأبيقوريون أن «الهدف الأسمى للحياة البشرية هو زيادة المتعة وتقليل الألم»؛ وهو مبدأ يتناقض تناقضا مباشرا مع الرسالة المسيحية التي تقول إن المعاناة في هذا العالم تكسبك سرورا في العالم الآخر.
3
حور الكتاب المسيحيون هذه الفكرة ليصفوا الأبيقوريين بأنهم فاسقون وعديمو الأخلاق، ولا يهتمون إلا برغباتهم المنحطة. في نواح كثيرة، تظهر القصيدة وكأنها بيان لمنهجية العلم الحديث، وهي تتسم برؤية بعيدة المدى لدرجة أننا ما زلنا لم نفهم فهما تاما أو نستكشف تماما كل الأفكار التي تناقشها. كان لدى بوجيو نسخة كتبت في مكتبة الدير وأرسلها إلى صديقه، نيكولو نيكولي، الذي دون نسخته الخاصة بطريقة جميلة، وهي عملية استغرقت مدة طويلة بلغت أربعة عشر عاما. أصبحت مطالب بوجيو بعودة القصيدة مشحونة على نحو متزايد، وما إن تلقاها أخيرا، حتى بدأ تداول نسخ منها وبدأ شعر لوكريتيوس الآسر في التدفق عبر شبكات أوروبا الفكرية، معاودا الظهور في كل أنحاء القارة؛ في الجمال السريالي للوحة بوتيتشيلي «مولد فينوس»، ومعالجة ميشيل دي مونتين للجنس والموت في «المقالات»، و«الذرات الصغيرة المؤتلفة» التي تصاحب الملكة ماب في مسرحية «روميو وجولييت».
4
بقيت خمسون مخطوطة من كتاب «في طبيعة الأشياء» من القرن الخامس عشر، وهو عدد ضخم، يبين شعبيته؛ التي ازدادت أكثر عندما طبع العمل للمرة الأولى، في مدينة بريشيا، نحو سنة 1473-1474. وتبع هذا إصدارات في فيرونا سنة 1486 وفينيسيا سنة 1495، ونشرت دار ألدين للطباعة أنجح هذه الإصدارات كلها في عام 1500.
كان كتاب «في طبيعة الأشياء» مثالا نادرا لنص لاتيني يحتوي على أفكار علمية، ولكن العلماء الذين كانوا مهتمين بالرياضيات، أو الفلك، أو الطب عرفوا أنهم كانوا بحاجة إلى التركيز على العثور على مخطوطات يونانية؛ ومن أجل هذه المخطوطات، ولوا وجوههم صوب الشرق، وكانت فينيسيا، بإمبراطورية التجارة الشاسعة التابعة لها، التي تشمل معظم الجزر في بحر إيجه، وموانئ في الشرق الأوسط وجالية نشطة في القسطنطينية نفسها، في وضع لا يضارع يتيح لها المساعدة. استكشف المسئولون الفينيسيون، الذين كانوا متمركزين في مواقعهم على هذه الجزر بصفتهم قضاة وحكاما محليين، بأنفسهم قيمة التعليم اليوناني، المستند إلى دراسة أعمال الأدب الكلاسيكي والفلسفة والعلوم باللغة اليونانية الأصلية؛ فاشتروا مخطوطات وجلبوها معهم لدى عودتهم إلى فينيسيا، ورسخوا دروس اللغة بوصفها جزءا من المنهج الدراسي في مدارس المدينة التي كانت تتبع النزعة الإنسانية، وكتبوا تعليقات، وعملوا على طباعة المخطوطات، وجمعوا ذخيرة من النصوص اليونانية. في عام 1463، أنشئ كرسي للغة اليونانية في جامعة بادوا، المركز الوحيد للتعليم العالي في نطاق فينيسيا والمكان الذي كان النبلاء يرسلون أبناءهم إليه ليستكملوا دراساتهم. مع مرور سنوات هذا القرن، تعززت تدريجيا جودة تعليم النبلاء وزاد اهتمامهم بالأفكار الكلاسيكية.
انضم الباحثون من خلفيات طبقية أدنى، سواء كانوا فينيسيين أصليين أو زوارا، إلى الدوائر الفكرية للنخبة ولعبوا دورا في إثرائها. ووصل اليونانيون بأعداد كبيرة أثناء العقود السابقة والشهور التي تلت مباشرة استيلاء الأتراك على القسطنطينية، في عام 1453. لم تعد المدينة القديمة آمنة لسكانها المسيحيين، وعندما فروا غربا، كانت فينيسيا، بعلاقاتها الوطيدة مع الشرق الأدنى اليوناني، الوجهة الواضحة. هنالك، وجدوا مواطنين يونانيين وإيطاليين ناطقين باليونانية وموقفا منفتحا تجاه وطنهم الأم. عند مغادرتهم القسطنطينية، أخذوا معهم أقيم وأعز مقتنياتهم؛ الذهب والجواهر، بديهيا، والأعمال الفنية ، والمال، والأشياء الخاصة بالعبادة، والكتب. كانت واحدة من أهم وأخطر حالات تبعثر المخطوطات في التاريخ. انتزع آلاف من النصوص التي كانت قد أبقيت في أمان بالمكتبات القديمة بالمدينة في شبه جزيرة القرن الذهبي من رفوفها وعبئت في صناديق خشبية، ثم دحرجت على عربات يد إلى الميناء وحملت في السفن التي أقلت مالكيها إلى المنفى في أوروبا. عندما وصلت هذه المخطوطات إلى إيطاليا، كان الباحثون أصحاب النزعة الإنسانية في انتظارها، والريشات في أيديهم، جاهزين لنسخها وترجمتها وتحريرها، لإنتاج أفضل وأدق نسخ لإعادة اكتشاف الحكمة النقية لليونانيين القدماء، التي لم تفسدها القرون المنصرمة.
من بين كل العلماء العظام الذين وصلوا من الشرق في هذه الحقبة، كان الأشهر هو باسيليوس بيساريون (1403-1472)، من طرابزون، على ساحل البحر الأسود. كان بيساريون قد تلقى أفضل تعليم متاح في القسطنطينية، ثم درس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة في بيلوبونيز مع الحكيم الذائع الصيت جيمستوس بليثو. سرعان ما ارتقى بيساريون، الذي كان باحثا موهوبا يتمتع بملكة الدبلوماسية، التدرج الهرمي للكنيسة الأرثوذكسية، وفي ثلاثينيات القرن الخامس عشر، أرسل إلى إيطاليا ضمن وفد للتفاوض بشأن إعادة توحيد الكنيستين الشرقية والغربية. كانت رغبته في إعادة توحيد العالمين اليوناني واللاتيني هي الملهم لكل جانب من جوانب مسيرته المهنية الطويلة والمدهشة؛ كان بمنزلة قناة اتصال لنقل الناس والأفكار والكتب من بيزنطة إلى إيطاليا، ومن اليونانية إلى اللاتينية. في خضم اضطلاعه بهذا الدور، أنقذ قطاعات كبيرة من الثقافة اليونانية التي لولا ذلك لكان الغزاة الأتراك العثمانيون قد دمروها. أعجب الإيطاليون ببيساريون إعجابا كبيرا حتى إن البابا إيجين الرابع جعله كاردينالا، وهو شرف غير مسبوق لرجل دين أرثوذكسي، وشكل تنصيبه مؤشرا على دخوله إلى الحياة الإيطالية رسميا؛ فانتقل إلى منزل فخم على طريق أبيان، في روما، كانت غرفه جيدة التهوية وشرفاته الظليلة تعج بالمهاجرين اليونانيين الذي كانوا قد وصلوا لتوهم من القسطنطينية، كان من بينهم باحثون شبان مهرة، منهم العظماء، ومنهم الجيدون ومنهم المثقفون. في ظل رعايته الكريمة والملهمة، أصبح المنزل أكاديمية غير رسمية للنزعة الإنسانية، تحوي عددا من أضخم وأثمن مجموعات الكتب في أي مكان في أوروبا. أقام الكاردينال منسخا في منزله لتزويد مجموعته ومن كانوا يزورونه بالمخطوطات، وعمل جنبا إلى جنب مع الباحثين، وتزخر هوامش كثير من المخطوطات التي امتلكها بملاحظات كتبها بيده. كما أنتج تراجمه الخاصة به، وتماشيا مع رغبته العامة في الوحدة، كتب أطروحة سعت إلى إحداث تناغم بين الفلسفة الأرسطية وفلسفة أفلاطون. ومع ذلك فإن أعظم آثاره هي مكتبته «الأكثر ثراء في كل المكتبات التي تشكلت أثناء عصر النهضة»،
5
التي احتوت على بعض من أندر وأثمن المخطوطات التي بقيت إلى يومنا هذا.
كان منصب بيساريون بصفته مبعوث البابا يعني أنه كان يسافر أسفارا واسعة النطاق، وأينما ذهب، كان دائم البحث عن علماء يتشابهون معه في الميول والأفكار وعن كتب جديرة بالاهتمام. في عام 1460 كان في فيينا، حيث التقى بعالمي فلك موهوبين هما جورج فون بيورباخ (أو بيويرباخ) ويوهان مولر (الذي يعرف باسم ريخيومونتانو). كان من شأن هذا اللقاء أن يؤدي إلى عواقب بعيدة المدى ليس على المشاركين فيه فحسب، وإنما على التطور العام للعلم. كان بيورباخ هو معلم ريخيومونتانو، الذي كان باحثا لامعا، درس في إيطاليا خلال شبابه ورفض عروض عمل من جامعات بولونيا وبادوا. وعاد، بدلا من ذلك، إلى موطنه النمسا من أجل تدريس ودراسة النجوم. كانت نسخته الهائلة من «جداول ألفونسين»، المحدثة بعمليات الرصد التي أجراها، هي الأحدث في السلسلة الطويلة من جداول النجوم التي التقينا بها. كان هذا عمل بيورباخ الأعظم. كان ريخيومونتانو، الذي قبل في الجامعة وهو بعد غض في الثالثة عشرة من عمره، بلا شك ألمع تلاميذ بيورباخ وأبكرهم نضوجا، وسرعان ما صار شريكه الأكاديمي؛ فقاما معا بعمليات رصد، ملاحظين ظهور مذنب هالي في يونيو عام 1456، وناقشا عملهما بلا توقف، وكذلك عمل علماء الفلك الآخرين. كلفهما بيساريون بإنتاج إصدار جديد موجز من كتاب بطليموس «المجسطي» يمكن استخدامه في التدريس؛ فشرعا في العمل من فورهما، ولكن بيورباخ مات فجأة في العام التالي، ولم يكن عمره قد تجاوز السابعة والثلاثين؛ لذا تابع ريخيومونتانو العمل وحده، وأكمله في عام 1462.
لعب كتاب «الملخص» دورا محوريا في نقل كتاب «المجسطي». كان الكتاب، الأيسر في التناول بسبب طوله (نصف طول الكتاب الأصلي)، واضحا للغاية وجيد التنظيم؛ ومن ثم «أتاح لعلماء الفلك فهما لكتاب بطليموس لم يكونوا قد تمكنوا في السابق من تحقيقه».
6
اشتمل الكتاب على نظريات من مجموعة كبيرة من علماء الفلك، من بينهم ثابت بن قرة والزرقالي ومؤلفو «جداول طليطلة»، وكان يستند إلى ترجمة جيرارد الكريموني اللاتينية لعمل بطليموس العظيم، ومكملا بتفاصيل من المخطوط اليوناني الأصلي المملوك لبيساريون.
3
كان هذا هو المخطوط نفسه الذي كان هنريكوس أريستبوس قد جلبه إلى صقلية من القسطنطينية؛ وهو موجود اليوم في مكتبة سانت مارك الوطنية في فينيسيا. في عام 1496، أي بعد ثلاثين عاما فقط من انتهاء ريخيومونتانو منه، طبع «الملخص» في فينيسيا، وأصبح كتابا دراسيا معتادا في المنهج الدراسي للجامعة وأتاح لعلماء الفلك المستقبليين، كوبرنيكوس وبراهي وكيبلر وجاليليو، إمكانية الاطلاع على عبقرية نظام بطليموس، والأهم من ذلك الاطلاع على أخطائه. وخلال معالجتهم لهذه المشكلات المحددة، توصلوا إلى حلول مبتكرة دفعت علم الفلك قدما نحو عهد جديد من الفهم.
تمكن بيساريون من إقناع ريخيومونتانو بالعودة معه إلى إيطاليا حتى يتمكنا من متابعة العمل معا. كانت علاقتهما واحدة من أهم وأخصب العلاقات العلمية البحثية في ذلك الوقت؛ إذ علم بيساريون ريخيومونتانو اليونانية، بينما تشارك ريخيومونتانو مع راعيه فهمه الواسع للرياضيات والفلك، وكتب ملاحظات على مخطوطات أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي» ليفسر مسلمات إقليدس ونموذج بطليموس للكواكب. وصلا إلى منزل الكاردينال في روما في العشرين من نوفمبر سنة 1461، وألقى ريخيومونتانو أول نظرة له على مكتبة راعيه المذهلة، التي «باستثناء أعمال ببس الرومي ... احتوت على كل مصدر كلاسيكي أساسي لنهضة الرياضيات».
7
لا بد أنه كان حدثا هائلا في حياة عالم الفلك الشاب؛ فعندما كان ريخيومونتانو شابا، أسعده الحظ بالدراسة تحت إشراف بيورباخ، الذي لم يتشارك معه ولعه بالعلم فحسب، وإنما كان قد زار إيطاليا ودونما شك أحضر معه لدى عودته كتبا لم تكن متاحة في أي مكان آخر في النمسا. لا بد أن الوصول إلى روما لأول مرة كان تجربة مدهشة، من رؤية للخرائب الكلاسيكية المتناثرة عرضا في أنحاء المدينة، والشعور بأصداء الماضي القديم في كل مكان. وما كان منزل بيساريون ليخيب توقعه؛ من باحثين يشحنون الجو بجدال محتدم باليونانية والإيطالية واللاتينية؛ والمنسخ بصفوف طاولات كان يجلس إليها النساخ وينقشون على رزم من جلد الرق والورق؛ ثم بعد ذلك الكتب؛ إذ وجد مئات منها، تملأ خزائن في الحوائط، بعضها جديد تماما، وبعضها قديم. لا بد أن مشهدها بهر ريخيومونتانو.
لم تكن مكتبة بيساريون هي المجموعة الرائعة الوحيدة في روما في ذلك الوقت؛ ففيما بين عامي 1447 و1455، كانت مكتبة الفاتيكان قد تحولت على يد البابا المنتمي إلى حركة النزعة الإنسانية نيكولاس الخامس، الذي كان معجبا ولعا بالتعليم الكلاسيكي وتلميذا سابقا لكريسولوراس. كان يجتذب جامعي الكتب والباحثين من كل أنحاء إيطاليا للمجيء والدراسة في الديوان البابوي، وأرسل وكلاء إلى الدنمارك وألمانيا واليونان بحثا عن نصوص جديدة، فزادت مقتنيات المكتبة من عدد ضئيل بلغ 340 مجلدا إلى 1160 عندما وافته المنية.
4
كانت النصوص اليونانية تترجم بانتظام على يد فريق ضم بوجيو وشريكه القديم صائد المخطوطات جيوفاني أوريسبا ولورينزو فالا وكثيرا من الباحثين اليونانيين الذين وصلوا حديثا من القسطنطينية. تحت إرشاد نيكولاس الخامس، كانت مكتبة الفاتيكان قد وضعت على مسار التحول إلى أكبر مستودعات النصوص في العالم قيمة وإثارة للإعجاب؛ فهي تحوي اليوم 60 ألف مخطوطة و8000 من كتب المراحل الأولى لعصر الطباعة. كان بيساريون مشاركا عن كثب في هذا المسعى، ناصحا ومشجعا صديقه. عرف البابا والكاردينال بعضهما بعضا جيدا، وبقدر ما جمعهما منصباهما في الكنيسة، جمعهما ولعهما بطلب العلم، وبالرياضيات تحديدا.
5
طوال الأعوام القليلة التالية، جاب ريخيومونتانو أنحاء إيطاليا، وكان ذلك في أغلب الأحيان بصحبة بيساريون، ملتقيا بالإنسانيين العظام في ذلك الوقت؛ ليوناردو بروني وليون باتيستا ألبيرتي وتوسكانيلي وآخرين غيرهم. وألقى سلسلة من المحاضرات في بادوا عن «كل تخصصات علم الرياضيات»؛ وفي ذلك الفلك العربي، والجهد الذي بذله بشأن كتابات أرشميدس، والكثير غير ذلك بلا شك. زار ريخيومونتانو فينيسيا مع بيساريون، عندما أرسل الكاردينال إلى هناك موفدا باباويا، وزار أيضا فيتيربو (حيث قام بعمليات الرصد الفلكي خاصته)، وفيرارا وربما أيضا فلورنسا. كذلك وجد متسعا من الوقت ليكتب عملا رائدا عن حساب المثلثات. ومع ذلك، بحلول عام 1467، كان قد ودع الكاردينال وعاد إلى النمسا، وربما ما دفعه إلى العودة هو رغبة في مشاركة المعرفة التي اكتسبها مع مواطنيه، كما فعل مرشده، بيورباخ من قبله.
كان بيساريون قد زار فينيسيا مرات كثيرة وافتتن بسحر المدينة الواقعة على البحيرة الشاطئية. فبصفته موفدا، كان قد أقام في الدير البندكتي على جزيرة سان جورجيو ماجيوري، ومن هناك كان بمقدوره أن يتطلع عبر مياه البحيرة الشاطئية الباهتة نحو ساحة قصر الدوقية وواجهته الجديدة، تتألق تحت أشعة الشمس، ولكن لم يكن جمال فينيسيا وحده هو ما أعجبه. فقد كان معجبا بنظام الحكم الفريد - «أكثر الجمهوريات سكينة» - وفتنه تقاربها مع وطنه. في عام 1468، كان الكاردينال في الخامسة والستين من عمره، وكان قد بدأ يفكر فيما يمكن أن يحدث لمجموعة كتبه الآخذة في الازدياد عندما يفارق الحياة. كان الفاتيكان، القريب جدا من منزله في روما، هو الاختيار الواضح. كذلك فكر في فلورنسا، موطن كثير من رموز عصر النهضة الريادية الفاعلة، الذين كانوا رائدين في استخدام الرياضيات في الفنون. كانت قبة برونليسكي الثمانية الأضلاع، المستوحاة من العمارة الكلاسيكية والتي أمكن بناؤها بفضل الهندسة التطبيقية، ورافعات ضخمة، قد اكتملت منذ وقت قريب، بينما كانت إعادة اكتشافه للمنظور الخطي تحدث تحولا في طريقة تصوير الفنانين للعالم، ولكن الرب أنعم بالفعل على فلورنسا بمجموعة كتب رائعة، أشهرها تلك الكتب التي أنشأتها عائلة ميديشي الحاكمة؛ مكتبة عامة في دير سان ماركو ومكتبة خاصة في منزلهم. لم تمتلك فينيسيا شيئا مماثلا؛ ومن ثم عزم بيساريون على أن يوصي بمجموعته الثمينة للمدينة، وكتب إلى الدوق كريستوفورو مورو:
تتجمع تقريبا كل شعوب العالم في مدينتك، ويفعل اليونانيون ذلك بالأخص. حال وصولهم عن طريق البحر من بلدانهم ينزلون أولا في فينيسيا، تجبرهم الضرورة على المجيء إلى مدينتكم والعيش وسطكم، وهناك يبدو الأمر كأنهم يدخلون بيزنطة أخرى. وفي ضوء ذلك، لا أجد من أحد أقدم له هذه الوصية أنسب من الفينيسيين الذين أدين لهم أنا نفسي وملتزم نحوهم بموجب التزام بسبب أفضالهم المعروفة على شخصي، وعلى مدينتهم، التي اخترتها بلدا لي بعد إخضاع اليونان والتي استقبلت فيها وعرفت على نحو مشرف.
8
وما أن اتفق على الشروط، حتى وقع على صك الهبة. ففي مقابل «تسعمائة مجلد ممتاز باليونانية واللاتينية، تساوي نحو 15 ألف دوقية»،
9
من شأن الدولة الفينيسية أن تقدم مبنى مكتبة مناسبا لإيواء الكتب، ولجعلها متاحة «للطلاب من كل الأمم»،
10
ولكفالة عدم إخراجها من المدينة.
في أواخر القرن الخامس عشر، كانت فينيسيا في أوج تفوقها التجاري. كان يقال إن أي شيء حلمت به يمكنك شراؤه هناك. وحسبما أورد أحد الزوار، كانت ساحة سان ماركو هي «سوق العالم».
11
لا بد أنها كانت تذهب بعقول المسافرين القادمين من شمال أوروبا، الذين كانت تنهال عليهم الحشود والباعة المتجولون والمرشدون والمحتالون والشحاذون ورائحة القنوات الكريهة ورائحة التوابل والغناء الحزين لقائدي مراكب الجندول واصطدام الماء المستمر بالصخور. كل عام، كان معرض رائع يملأ الساحة لأسبوعين صاخبين. وكان الآلاف يتوافدون ليحدقوا ببلاهة في تجار من جهات الأرض الأربع يستعرضون سلعهم الغريبة، وحرفيين محليين يبيعون مرايا لامعة، ودانتيل مكشكش وآنية زجاجية رقيقة تلألأت بكل لون من ألوان قوس قزح. كانت المدينة هي عاصمة الرفاهية في العالم، وموردة الموضة وملكة التجارة. كانت ساحة سان ماركو ممتلئة دائما بالتجار، ولكن مركز الأعمال الحقيقي في المدينة كان منطقة ريالتو. في القرن الحادي عشر، أنشأت الحكومة مكاتب تنظم الشئون الاقتصادية وكبر حجم السوق. بعد ذلك بمائة عام، كانت قد تطورت إلى سوق مترامية الأطراف، بأروقة تضم محال متخصصة حول الأطراف، وبنوكا خاصة، ومخازن ومراسي على القناة، حيث كانت البضائع باستمرار تحمل وتفرغ.
مولت الثروات الهائلة التي نتجت عن نجاح فينيسيا الاقتصادي بناء قصور شاسعة على ضفاف القنال الكبير ، عرفت باسم
casas
أي المنازل. وقد اختصرت الكلمة إلى
Ca’
في اللهجة الفينيسية التي تتسم بتقطع الصوت. كانت توجد بيوت خاصة ومكاتب عامة لسلالات النبلاء العظام، حيث كانوا يأكلون مع أطفالهم ويعقدون الصفقات مع التجار القادمين من الخارج. كان المظهر هو كل شيء، فلم يكن ثمة حاجة لبناء قلاع محصنة وحفر خنادق في مدينة محاطة بالمياه. ومنح هذا المعماريين والبنائين الفينيسيين حرية التركيز الكامل على الجمال والشكل. تنافست عائلات النبلاء على امتلاك أروع الواجهات ذات الشرفات المغالى فيها والنقوش الغنية بالتفاصيل. وبالغت عائلة بون في هذه المنافسة أيما مبالغة بجعل الأسوار الخارجية لقصرهم مطلية بالذهب؛ مما أكسبه لقب «منزل الذهب».
أصبح الانحطاط والبذخ سمتين مميزتين لحياة النبلاء، ولكن كذلك كان حال الثقافة والبحث العلمي، اللذين واصلوا السعي فيهما بلا خجل، داعين ألمع الباحثين إلى المجيء والعمل في المدينة. درس النبلاء الفينيسيون الشبان في البيت على يد مدرسين خصوصيين وفي المدارس التي أنشئت مؤخرا، التي اتبعت المنهج الدراسي الإنساني، فدرست اللغة اليونانية إلى جانب مواد أكثر تقليدية، مثل الخطابة والمنطق. وعندما أنشئت مدرسة للفلسفة في حي ريالتو، سنة 1397، كانت الرياضيات جزءا لا يتجزأ من هذا المنهج. أعدت هذه المؤسسات تلاميذها للدراسة في جامعة بادوا، التي حظيت، في منتصف القرن الخامس عشر، بسمعة ممتازة فيما يختص بتدريس الفنون وكذلك الطب. سافر الباحثون من كل أنحاء أوروبا لدراسة الفلسفة الأرسطية الطبيعية، وأول بضعة كتب من أطروحة «العناصر» لإقليدس وأجزاء من كتاب «المجسطي». في الطب، كانت الكتب الرئيسية لجالينوس وأبقراط، بالإضافة إلى أقسام معينة من ترجمة جيرارد الكريموني لكتابي «القانون» لابن سينا و«الحاوي» للرازي.
كانت بادوا قد صارت تحت الحكم الفينيسي في عام 1405، وابتداء من عام 1407، حظر على شبان فينيسيا الدراسة في أي مكان آخر في إيطاليا، وهو مثال تقليدي على حاجة الدولة إلى السيطرة، ولكن كان لهذا أيضا آثاره الإيجابية؛ إذ كفل تبادلا مستمرا للأفكار بين المكانين. شجع تأثير بادوا المفكرين الفينيسيين على التركيز على العلوم، على العكس من عاصمتي ثقافة عصر النهضة الأخريين ، فلورنسا وروما، حيث كانت السيادة والأفضلية للفن والعمارة والفلسفة والأدب. فكونهم تجارا وملاحين، كان الفينيسيون براجماتيين، يولون اهتمامهم لتطبيق الأفكار العلمية على المعضلات العملية التي كانوا يصادفونها في الملاحة والمحاسبة وبناء القوارب والحرف اليدوية. ومع ارتفاع حجم التجارة وازدياد المعاملات تعقيدا، تزايد احتياج التجار إلى مستويات متطورة من المعرفة الرياضية. كانت أوسع تطبيقات النظريات الرياضية انتشارا في الحياة اليومية هي نظرية فيبوناتشي في الحساب، التي وضعها في كتابه المسمى «كتاب العد». كان يدرس في المدارس في كل أنحاء شمال إيطاليا، فكان يجهز الشباب بمهارات محاسبية، وأساسيات الجبر والهندسة الأولية. وحسب الكاتب جيوردانو كاردانو، بقيت أفكار فيبوناتشي الأكثر صعوبة، الجبر المعقد ونظرية العدد المتعلقة بمتتاليته الشهيرة، في حالة سبات لثلاثة قرون، إلى أن عثر باحث بيروجي شاب يدعى لوكا باتشولي (1447-1517) بالصدفة على نسخة من مخطوطة «كتاب العد» في مكتبة كنيسة سان أنطونيو دي كاستيلو، في فينيسيا. استوعب باتشولي هذه الأفكار وأدرجها في كتاب «ملخص الحساب»، الموجز الرياضي الوافي الضخم الذي جمعه، فوجه انتباه الأجيال التالية من الباحثين إلى تلك الأفكار.
كان باتشولي في المدينة يعمل مدرسا خصوصيا لعائلة فينيسية نبيلة، ويحضر محاضرات في «مدرسة ريالتو» في وقت فراغه. نحو عام 1470، غادر إلى روما، وأخيرا أصبح راهب فرانسيسكان، مكرسا نفسه لحياة قائمة على التنقل، ولكن يبدو أنه أمضى وقتا طويلا يدرس الرياضيات بقدر الوقت الذي أمضاه في الكرازة بكلمة الرب. كان بترارك وبوكاتشيو وغيرهما من الإنسانيين الأوائل قد شجعوا اللغة الإيطالية، وتابع باتشولي هذا، بالدعوة إلى الترجمة من اللاتينية إلى الإيطالية، وإلى أن تكتب الأعمال الجديدة بالعامية. آمن باتشولي بأنه ينبغي أن يحصل الجميع على الفرصة لتعلم الهندسة والحساب، وساند أيضا اتباع الأعداد الهندية العربية. ونتيجة لذلك، يحتل مكانة فريدة فيما يتعلق بانتشار الأفكار الرياضية أثناء عصر النهضة. كان باتشولي الباحث المتجول الأساسي، وجعله نمط حياته القائم على التنقل واحدا من أفضل الرجال ذوي العلاقات في عصره، ومرحبا به في كل بلاط نبيل وكل جامعة في شمال إيطاليا؛ فأقام مع المعماري ليون باتيستا ألبيرتي في روما، وزار نابولي، وفي فلورنسا عاش مع ليوناردو دافنشي لبعض الوقت، ويحمل اللقب المهم، وإن كان غير شائق، وهو لقب «أبو المحاسبة»، بفضل تفسيره الواضح لما كان يعرف باسم «طريقة فينيسيا» (تعرف الآن باسم مسك الدفاتر بنظام القيد المزدوج )، التي كانت تستخدمها أجيال من التجار. كانت اهتمامات باتشولي الرياضية واسعة اتساعا خاصا؛ فكتب في الحساب، وكان خبيرا في إقليدس وكان يلقي محاضرات بصفة منتظمة عن أطروحة «العناصر»، واضعا صيغا جديدة بكل من اللغتين اللاتينية والإيطالية، وجمع كل معرفته في عمله العظيم، «ملخص الحساب»، المكتوب بالإيطالية حتى يكون ميسرا على أكبر قدر ممكن من الناس، ونشر في فينيسيا، في عام 1494. يعد هذا الكتاب تجميعا بارعا لموضوعات عملية، مثل الأوزان والقياسات، مع المزيد من المجالات النظرية، مثل الجبر والهندسة، ولا يعد عملا مبتكرا، ولكن كان له تأثير هائل في القرن التالي بأن قدم للباحثين ملخصا مفيدا لنظريات إقليدس والخوارزمي وفيبوناتشي. شدد باتشولي على أهمية الدراسة والتطبيق العملي للرياضيات للمهنيين كالمساحين والنجارين والنقاشين والمعماريين، جامعا العناصر العملية والنظرية للرياضيات معا من أجل منفعة الجميع.
شكل 8-2: صورة إيضاحية مطبوعة بقالب خشبي لآلة من أوائل آلات الطباعة.
مؤخرا فقط أمكن نشر المعلومات على نطاق كذلك الذي كان باتشولي تصوره مع ظهور آلات الطباعة، التي جعلت الكتب في المتناول وميسورة التكلفة (نسبيا) لقطاع أكبر كثيرا من المجتمع. في منتصف ثلاثينيات القرن الخامس عشر، كان قاطع شاب للأحجار الكريمة في مدينة ستراسبورج، يدعى يوهان جوتنبرج (1400-1468)، قد صمم طريقة ثورية لإنتاج الكتب، تقنية من شأنها أن تغير مجرى التاريخ، مستخدما مهاراته في تشكيل المعادن، صب مئات من الحروف في سبيكة خاصة من القصدير والنحاس والأنتيمون، ورتب هذه الحروف على هيئة كلمات وفقرات داخل إطار، وكسى سطح الحروف بالحبر وثبت الإطار، ووجهه لأسفل، في مكبس خشبي كان قد صنعه، معتمدا على التصميم التقليدي لمكبس عصر التفاح. بعد إدخال ورقة وتمريرها في المكبس، جذب الذراع إلى الأسفل، فانطبع الحبر الموجود على الحروف في الورقة وشكل أول صحيفة نص مطبوع في العالم الغربي.
6
أمضى جوتنبرج سنوات عدة في إتقان تصميمه، ولكن بحلول عام 1450 كان قد عاد إلى ماينز، مسقط رأسه، وافتتح أول مطبعة. بعد مضي خمسة أعوام، طبع نحو 180 نسخة من عمله الأشهر، طبعة جوتنبرج للكتاب المقدس، في غضون بضعة أسابيع. كان النساخ سيمضون أعواما ليكملوا نفس المهمة، وكانت هذه الزيادة الهائلة في سرعة الإنتاج هي التي جعلت من آلة الطباعة شيئا بالغ الأهمية. لم يغب عن جوتنبرج ولا معاصريه العبقرية الرائدة في اختراعه، وانتشر الخبر كالنار في الهشيم. أعجب بيوس الثاني، الذي كان سيتولى منصب البابا في المستقبل القريب، بعينات من الكتاب المقدس المطبوع في فرانكفورت، وكتب إلى أصدقائه في إيطاليا يصف لهم مذهولا كم كانت حروف الطباعة واضحة. تدرب الرجال على صنع وتشغيل الطابعة، وهي مهارة انتشرت سريعا، في نطاق ألمانيا أولا وبعد ذلك في بلدان أخرى، وبخاصة إيطاليا.
7
على الفور رأى الفينيسيون، الذين يتحينون الفرص دائما، إمكانيات آلة الطباعة، وفي عام 1469، أصدروا لصالح يوهان من شباير امتيازا (احتكارا) لطباعة الكتب في فينيسيا، ينص على أنه: «سوف يحظى اختراع عصرنا الغريب هذا، رغم كونه مجهولا عبر الأزمنة السابقة، بالتشجيع والتحسين بكل السبل.»
12
مات يوهان في السنة التالية، ومات معه احتكاره؛ مما أتاح لآخرين، ومنهم شقيقه، ويندلين، أن ينشئوا مطابع في المدينة. وفي غضون ثلاث سنوات، كان قد نشر أكثر من 130 طبعة؛ وكان أكثر من نصفها عن الأدب الكلاسيكي وقواعد اللغة، وكانت المجموعة التالية الأكبر من النصوص هي النصوص الدينية، وكانت البقية كتبا في القانون أو الفلسفة أو العلوم. لم يكن ثمة شك في أنهم كانوا قد ساندوا أمرا ناجحا. في الحقيقة، كانت المدينة تمتلك كل الظروف اللازمة لازدهار الطباعة؛ جمهور ضخم من القراء المتعلمين، وقطاع بنوك جيد التنظيم لتوفير التمويل، وحكومة تمتلك روح المبادرة، وشبكة تجارة راسخة، والأهم إمدادات مضمونة من الورق من الأقاليم الفينيسية في البر الرئيسي. كان مجال صناعة الورق في ذلك الوقت قد صار مستقرا تماما في أوروبا، بعد أن استغرق قرونا عديدة لينتقل من بغداد إلى إيطاليا، عبر إسبانيا. الأهم من كل ذلك، أن المدينة لم تكن ترحب بالأجانب فحسب، بل كانت تدعوهم بالفعل إلى المجيء؛ فالجيل الأول من العاملين في مجال الطباعة جاء كله من ألمانيا، لينضم إلى المجتمع المزدهر للتجار الذين اجتمعوا في فونداكو دي تيديسكي. نتيجة لذلك، برزت فينيسيا سريعا في الطباعة. وبحلول عام 1500، كان يوجد نحو ثلاثين مطبعة تعمل في المدينة، وكان مصدر ما بين 35 و41 في المائة من مجموع عدد الكتب المطبوعة قبل عام 1500 مطابع فينيسية.
شكل 8-3: خريطة من القرن الخامس عشر لفينيسيا.
سرعان ما انطلقت الطباعة في فينيسيا، ولكنها دون شك لم تكن مهنة لذوي القلوب الواهنة؛ إذ كان الطابع يحتاج إلى طائفة عسيرة المنال من المهارات والخبرات؛ من أشغال الخشب والكيمياء واللغات وعلم المعادن. كان يتعين أن يكون فنانا ورجل أعمال وباحثا في الوقت نفسه، ثم أضف إلى ذلك المطبعة، التي كانت مكانا صاخبا خطرا حيث كان التعامل مع أحواض من الزيت المغلي التي تخرج الفقاعات وحيث التعامل مع المواد الكيميائية التي تسبب التآكل والزفت المشتعل (لصنع الحبر الأسود) من الأشغال اليومية، ناهيك عن تشغيل إطارات الطباعة الخشبية الثقيلة نفسها. كان كثير من الطابعين غير قادرين على التعامل مع التحديات التقنية الضخمة للعملية والنفقات المالية اللازمة لإنتاج الكتب. كان التنافس حامي الوطيس، وتوقف كثيرون عن العمل وخسروا كل شيء، ولم يتمكن سوى 25 بالمائة فقط من تجنب الإفلاس لأكثر من خمسة أعوام. كانت مطابع فينيسيا متركزة في منطقة ميرسيريا حيث الشوارع الضيقة المكتظة التي تصل بين ساحة سان ماركو وريالتو؛ كانت اللافتات التي تظهر أجهزة الطباعة الفردية الخاصة بكل مطبعة تتأرجح أمام كل منها، وكانت الكتب موضوعة خارجا على طاولات ليستعرضها الزبائن، بينما كانت الطابعات تقرع في الورش في الخلف.
أخرجت المطابع أنواعا كثيرة مختلفة من الكتب؛ كتبا في الأدب الكلاسيكي، وأدلة فلكية، وكتبا مدرسية، وكتبا مقدسة، وأدلة عملية، وعددا مذهلا من الأعمال العلمية. فيما يتعلق بالنشر العلمي في فينيسيا في أواخر القرن الخامس عشر، كانت الشخصية الأبرز هي رجلا يحمل اسما غير جذاب هو إرهارد راتدولت. جاء راتدولت إلى فينيسيا من موطنه ألمانيا في عام 1475، بعد بضع سنوات فقط من بدء تشغيل أول دار طباعة، وانضم إلى ألمانيين آخرين وأنشئوا مطبعة. كان أول كتاب طبعوه هو كتاب ريخيومونتانو «التقويم»؛
8
مما قاد المؤرخين إلى التكهن بأن راتدولت كان قد عمل لحساب عالم الفلك ريخيومونتانو في نورنبرج وحصل على المخطوط منه هو مباشرة. كان ريخيومونتانو قد عاد إلى ألمانيا في عام 1467، وبعد أربع سنوات، قرر أن يطبع بنفسه فهرسه الكامل للنصوص الرياضية، بهدف تأسيس معايير علمية واتساق. بعد أن حصل على دعم من تاجر ثري في نورنبرج، أسس مؤسسة أبحاث مستقلة تضم مكتبتها الخاصة ومطبعتها ومرصدها وورشتها الخاصة لإنتاج الأدوات. وشكل هذا نقطة تحول في دور العالم في أوروبا الغربية. فلم يعد ريخيومونتانو باحثا متجولا، يعتمد على رعاية النبلاء ورجال الكنيسة، بل صار الآن مستقلا استقلالا كاملا، وكان في طليعة مجموعة من الطابعين الفلكيين الذين سوف يسيطرون على هذا الفرع من العلم لسنوات تالية. وكان أول كتاب نشره هو كتاب جورج بيورباخ «نظريات جديدة للكواكب»؛ تكريما لموجهه ومعلمه.
في عام 1474، توسع ريخيومونتانو في برنامجه للنشر إلى سبعة وأربعين عملا، يشمل، إلى جانب كتب أخرى، كتاب «المجسطي»، وأطروحة «العناصر» وأعمالا أخرى لبطليموس وإقليدس، وكل ما هو متاح من أعمال أرشميدس، وكتاب أبولونيوس «المخروطات» ونصوصا أخرى من مجموعتي «علم الفلك الصغير» و«المجموعة الوسطى»، إضافة إلى بعض أعماله، مثل كتاب «الملخص». بعبارة أخرى، كامل مجموعة كتب الرياضيات والفلك. وبدأ أيضا في نشر تقاويم فلكية سنوية (كتب الجداول الفلكية، «الزيج») مدرج فيها مواضع النجوم والكواكب، إلى جانب معلومات أخرى عن الأجرام السماوية، لكل يوم من السنة، وظلت تصدر باستمرار منذئذ، وتستخدم في الملاحة والتنجيم ودراسة الفلك. في وقتنا هذا، تصدر ناسا هذه البيانات، باستخدام برمجيات مصممة خصوصا، وتستخدم بصورة أساسية في ملاحة المركبات الفضائية.
كان من شأن مشروع طموح كهذا أن يتطلب قدرا كبيرا من القوى العاملة. صحيح أننا لا نستطيع الجزم بالأمر، ولكن يبدو أن راتدولت كان واحدا من الشباب الذي عينهم ريخيومونتانو لمعاونته في الطباعة. في تلك المرحلة، لم يكن أناس كثيرون قد أتقنوا هذه التقنية الجديدة، ونعرف من مسار راتدولت المهني اللاحق في النشر أنه كان شغوفا بالفلك والرياضيات، وهو ما من شأنه أن يجعله مرشحا مثاليا لمشروع ريخيومونتانو. وبافتراض أنهما عملا معا، فمن المرجح أيضا أن يكون ريخيومونتانو قد أخبر راتدولت بشأن عجائب إيطاليا ونصحه بفينيسيا بصفتها مكانا جيدا لتأسيس مطبعة، والأهم من كل ذلك أنه يفسر السبب وراء كون أول كتاب طبعه راتدولت في فينيسيا كان كتاب «التقويم»، ربما استنادا إلى مخطوطة جلبها معه من نورنبرج.
شكل 8-4: الصفحة الأولى من إصدار راتدولت المطبوع سنة 1582 لأطروحة «العناصر» يبين الأشكال الهندسية وأسماءها.
كان كتاب «التقويم» هو الكتاب الأول من بين كتب كثيرة أنتجها راتدولت في الفلك والرياضيات؛ ففي عام 1482 نشر أول إصدار مطبوع من أطروحة «العناصر»، استنادا إلى نسخة أديلار/كامبانوس، تلك العلامة الفارقة في تاريخ عمل إقليدس العظيم والتي تميز نهاية رحلته الطويلة، من كونه مجرد لفيفة هشة قابعة في الإسكندرية القديمة إلى كتاب مطبوع في فينيسيا في عصر النهضة، وتشكل أيضا لحظة مهمة في تاريخ الرياضيات، وتاريخ الطباعة؛ فبفضل مهارة راتدولت الإبداعية، كانت هذه هي المرة الأولى التي تطبع فيها أشكال بيانية في نص. وقد أنتج نسختين للعرض الخاص، وطبعهما على الرق، مع خطاب إهداء إلى الدوق بحبر ذهبي. في الخطاب، أوضح أنه لم يفهم السبب في أن كتابا مبدعا ومؤثرا كهذا لم يكن قد طبع قبل ذلك، حتى أدرك كم كانت مهمة عمل الرسوم البيانية تمثل تحديا صعبا. حل راتدولت هذه المشكلة بأن صنع 420 قالبا خشبيا منفصلا، وطبع فيها هوامش الكتاب الواسعة جدا والمصممة تصميما خاصا، محافظا على الحد المزخرف في صفحة العنوان والأحرف الأولى الكبيرة في بداية كل فصل التي ازدانت بها نسخة المخطوطة. لم يكن قد ظهر بعد الأسلوب التصميمي الخاص بالكتب المطبوعة وكانت لا تزال تصمم لتشبه المخطوطات قدر الإمكان. يقف إصدار راتدولت من أطروحة «العناصر» جنبا إلى جنب مع النسخ المبتكرة الأخرى من الكتاب وهي: قطع البردي التي عثر عليها في أوكسيرينخوس والنسخة البارزة التي اشتراها الأسقف أريثاس في عام 888. إنه عمل يخلد ذكرى الطباعة الفينيسية، وذكرى نقل المعرفة الرياضية، وذكرى إرهارد راتدولت .
أعيد نشر أطروحة «العناصر» وطبعه مرات عديدة في العقود القليلة التالية؛ ففي عام 1505، طبعت في فينيسيا ترجمة لاتينية جديدة مستندة إلى مخطوطة يونانية، وبعد ثلاثة أعوام، عاد باتشولي إلى المدينة ليعد للطبع ترجمة لاتينية جديدة للنص، كانت تستند إلى تقليد أديلار/كامبانوس، ولكن مع تعديلات وتصحيحات، وفي عام 1533، نشرت أول طبعة باليونانية، وبعد عقد من الزمن ظهرت باللغة الإيطالية؛ وتبعتها طبعات باللغات المحلية الأوروبية بعد أعوام قليلة. أصبح راتدولت واحدا من أنجح طابعي فينيسيا وأكثرهم احتراما؛ ففي عام 1485، نشر أحد عشر كتابا واعتمد على إنجازه الرائد في طباعة الأشكال والرسوم البيانية، فاخترع طريقة مكنته من استخدام ثلاثة أحبار ملونة مختلفة معا في الصفحة نفسها، واستعرض تقنيته الجديدة في مجموعة من النصوص الفلكية، التي توضح بطريقة جميلة وصفا لخسوف القمر مع شكل بياني يبين كل مرحلة من مراحل تطور حالة خسوف. كان راتدولت أيضا مسئولا عن أول صفحة عنوان «حديثة»، وعن استخدام الأعداد العربية لتأريخ كتبه وعن إصدار ورق نموذج طرازي وقوائم بالأخطاء المطبعية. لا بد أن أخبار نجاحات راتدولت وصلت إلى مدينة أوجسبورج، مسقط رأسه؛ لأن الأسقف كتب إليه يطلب منه أن يعود وأن يضع خبرته في خدمة مواطنيه؛ لذا حزم راتدولت أحرف طباعته وقوالبه الخشبية، وأخذ معه زوجته وأطفاله، وعاد إلى أوجسبورج، حيث أمضى بقية حياته المهنية يطبع غالبا الكتب الدينية. طوى النسيان راتدولت إلى حد كبير، ولم يوف حقه من التقدير لابتكاراته الرائعة الكثيرة، وبدا ضئيلا تماما مقارنة بالمبتكر العظيم الآخر لأول عصر للطباعة في فينيسيا؛ ألدوس مانوتيوس.
9
كان الاختلاف الرئيسي بين ألدوس وزملائه الطابعين هو أنه هو وحده كان باحثا جادا، في حين أنهم كانوا بوجه عام حرفيين، وإن كان لديهم اهتمامات فكرية. كان هذا مهما لأن كل كتاب كان ينشر كان يصنع باستخدام مخطوط واحد على الأقل (يعرف باسم النموذج)، إن لم يكن باستخدام مخطوطات عدة؛ فكان إنتاج نسخة نهائية من نص ما يتطلب مهارات ومعرفة متخصصة. وما إن يكن النص قد أعد، حتى يجهز المنضدون ، الذين كانوا يجلسون على مقاعد عالية وأمامهم المخطوطات، الحروف المطبعية. كانت عملية معقدة وتهدر كثيرا من الوقت، وعادة ما كانت المخطوطات صعبة القراءة، ولم يكن يوجد توحيد إملائي أو توحيد للخطوط؛ لذا كان يتعين أن يكون المنضدون أذكياء وعلى مستوى تعليمي جيد؛ لأنهم إن ارتكبوا أخطاء، فسوف تتأثر قيمة الكتاب الناتج. إن تحديد المخطوطات الأصلية التي استخدمها الطابعون لإيجاد النسخ المطبوعة الجديدة هو أمر بالغ الصعوبة، ولم يعثر إلا على عدد قليل جدا من تلك المخطوطات. لا بد أن المنضدين قد تخلصوا من كثير منها، فلم يكن ثمة حاجة إليها بعدما أصبحت عدة مئات من النسخ المطبوعة متاحة، والمرجح أن تكون تلك المخطوطات قد تعرضت للتلف وللتلطيخ بالحبر بعد بقائها لأسابيع في بيئة دار الطباعة الصاخبة المتسخة.
مما لا شك فيه أنه لم يكن ثمة نقص في مجموعات الكتب في فينيسيا لإمداد المطابع بالمخطوطات؛ فعادة ما كان جامعو الكتب، والباحثون والطابعون يعملون معا لإنتاج النصوص المطبوعة. وبفضل ما كان يتمتع به من مهارات لغوية ومعرفة واسعة النطاق، تمكن ألدوس مانوتيوس من جمع كل هذه الخيوط معا. كان عملاق الطباعة الفينيسية، ومبتكر النص المائل، والكتب الصغيرة الحجم، والخطوط اليونانية السهلة القراءة، والفاصلة المنقوطة، وطائفة أخرى من الابتكارات، وينسب إليه أناس كثيرون فضل اختراع الكتب بالكيفية التي نعرفها في الوقت الحاضر. درس مانوتيوس في جامعة روما قبل أن ينتقل إلى مدينة فيرارا ليتعلم اللغة اليونانية ويعمل مدرسا خاصا للنبلاء الشبان. وعلى ما يبدو أنه كان يتبع المسار التقليدي للباحث الإيطالي في عصر النهضة، ولكن، في عام 1489، غير مساره فجأة وانتقل إلى فينيسيا. بعد خمسة أعوام، أسس دار ألدين للطباعة.
سرعان ما تأقلم ألدوس مع الحياة في فينيسيا، «دونما عناء يذكر لرجل كان يدرك قيمة ذاته».
13
فبفضل معرفته الهائلة وسحره المريح وحماسته اللامتناهية للبحث العلمي، سرعان ما أصبح عضوا بارزا في الدائرة التي كان مركزها جيورجيو فالا، أعظم عالم رياضيات في فينيسيا في ذلك الوقت، ومالك أهم مجموعة من المخطوطات. يكمن إسهام فالا الرئيسي في نقل الأفكار العلمية في التشكيلة الهائلة من مصادر الرياضيات والفلسفة الكلاسيكية التي جمعها من مخطوطاته، والذي يسمى «أمور للبحث فيها وأخرى لتجنبها». وقد نشره مانوتيوس في عام 1502، ولكن حينها كان فالا قد توفي منذ عامين، ولم تعد مكتبته موجودة في فينيسيا.
10
كان كتابا بالغ التأثير، يوفر للباحثين من الجيل التالي طائفة واسعة من المواد العلمية جيدة التنظيم والمترجمة ترجمة واضحة والمتيسرة، وكان يستخدم بانتظام باعتباره دليلا مرجعيا، وفي حالات كثيرة، كانت النسخة المطبوعة الوحيدة من نص مصدري. كان فالا معلما عاما للرياضيات، ولكنه كان أيضا يترأس دائرة من النساخ اليونانيين وألقى محاضرات في العمارة والشعر، وذهب اثنان من تلاميذه إلى ميسينا، في صقلية، لتحسين لغتهم اليونانية، وعادوا في عام 1494 ومعهم دليل لغوي يوناني، استخدمه ألدوس إلى جانب قواعد كريسولوراس اللغوية لإنتاج واحد من أوائل الكتب التي نشرها، وهو بيان قاطع على عزمه على تعزيز دراسة اللغة اليونانية.
كان ثمة صديق آخر لفالا، وهو بالتأكيد الرجل الذي كان قد أتى به إلى فينيسيا، وهو إيرمولاو باربارو. كان إيرمولاو يتحدث بلغتين هما اليونانية واللاتينية، ومكنه هذا من الاستناد إلى الكتب التي ورثها من أبيه وجده، والتي كان يضمها قصر العائلة الفخم على القنال الكبير مباشرة أمام منزل الذهب، وترك لنا نظرة متعمقة شاعرية عن الروتين الصيفي لمفكر ثري: «كان الصباح يقضى في دراسة مكثفة لكتابات أرسطو والخطباء أو الشعراء اليونانيين، ثم يحين وقت غداء خفيف من المرق، والبيض والفاكهة؛ وبعد ذلك قراءة أو إملاء أكثر استرخاء، يعقبه حديث مع أي من الأصدقاء الذين قبلوا الدعوة للمجيء من أجل نقاش أدبي أو فلسفي؛ وأخيرا، عشاء من صيد مشوي، ونزهة في حديقته النباتية لتأمل معرفة ديسقوريدوس التقليدية في الأعشاب ، ثم إلى الفراش.»
14
وأدت هذه التأملات بباربارو إلى وضع ترجمته اللاتينية لكتاب «عن المواد الطبية»، ولكن أكثر ما يشتهر به هو هجومه اللاذع على مغالطات كتاب «التاريخ الطبيعي» لبلينيوس.
على خلاف كثير من الطابعين في فينيسيا في نهاية القرن الخامس عشر، لم يكن ألدوس مانوتيوس ألمانيا ولا فرنسيا، وإنما إيطاليا. أسس دار ألدين للطباعة في 1494-1495، في وقت كانت الفوضى فيه تجتاح البر الرئيسي لإيطاليا في صورة غزو الجيش الفرنسي والتفشي الفتاك لوباء الطاعون. لم تفلت فينيسيا من الطاعون، الذي أودى بحياة الآلاف، ولكنها تجنبت الفرنسيين، الذين لم يكونوا مهيئين للإبحار عبر البحيرة الشاطئية ومهاجمة المدينة. أتاحت ضربة الحظ غير العادية هذه لفينيسيا التغلب على فلورنسا من ناحية كونها العاصمة الفكرية لإيطاليا. كانت فلورنسا قد انزلقت إلى العنف ثم إلى القمع تحت تأثير الراهب المتعصب سافونارولا، الذي كبت الاستقصاء الفكري في المدينة، وفر علماء كثيرون، ذهب بعضهم إلى فينيسيا. وباعتباره أبرز طابعي المدينة، لعب ألدوس دورا قياديا في نهضة فينيسيا. ويرجع نجاحه إلى عدة عوامل؛ الأول هو أنه كان شخصا موهوبا، بصفته باحثا وكذلك بصفته رياديا، والثاني هو أنه كان محظوظا؛ إذ وصل بالضبط في اللحظة المناسبة، وحدد ثغرة في السوق؛ وهي الطباعة باللغة اليونانية. بعد أن صمم (بمساعدة معاونيه) مجموعة من الخطوط اليونانية الأنيقة (التي كان أحدها يستند إلى خط يد كريسولوراس)، بدأ يطبع نصوصا كلاسيكية بلغتها الأصلية، ومن خلال قيامه بذلك، حقق الغاية الأساسية لدى الإنسانيين التي تتمثل في جعل المعرفة الأصلية للقدماء متاحة ومتيسرة للجمهور المعاصر، دون أن تفسدها الترجمة. أصبح محل الطباعة الخاص به، الذي كان الأول في سان أجوستينو ولاحقا في منطقة ميرسيريا، القلب الفكري النابض للمدينة. ففي كل يوم، كان فيض لا يتوقف من الباحثين يصل ليتباحث في آخر الموضوعات، باليونانية (كانت توجد غرامات على التحدث بأي لغة أخرى)، ولإعداد النصوص للطباعة. وقد جاءت كل الشخصيات الريادية في «جمهورية الرسائل» الأوروبية جاءت إلى هناك إجلالا؛ فوصل إيراسموس في يناير من عام 1508، ليشرف على نشر كتابه «أداجيا»؛ وزاره الفيلسوف الإنساني الألماني يوهان روشلين قبل ذلك ببضعة أعوام، بينما جاء توماس لينيكر قاطعا الطريق من إنجلترا. وجعل هذا من دار ألدين للطباعة مكانا لا يسهل العمل فيه. في عام 1514، العام السابق لوفاته، كتب ألدوس: «بغض النظر عن ستمائة شيء آخر ، يوجد شيئان بالتحديد يقاطعان عملي باستمرار؛ الأول هو الرسائل المتكررة من رجال مثقفين تأتيني من كل أنحاء العالم ... ثم الزوار الذين يأتون ... ويجلسون في الجوار وأفواههم فاغرة.»
15
فالوجود في مركز العالم الفكري كان له سلبياته.
لوقت طويل، كان المؤرخون يفترضون أن النسخ المطبوعة التي خرجت من مطبعة مانوتيوس صنعت باستخدام مجموعة مخطوطات بيساريون، التي كان قد تبرع بها إلى فينيسيا قبل ذلك بعشرين عاما، ولكن لا يبدو، في الواقع، أن الأمر كان كذلك. فقد وصلت الكتب في شحنتين؛ الأولى حملت من روما، في عام 1469، عبر سلاسل جبال الألب في ثلاثين صندوقا على ظهر قافلة من البغال، وأرسلت البقية من مدينة أوربينو، حيث كان بيساريون قد تركها في عناية الدوق فيديريكو دي مونتيفيلترو، الذي كان رياضيا مولعا بالرياضيات وراعيا للتعليم. لدى وصولها إلى فينيسيا، خزنت في غرفة في قصر الدوق، وهي لا تزال في صناديق الشحن خاصتها، وظلت هناك، تبلى على مهل، حتى سنة 1531، عندما أخرجت أخيرا من الصناديق ووضعت على الأرفف في غرفة فوق أبواب كنيسة البازيليكا. وسيمر ثلاثون عاما أخرى قبل أن يبنى أخيرا مبنى المكتبة، الذي كان بيساريون قد وعد به في مقابل أن يوصي بكتبه، لتولد بذلك مكتبة سان مارك الوطنية. وهكذا، وفي واحدة من أشد مفارقات تاريخ الطباعة حزنا، في الوقت الذي كان مانوتيوس ينشر فيه نسخه اليونانية المهمة لكتابات أرسطو وأرسطوفانيس والباقين، كانت توجد نسخ نموذجية من أعمالهم، بلغتها اليونانية الأصلية، تقبع في صناديق في الجانب الآخر من المدينة، ولكن بعيدا عن متناوله.
شكل 8-5: شعار «الدرفيل والمرساة» الخاص بدار ألدين للطباعة على الصفحة الأولى لطبعة سنة 1525 من الأعمال الكاملة لجالينوس.
كانت أعظم مواهب مانوتيوس هي قدرته على تسويق كتبه؛ فكان «واحدا من أول من ألموا إلماما تاما بالكيفية التي كان عالم الكتب قد تغير بها في العشرين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر، ووضعوا استراتيجية للتسويق والدعاية أخذت في الاعتبار هذه التغيرات»،
16
وقاد المجال. وبدءا من عام 1502 وما بعده، كان شعار «الدرفيل والمرساة» محوريا لهذه الاستراتيجية؛ فكان الشعار، الذي كان يمهر على الصفحة الأولى لكل إصداراته، ضمانة لجودة دار ألدين للطباعة، مفعما بهالة من المسئولية والتميز؛ ومن المحتمل أنه كان أول مثال على التمييز السلعي الناجح، والمدى الذي وصل إليه تزويره من قبل طابعين آخرين هو دليل واضح على قوته.
كان أبرز مطبوعات دار ألدين للطباعة هي الأعمال الكاملة لأرسطو، باللغة اليونانية؛ التي كانت مشروعا ضخما من خمسة مجلدات اشترك فيه علماء من كل أنحاء أوروبا يمدونه بالمخطوطات اللازمة ويحررون النسخة النهائية. ولعب توماس لينيكر، العالم الإنساني الإنجليزي، دورا أساسيا؛ فأثناء إقامته في فينيسيا في تسعينيات القرن الخامس عشر، ساعد ألدوس في تحرير الطبعة، والنسخة التي عاد بها إلى الديار، المطبوعة على جلد الرق، موجودة، في الوقت الحالي، في مكتبة نيو كوليدج، في أكسفورد، واسمه
Thomae Linacri ، منقوش بعناية على كل مجلد. وللمرة الأولى منذ العصور القديمة، كانت الفلسفة الأرسطية بكامل نطاقها متيسرة لأولئك الذين يستطيعون تحمل كلفتها، ومن يعرفون اللغة اليونانية، ولكن إنتاج تلك المطبوعات الطموحة كان مكلفا ولم يكن يدر كثيرا من المال. وسرعان ما أدرك ألدوس أن عليه أن ينوع برنامجه ليشمل كتبا كانت أكثر جاذبية لجمهور أوسع، وأنه يتعين أن تطبع باللغة اللاتينية أو الإيطالية. كانت المثل الإنسانية كلها حسنة جدا، ولكن كان عليه أن يبقي دار الطباعة صامدة.
شهدت الأعوام الأخيرة من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر نشر كثير من النصوص الفلسفية والأدبية باللغة اليونانية. وهذا القول لا ينطبق على الطب؛ إذ ببساطة لم تكن المخطوطات متاحة للطابعين وكانت قلة قليلة من الأطباء هم الذين يستطيعون القراءة باللغة اليونانية؛ لذا من المشكوك فيه أنه كان من الممكن لإصدارات مطبوعة من النصوص الطبية أن تلقى نجاحا كبيرا، وغني عن القول أن مجموعة بيساريون احتوت على مجموعة جيدة من أطروحات جالينوس، ولكنها كانت كما رأينا، قابعة في قصر الدوق دونما استخدام. كان التعليم الطبي راسخا في المنهج الدراسي للجامعة، استنادا إلى نصوص «أرتيسيلا». اعتبر أناس كثيرون هذه النصوص كافية، ولكن ، خلف الكواليس - أو بالأحرى، بين الجدران التي تحوي المجموعات الخاصة - كانت الأمور آخذة في التغير. ففي أثناء بحثهم عن المخطوطات، كان علماء الإنسانيات قد اكتشفوا لا محالة أعمالا لجالينوس لم تكن معروفة في السابق (على ما يبدو أنه يوجد مخزون يكاد لا ينفد؛ فأحيانا ما يكشف عن أعمال جديدة حتى في يومنا هذا، بعد 2000 عام تقريبا من كتابتها).
11
وجعل فحص هذه الأطروحات الجديدة الباحثين على دراية بجوانب من الطب الجالينوسي غير موجودة في التقاليد العربية وتقاليد العصور الوسطى، وحفزت هذه الأطروحات آفاقا جديدة للبحث وأبرزت التناقضات في تلك التقاليد. عندما صادفوا نظرية من الواضح عدم صحتها، كان توقيرهم لجالينوس قد بلغ درجة أنهم ألقوا باللائمة على النساخ الذين نسخوا النصوص؛ ففي هذه المرحلة كان مستبعدا أي تصور مفاده أنه ربما كان مخطئا. الطريف في الأمر أن النصوص الجديدة وتراجم النصوص القائمة، لم تجبر العلماء في النهاية على القبول بأن جالينوس ارتكب كثيرا من الأخطاء الجوهرية فحسب، بل أجبرتهم على الاستعاضة عن نظرياته بنظريات جديدة من عندهم.
شكل 8-6: صفحة من كتاب جالينوس «عن الطريقة العلاجية» من مخطوطة تعود إلى القرن الرابع عشر باللغة اليونانية كانت تمتلكها عائلة باربارو، التي اشترتها من طبيب قبرصي في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. في عام 1517، ترجم العالم الإنجليزي توماس لينيكر النص إلى اللاتينية ونشره في باريس.
ومع ذلك، في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، كان الفكر اليوناني مؤلها ويروج له بنشاط؛ وخاصة من قبل طبيب جامع للكتب اشتملت شجرة عائلته على التدريس والدراسة في بادوا وبولونيا وفيرارا. أثناء حياته المهنية الطويلة، كان نيكولو ليونيسينو (1428-1524) قد جمع مكتبة مدهشة من المخطوطات الطبية والعلمية اليونانية. وحسب الأستاذ فيفيان نوتون، كانت «أشمل من أي مكتبة أخرى كانت معروفة قبلئذ أو منذئذ، وهي ليست متميزة بحجمها الكبير فحسب، وإنما أيضا بندرة محتوياتها.»
17
مستخدما مجموعته منطلقا، شن هجوما على قرون من الأخطاء والتفسيرات الخاطئة وأخطاء النساخ في نقل العلوم الطبية، وبخاصة في أعمال عن الأمراض والأدوية، وشمل هجومه اللاذع كتابا رومانا، لا سيما بلينيوس الأكبر، الذي زعم أنه أفسد كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية» عن طريق الخطأ في تحديد النباتات وملء الكتاب بالمغالطات. كانت النتيجة المترتبة على هذا هي تجدد تبجيل المصدر اليوناني الأصلي، وفي عام 1499 نشر مانوتيوس، الذي كان من معارف ليونيسينو المقربين، أول طبعة يونانية لكتاب «عن المواد الطبية»؛ لذلك وصل عمل ديسقوريدوس إلى جمهور أوسع نطاقا بكثير مما وصل إليه أي من أعمال جالينوس في ذلك الوقت. كان من شأن الصيادلة، وبالتأكيد أي أحد لديه اهتمام بعلم النبات والرسومات النباتية، أن يحرصوا على امتلاك نسخة. لاقت طبعة ألدين نجاحا تجاريا عظيما، على الرغم من تعقيد عملية إنتاج قوالب خشبية من أجل الرسومات التوضيحية للنباتات.
لم يقرض ليونيسينو مخطوطات إلى مانوتيوس فحسب، وإنما إلى طابعين آخرين أيضا، ومع ذلك لم تصبح الثروة الكاملة من مجموعته الجالينوسية اليونانية متاحة إلا عند وفاته، بعدما بلغ من العمر أرذله إذ توفي وهو في السادسة والتسعين من عمره. في عام 1525 طبعت دار ألدين للطباعة كتاب «الأعمال الكاملة» باللغة اليونانية، وهو مشروع ضخم ومكلف لم يكن ليتحقق لو كانت فينيسيا في حالة حرب؛ لذا كان من الممكن شراء واستخدام «مخزون ضخم من المعدن الذي كان يمكن لولا ذلك أن يستخدم في ترسانة الأسلحة لصنع مدفع»
18
لصب القدر الهائل من الحروف المطبعية اللازمة لإخراج العمل. وقد انعكس هذا بطبيعة الحال على سعر التجزئة المرتفع؛ ثلاثين فلورين، أو جيلدر، في ألمانيا (ثلث الراتب السنوي لطبيب في نورنبرج)، وأربعة عشر سكودو في روما، فكان سعره ميسورا للأثرياء فقط. وكالمعتاد، كان إسهاب جالينوس المفرط في غير صالحه؛ فحتى المحاولات لنشر أجزاء صغيرة من نتاجه يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر؛ ففي عام 1500 أفلست دار طباعة فينيسية بسبب طبعتها اللاتينية من أطروحتي جالينوس من كتاب «أرتيسيلا». لم تكن طبعة دار ألدين لكتاب «الأعمال الكاملة» طبعة ذات تميز خاص، ولكنها جعلت جوانب كثيرة من عمل جالينوس متاحة للمجتمع الطبي، وبخاصة بعدما بدأت في الظهور تراجم لاتينية، مستندة إلى النسخ اليونانية المطبوعة. بات التأثير المتبادل بين الفلسفة والطب وتدخلات جالينوس الدوائية والفضل الذي يدين به إلى أبقراط، أوضح كثيرا، وكذلك معاييره الأخلاقية وأفكاره عن الممارسة الطبية الصحيحة. ونتيجة لهذا، بدأ الطب في التغير والتطور بطرق مثيرة للاهتمام؛ ففي بادوا، مزج المعلمون في ذلك الوقت بين الدراسة النظرية والعملية، فأقاموا صلة أوثق بين قاعة المحاضرات وغرفة المرضى، بينما اكتسب التشريح ودراسة أجزاء الجسم أهمية متزايدة، وشجع على ذلك نشر عمل جالينوس عن الأوردة والشرايين والأعصاب؛ مما مهد الطريق أمام اكتشافات عالم التشريح الفلمنكي العظيم فيزاليوس في أربعينيات القرن السادس عشر.
بيعت الكتب التي أنتجت في فينيسيا في ميرسيريا إلى فيض لا متناه من السكان المحليين والزوار، ولكنها كانت أيضا تحزم وتحمل في قوارب وتبحر عبر نهر بادي، في أول مرحلة من رحلاتها إلى مدن إيطالية أخرى، ومنها إلى ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا. حملت شبكة التوزيع الشاسعة هذه كتبا عبر أنحاء القارة، إلى محال لبيع الكتب وإلى البيوت؛ مما جعلها متاحة أكثر من أي وقت مضى. مع اختراع الطباعة جاء وضع المعايير، وأصبحت مصادر المعلومات أكثر تماثلا ودقة بكثير، في حال إذا ما كان الطابع قد أدى عمله على نحو صحيح. انخفض سعر الكتب انخفاضا كبيرا مع تزايد الإنتاج ونمو سوقها. لعبت الكتب الثمانية القطع والأصغر حجما دورا فعالا في انخفاض السعر؛ فباستخدام ورق أقل بكثير، أصبح إنتاجها أرخص؛ إذ كان الورق غالي الثمن، كان يمثل خمسين بالمائة من التكاليف التي كان يتحملها الطابعون. في البداية، كانت الكتب الثمانية القطع كتبا مخصصة للتعبد، إلى أن بدأ ألدوس في طباعة أدب كلاسيكي في هذا الحجم، وفي حين أنه دائما ما كانت كتبه غالية الثمن للغاية، استوعب الطابعون الآخرون هذا الابتكار وباعوا تلك الكتب بأسعار أقل. وبحلول نهاية القرن السادس عشر، كان في مقدور حتى الحرفيين الملمين بالقراءة والكتابة أن يشتروا الكتب، وفي ذلك الوقت كان يوجد أيضا عدد أكبر بكثير من الكتب المعروضة باللغات المحلية.
بحلول عام 1500 كانت فكرة الكون «المتماسك والمحدود والمنظم» التي كانت سائدة في القرن الماضي قد بدأت تتفكك.
19
كان العالم آخذا في الاتساع، موسعا نطاق المعرفة ومجبرا البشرية على إعادة تخيل مكانهم فيه. لم يعد ممكنا الإيمان بأن المفكرين الكلاسيكيين كانوا يحملون مفتاح حل لكل شيء، ولا أن باستطاعة الكتب القديمة أن تقدم كل الإجابات. كانت الإصدارات الجديدة المطبوعة من كتابات إقليدس وجالينوس وبطليموس مهمة في نشر أفكارهم، ولكنها اضطلعت أيضا بدور أساسي في تسليط الضوء على أخطائهم. في القرن السادس عشر، كان من شأن العلماء أن يركزوا على تصحيح هذه المغالطات والاستعاضة عنها بنظريات جديدة مستندة إلى بحث مفصل في عالم الطبيعة، ممهدة الطريق للاكتشافات المذهلة لثورة القرن السابع عشر العلمية.
في نهاية القرن الخامس عشر، كانت كل الأعمال العظيمة التي تتبعناها من العصور القديمة قد ظهرت كلها في إصدارات مطبوعة؛ ومن ثم كان إرثها في أمان. ما تبع ذلك كان فترة من الاستيعاب والتصحيح وإعادة الاكتشاف والإنقاذ، وكان من شأن هذا العمل الحيوي المتمثل في إعادة التقييم أن يمكن علماء الجيل التالي من الاستفادة من أفكار إقليدس وجالينوس وبطليموس، وكل هؤلاء الذين كانت كتاباتهم قد حفظت لألف سنة، كما كان من شأنه أن يمكن علماء ذلك الجيل من إحداث ثورة في الفلك والرياضيات والطب.
هوامش (1)
مع أن الناس كانوا يستعملون اللغة اليونانية العامية باستمرار لغة للتخاطب في صقلية وأجزاء من جنوب إيطاليا طوال العصور الوسطى، كما رأينا في الفصل السابق. (2)
زعم القديس جيروم، الكاتب المسيحي الذي عاش في القرن الرابع، والذي كان من صفاته الانتباه إلى التفاصيل الماجنة، أن لوكريتيوس قد جن بعد أن شرب ترياق حب وانتحر عندما كان في الرابعة والأربعين من عمره. (3)
استخدم هذا المخطوط نموذجا لأول إصدار مطبوع من كتاب «المجسطي» باليونانية، والذي نشر في بازل في منتصف القرن السادس عشر. (4)
بحلول عام 1475، احتوت على نسخ من أطروحة «العناصر» لإقليدس وكتاب «المجسطي» لبطليموس. (5)
في عام 1450، كان بيساريون قد أتاح أربعة مناصب أستاذية في الرياضيات في جامعة بولونيا نيابة عن البابا، وأعطى الرجلان تكليفات بترجمة مخطوطات لعلماء رياضيات كلاسيكيين لم يكن عملهم معروفا على نطاق واسع وكانت شهرة وأعمال إقليدس تطغى عليهم وهم: ديوفانتوس وأبولونيوس وبرقلس وهيرون، وقبلهم جميعا، أرشميدس. أعار نيكولاس إحدى تراجم أرشميدس هذه إلى بيساريون، ولم يسترجعها قط، ولا تزال موجودة في مكتبة سان مارك الوطنية في فينيسيا. (6)
كان الصينيون قد اخترعوا نسختهم الخاصة من آلة الطباعة في أوائل القرن الثالث عشر. (7)
في القرن الخامس عشر، كانت توجد طابعات في ثمانين مكانا في إيطاليا، وفي أربعة وستين مكانا في ألمانيا وفي خمسة وأربعين مكانا في فرنسا. ليونارداس فيتاوتاس جيرولايتيس، كتاب «الطباعة والنشر في فينيسيا القرن الخامس عشر» (شيكاجو، جمعية المكتبات الأمريكية، 1976)، ص63. (8)
كان هذا الكتاب عبارة عن مفكرة تحتوي على بيانات فلكية وتواريخ أعياد وأصوام، على نحو يبين الوقت الذي تدخل فيه الشمس دائرة البروج المختلفة، طبعه راتدولت بالإيطالية واللاتينية. (9)
يوجد كم هائل من الدراسات عن كل جانب من جوانب ألدوس مانوتيوس ودار ألدين للطباعة، ولكن لا يوجد سوى دراستين تركزان على راتدولت. (10)
أغلب مجموعته محفوظ في الوقت الحاضر في مكتبة إستنس في مدينة مودينا. (11)
ففي أوائل عام 2005 اكتشف أحد الباحثين الفرنسيين أطروحة لجالينوس بعنوان «عن تجنب الحزن» في دير في مدينة سالونيك.
عام 1500 وما بعده
عند تأمل خريطة المعرفة في عام 1500، نجد الصورة قد تغيرت تغيرا جذريا؛ فقد نهضت مدن وسقطت أخرى، ونشأت مجتمعات جديدة في أنحاء منطقة البحر المتوسط. في عام 500 كانت مراكز التعلم تغلق أبوابها، وكانت الحياة الفكرية تتراجع. بعد ذلك بألف عام، بات العكس صحيحا؛ فصار التعليم في أوروبا متاحا من جديد على نطاق واسع، ليس للجميع، ولكن كانت توجد مدارس ومعلمون وجامعات؛ تقليد معرفي ناشئ مقدم للشبان الأثرياء المهتمين، ولقلة من النساء أيضا. كانت لديهم فرصة لكي يصبحوا أعضاء في «جمهورية الرسائل» المتنامية وأن يسهموا في تطوير المعرفة.
كانت أوروبا قد خرجت من قرن من التغير العميق. كانت عوالم جديدة، تعج بنباتات وحيوانات غريبة قد اكتشفت، والقوادس المحملة بالذهب والفضة تشق طريقها عائدة عبر المحيط الأطلنطي ، جالبة ثروة لا توصف لأوروبا. أزيلت الحدود القديمة وأعيد رسم الخرائط من جديد، أحدثت آلة الطباعة تحولا في الاتصال؛ فبحلول عام 1500، كانت توجد مطابع في 280 مدينة في أوروبا، أنتجت نحو «20 مليون كتاب منفرد».
1
وصارت المعرفة أرخص ثمنا وأكثر تيسرا وأوسع إتاحة من أي وقت مضى. وفي العقود التالية، ساعدت آلة الطباعة في تيسير ثورة دينية والتسارع في التقدم العلمي.
1
بينما كانت أوروبا المسيحية مزدهرة، كانت الإمبراطورية الإسلامية تعاني من التمزق والانكماش. وبحلول منتصف القرن السادس عشر، كانت قد انقسمت إلى ثلاثة كيانات سياسية منفصلة. في أثناء الاضطرابات التي أعقبت ذلك، لم يكن يوجد وقت ولا مال لتمويل البرامج الطموحة للاستكشاف الرياضي أو الرصد الفلكي أو الأبحاث الطبية. كان لاكتشافي القرن الخامس عشر العظيمين، وهما العالم الجديد وآلة الطباعة، نتائج كارثية على الثروات الإسلامية. وفتحت رحلات الاستكشاف الأوروبية طرق تجارة جديدة عن طريق البحر التفت حول الشرق الأوسط، فحرمته من فرصة تجارية. ازدادت طرق الحرير القديمة، التي ظلت تنقل الثروات العظيمة عبر القرون، سكونا وخرابا. وفي الوقت الذي كانت فيه المطابع تفتح في مدن عبر ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ظل الناس في العالم الإسلامي في ريبة من هذه التقنية الجديدة وبذلوا جهدا كبيرا في تصميم حروف طباعة قابلة للتحريك إلى اللغة العربية، بعلامات التشكيل الملتفة والتنويعات التي لا تعد ولا تحصى. لهذا، ولأسباب أخرى كثيرة، استغرق الأمر منهم قرونا حتى يتمكنوا من تكييف آلة الطباعة؛ مما جعلهم في وضع غير مؤات للغاية فيما يتعلق بنشر المعرفة. وهكذا انتقل تركيز المشروع العلمي، متحولا شمالا إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا. وبدأ العالم الإسلامي في استهلاك المعلومات العلمية، بدلا من إنتاجها.
في ظل هذه الظروف، التي اقترنت بتصاعد في النزعة المحافظة الدينية، لعله من غير المستغرب أن السعي في طلب المعرفة في العالم الإسلامي بدأ في الاضمحلال، إلا أنه لا يسهل فهم السبب وراء أن إرث العلوم الإسلامية قد أصبح نسيا منسيا إلى حد بعيد؛ فبالنظر إلى الإسهام المتميز الذي قاموا به، فإن باحثين مثل الخوارزمي والرازي ينبغي أن يكونوا أسماء مألوفة، مثل ليوناردو دافنشي ونيوتن، ولكن حتى في يومنا هذا، لم يسمع بهم إلا قلة من الناس في العالم الغربي. كيف حدث هذا؟ لا بد أن يقع بعض اللوم على عاتق الإنسانيين، الذين قادهم تعظيمهم للعلوم اليونانية إلى تجاهل علماء كثيرين من الحقبة المنقضية. كذلك ارتكب مترجمو العصور الوسطى جريمة «إضفاء الصبغة اللاتينية» على الكتب التي ترجموها ولم ينسبوا الفضل إلى المؤلفين المسلمين الأصليين. ومع ازدياد أوروبا ثراء وقوة، وبدئها في إقامة إمبراطوريات، دانت لها السيطرة الثقافية أيضا. نتيجة لذلك، وضعت رواية همشت من المعرفة العربية وأبعدتها إلى غياهب الماضي.
تجسد هذا المنهج في تحطيم الأيقونات المثير الذي حدث في عام 1527؛ فقد أحرق الباحث الألماني المتطرف براكلسوس نسخته من كتاب «القانون» لابن سينا بوصفه جزءا من دعوته لطلاب الطب إلى الابتعاد عن «كتب البشر الصغيرة» والتحول عوضا عن ذلك إلى «كتاب الطبيعة العظيم».
2
احتل براكلسوس جانبا متشددا في حركة أكبر تشجع اتباع اتجاهات جديدة للمعرفة، شملت ملاحظة عملية لعالم الطبيعة الذي «من شأنه أن يحرر البشرية من الخضوع لسطوة الماضي البائد.»
3
إلا أن الباحث الجيد يحتاج، بالطبع، إلى الأمرين، والنقطة التي أغفلها براكلسوس هي أن المرء لا يمكنه إعادة تشكيل نظرية فكرية دون أن يتعمق فيها. أدرك هذه الحقيقة أندرياس فيزاليوس أثناء أعوام دراسته للتشريح الجالينوسي. استغرق الأمر منه وقتا طويلا ليقبل أن الطبيب الأسطوري كان على خطأ. واستوعب الأمر أخيرا عندما لاحظ أن جالينوس وصف فقرة ظهرية إضافية، وهي فقرة كانت موجودة في القردة العليا وليس في البشر. من هذا، أدرك أن جالينوس لم يشرح أجساد البشر أبدا، وإنما فقط أجساد الخنازير والقردة العليا؛ ومن ثم كانت معرفته التشريحية، المستندة إلى الفحص المستفيض للجثث، أفضل. كانت الملاحظة الدقيقة لعالم الطبيعة قد انتصرت على الحكمة القديمة.
نشر فيزاليوس اكتشافاته في عام 1543، في كتاب أسماه «بنية جسم الإنسان». وكانت تلك لحظة تحول في دراسة التشريح؛ فقد تخلل هذا الكتاب الفخم رسوم تخطيطية مفصلة ورسومات توضيحية متغلغلة في النص، استنادا إلى القوالب الخشبية التي كانت قد صنعت خصوصا في فينيسيا ونقلت بعناية عبر جبال الألب إلى بازل حيث طبع الكتاب. إن مثل هذا الكتاب حدث مهم في الطباعة العلمية، ويعد تجسيدا لرغبة فيزاليوس في الوضوح والدقة في التواصل، وهو أمر كان قد تنامى لديه خلال الأعوام التي أمضاها يحرر ويعد النصوص الجالينوسية للطباعة. فلكي تكون المعرفة العلمية مفيدة، كان يتعين أن تكون دقيقة، وليس ثمة مجال كان ينطبق عليه هذا أكثر من الطب. «كلمة خاطئة واحدة يمكن أن تقتل آلاف البشر»، هكذا أشار رابليه بتهيب وهو يحرر نصوص أبقراط بغرض طباعتها في عام 1532.
4
شكل 1: صورة إيضاحية مطبوعة بقالب خشبي تصور جالينوس وهو يجري تشريحا لخنزير على الصفحة الأولى لإصدار سنة 1565 من كتابه «الأعمال الكاملة».
في نفس العام الذي نشر فيه فيزاليوس كتابه «بنية جسم الإنسان»، عكف جورج يواكيم ريتيكوس، الذي كان أستاذا شابا في التشريح، في مدينة نورنبرج المزدحمة، على تحضير عمل علمي رائد للطبع. كان من شأن كتاب «حول دوران الأجرام السماوية»، الذي كتبه معلمه البولندي المتوحد، نيكولاس كوبرنيكوس، أن يكون له أثر بالغ مماثل، وإن كان في فترة زمنية مختلفة. لاقى كتاب فيزاليوس «بنية جسم الإنسان» نجاحا باهرا على الفور، وبيع بأعداد ضخمة وجعله من المشاهير في عالم الطب. حاز الكتاب جاذبية ورواجا كبيرا، لدى الأطباء الممارسين وكذلك لدى الفنانين، وكان مؤلفه شابا ومتحمسا يجيد الترويج والدعاية لنفسه. كان الوضع مختلفا جدا في حالة كوبرنيكوس؛ فلم يكن كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» ليصبح من أكثر الكتب مبيعا أبدا؛ فالكتاب «يخلو من الحيوية من ناحية الطباعة وشديد التخصص»، ولم تكن محتوياته المعقدة والعويصة لتثير اهتمام سوى عدد صغير من علماء الفلك الأكاديميين، وكان أقل ما يمكن قوله عن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه، وهو أن الشمس في مركز الكون، أنه كان مثار خلاف.
5
كان كوبرنيكوس ممانعا لنشر الكتاب، وشعر بقلق مبرر بشأن ردود الأفعال عند تلقيه. كان شخصا يميل جدا إلى الخصوصية، فبعد أن أنهى دراسته في جامعة بادوا، أمضى جل البقية الباقية من حياته يعمل في عزلة في بولندا. وعند نشر كتاب «حول دوران الأجرام السماوية»، كان قد صار مسنا، ومات في العام نفسه.
شكل 2: صورتان إيضاحيتان مطبوعتان بقوالب خشبية ل «الرجل العظمي» و«الرجل العضلي» من كتاب فيزاليوس «بنية جسم الإنسان». باعتبارهما مخططين تشريحيين وكذلك عملين فنيين، فقد علما وألهما أجيالا من الفنانين والأطباء في أنحاء أوروبا.
أمضى كوبرنيكوس عشرات السنين يدرس فلك بطليموس، وكانت القضية الرئيسية التي شغلته هي فترة التأخر التي حدثت بين النموذج المتوقع والحركات الفعلية للسماء. وصار هذا واضحا أكثر فأكثر بمرور الوقت وكان مصدر إزعاج لعلماء الفلك لقرون، ولكن على الرغم من المحاولات العديدة، لم يتمكن أحد من التغلب على هذه المشكلة. كان التضارب بين الاثنين يظهر على نحو أخص عندما كان الأمر يتعلق بالاعتدال الربيعي، وكان من المهم توقع هذا بدقة؛ لأن تاريخ الفصح كان يقع في يوم الأحد الذي يأتي بعد أول بدر بعد الاعتدال. كان كوبرنيكوس مهتما اهتماما خاصا بهذه المشكلة، باعتبارها قانونا كنسيا. وكان نهجه ثوريا؛ إذ أخذ كون بطليموس وأعاد تصميمه بالكامل، واضعا الشمس في المركز، والكواكب، التي تشمل الآن الأرض، تدور حولها. احتفظ كوبرنيكوس بمخطط بطليموس الهندسي في نظامه الجديد للكون، موفرا استمرارية مهمة مكنت رفاقه من علماء الفلك وأولئك الذين سيأتون في الأجيال القادمة من تطوير أفكاره بفاعلية، وأشار إلى هذا الجانب من العمل باقتباسه للعبارة التي كانت معلقة على أبواب أكاديمية أفلاطون ووضع إياها على الصفحة الأولى للكتاب: «لا تدعوا أي جاهل بالهندسة يدخل إلى هنا.» كان عالم الفلك اليوناني أرسطرخس الساموسي هو في الأصل من اقترح فكرة مركزية الشمس هذه قبل ذلك بثمانية عشر قرنا، ولم يكن مرور الوقت قد جعل من الأيسر قبول أن الأرض هي ببساطة واحد من كواكب عديدة، وليست الجرم السماوي المميز الذي يدور حوله الكون، والأسوأ من ذلك أنه كان يعني قبول فكرة أن الأرض التي تبدو ثابتة هي، في الواقع، تندفع خلال الفضاء في دورانها حول الشمس، والقول إن هذا أصاب الناس بصدمة هو تهوين من هول ما حدث بالفعل.
غير هذا الكون الجديد القائم على مركزية الشمس موقع الإنسانية من الكون تغييرا جذريا؛ وتطلب قبول الأمر جهدا نفسيا وعاطفيا ضخما، ولم يكن هذا أمرا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها؛ إذ تعارض الأمر تعارضا تاما مع التعاليم الدينية. «أصغى الناس إلى منجم مغرور سعى لإظهار أن الأرض، وليس السماء ولا القبة الزرقاء، تدور حول الشمس والقمر ... يرغب هذا الأحمق في أن يعكس علم الفلك برمته، ولكن الكتاب المقدس يخبرنا [سفر يوشع، الإصحاح العاشر، الآية 13] بأن يوشع أمر الشمس، وليس الأرض، بأن تقف ثابتة.» هكذا همهم مارتن لوثر، عندما سمع شائعة عن نظرية كوبرنيكوس.
6
كان لوثر نفسه صاحب فكر ثوري؛ لذا ليس مفاجئا أن الكنيسة الكاثوليكية، معقل التقاليد والامتثال، كانت أكثر منه جزعا. غالبا ما تتعرض الاكتشافات العلمية الثورية حقا، التي تبدأ بإحداث تغيير نموذجي، للرفض على الفور (وبخاصة من قبل السلطات الدينية)، قبل أن يجري تدريجيا اختبارها وتحسينها وقبولها على مدى فترة زمنية طويلة. كان من الواضح أن هذا هو الحال مع الأعداد الهندية العربية، التي استغرقت قرونا لتكون مقبولة عموما، في الإمبراطورية الإسلامية وأيضا في أوروبا المسيحية بعد ذلك، حيث كان الناس قلقين خصوصا من امتلاك الصفر لخواص شيطانية خطرة.
شكل 3: كون كوبرنيكوس وفيه الشمس في المركز، والكواكب تدور حولها في حلقات متحدة المركز. الأرض في الحلقة الثالثة، وقمرها البالغ الصغر يحوم فوقها.
من المؤكد أن الشيء نفسه انطبق على نظرية مركزية الشمس، التي لم تدرك عواقبها إدراكا تاما حتى القرن التالي؛ فبينما كان كتاب «حول دوران الأجرام السماوية» بعيدا كل البعد عن كونه أحد الكتب الأكثر مبيعا، شاعت نسخ منه عبر شبكات العلماء والباحثين الأوروبيين أثناء عقود ما بعد ظهوره، ووصلت إلى أيدي أساتذة علم الفلك وطلابه. على النقيض من عمل فيزاليوس في التشريح، لم يحتو كتاب «حول دوران الأجرام السماوية» على كثير من بيانات الرصد الجديدة، ولكن في القرن التالي، أنشأ تيخو براهي، الذي كان نبيلا دنماركيا، بنفسه مرصدا على جزيرة فين، في مضيق كاتيجات، بين ساحلي الدنمارك والسويد، وملأه بأجهزة متطورة، قادرة على القيام بعمليات رصد فلكي أكثر دقة بكثير عما كان ممكنا في السابق. وبتطبيق هذه الأجهزة على حالة كون كوبرنيكوس الجديد، قضى على نظام المجالات الدائرية لبطليموس، ففتح الباب أمام إمكانية وجود تمثيل للكون أكثر تعقيدا ودقة بكثير. كان من خطا الخطوة التالية هو يوهان كيبلر، الذي رفض، مستعينا ببيانات براهي، نظرية بطليموس القائلة إن الكواكب تتحرك حركة منتظمة في مدارات دائرية، مؤيدا الحركة البيضاوية؛ الأمر الذي مثل خطوة ضخمة أخرى إلى الأمام في فهمنا للنظام الشمسي. •••
امتلكت كل مدينة من المدن التي زرناها في هذا الكتاب طبوغرافيتها الخاصة وطابعها المتفرد، ولكن اشتركت كلها في الظروف التي أتاحت الازدهار للبحث العلمي؛ من استقرار سياسي وإمدادات منتظمة من التمويل والنصوص ومجموعة من الأفراد الموهوبين الشغوفين بالعلم، والسمة الأبرز، مناخ من التسامح وعدم التمييز تجاه الجنسيات والديانات المختلفة. وهذا التضافر أحد أهم عوامل تطور العلم؛ فبدونه لن يكون ثمة ترجمة، ولا انتقال للمعرفة عبر الحدود الثقافية ولا فرصة لصهر الأفكار من تقليد ما مع أفكار تقليد آخر. والباحثون الذين جعلوا هذا التعاون ممكنا هم نجوم الحكاية؛ هم الرجال الذين شدوا الرحال لخوض غمار المجهول، الذين كرسوا حياتهم للعثور على كل تلك الأفكار والنظريات المدهشة واستيعابها، والحفاظ عليها وتبادلها. وقدرتهم على التساؤل وتصميمهم على إضفاء النظام والوضوح على فوضى الابتكار البديعة، هو ما قاد الاكتشاف العلمي وأبقاه حيا خلال الألف عام بين عامي 500 و1500.
طوال هذه الرحلة، حاولنا أن نلقي نظرة داخل «دار الحكمة» المحيرة من الماضي البعيد، حيث جرى ذلك النشاط الفكري. لم يكن أمرا سهلا؛ فلا أثر باقيا لبيت الحكمة في بغداد، ولا لمدرسة الطب في ساليرنو، ولا وجود إلا لأطلال يكسوها التراب أو لحرم كاتدرائيات غير واضح المعالم، لا يزال باقيا في المدن الأخرى، وحتى في فينيسيا، التي هي أقرب ما يكون زمنيا إلى وقتنا الحاضر ، فإن الطريقة الوحيدة للتعرف على دار طباعة ألدوس مانوتيوس هي لوحة معلقة على الجدار. وبتنحية الأدلة الأثرية جانبا، نعلم أن الكتب التي تتبعناها لا بد أن تكون قد وضعت على الأرفف وقرئت في أماكن شتى، كالمكتبات الملكية والكنائس الصغيرة بداخل الكاتدرائيات وقاعات الدرس والحدائق والمراصد. بحلول عام 1500، كانت هذه الأماكن قد أصبحت أكثر عددا وتنوعا ووضوحا من أي وقت مضى، وإبان القرن التالي، أقيمت مسارح تشريحية ومراصد، وزرعت حدائق نباتية، وأنشئت قاعات محاضرات ومكتبات عبر أرجاء المشهد الفكري، وكان باستطاعة الباحثين أن يعملوا معا ويحققوا أقصى استفادة من المعدات الآخذة في التطور لدراسة عالم الطبيعة. لعبت الجامعات دورا حيويا في التعليم، ولكنها لم تكن في العادة موقع البحث العلمي الأكثر تطورا.
2
فعادة ما كان الدخول إلى مكتباتها متعذرا، شأنها في ذلك شأن المكتبات الملكية، كما كان نهج التعلم فيها محافظا. لهذا السبب، أقام الباحثون مراكزهم البحثية الخاصة بهم؛ ولذلك جرى كثير من الإنجازات العلمية العظيمة بمنأى عن الأنظار في أماكن خاصة، وليس في أماكن رسمية. ومع اكتساب الثورة العلمية زخما في أواخر القرن السابع عشر، أنشئت المؤسسات والجمعيات لتسهيل التعاون، وأصبحت المقرات الرسمية للتخصصات العلمية الناشئة.
ومع ذلك، غالبا ما كانت هذه الأماكن تقوم دوما على مجموعة من الكتب، وكان بعضها ذائع الصيت بحيث كان يعمل باعتباره مؤسسات بحثية غير رسمية. كانت كوكبة من الباحثين وأعضاء من النخبة الإليزابيثية، وفي ذلك الملكة إليزابيث الأولى نفسها، يأتون لزيارة منزل جون دي على نهر التيمز في مورتليك، مقر أروع مجموعة من النصوص العلمية في إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر. لم تكن الكتب وحدها هي ما يجتذبهم، وإنما أيضا المجموعة الضخمة من الخرائط والأدوات والأغراض النادرة أو الغريبة التي امتلكها جون دي، وبالطبع كان يجتذبهم جون دي نفسه. كانوا يأتون لوضع مخططات لرحلات استكشافية ومن أجل مناقشة الفلسفة ودراسة السجلات التاريخية واكتشاف أسرار الخيمياء ومحاولة مناجاة الملائكة.
أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت جوانب كثيرة من الطب الجالينوسي وفلك بطليموس قد فقدت مصداقيتها واستعيض عنها بأخرى، ولكن هذا لم يحدث أبدا لإقليدس. فقد احتفظت أطروحة «العناصر» بمكانتها باعتبارها النص الرياضي الأساسي، وترجم وطبع بكل اللغات المحلية الأوروبية الرئيسية وبيع في محال بيع الكتب في أنحاء القارة. وفي عام 1570، نشرت أول ترجمة إنجليزية كاملة، وكانت طبعة مذهلة تحتوي على رسوم بيانية منبثقة، وحرره جون دي، كما أشرنا في المقدمة. في التمهيد، أدرج دي كل فروع المعرفة التي يمكن تطبيق الرياضيات فيها تطبيقا مفيدا، وشدد على أهمية جعلها متاحة لأكبر قدر ممكن من الناس، وكانت هذه سمة بارزة للعصر الأول للطباعة. ترجمت آلاف الكتب إلى اللغات المحلية لخدمة عدد متزايد من القراء المهتمين، وكذلك أصبح شائعا على نحو متزايد أن يكتب الكتاب بلغتهم الأم؛ وهو أمر كان قد بدأه الإنسانيون الإيطاليون الأوائل وانتشر تدريجيا إلى بقية أوروبا.
لم يغير تزايد استخدام اللغات المحلية من حقيقة أن اللغة العالمية للعالم الفكري كانت لا تزال هي اللغة اللاتينية. لم تنل الطباعة باللغة اليونانية رواجا على النحو الذي كان ألدوس يرجوه؛ فببساطة لم يكن يوجد ما يكفي من الناس الذين يعرفونها لجعلها خيارا مجديا لمعظم المطابع. كان أعضاء جمهورية الرسائل يراسل بعضهم بعضا باللغة اللاتينية، ويتبادلون الكتب والرسائل، ويتجادلون ويتعاونون عن طريق شبكة متنامية من الأنظمة البريدية. ومع تطور مقومات بيع الكتب، أصبح أمر الحصول على النصوص أيسر؛ مما ساعد على تبادل الأفكار. ومع حلول الورقة المطبوعة الثابتة (نسبيا) تدريجيا محل المخطوطة الهشة، أصبحت المعرفة موحدة وأكثر دقة. كذلك أصبحت أيسر في الوصول إليها والتشاور بشأنها؛ إذ أضاف المحررون والكتاب فهارس أبجدية، وصفحات محتويات، ورسوما بيانية، ورسوما إيضاحية ومسارد؛ وهي الأدوات النصية التي نعتبرها الآن من المسلمات.
في عام 1500، كانت أوروبا على وشك الدخول في الثورة العلمية، الاكتشافات المزلزلة التي هيأت الظروف التي يزدهر فيها العلم في يومنا هذا. وما كانت تلك الاكتشافات لتتيسر لولا قرون الأفكار والبحث والكتابة التي سبقتها، والتي شكلت خيوطا متصلة من المعرفة. سافرت الأفكار، المدرجة في الورق، في أرجاء منطقة البحر المتوسط، تنشر النور في أماكن مختلفة في أوقات مختلفة في التاريخ. وإذ ننظر إلى الماضي من وجهة نظرنا بصفتنا أشخاصا نعيش في القرن الحادي والعشرين، يمكننا أن نرى موجات انحسار وارتفاع هذه المعرفة وفترات التسارع وفترات الركود والأفكار التي رفضت وفقدت، وتلك التي أعيد اكتشافها وإحياؤها من جديد بعد قرون. لم يكن طريقا مستقيما، وإنما مر بمنعطفات وانحرافات، ودار في دوائر واختفى عند طرق مسدودة، قبل أن يعود من جديد ويتابع المضي قدما.
في القرون الأخيرة، أحدثت الابتكارات التكنولوجية تحولا في المعرفة العلمية؛ ففي الفترة التي تلت عام 1500، ظهر ابتكاران، أحدث كل منهما تغييرا في قدرتنا على رصد العجائب التي تحيط بنا، فقرب نهاية القرن السادس عشر، ابتكر صانع نظارات هولندي وابنه ميكروسكوبات بدائية بوضع عدسات مكبرة في أنبوب دائري، وبعد ذلك بمائة سنة، استخدم هولندي آخر يدعى أنطون فان ليفينهوك، فكرتهما وأنشأ أول ميكروسكوب صالح للاستخدام؛ فقد شحذ وصقل 550 عدسة منفردة ووضعها داخل أنبوب؛ فأعطى هذا قوة تكبير بلغت 270 مرة، مما أتاح، للمرة الأولى، رؤية ميكروبات تنمو في الخميرة وكريات دم تتسابق عبر الشعيرات الدموية. من هذه اللحظة فصاعدا، بدأت تنكشف عوالم لم تكن متخيلة من التفاصيل الدقيقة؛ مما أحدث تبدلا هائلا في المشهد الفكري وثورة كبيرة في مجال الطب.
في أوائل القرن السابع عشر، أخذ عالم الفلك جاليليو جاليلي التليكسوب الذي كان قد اخترع منذ عهد قريب، وعدله ووجهه نحو سماء الليل. وللمرة الأولى في التاريخ الطويل للتحديق في النجوم، أمكن رؤية ما يقع وراء حدود العين البشرية، وكشف الكون عن نفسه بتفصيل أكبر وأعجب من أي وقت مضى. ومنذئذ، أتاحت لنا الآلات المتزايدة القوة أن نرى أبعد وأبعد في أعماق الكون الباردة وأن نرى سطح القمر والكواكب نفسها. يمنحنا الاختراع البشري قدرات رصد متزايدة باستمرار، ولكن كلما زاد نطاق رؤيتنا، ظهر المزيد. إن عالمنا هو عالم يبدو لا متناهيا في تعقيداته وعجائبه، التي يكشفها لنا العلم.
هوامش (1)
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الأعمال العلمية كان لا يزال متداولا على هيئة مخطوطات أثناء هذه الفترة. (2)
كانت جامعة بادوا استثناء؛ ففي عام 1595 أصبحت مقر أول مسرح تشريحي دائم، بني ليحل محل البناء الخشبي الذي كان فيزاليوس قد استخدمه خلال الفترة التي قضاها هناك، وكذلك كانت مكتبة توماس بودلي في جامعة أكسفورد مفتوحة للباحثين، وفي غضون عقود قليلة من افتتاحها في عام 1605، كانت قد استقبلت القراء من مختلف أنحاء أوروبا.
قائمة الصور
(1-1) The reconstructed facade of the Library of Celsus in the ruined city of Ephesus (Sorin Colac/Alamy Stock
(2-1) Map of ancient Alexandria (THEPALMER). (2-2) Pages from the manuscript of Euclid’s
Elements (The Bodleian Library, University of Oxford, MS. D’Orville 301 f113v-f114r). (2-3) A reconstruction of the Altar of Zeus at Pergamon (Ullstein Bild/Contributor). (2-4) Anatomical votives found at the Temple of Asclepius in Athens (
A Companion to Science, Technology, and Medicine in Ancient Greece and Rome
by Georgia L. Irby © 2016 John Wiley & Sons, Inc. Reproduced with permission of the Licensor through PLSclear). (3-1) A reconstructed map of early Baghdad (Reprinted from Map III from Appendix D, Figures 1, 2, 5 and 6 from Appendix E from
The Topography of Baghdad in the Early Middle Ages
by Jacob Lassner. Copyright © 1970 Wayne State University Press, with the permission of Wayne State University
(3-2) Modern reconstructions of the gates of Baghdad (Ibid.). (3-3) Map of the Round City (Ibid.). (3-4) The development and geographical movement of the Hindu-Arabic numerals (Encyclopedia Britannica/Contributor). (3-5) The Banu Musas’ diagram of their self-trimming lamp (Granger Historical Picture Archive/Alamy Stock
(4-1) An early-eighteenth-century view of Córdoba (Tarker/Bridgeman Images). (4-2) Reconstructed Arabic water wheel in Córdoba (Alain Machet (2)/Alamy Stock Photo). (4-3) The Roman bridge over the River Guadalquivir with Córdoba on the left bank (By courtesy of the author). (4-4) Modern reconstructions of some of al-Zahrawi’s intricate surgical instruments (Ibid.). (5-1) An astrolabe made in Toledo (Granger Historical Picture Archive/Alamy Stock Photo). (5-2) A fifteenth-century engraving of Toledo (PRISMA ARCHIVO/Alamy Stock Photo). (5-3) Diagram from a manuscript of Gerard of Cremona’s translation of al-Zarqali’s
Canones (Wellcome Collection). (6-1) A nineteenth-century view of Salerno (De Agostini/Galleria Garisenda/Bridgeman Images). (6-2) Robert II of Normandy being treated in Salerno (akg-images/Bible Land Pictures/Z. Radovan/www.BibleLandPictures). (6-3) A page from the
Circa instans (Wellcome Collection). (7-1) A Portuguese map of Palermo harbour (The Protected Art Archive/Alamy Stock Photo). (7-2) The Norman Palace in Palermo (Michael Wald/Alamy Stock
(7-3) Illustration of mosaics in the Martorana Church and
(8-1) A map of Venice in the twelfth century (Granger Historical Picture Archive/Alamy Stock Photo). (8-2) An early printing press (Artokoloro Quint Lox Limited/Alamy Stock Photo). (8-3) A fifteenth-century map of Venice (Age Fotostock/Alamy Stock Photo). (8-4) First page of Ratdolt’s 1582 printed edition of
The Elements (Granger Historical Picture Archive/Alamy Stock Photo). (8-5) The Aldine 'dolphin and anchor’ (Wellcome Collection). (8-6) A page of Galen’s
De methodus methendi (Add MS 6898, f.Iv, British Library, London, UK © British Library Board. All Rights Reserved/Bridgeman Images). (1) Galen dissecting a pig (Wellcome Collection). (2) 'Bone man’ and 'muscle man’ from Vesalius’
De humani corporis fabrica (AF Fotografie/Alamy Stock Photo). (3) The Copernican universe (Science History Images/Alamy Stock
ملاحظات
تمهيد
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
عام 1500 وما بعده
المراجع
مصادر رئيسية
Marcus Nathan Adler (trans.),
The Itinerary of Benjamin of Tudela (New York:
R. J. C. Broadhurst (trans.),
Travels of Ibn Jubayr (London: Jonathan Cape, 1952).
Charles Burnett (trans. & commentary), Hermann of Carinthia,
De Essentiis (Leiden: Brill, 1982).
H. L. L. Busard,
The first Latin translation of Euclid’s 'Elements’ commonly ascribed to Adelard of Bath:
Books I-VIII and Books X.36-XV.2 (Toronto: Pontifical Institute of Mediaeval Studies, 1983 (Studies and texts)). --- ,
Campanus of Novara and Euclid’s 'Elements’ (Stuttgart: Franz Steiner, 2005 Boethius (Series)). --- ,
The Latin translation of the Arabic version of Euclid’s 'Elements’ commonly ascribed to Gerard of Cremona (Leiden: Brill, 1984 (Asfār)). --- ,
The translation of the 'Elements’ of Euclid from the Arabic into Latin by Hermann of Carinthia (?) , Books VII-XII (Amsterdam: Mathematisch Centrum, 1977 (Mathematical Centre tracts)).
Baynard Dodge (ed.),
The Fihrist of al-Nadim: A Tenth-Century Survey of Muslim Culture (New York: Columbia University Press, 1970).
eds), Amato di Montecassino,
The History of the Normans (New York: Boydell Press, 2004).
al-Makkari,
The History of the Mohammedan Dynasties in Spain, Volume I (London: RoutledgeCurzon, 2002).
Two Renaissance Book Hunters: The Letters of Poggius Bracciolini to Nicolaus de Niccolis (New York: Columbia University Press, 1974).
Edward Grant,
A Source Book in Medieval Science (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1974).
Mark Grant (ed.),
Galen on Food and Diet (London: Routledge, 2000).
Robert Graves (trans.), Suetonius,
The Twelve Caesars (London: Penguin Books, 1957).
Sir Thomas L. Heath (trans.),
The Thirteen Books of Euclid’s 'Elements’ (2nd ed.: New York: Dover Publications, 1956).
Ian Johnston,
Galen On Diseases and Symptoms (Cambridge: Cambridge University Press, 2000).
Horace Leonard Jones (trans.),
The Geography of Strabo (London: Heinemann, 1932 (Loeb Edition)).
Leslie Webber Jones (trans. & ed.), Cassiodorus, Senator, ca. 487-ca. 580,
An Introduction to Divine and Human Readings (New York: W. W. Norton, 1969).
Graham Loud (trans.),
Roger II and the Creation of the Kingdom of Sicily (Manchester: Manchester University Press, 2012).
eds), Mas'udi,
The Meadows of Gold: The Abbasids (London: Kegan Paul International, 1989).
O. Neugebauer (trans.),
The astronomical tables of al-Khwārizmi: translation with commentaries of the Latin version edited by H. Suter (KØbenhavn: I kommission hos Munksgaard, 1962).
Vivian Nutton (ed., trans. & comm.),
Galen: On my own opinions (Berlin: Akademie Verlag, 1999). --- ,
Galen: On prognosis (Berlin: Akademie Verlag, 1979).
Harriet Pratt Lattin (trans. & intro.),
The Letters of Gerbert: With His Papal
(New York: Columbia University Press, 1961).
Sema'an I. Salem & Alok Kumar (trans. & eds), Sa'id al-Andalusi,
Science in the Medieval World: 'Book of the Categories of Nations’ (Austin: University of Texas Press, 1996).
E. R. A. Sewter (trans.),
The Alexiad of Anna Comnena (London: Penguin Books, 1969).
M. S. Spink & G. L. Lewis (trans. & comm.),
Albucasis on Surgery and Instruments: A Definitive Edition of the Arabic Text with English Translation and Commentary (London: Wellcome Institute of the History of Medicine, 1973).
G. J. Toomer (trans.),
(Princeton: Princeton University
John Alden Williams (trans.), al-Tabari,
The Early Abbasi Empire, Volume I (Cambridge: Cambridge University Press, 1988).
مصادر ثانوية
David Abulafia (ed.),
Italy in the Central Middle Ages 1000-1300 (Oxford: Oxford University Press, 2004).
Venice: Pure City (London: Vintage, 2010). 'Ahmad Azīz,
A History of Islamic Sicily (Edinburgh: Edinburgh University
Herbert Bloch,
Monte Cassino in the Middle Ages, Volume I (Rome: Edizioni di Storia e Letteratura, 1986).
Dirk Booms & Peter Higgs,
Sicily: Culture and Conquest (London: The British Museum Press, 2016).
S. Brentjes & J. Ren (eds),
Globalization of Knowledge in the Post-Antique Mediterranean, 700-1500 (London: Routledge, 2016).
Jerry Brotton,
A History of the World in Twelve Maps (London: Allen Lane, 2012).
Late Antiquity (Cambridge, Massachusetts: Belknap Press of Harvard University Press, 1998).
Charles Burnett, 'The Coherence of the Arabic-Latin Translation Program in Toledo in the Twelfth Century’,
Science in Context
14 (1/2) (Cambridge: Cambridge University Press, 2001). --- ,
The Introduction of Arabic Learning into England, The Panizzi Lectures 1996 (London: The British Library, 1997). --- ,
Adelard of Bath: An English Scientist and Arabist of the Early Twelfth Century (London: Warburg Institute, 1987).
Charles Burnett & D. Jacquart,
Constantine the African and 'Alīibn al-'Abbās al-Mağūsī: The Pantegni and Related Texts (Leiden: Brill, 1994).
Averil Cameron, Bryan Ward-Perkins & Michael Whitby (eds),
The Cambridge Ancient History, Volume XIV (Cambridge: Cambridge University Press, 2000).
Luciano Canfora,
The Vanished Library: A Wonder of the Ancient World (London: Vintage, 1991).
'Magistri Salernitani Nondum Cogniti’: A Contribution to the History of the Medical School of Salerno (London: John Bale, 1923).
Louise Cochrane,
Adelard of Bath: The First English Scientist (London: British Museum Press, 1994).
Roger Collins,
Early Medieval Spain, Unity in Diversity 400-1000 (London: Macmillan, 1983).
Roger Collins & Anthony Goodman (eds),
Medieval Spain: Culture, Conflict, and Coexistence: Studies in Honour of Angus MacKay (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2002).
O. R. Constable,
Housing the Stranger in the Mediterranean World: Lodging, Trade, and Travel in Late Antiquity and the Middle Ages (Cambridge: Cambridge University Press, 2003). --- ,
Medieval Iberia: Readings from Christian, Muslim, and Jewish Sources (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1997).
M. Cook (ed.),
The New Cambridge History of Islam (Cambridge: Cambridge University Press, 2010).
Michael Cooperson,
Al-Ma’mun (Oxford: Oneworld, 2006).
Serafina Cuomo,
Ancient Mathematics (London: Routledge, 2001).
Sarah Davis-Secord,
Where Three Worlds Met: Sicily in the Early Medieval Mediterranean (Ithaca: Cornell University Press, 2017).
S. E. al-Djazairi,
The Golden Age and Decline of Islamic Civilization (Manchester: Bayt Al-Hikma Press, 2006).
Reinhart Dozy,
Spanish Islam: A History of the Moslems in Spain (London: Chatto & Windus, 1913).
The History of Twelfth-Century Western Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 1988).
Eric Dursteler (ed.),
A Companion to Venetian History 1400-1797 (Leiden: Brill, 2013).
Elizabeth L. Eisenstein,
The
Cultural Transformations in Early Modern Europe (Cambridge: Cambridge University Press, 1979).
Joanne M. Ferraro,
Venice: History of the Floating City (Cambridge: Cambridge University Press, 2012).
Richard Fletcher,
Moorish Spain (Berkeley: University of California Press, 2006).
Menso Folkerts,
The Development of Mathematics in Medieval Europe: The Arabs, Euclid, Regiomontanus (Aldershot: Ashgate Variorum, 2006). --- ,
Essays on Early Medieval Mathematics: The Latin Tradition (Aldershot: Ashgate Variorum, 2003).
Michael Frampton,
Embodiments of Will: Anatomical and Physiological Theories of Voluntary Animal Motion from Greek Antiquity to the Latin Middle Ages, 400 B.C.-A.D. 1300 (Saarbrücken: VDM Verlag Dr Müller, 2008).
Alexandria (Oxford: Clarendon Press, 1972).
L. García Ballester,
Medicine from Salerno to the Black Death (Cambridge: Cambridge University Press, 1993). --- ,
Galen and Galenism: Theory and Medical Practice from Antiquity to the European Renaissance (Aldershot: Ashgate, 2002).
A. L. Gascoigne, L. V. Hicks & M. O’Doherty (eds),
Journeying Along Medieval Routes in Europe and the Middle East (Belgium: Brepols, 2016).
Deno John Geanakoplos,
Greek Scholars in Venice: Studies in the Dissemination of Greek Learning from Byzantium to Western Europe (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1962).
E. Michael Gerli (ed.),
Medieval Iberia: An Encyclopedia (London: Routledge, 2003).
Leonardas Vytautas Gerulaitis,
(Chicago: American Library Association, 1976).
Christopher Gill, Tim Whitmarsh & John Wilkins,
Galen and the World of Knowledge (Cambridge: Cambridge University Press, 2009) .
Charles Coulston Gillispie, Frederic Lawrence Holmes & Noretta Koertge (eds),
Complete Dictionary of Scientific Biography (Detroit: Charles Scribner’s Sons, 2008).
Anthony Grafton (ed.),
Rome Reborn, The Vatican Library and Renaissance Culture (London: Yale University Press, 1993).
Edward Grant,
in the Middle Ages (New York: John Wiley & Sons, 1971).
Gerd Grasshoff,
The History of
(London: Springer Verlag, 1990).
Barbara Graziosi, Vasunia Phiroze & G. R. Boys-Stones (eds),
The Oxford Handbook of Hellenic Studies (Oxford: Oxford University Press, 2009).
Stephen Greenblatt,
The Swerve: How the Renaissance Began (London: Bodley Head, 2011).
Dimitri Gutas,
Greek Thought, Arabic Culture: The Graeco-Arabic Translation Movement in Baghdad and Early Abbasid Society (2nd-4th/8th-10th centuries) (Oxford: Routledge, 1998).
Jaqueline Hamesse & Marta Fattori,
Rencontres des Cultures dans la Philosophie Médiévale (Louvain-la-Neuve: Cassino, 1990).
R. J. Hankinson (ed.),
The Cambridge Companion to Galen (Cambridge: Cambridge University Press, 2008).
Charles Homer Haskins,
The Renaissance of the Twelfth Century (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1927). --- ,
Studies in the History of Mediaeval Science (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1924).
Lotte Hellinga,
Texts in Transit: Manuscript to Proof and Print in the Fifteenth Century (Leiden: Brill, 2014).
Hubert Houben,
Roger II of Sicily: A Ruler Between East and West (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
G. L. Irby-Massie (ed.),
A Companion to Science, Technology, and Medicine in Ancient Greece and Rome (Chichester: Wiley Blackwell, 2016).
Salma Khadra Jayyusi,
The Legacy of Muslim Spain, Volumes 1 & 2 (Leiden: Brill, 1992).
S. K. Jayyusi, R. Holod, A. Petruccioli & A. Raymond,
The City in the Islamic World (Leiden: Brill, 2008).
Hugh Kennedy,
Muslim Spain and
(London: Longman, 1996). --- ,
When Baghdad Ruled the Muslim World: The Rise and Fall of Islam’s Greatest Dynasty (Boston: Da Capo Press, 2005).
Jim al-Khalili,
The House of Wisdom: How Arabic Science Saved Ancient Knowledge and Gave Us the Renaissance (London: Penguin, 2010).
Thomas Khun,
The Copernican Revolution (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1957).
Helmut Koester,
Citadel of the Gods (Harrisburg, Pennsylvania: Trinity Press International, 1998).
Jason König, Katerina Oikonomopoulou & Greg Woolf (eds),
Ancient Libraries (Cambridge: Cambridge University Press, 2013).
development and its contribution to the history of learning’,
Bulletin of the History of Medicine , Vol. 17 (1945) Feb., No. 2.
The Arabs and the Stars: Texts and Traditions on the Fixed Stars, and their Influence in Medieval Europe (Northampton: Variorum Reprints, 1989).
Lottie Labowsky,
Bessarion’s Library and the Biblioteca Marciana (Rome: Edizioni di Storia e Letteratura, 1979).
Jacob Lassner,
The Topography of Baghdad in the Early Middle Ages: Text and Studies (Detroit: Wayne State University Press, 1970).
Brian Lawn,
Salernitan Questions (Oxford: Oxford University Press, 1963).
A. C. Leighton,
Transport and Communication in Early Medieval Europe, AD 500-1100 (Newton Abbot: David & Charles, 1972).
David C. Lindberg,
The Beginnings of Western Science: The European Scientific Tradition in Philosophical, Religious, and Institutional Context, 600 B.C. to A.D. 1450 (Chicago: Chicago University Press, 1992).
David C. Lindberg & Michael H. Shank (eds),
The Cambridge History of Science, Volume 2: Medieval Science (Cambridge: Cambridge University
Martin Lowry,
The World of Aldus Manutius: Business and Scholarship in Renaissance Venice (Ithaca, New York: Cornell University Press, 1979).
Angus MacKay,
Spain in the Middle Ages: From Frontier to Empire, 1000-1500 (London: Macmillan, 1977).
Roy Macleod (ed.),
The Library of Alexandria: Centre of Learning in the Ancient World (London: I. B. Tauris, 2000).
M. R. McVaugh & V. Pasche,
Sciences at the Court of Frederick II (Belgium: Brepols, 1994).
Justin Marozzi,
Baghdad: City of Peace, City of Blood (London: Allen Lane, 2014).
John Jeffries Martin,
Venice Reconsidered: The History and Civilisation of an Italian City State, 1297-1797 (Baltimore, Maryland: Johns Hopkins University Press, 2000).
María Rosa Menocal,
Ornament of the World: How Muslims, Jews and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain (London: Little, Brown, 2002).
Elizabeth Nash,
Sevilla, Córdoba and Granada: A Cultural and Literary History (Oxford: Signal Books, 2005).
Catherine Nixey,
The Darkening Age: The Christian Destruction of the Classical World (London: Macmillan, 2017).
John Julius Norwich,
A History of Venice (London: Penguin, 2012).
Vivian Nutton,
The Unknown Galen (London: Institute of Classical Studies, 2002). --- ,
Ancient Medicine (London: Taylor & Francis, 2004).
Norbert Ohler,
The Medieval Traveller (Martlesham, Suffolk: Boydell Press, 1989).
Katherine Park & Lorraine Daston (eds),
The Cambridge History of Science, Volume 3: Early Modern Science (Cambridge: Cambridge University Press, 2016).
O. Pedersen & A. Jones,
A Survey of the Almagest (New York: Springer, 2011).
H. L. Pinner,
The World of Books in Classical Antiquity (Leiden: A. W. Sijthoff, 1948).
O. Pinto, 'The Libraries of the Arabs during the time of the Abbasids’,
Islamic Culture 3 , 1929.
Leon Poliakov,
The History of Anti-Semitism, Volume 2: From Mohammed to the Marranos (Philadelphia: University of Pennsylvania
Medieval Islamic Medicine (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2007).
A History of Medicine, Volume 5: Medieval Medicine (Omaha, Nebraska: Horatius Press, 2005).
R. Rashed & R. Morelon (eds),
Encyclopedia of the History of Arabic Science (London: Routledge, 1995).
G. R. Redgrave & E. Ratdolt,
Erhard Ratdolt and his Work at Venice (London: Bibliographical Society, 1894).
Neil Rhodes & Jonathan Sawday,
The Renaissance Computer: Knowledge Technology in the First Age of Print (London: Routledge, 2000).
R. T. Risk,
Erhard Ratdolt, Master Printer (Francestown, New Hampshire: Typographeum, 1982).
E. Robson & J. A. Stedall,
The Oxford Handbook of the History of Mathematics (Oxford: Oxford University Press, 2009).
Stephan Roman,
The Development of Islamic Library Collections in Western Europe and North America (London: Mansell, 1990).
The Italian Renaissance of Mathematics: Studies on Humanists and Mathematicians from Petrarch to Galileo (Geneva: Librairie Droz, 1975).
Franz Rosenthal,
The Classical Heritage in Islam (London: Routledge, 1994).
D. F. Ruggles,
Islamic Gardens and Landscapes (Philadelphia: University of
George Sarton,
Six Wings: Men of Science in the Renaissance (London: Bodley Head, 1958). --- ,
Introduction to the History of Science (Baltimore: Williams & Wilkins, 1927).
George Saliba,
Islamic Science and the Making of the European Renaissance (Cambridge, Massachusetts: The MIT Press, 2007).
Health and Medicine in Early Medieval Southern Italy (Leiden: Brill, 1997).
Richard Southern,
The Making of the Middle Ages (London: Pimlico, 1993).
Konstantinos Sp. Staikos,
The History of the Library in Western Civilization (six volumes) (New Castle, Delaware: Oak Knoll Press, 2004-13).
Lynn Thorndike,
History of Magic and Experimental Science (New York: Macmillan, 1923).
Colin Thubron,
The Shadow of the Silk Road (London: Vintage, 2007).
J. V. Tolan,
his Medieval Readers (Gainesville: University Press of Florida, 1993).
S. Torallas Tovar & J. P. Monferrer Sala,
Cultures in Contact: Transfer of Knowledge in the Mediterranean Context: Selected
(Spain: CNERU, 2013).
H. Touati & L. G. Cochrane,
Islam & Travel in the Middle Ages (Chicago: University of Chicago Press, 2010).
C. J. Tuplin & T. E. Rihll (eds),
Science and Mathematics in Ancient Greek Culture (Oxford: Oxford University Press, 2002).
Gerald P. Tyson & Sylvia S. Wagonheim (eds),
Essays on the Advent of Printing in Europe (Newark: University of Delaware Press, 1986).
Faith Wallis,
Medieval Medicine: A Reader (Toronto: University of Toronto
W. M. Watt,
The Influence of Islam on Medieval Europe (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1994).
Olga Weijers (ed.),
Vocabulary of Teaching and Research Between Middle Ages and Renaissance:
March 1994 (Turnhout: Brepols, 1995).
G. Wiet & S. Feiler,
Baghdad: Metropolis of the Abbasid caliphate (Oklahoma: University of Oklahoma Press, 1971).
M. Wilks,
The World of John of Salisbury (London: Blackwell, 1994).
N. G. Wilson,
Scholars of Byzantium (London: Duckworth, 1983). --- ,
From Byzantium to Italy: Greek Studies in the Italian Renaissance (London: Duckworth, 1992). --- (ed. & trans.),
Aldus Manutius: The Greek Classics (Harvard: Harvard University Press, 2016).
David S. Zeidberg (ed.),
Aldus Manutius and Renaissance Culture: Essays in Memory of Franklin D. Murphy (Florence: Leo S. Olschki, 1994).
مصادر على شبكة الإنترنت
A comprehensive guide to books published before 1500:
http://15booktrade.ox.ac.uk/ .
An international project dedicated to the study of Arabic and Latin versions of Ptolemy’s astronomical and astrological texts:
http://ptolemaeus.badw.de/ .
A geospatial network model of the Roman word:
http://orbis.standford.edu/ .
The Bodleian Library’s database of manuscripts and images:
https://digital.bodleian.ox.ac.uk/ .
Digitized image bank of the Wellcome Collection:
https://wellcomecollection.org/works .
نامعلوم صفحہ