جهان: إن امرأة الجنرال التي توفيت قبل إعلان الحرب بأسبوع، والتي كانت أشهر أترابها جمالا وأدبا ليتأكل الحسد قلبها لوضعها اجتماع، وهذه المرأة التركية الذكية الفؤاد والكاملة الصفات.
قال هذا الجنرال في سره - وفي سره كان يردد اسمها، ويمثل جمالها: جهان! ساحرة تركية، ذات قد أهيف، ومحيا فائق في الحسن، ولحظات تخترق الجماد، ولفتات تشف عن غنج بعيد المقاصد غريبها، في ناظريها نور العطف، ونور المعرفة، وفي أنفها الإباء والشمم، وفي ثنايا فمها اللطيفة إيناس كثير الأسرار، آدابها إفرنسية، ولكن جمالها الذهبي المهيب شبيه بالجمال الألماني، وفي كلا الأمرين فتنة جردت الجنرال لأول نظرة من كل قواه؛ قوى الهجوم، وقوى الدفاع، فحدث نفسه قائلا: ولم لا أرغب بامرأة مسلمة وهي أوروبية التربية والذوق والجمال؟
ولكن هنا شكري بك يبسم له المستقبل، وتذلل أمامه بواسطة جهان المناصب العالية، على أنه أبى يوما ملاحظة أبداها له الجنرال فون والنستين، فخرج من حضرته سامد الرأس شامخا دون أن يلقي ما يتوجب على ضابط في الجيش من السلام، فغضب الجنرال وبدل أن يقدمه لوظيفة كاتم أسرار في وزارة الحربية وفاء بوعده لجهان عزم على إرساله إلى ساحة الحرب، فلو كان مزاحم الجنرال من أكفائه لما طاقه عثرة في سبيله، فكيف به هو ضابط توجب عليه طوع أوامره؟
صدر الأمر إلى شكري بك أن يلازم فرقته في غاليبولي، صدر بعد الظهر فلم تعلم به جهان حتى المساء، الذي حدث فيه نزاع بينها وبين والدها بخصوص الجنرال فون والنستين، ولهذا الغرض عينه كانت قد بعثت برسالتها السرية مع حوذيها تسأل فيها ابن عمها ألا يغادر الأستانة قبل أن تراه والجنرال فون والنستين في اليوم التالي، وكان الحوذي قد أشار بقرعه السوط ثلاث مرات أن قد بلغ الرسالة، وأما أبوها وقد علم بالرسالة هذه من أحد الخدم، وظن أنها مرسلة إلى الجنرال الألماني، فأقسم بالله وبالنبي أن هذا الموعد لا يكون، فأوصد الباب على جهان بين هي كانت في الرواق تترقب أوبة الرسول، ثم خرج باكرا في الصباح متروضا على عادته، مصطحبا عبده الأمين.
ولكن جهان لم تدر بذلك، فارتدت ثيابها بسرعة ورشاقة، وأمرت جاريتها أن تستدعي أباها، وهي تعلم أن ليس من عادته أن يخرج باكرا، فاستولت الحيرة عليها إذ علمت عكس ذلك، وكادت تصدق ما داخلها من الريب والظنون، على أنها لما أمرت الجارية أن تجيئها بمفتاح آخر فتفتح به الباب أدركت الحقيقة المؤلمة، فإن الخدم لم يتجاسروا على أن يخالفوا أمر سيد البيت.
الفصل الثالث
استشاطت جهان غيظا، واستولى عليها الغم، فصاحت يا للعار، ثم سألت نفسها: ولم يا ترى يعاملني أبي بمثل هذه المعاملة؟
لم يكن لها أن تقارن بين هذا التصرف منه، ورصانة فيه معروفة، ولم تقرأ مرة في مطالعتها القصص الأوروبية التي تصف الحياة التركية أن باشا من باشاوات الدولة، أو شريفا من أشراف بني عثمان يلجأ إلى مثل هذه الطريقة في تأديب بنيه.
يا للعار! أيعاملها أبوها كتلميذة مدرسة وهي السيدة التي ينظر إليها نساء الأستانة بعين الإكرام والإجلال؟ أيذلها هذا الإذلال وهي زعيمة بنات جنسها، ترفع أمامهن مشعال نور جديد، وتعمل على تحطيم قيود الحريم؟ يا للفظاعة! أجهان صديقة النواب والوزراء، مدبجة المقالات السياسية، ربة المنبر منبر الحرية، صاحبة الرأي الذي طالما أنار قوما، وأحرق آخرين، نصيرة مبدأ أحدث ثورة في العقول، وحمل الرجال والنساء على العمل في سبيل الحق والحرية، أجهان تسجن في حجرتها؟ إنه لعار وأي عار! أولم تكن هي أول سيدة تركية مشت في شوارع الأستانة سافرة الوجه؟ أولم تكن هي أول سيدة تركية وقفت أمام الساحات الكبرى فمزقت قناعها الأبيض الحاجب وجهها، الحاجب نفسها، وحيت الشمس شمس الحرية؟ والآن هي أسيرة حجرتها الخاصة بأمر من أبيها، فقد شق عليها هذا الأمر، فرمت نفسها على الديوان وكبرها وإباؤها يستحيلان دموعا سخية.
لبثت على هذه الحال برهة من الزمن تلوم طورا أباها وتارة تختلق له الأعذار وهي تترقب عودته مرددة في نفسها؛ لعله فعل ما فعل مسيئا فهمها، أو عملا بتهمة باطلة، ثم تناولت قلما وكتبت إلى شكري بك مذكرة ثانية، وإذ ختمت الظرف قرعت الجارية الباب، ودفعت إليها كتابا من ابن عمها يقول فيه أن قد صدرت إليه الأوامر أن يغادر الأستانة ظهر ذاك النهار عينه، وخشية أن يفاجئها بوداعه يود أن يراها الساعة العاشرة والنصف.
نامعلوم صفحہ