ثم انتقلا إلى الديزل، فانطلقت بهما في طريق حلوان، وجلسنا جنبا إلى جنب، وكان أحمد صامتا يلوح في وجهه النحيل الهم والفكر، وكان رشدي يسعل من حين لآخر، وعجب أحمد لسوء الحظ الذي يلاحق أسرته، فقد فقدت غلاما، وها هو رشدي يصاب بالداء الخطير، أما هو فقد نصبه الدهر هدفا للعثرات والإخفاق! ولو قنع الدهر به فدية لكفاه ولكنه لا يقنع! واختلس من الشاب نظرة فهاله هزاله، وضمور رقبته، وذبول عينيه، وغياب النظرة اللامعة الساحرة منهما، فتنهد وقال لنفسه متحسرا: «رباه ... متى تنكشف الغمة؟ .. متى أفتح عيني فلا أجد من هذا الشقاء الماثل إلا أطياف ذكريات منقضية!» ونظر إلى الخارج خلل زجاج النافذة فجرت أمام ناظريه الأبنية والفيلات في حشد طويل، ثم انسابت القاطرة بين حقول ممتدة من النضرة والخضرة والمناظر الريفية الفاتنة، ثم أقبلت الصحراء اللانهائية الجرداء يحف بأفقها الجبل الشامخ، فاستثار تتابع المشاهد ما بين أبنية وحقول وصحراء جرداء عاطفة كئيبة في صدره، فامتلأ شجنا وأسى.
وبلغت القاطرة حلوان فتركا القاطرة وقد نهكت الرحلة الشاب المريض، واستقلا عربة إلى المصحة، وسارت بهما تتهادى في طريق مقفر، وتراءت لهما المصحة فوق سفح الجبل كقلعة هائلة، فرنا إليها الشقيقان بقلبين خافقين، وقال أحمد: الفاتحة إن ربنا يأخذ بيدك ويمن عليك بالشفاء ويخرجك من هذا المكان مجبور الخاطر.
وانتهيا إلى المصحة، واستقلا المصعد إلى الطابق الثالث، ودلتهما ممرضة على الحجرة التي يقصدانها، وكانت بالحجرة سريران، يرقد على أحدهما شاب في مثل سن رشدي وفي مثل هزاله وصفرته فتبادلوا التحية باسمين. واستراح رشدي حتى استرد أنفاسه، ثم غير ملابسه بمعونة شقيقه، واستلقى على الفراش، وجلس أحمد أمامه على كرسي مريح، وأومأ الرجل إلى الشاب المريض الغريب. وقال مخاطبا شقيقه: ستجد في صاحبك خير رفيق، فتعاونا على قتل الوقت وتبديد وحشية الوحدة، حتى يأذن الله لكما بالخروج سالمين غانمين!
ومضى يتحدث مع شقيقه حينا، ومع صاحب السرير المجاور حينا آخر - وقد علم أن اسمه أنيس بشارة وأنه طالب في السنة النهائية بكلية الهندسة - والظاهر أن الرحلة أعيت رشدي فاعتراه تعب شديد، واستلقى في خور وخمود، ومكث أحمد معهما حتى اطمأن على الشاب، ثم نهض لينصرف، وقد شعر وهو يضغط على راحة الشاب مودعا بدمعة تتحرك في مجرى الدموع من قلبه، فقرض على أسنانه ليمنعها من الصعود إلى محجريه، وغادر الحجرة. وخال في الخارج أنه رأى عيني الشاب كالمنذرتين بالبكاء وهو يسلم عليه، فنازعه قلبه إلى العودة إليه مرة أخرى، ولكنه قاوم عاطفته ومضى في سبيله، واخترق دهاليز طويلة تفتح عليها أبواب عنابر المرضى، ورأى الأشباح الآدمية في الثياب البيض الفضفاضة، فاقشعر بدنه ووجف قلبه ، وظل وهو آخذ في الطريق إلى المحطة يعاود النظر وراء ظهره إلى بناء المصحة الشاهق ويتمتم بالدعاء.
وفي مساء ذلك اليوم باتت أسرة عاكف في وجوم وكآبة، وقد لاحت في عيني الأب نظرة شاردة، وبكت الأم حتى دميت عيناها، وحاول أحمد أن يخفف عنها بحديث الرجاء والأمل، ولكنه كان في الحقيقة في حاجة إلى من يخفف عنه.
40
وانتظرت الأسرة يوم الجمعة - يوم الزيارة في المصحة - بصبر فارغ، وقر رأي كمال خليل أفندي على أن يصحبهم هو وأسرته، وأخذت الأسرتان للزيارة أهبتهما فابتاع أحمد لأخيه صندوق بسكوت بالشوكولاتة، وأعدت الست توحيدة - والدة نوال - له كعكا عرفت بإتقان صنعته وعند الضحى ذهبوا جميعا - الرجال الثلاثة والسيدتان ونوال - إلى محطة باب اللوق، واستقلوا قاطرة الديزل، وجلسوا متقابلين، الرجال في ناحية والنساء في الأخرى، وبذلك وجد أحمد نوال جالسة لقاءه! وتجنب، منذ اللحظة الأولى، أن ينظر إليها، ولم يكن رآها منذ ذاك اليوم الذي كشف له عما كشف، بيد أن وجودها على بعد قدم منه أيقظ الذكريات وحرك الأشجان وخاف مغبة الاستسلام للخواطر فتشاغل بالحديث مع كمال خليل تارة، وبقراءة الأهرام تارة أخرى، والواقع أنه لم ينجح إلا في تجنب النظر إليها، ولكنه غلب على أمره إزاء سيل خواطره الجارف، وأنى له أن ينسى أمله الخائب! أو سخطه المر القديم على شقيقه! أو مرض شقيقه الذي جعل سخطه القديم عليه جرحا في ضميره لا يلتئم! وهل ينسى أنه خاف يوما على الفتاة العدوى، وأنه حام حول اتهام شقيقه بتعريض حياتها للهلاك؟! كل أولئك آلام جعلت من حياته مرتعا للنار، حتى صدق قوله لنفسه مرة: «لقد أصيب رشدي في صدره وأصبت أنا في عقلي!» ثم تساءل ترى ماذا يخطر لها من الأفكار حين يقع بصرها على شخصه أمامها؟! هل يثير ألما؟ خجلا؟! ألا يجوز أن تأسف إن لحقت العلة بحبيبها متعامية عن هذا الكهل؟ ولو فعلت ما جاوزت القصد ولا حادت عن الإنصاف، فما فائدة حياته؟ وما وجه الانتفاع بصحته؟ ووجد لتوه ذاك الشعور بالاضطهاد ، المؤلم اللذيذ معا! وحقيقة أخرى لم تغب عنه، وهي أنه مرتاح إلى وجودها رغم تجنبه النظر إليها! لماذا يا ترى؟ هل يرغب أن يمتحن قدرته على النسيان والتأسي؟! أو يريد أن يشبع رغبته القديمة في أن يريها قوته على تجاهلها والترفع عنها؟! ثم أفاق لنفسه قليلا، فكبر عليه أن تكون تلك خواطره وهو ماض لعيادة العزيز المريض! وبلغ منه الألم حدا تمنى معه لو كانت الجراحة تستطيع بتر الفاسد من النفس، كما تبتر الفاسد من الأعضاء!
وانتهت الرحلة، وساروا في الطريق وأبصارهم عالقة بالمصحة، وقوي أمل أحمد أن يجد الشاب أحسن حالا - وإن لم يمض في المصحة سوى ثلاثة أيام - لإخلاده الإجباري إلى الراحة ووجوده في الجو الموافق، وتقدمهم جميعا نحو الحجرة، وسبقته عيناه إلى السرير، كان رشدي راقدا، وقد شعر بحضورهم، ولكنه لم يحرك ساكنا، إلا ابتسامة خفيفة باهتة ارتسمت على شفتيه الذابلتين وهو يتلقى تحيات القادمين الذين أحاطوا بفراشه، وخاب أمل الرجل، وروع لما رأى من تدهور الشاب، فلم يشك أن حالته ساءت عما كانت عليه يوم أتى به، وحار في تفسير ذلك وانقبض صدره، وجلس الزوار، ووضع البسكوت والكعك على خوان قريب من السرير، ولما رآهما رشدي قال بصوت ضعيف: أنا لا أكاد أتناول طعاما ... لا شهية لي البتة.
فسألته أمه بقلق وهي تتفحصه بعينين حاولت ألا يلوح فيهما شيء من الانزعاج المستولي عليها: ألا يعجبك طعام المصحة يا رشدي؟ - الطعام جيد، ولكني فقدت شهيتي!
فقالت الست توحيدة: لا تخف فهذا شأن المرض أول عهده، وغدا تلتهم الطعام التهاما بفضل هذا الهواء الجاف النقي.
نامعلوم صفحہ