وكانت تعلم طبعا أنه انقطع عن لقاء الصباح بسبب السعال، فلما زايله السعال، تشجعت ودعته إلى مرافقتها شوقا إلى الانفراد به، وقد اختلست نظرة من وجهه الشاحب النحيل وقالت له: ألا تدري ماذا تقول عنك نينة؟
فخفق فؤاده، وخشي أن يسمع تلميحا لبقا إلى مسألة «الخطوبة» وسألها: ماذا تقول يا ترى؟
قالت لي ضاحكة: ما بال أستاذك نحيفا كالخيال؟ هلا تقبل مني وصفة للسمن؟!
وضحكت نوال ضحكة رقيقة، فجاراها في ضحكها، ليداري شعورا بالحزن غشي صدره، وساوره القلق، ولكنه لم ير بدا من أن يقول بلهجة تكلف بها السرور: وما حاجتي إلى السمن والنحافة موضة؟! أبلغيها شكري وقولي لها إني طامع في المزيد من النحافة.
وقطبت فجأة كأنما ذكرت أمرا ذا خطر وقالت بلهجة التعنيف: على فكرة يا ماكر! .. يحلو لك أحيانا ونحن حول مائدة الدرس أن تداعب قدمي بقدمك متجاهلا أن قدميك منتعلتان وقدمي عاريتان!
فضحك رشدي، وقد تورد وجهه، وقال: نفسي فداء لقدميك العزيزتين!
ومرا عند ذاك بالقهوة المعروفة بنادي الصحراء، فقالت له وهي تومئ إلى النادل وكان يتناول فطوره: ألم تدر أن هذا النادل الخبيث فطن إلى تواعدنا كل صباح؟! فلما رآني أسير وحدي الأيام الماضية جعل يصفق بيديه كلما مررت به ويقول وكأنه يحدث نفسه: «أين أليفك يا بلبل؟ .. كل الأحبة اثنين اثنين!» .. رباه! .. لكم تولاني الحياء حتى كدت يغمى علي!
واسترسلا في الضحك مرة أخرى وكانا يقتربان من منعطف الطريق الذي توجد على جانبيه مقبرة عاكف الخشبية، ولمحتها الفتاة فقالت: أنتم مدينون لي بمائة رحمة على الأقل، لأني أقرأ الفاتحة لمقبرتكم كل صباح!
فقال لها مبتسما: أنت يا نوال رحمة للجد وعذاب للحفيد!
ثم امتدت بصره إلى المقبرة فسرعان ما خطر له خاطر مخيف كأنه شيطان انشقت عنه أرض الموتى، هل يجري القضاء غدا بأن تقرأ فتاته - وهي آخذة في طريقها هذا - الفاتحة على روحه هو؟! وانقبض صدره، ثم استرق إلى وجهها الأسمر نظرة غريبة، فشعر بأنها كل أمله في الوجود، وبأنه إذا جاز لشيء أن يسخر من الموت ويستهين بمخاوفه فهو اتحاد قلبين متفانيين، ووجد دافعا قويا يدعوه إلى التعلق بها، وضمها إلى قلبه، بل إلى شغاف قلبه إذا أمكن، ولاحت منها التفاتة إليه فطالعت نظرته الحالمة، فلاح في وجهها الجد، وسألته: لماذا تنظر إلي هكذا؟
نامعلوم صفحہ