فارتبك الرجل، وأيقن أنه مقبل على حياة مؤلمة غريبة فتنهد قائلا: بيدك الأمر يا رشدي، فإذا توثبت للشفاء حقا أمكن أن يظل السر سرا، أما ... - لا تخف لم تعد الاستهانة ممكنة بعد اليوم.
وأدرك بسهولة ما يحمل الشاب على إخفاء مرضه حتى عن والديه، فإنه ليخاف أن ينمو الخبر إلى مسامع أسرة فتاته فيهون عليهم بمرضه، وتأثر لذلك غاية التأثر، وتغلغل الحزن في أعماق قلبه، بيد أنه خشي أن يكون الشاب قد شق على نفسه بالاستمرار في عمله - على مرضه - ليبدو أمام الفتاة وأسرتها كالسليم المعافى، خشي أن يؤذي نفسه في سبيل حرصه على الفتاة، فاستجمع شجاعته وقال بصوت كالهمس: رشدي إذا كنت ترغب عن طلب الإجازة كي يبقى الأمر سرا، فيمكن أن نختلق سببا نعتل به على طلب الإجازة غير هذا المرض!
ولكن رشدي هز رأسه بحدة وقال بلهجة دلت على البرم: لا تعد إلى ما انتهينا منه!
فسكت أحمد، ثم نهض بعد فترة وجيزة وهو يقول: تشدد وكن رجلا كعهدي بك دائما، واعلم أن الشفاء رهن بإرادتك، حفظك الله ورعاك.
ورجع إلى حجرته محزونا ضيق الصدر، وقد استثار الداء الخطير مخاوفه فاهتز فؤاده عطفا على شقيقه المحبوب، نسي في تلك الساعة أنه كان الآلة التي طعن القدر بها آماله، أو أنه الشخص الذي جرح كبرياءه وداس غروره، ورآه على حقيقته الأخ المحبوب الذي نشأ بين ذراعيه وغذى عواطف الأبوة من نفسه عشرين عاما، ولما حانت منه التفاتة إلى النافذة المغلقة التي سماها يوما بنافذة نوال تحول عنها كالغاضب، وأبى قلبه أن يذكر الفتاة كأن استدعاءها إلى رأسه جريمة لا تغتفر في حق الشاب المريض، فينبغي أن تقطع هذه الكارثة المحزنة ما تخلف من أسباب الذكريات، وقال لنفسه: «ذاك شيء انتهى وانقضى، والتأسف عليه وخز لعواطف الحب التي يكنها قلبي لشقيقي.» وكان يتكلم بحدة دلت على السخط والاستياء، والحق أنه كان ساخطا على نفسه، فلم ينس أمنيته الآثمة أن تبيد القاهرة، ولا حلمه المخيف الذي استيقظ منه على تأوهات الشاب ليلة اشتداد الحمى عليه، رباه أي شيطان مقيت في أعماقه ينفث هاتيك الأخيلة!
36
وتوثب رشدي عاكف بحماس لمقاومة مرضه الخطير، وواظب على تناول ما أشار به الدكتور من الحقن والأدوية، وخص نفسه - فوق طعام البيت المعتاد - بأغذية ملحوظة الفائدة كاللبن والبيض والعسل والكبد والحمام، وأنفق في ذلك عن سعة، وكان يطلع أخاه على خطى كفاحه أولا بأول ليطمئن فؤاده المحب، ومضى شهر يناير جميعه ببرده القارص على حال تبشر بالخير، فقنع من يومه بساعة سرور واحدة يمضيها بين تلميذيه المحبوبين، ثم لا تأتي الساعة العاشرة مساء حتى يكون قد راح في نوم هادئ عميق. وزايلت البحة صوته وخف السعال فأوشك أن يزول، وراعه ذلك وأيقن فرحا جذلا أنه يتماثل للشفاء ولكن هزاله، لم يزل ولونه لم يسترد، وكان يزور الطبيب كل عشرة أيام فوالاه بالنصح ووصاه بمضاعفة العناية.
وقد كانت أيام المرض الأولى سودا: فوقع فريسة للأوهام والمخاوف، وخامره شعور مفزع بالقنوط، وتهيأ له أن حياته تؤذن بالوداع، حياته التي يكن لها حبا لا يكنه لها أحد من بنيها المخلصين، وكلما ذكر أنه في القاهرة حيثما كان ينبغي أن يكون في حلوان، وأنه في عمل بينما كان ينبغي أن يكون في إجازة، اشتد خوفه وفزعه، بيد أن أولئك الانفعاليين لا يعرفون التردد فيما تدعو إليه أهواؤهم، ويتخذون من عقولهم ما يتخذه الآثم من المحامي الماهر، فاستطاع أن يقنع نفسه - حتى في ساعات خوفه - بوجاهة الرأي الذي ارتأه ونفذه، ولما زايلت صوته البحة وسكت فيه السعال أو كاد ، غمره الارتياح، واسترد ثقته بنفسه، وشعوره بالأمان وتعلقه الأمل، وتساقطت الطمأنينة على فؤاده المروع قطرات من السكينة والرحمة، ولم يمض على ذلك أمد طويل حتى عاوده شعوره بالجسارة ونزوعه إلى الاستهتار، وألح عليه حبه العميق لمسرات الحياة، فلم يعد المرض وخطره شغله الشاغل، ورمق صبره وقوة إرادته بعين الإعجاب، وذكر شهر يناير - الذي أذعن فيه لما عاهد عليه نفسه أمام أخيه - بالدهشة والإكبار، وكأنه لا يصدق أنه استطاع حقا أن ينزوي ويستقيم شهرا كاملا، ومن فرجة الأمل الباسم سمع مسرات الحياة - مسرات حياته - تناغيه بهمساتها الساحرة كتغاريد البلابل في الصباح الباكر، فذكر في وحدته الإخوان وكازينو غمرة والليالي الصاخبة، فتخايلت لعينيه وجوههم المرحة، ورنت في أذنيه أصداء ضحكاتهم المجلجلة، ودعاؤهم له بقلب الأسد، كنيته التي يحبها ويطرب لها ويخاف عليها عوادي النسيان. يا لهم من إخوان لا تطيب الحياة إلا بهم، ما أظرفهم وما ألطفهم! وهل يمكن أن ينسى كيف انثالوا على السؤال عنه بالتليفون في المصرف حين انقطع عنهم؟! أين أنت يا عم رشدي؟ ما هذه الغيبة الطويلة؟ لقد كنت في أسيوط أقرب إلينا منك وأنت في القاهرة! إلام يبقى كرسي قلب الأسد شاغرا؟ أوحشتنا نقودك! ولكم ضاحكهم ودافعهم واعتذر لهم بمشاغل هامة! وأهاجه الحنين إلى الصحاب واستفزه الشوق إلى المرح واستهامته اللهفة على اللذات، وجعل يقول لنفسه هل في لقاء ليلة حرج؟! هل تقتل سهرة أو تميت؟! والحق أن هيامه بالحياة لم يفتر بسبب الداء، بل بالأرجح أنه غدا أرهف حسا وأعنف نشاطا وأضرم حبا وولعا، ثم استحر الإغراء فانعدم التردد، ووجد لخلاصه من عذاب الحيرة ارتياحا فراح يدندن بصوت رخيم «ما أقدرش أنساك»، ولم يكن ترنم بغناء منذ شهر ونصف. وعندما أتى المساء تلفع بمعطفه وأحكم الكوفية حول عنقه ومضى إلى السكاكيني، وما إن لاحت لعينيه حديقة كازينو غمرة حتى هتف من أعماق الفؤاد «أهلا وسهلا ومرحبا»، وتلقاه الإخوان بالسرور، فاستسلم لتيارهم الجارف، وأخذوا في الحديث الماجن كعادتهم طويلا، ثم انتقلوا إلى البهو الداخلي يدخنون ويشربون ويقامرون ، وخاف أن يمتنع عن لذة فيثير الظنون، ورغب من ناحية أخرى أن يتناسى - في يقظة الأمل - أنه يطوى في رئته اليسرى ما تقشعر الأبدان لذكر اسمه، فدخن بسرور وشرب كأسين من الكونياك بعثتا الدفء إلى جسده البارد، وقامر أيضا وإن تردد قليلا لأن تكاليف التداوي أرهقت ميزانيته، ولكن الحظ ابتسم فربح زهاء الجنيهين، وآب مسرورا وإن شعر بحرارة تلتهم أنسجته، وأجهده المشي في الجو القارص، وبلغ البيت في حالة مضعضعة من الإعياء، وما إن أغلق الباب في هدوء حتى انفتح باب حجرة أحمد ولاح الرجل وراءه فدعاه إلى حجرته، ومضى إليها مرتبكا يمشي على استحياء، وهتف به أخوه: ماذا فعلت؟ .. هل جننت؟ .. أهذا ما اتفقنا عليه؟!
فلاذ بالصمت وقد ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة تدل على الارتياح والحرج فاستدرك أحمد: هذا فوق التصديق، وما دريت به حتى نبا في الفراش، وظل نومي خفيفا قلقا حتى أيقظتني صفقة الباب، أهذا ما اتفقنا عليه؟
وخرج رشدي عن صمته بأن قال بصوت منخفض: أنت تعلم يا أخي أني حافظت على الاتفاق شهرا كاملا، ثم نازعتني نفسي أن أروح عنها قليل. - هذا كلام إنسان يجهل الحقيقة أو يتجاهلها، ألا تعلم أن استهتار ليلة واحدة يهدم ما بنيته في شهر كامل؟ - ولكني في الواقع أشعر بتحسن كبير!
نامعلوم صفحہ