فتوقفا عن السير، وأخذ راحتها في يده، وضغط عليها بحنو وهو يقول: مع السلامة وإلى اللقاء غدا صباحا.
فحيته بانحناءة من رأسها وغمغمت: إلى اللقاء.
وحثت الخطى، ولبث هو بمكانه يتبعها مقلتيه في سرور ونشوة محدثا نفسه: «كانت في البدء متعثرة بحيائها، ثم أنست بي فصارت ألطف من نسمة عبقة، طاهرة خفيفة والله، وقاها الله شر الشياطين جميعا بما فيهم شيطاني أنا».
وكان شأنه المعهود أن يغازل ثم يتعارف ثم يحب، وقد عاد ذاك الصباح وهو ينصت في صمت الطريق إلى أول خفقة لقلبه ترجع مطلع لحن الهوى، أما نوال فانحدرت في طريق المدرسة وهي تقول لنفسها: «ما ألطفه، ما أجمله، ما أعذب حديثه، فآه لو تصدق الأحلام!»
28
ولاحظ أحمد عاكف ما طرأ على شقيقه الأصغر من تغير بعين متيقظة، رآه بعد ظهر ذاك اليوم - يوم السبت - نشوان بالسرور، فكأنما بات من سروره في سكرة ذاهلة، ورآه يغير عادته من النوم ما بين الظهر والمغرب - موعد انطلاقه إلى السكاكيني - فيقيل ساعة واحدة ثم يستيقظ مثقل الجفنين فيمشط شعره ويتعطر ويتصدى للنافذة المحبوبة! ولبث الكهل في حجرته يطالع أو يحاول المطالعة ريثما يأزف موعد ذهابه إلى القهوة - تلك العادة الجديدة على حياته - وقد ركز آماله جميعا في النسيان المرتقب، ينتظره صابرا كما ينتظر المريض اليائس النهاية، وما برحت تتقاذف قلبه أحاسيس الحب والخيبة، والأنفة والغيرة، وحبه رشدي ونفوره منه، فتحير بينها لا يقر له قرار حتى أوشك أن ينفجر رأسه الصغير، وبعد العصر بقليل اقتحم رشدي عليه وحدته! ولم يكن في ذاك غرابة فرفع إليه رأسه مبتسما باذلا جهده ألا يلوح في وجهه وجوم أو سهوم، فحياه الشاب بابتسامته الحلوة وقدم له سيجارة وقال بسرور وبلهجة المعتذر معا: لا تؤاخذني على إزعاجك ولكنني أزف إليك خبرا سارا.
فخفق فؤاد أحمد وقال: خير إن شاء الله! - أخبرني صديق من الموظفين أن الحكومة تفكر في إنصاف الموظفين المنسيين.
فقال أحمد بارتياح لم يدر الآخر بواعثه الحقيقية: بشرك الله بالخير! - إن بقاء رجل مثلك عشرين عاما في الدرجة الثامنة ظلم قبيح وسيئة ذميمة.
فهز أحمد منكبيه بغير مبالاة وقال: أنت تعلم أني لا أعبأ الدرجة ولا الوظيفة شيئا.
وتحادثا مليا، ثم انصرف رشدي كيلا يضيع وقت أخيه الثمين ... وتفكر الرجل بعد انصرافه فيما يساوره نحوه من نفور فامتعض، وتألم فؤاده غاية الألم، وهل ينسى أنه أحبه منذ كان في المهد؟ وهل يجهل أن الشاب يحبه حبا لا يحبه والديه؟!
نامعلوم صفحہ