فقال رشدي والابتسامة لا تفارق شفتيه: سأتناول فطوري في الخارج لأن لدي أعمال مستعجلة. - وما الذي دعا إلى هذه العجلة؟ - إنجاز بعض الأعمال المتعلقة بوظيفتي!
وحياه الشاب - كما حيا والدته التي كانت تعد الطعام - ومضى بقوامه الرشيق وابتسامته المشرقة، ولم يصدق أحمد أسطورة «بعض الأعمال» فارتاب فيها لأول وهلة، وبدا له كاليقين أن رشدي بكر في الاستيقاظ على غير عادته وعجل بالخروج من البيت ليلتقي بنوال في مكان ما من طريق المدرسة، هذا ما حدسه قلبه المحزون، فهل اتفقا على ذلك حقا؟ .. وذكر ممتعضا كيف لبث مرتبكا جامدا - مدة علاقته بها - لا يدري ماذا يفعل، أما هذا الشاب الجسور فليس في مذهبه بين التحية واللقاء سوى غمضة عين، وأعجب بجسارته حقا كما أعجب به يخطر أمام عينيه بشبابه الريان وقده الممشوق منذ دقيقتين، إلا أنه إعجاب انطوى على احتقار النفس والتمرد فلم يخل من حنق وغضب، فكان كمن يسبح بخلود الخالق وهو يرثي فناء المخلوق، وبعد قليل لبس طربوشه وغادر الشقة، ومال إلى قطع شارع الأزهر مشيا على الأقدام تخفيفا عن أعصابه المتوترة، فالتزم الطوار الأيسر وحث خطاه، وقال لنفسه بصوت كالهمس ليوحي إليها بالحكمة: «دع بواعث هذا الحزن العميق لا تستحضرها إلى وعيك، اقذف بها إلى هاوية النسيان، وإذا كانت القراءة لم ترشدك إلى الحكمة بعد، فخذها من شخص سعيد كالمعلم نونو!» وتمثل نونو لعينيه بصحته ومرحه فتأوه من الأعماق: لماذا يحمل نفسه ما لا طاقة لها به من الكآبة كأنه الثور الذي يقولون إنه يحمل الكرة على قرنه؟! كيف جهل فن السعادة هذا الجهل المزري؟ ولماذا لا يقصد الضاحكين ويسترشد بهم إلى طريق الضحك والسرور؟ ينبغي أن يفوز فؤاده الكسير بحظه من السعادة لأنه من العبث أن تمضي الحياة هكذا في كآبة وحزن، وردد هذه الخواطر حتى بلغ ميدان الملكة فريدة واستقل الترام، وكان الترام مكتظا فاضطر أن يقف بين الواقفين مضغوطا، وكان يمقت الزحمة بطبعه فثارت نفسه بعد هدوء قليل، وخطر له خاطر غريب مخيف، فتمنى لو كان من الممكن أن تخلو الدنيا من بني آدم! ولم يدر إن كانت وقفته هي التي أوحت إليه بذاك الخاطر المخيف أم أن هنالك بواعث أخرى، فقد تمنى من قبل أو تخيل أنه يتمنى لو تقفر القاهرة إثر غارة! فخجل من خواطره الجهنمية التي تحلم أحيانا بالتدمير المخيف لغاية تافهة كأن يستأثر بفتاة دون شريك ولا منافس! على أنه عاد يقول لنفسه متأففا: أليس الغدر ذميما كالدمار؟!
27
خرج رشدي عاكف مبكرا على غير عادته، ودون أن يتناول فطوره، يدفعه ما هو خليق بتغيير العادات وتأخير الفطور. ولما انتهى إلى السكة الجديدة رأى الفتاة على بعد قريب صاعدة طريق الدراسة إلى الطريق الصحراوي المؤدي إلى العباسية، فتباطأ قليلا حتى اتسعت المسافة بينهما ثم تبعها عن بعد، وكانت على علم سابق باتباعه لها - كما أنذرها به بالإشارة في النافذة - وكانت أيضا على رضى بذلك أخفى أكثره الدلال والحياء، وفضح أقله - وكان به الكفاية - الابتسام أو مغالبة الابتسام، وكان الزمن المتاح لرشدي قصيرا حقا، ولكن زمنه من ذهب وماس، فلم يكف منذ مقابلة السطح - بل منذ رآها أول مرة - عن رصدها وموالاتها بالمطاردة والغزل حاشدا لتصيدها هباته جميعا من أفانين الشباب والحسن والدعابة والصبر، حتى ظنته قطعة من النافذة، ولم يشك الفتى في ظفره من بادئ الأمر، ولا شكت هي فيه! أو فما معنى مجيئها إلى النافذة كأنهما على موعد، واستسلامها لنظراته وتصديها لبسماته وإشاراته! فإن كان هناك ظل من الشك فقد مسحته ابتسامتها الأخيرة وقضي الأمر! على أنها لم تستسلم بغير تردد، بل كانت خائفة مما تنزع بها النفس إليه، وكانت تلوح لها صورة الآخر - أحمد - فيتولاها الخجل ويساورها القلق، إلا أنها رأت عيوبه واضحة على ضوء الوجه الجديد المشرق، فتساءلت لماذا يلوح الخوف في عينيه دائما؟! لماذا يبدو كالفأر ما إن يسمع حسا حتى يفر إلى جحره؟! إلام يظل جامدا لا يتحرك ولا يفعل شيئا؟! وإنها لعلى مثل حيائه فتحتاج بطبيعة الحال إلى جسور يقتحم حياءها، فلم تجد فيه طلبتها، أو أنها أدركت ذلك حين وجدت طلبتها الحقيقية، هذا إلى بون شاسع بين شباب نضير وكهولة ذابلة، وجمال صبيح وخلقة قلقة غامضة، ومرح باسم وكآبة موحشة، والحق أنها مالت إلى أحمد لأنه كان الرجل الموجود، أما رشدي فحرك قلبها المشبوب وأهاج عاطفتها، هكذا جازت صبره بابتسامة، وهكذا كتبت بهذه الابتسامة أول كلمة في القصة الجديدة.
صعدا طريق الدراسة، وانعطفا إلى الطريق الصحراوي - هي سابقة وهو لاحق - كان الصباح نديا رطيبا مائلا إلى البرودة، يعابثه نسيم رقيق يهب بأنفاس نوفمبر التي تنعي الأزاهر إلى المحبين، أما السماء فسمتها محمل سحابا ناصعا، يتصل حينا، ثم يتفرق في المشرق فيحدث بحيرات ثلجية تنضح شطآنها بالشعاع الصاعد من الأفق فتتوهج أهدابها وتخطف الأبصار. منظر تطمئن النفوس إليه، إلا نفسين تفانتا معا! وقد أوسع خطاه بعد المنحنى فأدركها، وشعرت الفتاة بوقع خطاه تقترب منها فلم تعطف رأسها إليه، ولكن أثر اقترابه بلغ خديها فتوردا، وعينيها الكبيرتين الصافيتين فابتسمتا وهي لا تدري. ثم حاذاها حتى أوشك أن يلامسها، وقال برقة: صباح الخير.
فمال رأسها إليه قليلا ولحظته بطرف متردد وقالت بصوت خافت: صباح الخير.
وكانت متأبطة حقيبتها كعادتها فقال مبتسما: أتأذنين لي أن أحمل عنك هذه الحقيبة؟
فابتسمت بدورها وقالت: كلا، لا داعي لذلك، فهي خفيفة على كبرها، ولا ضير من حملها البتة. - لا بد أن تثقل على يدين رقيقتين كيديك! - بل يداي تثقلان عليها، لا تعودني الترف من فضلك! فضحك بسرور صادق وقال: أليس مما يخجل حقا أن أسير طليق اليدين وأنت تحملين هذه الحقيبة الكبيرة؟!
وأخذ الارتباك يزايلها ويحل محله الأنس به. فسألته معترضة: ولماذا تخجل؟ إني أحملها كل يوم بكرة وعشيا. - الظاهر أنك تخافين أن أخطفها. - ليتك تقدر على هذا حقا، فإنها تحوي واجبات ثقيلة أخفها الحساب!
فضحك مرة أخرى وقال: لعن الله علما يثقل عليك!
نامعلوم صفحہ